الفصل الأول

الرياضيات: أسطورة وتاريخ

من غير المعتاد كثيرًا أن تُحدِث مسألةٌ رياضية قديمة شائكة تلك الجَلَبة، ولكن في عام ١٩٩٣ أعلنت الصحف في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة أن عالِم رياضيات في الأربعين من عمره يُدعَى أندرو وايلز، قد شرح في محاضرة في معهد إسحاق نيوتن في كامبريدج برهانًا لمسألةٍ عمرها ثلاثمائة وخمسون عامًا، معروفة باسم «نظرية فيرما الأخيرة». اتضح في النهاية أن ذلك الزعم كان سابقًا لأوانه قليلًا؛ إذ كانت صفحات وايلز المائتان تحتوي على خطأ احتاج بعض الوقت لتصويبه، ولكن بعد عامين صار البرهان محكمًا؛ وقد أصبحت قصة معركة وايلز ذات السنوات التسع موضوعًا لكتابٍ، وفيلمٍ تليفزيوني بكى خلاله وايلز وهو يتحدَّث عن إنجازه.

أحد الأسباب التي جعلت هذه القطعة من التاريخ الرياضي تستولي على الخيال العام؛ كان — بلا مِرْية — صورةَ وايلز نفسه؛ فَلِسبع سنوات قبل محاضرة كامبريدج عَمِل وايلز في شبه انعزال، ناذرًا نفسه للرياضيات العميقة والمعقدة للنظرية. كنَّا هنا بصددِ قصةٍ تتوافق تمامًا مع أساطير الثقافة الغربية؛ البطل المتوحِّد الذي يكافح ضد الصعاب، ليصل إلى هدفه العسير المنال. بل كانت القصة تحتوي على أميرة؛ إذ كانت زوجته فقط هي التي عرفَتْ هدفَه النهائي، وكانت أول مَن تلقَّى البرهانَ المنتهي، كهدية عيد ميلاد.

ثمة سببٌ ثانٍ يتمثَّل في أنه على الرغم من أن البرهان النهائي لنظرية فيرما الأخيرة لم يستوعِبْه تمامًا أكثر من عشرين شخصًا في العالَم، فإن نَصَّ النظرية كان في حد ذاته بسيطًا. لقد انجذب وايلز إليها عندما كان في العاشرة، وحتى أولئك الذين نسوا منذ زمن بعيد معظمَ الرياضيات التي تعلَّموها، كان بإمكانهم أن يستوعبوا ما تدور النظريةُ حولَه؛ وسنعود إلى هذا بعد قليل.

لكن قبل ذلك، لاحِظْ أن ثلاثة أشخاص قد ذُكِروا بالاسم في الفقرة الأولى من هذا الفصل: وايلز، ونيوتن، وفيرما. في الرياضيات هذا شيء نموذجي؛ فمن المعتاد أن تُطلَق أسماء الرياضيين على النظريات أو التكهنات أو المنشآت؛ وسبب هذا أن معظم الرياضيين يَعُونَ تمامًا أنهم يبنون على عملٍ أتَمَّه سابقوهم أو زملاؤهم. بكلمات أخرى، إن الرياضيات موضوعٌ تاريخي متأصِّل، نادرًا ما تكون فيه المحاولات السابقة بعيدةً عن العقل. وحتى نبدأ في التفكير حول الأسئلة التي يطرحها مؤرِّخو الرياضيات، دَعْنا نتتبع إلى الوراء نظريةَ فيرما الأخيرة من محاضرة مدرج كامبريدج في عام ١٩٩٣ إلى بداياتها البعيدة.

فيرما ونظريته

وُلِد بيير دي فيرما في عام ١٦٠١، وقضى حياته كلها في جنوبي فرنسا. تَدرَّب فيرما على المحاماة، وعمل مستشارًا قانونيًّا لبرلمان تولوز؛ الهيئة التشريعية لمساحة محيطة كبيرة. وفي وقت فراغه، الذي كان قليلًا بالفعل، انشغل فيرما بالرياضيات، وبسبب بُعْده عن أنشطة الدوائر الفكرية في باريس، عمل غالبًا منفرِدًا تمامًا. وفي ثلاثينيات القرن السابع عشر تَراسَل مع علماءِ رياضياتٍ خارج الوطن، وذلك من خلال الراهب الباريسي مارين ميرسين، ولكن في الأربعينيات — عندما تزايدت عليه الضغوطُ السياسية — انسحَبَ مرةً أخرى إلى عزلته الرياضية. لقد أنجَزَ فيرما بعضًا من أهم وأعمق النتائج في رياضيات بدايات القرن السابع عشر، لكنه في المُجمَل لم يكن يكتب الكثيرَ عنها. من حينٍ لآخَر كان يَعِدُ مراسليه أنه سيكتب التفاصيل عندما يجد وقت الفراغ الكافي، ولكن وقت الفراغ الكافي هذا لم يأتِ قطُّ. أحيانًا كان يقدِّم مقولةً جرداء عمَّا وجده، أو يبعث بتحديات كانت تشرح بوضوحٍ الأفكارَ التي كان يعمل عليها، ولكن دون أن يفصح عن نتائجه التي تَوصَّل إليها بصعوبةٍ.

ظهر أول تلميح عن نظريته الأخيرة في تحدٍّ بعث به إلى عالِمَي الرياضيات الإنجليزيين جون واليس وَويليام برونكر في عام ١٦٥٧، لكنهما فشلَا في أن يَرَيَا ما كان يرمي إليه، وغضَّا الطرفَ عنه، وكأنه غير جدير بمستواهما. فقط بعد وفاة فيرما، عندما حرَّرَ ابنه صمويل بعضَ مذكراته وأوراقه، ظهَرَ نَصُّ النظرية كاملًا، مكتوبًا بطريقةٍ متعجلة دون عنايةٍ، في هامش من نسخة فيرما من كتاب «الحساب» لِديوفانتس. وقبل أن نأخذ خطوةً أخرى إلى وقت سابق لرؤيةِ ما أَلْهَمَ فيرما في كتابات ديوفانتس، نحتاج إلى الحديث باختصار عن شيء من الرياضيات؛ عن نظرية فيرما الأخيرة ذاتها.

من النظريات الرياضية التي يتذكرها كل شخص تقريبًا من أيام المدرسة نظرية فيثاغورس، التي تنص على أن مربع طول الضلع الأطول في المثلث القائم الزاوية — الوتر — يساوي مجموع مربعَيِ الضلعين القصيرين. يتذكَّر أيضًا معظمُ الناس أنه إذا كان طولا الضلعين القصيرين ٣ و٤ وحدات، فإن طول الضلع الأطول يساوي ٥ وحدات؛ لأن: . ويُعرَف هذا النوع من المثلثات بأنه المثلث (3-4-5)، وربما يُستعمَل لتخطيط زوايا قائمة على الأرض بقطعةٍ من حبل، أو يستخدمه مؤلِّفُو الكتب المدرسية الذين يرغبون في وضع مسائل لا يحتاج حلُّها إلى آلة حاسبة. هناك عدد هائل من فئات ثلاثيات الأعداد الصحيحة التي تحقِّق العلاقة نفسها؛ ومن السهل — على سبيل المثال — التحقُّق من أن أو أن . مثل هذه الفئات تُكتَب أحيانًا: (3, 4, 5) أو (5, 12, 13)، وهكذا، وتُسمَّى «ثلاثيات فيثاغورس»، وهناك عددٌ لا نهائي منها.
والآن افترِضْ أننا سنعبث قليلًا بالشروط، كما يفعل الرياضيون، لنرى ماذا سيحدث. ماذا لو أخذنا مكعبات كل عدد بدلًا من المربعات؟ هل يمكننا أن نجد ثلاثية تحقِّق المعادلة ، أو هل يمكننا أن نكون أكثر جموحًا، فنبحث عن ثلاثية تحقِّق المعادلة ، أو حتى ؟ كان استنتاج فيرما أنه لا جدوى من المحاولة؛ فنحن لا نستطيع أن نفعل هذا لأية قوة بعد التربيع. وكما هو معتاد، فقد ترَكَ تفاصيلَ هذا الأمر لآخَرين. هذه المرة لم يكن الوقت هو المبرر، وإنما المساحة؛ إذ قال إنه اكتشف برهانًا بديعًا، لكن الهامش كان ضيقًا جدًّا بحيث لا يسعه أن يحتويه.

كان الهامشُ المعنيُّ في صفحة ٨٥ من طبعة كلود جاسبارد باشي عام ١٦٢١ لكتاب «الحساب» لِديوفانتس. لقد أثار كتاب «الحساب» اهتمامَ الرياضيين الأوروبيين دائمًا منذ أن اكتُشِفت له نسخة مخطوطة يدوية، كُتِبت بالإغريقية، في فينيسيا عام ١٤٦٢. أما ديوفانتس نفسه، فلا أحدَ علم عنه شيئًا، وإلى الآن لا يُعرَف عنه الكثير. لقد أشارَتْ إليه المخطوطة بالاسم «ديوفانتس السكندري»، وهكذا لنا أن نفترض أنه عاش وعمل جزءًا مهمًّا من حياته في مدينةٍ تتكلَّم الإغريقية في شمال مصر. أما معرفة ما إذا كان مواطِنًا مصريًّا أم أنه جاء من جزء آخَر من عالَم البحر المتوسط، فهذا ما لا نعلمه، وأيُّ تقدير للتاريخ الذي عاش فيه لن يكون أكثرَ من تخمين. لقد اقتبس ديوفانتس من هيبيكلس (حوالي عام ١٥٠ قبل الميلاد)، بينما اقتبس ثيون إحدى النتائج من أعمال ديوفانتس (حوالي عام ٣٥٠ ميلاديًّا)، وهذا يمنحنا نطاقًا زمنيًّا مقداره خمسمائة عام، لكن لا يسعنا أن نفعل ما هو أفضل من ذلك.

مقارَنةً بالنصوص الهندسية التي بقيت لكتَّابٍ رياضيين إغريقيين، فإن كتاب «الحساب» غيرُ تقليدي بدرجة كبيرة؛ فمادةُ موضوعه ليست الهندسةَ، كما أنها ليست علمَ الحساب اليومي؛ هي بالأحرى فئة من المسائل المعقدة تتساءل عن أعداد صحيحة أو كسرية تحقِّق شروطًا معينة؛ على سبيل المثال: المسألة الثامنة من الكتاب الثاني تسأل القارئَ أن «يقسم مربعًا إلى مربعين». ولأهدافنا الحالية، ربما نترجم هذا إلى صيغة أكثر حداثةً في التعبير، ونرى أن سؤال ديوفانتس كان متعلِّقًا بثلاثيات فيثاغورس؛ حيث إن المربع المعطى (بمجموعة الرموز السابقة ) يمكن أن يُقسَّم إلى مربعين أصغر . وقد أظهر ديوفانتس طريقةً ماهرة لإنجاز ذلك عندما يكون المربع الأكبر ١٦ (وفي هذا الحال ستتضمَّن الإجابةُ كسورًا)، وبعد ذلك انتقل إلى تناوُل أمرٍ آخَر.

إلا أن فيرما تَردَّد عند هذه النقطة، ولا بد أنه قد طرح على نفسه السؤال الواضح: هل يمكن أن تُمَدَّ هذه الطريقة؟ هل يمكن «تقسيم المكعب إلى مكعبين»؟ كان هذا تحديدًا السؤالَ الذي طرحه على واليس وبرونكر في عام ١٦٥٧ (والذي ردَّ عليه واليس ردًّا حاسمًا بأن مثل هذه الأسئلة «السلبية» محض هراء، بعد أن كان فيرما قد كتب تعليقًا بأن هذا مستحيل). إن الذي كان قد اقترحه فيرما في الهامش، كان ينطبق ليس فقط على المكعبات، ولكن على أية قوة (أُس) على الإطلاق، وكان هذا أبعد بكثيرٍ ممَّا طلبه ديوفانتس.

ظهر اسمٌ آخَر خلال القصة السابقة، وهو فيثاغورس؛ لذا دَعْنا الآن نأخذ خطوة تاريخية أخرى إلى الوراء، من ديوفانتس إلى فيثاغورس، الذي من المفترض أنه عاش في جزيرة ساموس الإغريقية نحو عام ٥٠٠ قبل الميلاد. وعلى الرغم من هذا التاريخ البعيد، فربما يشعر كثير من القرَّاء بأنهم أقرب كثيرًا إلى فيثاغورس منهم إلى ديوفانتس. وفي الحقيقة، السؤالُ الذي كان يُطرَح عليَّ عمومًا كمؤرِّخ للرياضيات: «هل تعود بدراستك التاريخية إلى زمن فيثاغورس؟» في الحقيقة، كانت نظريةُ فيثاغورس معروفةً منذ زمن بعيد جدًّا، والأخبارُ المحبطة أنه لا يوجد هناك دليلٌ لربطها بفيثاغورس. وفي الحقيقة، إن الأدلة التي تربط فيثاغورس بأي شيءٍ هي أدلةٌ واهية؛ فإذا كان ديوفانتس شخصيةً يشوبها الإبهام، فإن فيثاغورس قد طُمِر تحت غطاء من الأساطير والخرافات. ليس لدينا نصوصٌ كتَبَها هو أو واحد من تابعيه المباشِرين، وأقدمُ قصص حياته تأتينا من القرن الثالث بعد الميلاد، أو بعد حوالي ٨٠٠ عام من زمن حياته، وكتَبَها كتَّاب يهدفون إلى ترويج آراءٍ فلسفية معيَّنة. إن رحلاته المفترضة إلى بابل أو مصر — حيث يقال إنه تعلَّمَ الهندسة — لم تكن أكثر من روايات خيالية ابتكَرَها هؤلاء الكتَّاب لدعم سلطته وتميُّزه. وبالنسبة إلى الروايات الخاصة بما يُفترَض أن تابِعِيه قد فعلوه أو اعتقدوه، فربما توجد أُسُس لبعضها في الحقيقة، لكن من المستحيل تأكيد أيٍّ منها. لقد أصبح فيثاغورس، حرفيًّا، شخصيةً أسطوريةً، يُعزَى إليه الكثير، لكن في الحقيقة، لا يُعرَف عنه سوى القليل.

إن حياة هؤلاء الرجال الأربعة: فيثاغورس وديوفانتس وفيرما ووايلز، امتدت عبر أكثر من ألفَيْ عام من التاريخ الرياضي، وبالتأكيد نستطيع أن نتتبَّعَ أفكارًا رياضية مشابِهة تجري في قصص عن كلٍّ منهم، حتى لو كانت قرونٌ عدة تفصل بعضَهم عن بعض. هل «غطَّيْنا» إذن تاريخ نظرية فيرما الأخيرة من البداية إلى النهاية؟ الإجابة هي «لا»، ولأسباب متعددة؛ السبب الأول أن أحد أعمال المؤرخ أن يفصل القصة الخيالية عن الحقيقة، والأسطورة عن التاريخ. هذا لا يقلِّل من تقدير قيمة القصة الخيالية أو الأسطورة؛ فكلتاهما تتضمَّن قصصًا بها تُعرِّف المجتمعات نفسها وتفهمها، وربما تكون لها قيمة عميقة ودائمة، لكنْ على المؤرخ ألَّا يسمح لهذه القصص أن تحجب الأدلةَ التي ربما تشير إلى تفسيرات أخرى. في حالة فيثاغورس، من السهل نسبيًّا أن نرى كيف ولماذا تبدو القصص القوية وكأنها نُسِجت من خيوط مهلهلة، لكنْ في حالة آندرو وايلز؛ حيث نؤمن أن الحقائق موجودة تحت أبصارنا، من الأصعب رؤية ذلك. إن حقيقةَ كلِّ رواية تقريبًا تكون دائمًا أكثرَ تعقيدًا ممَّا نتخيَّل في البداية، أو ممَّا قد يضطرنا المؤلفون أحيانًا إلى أن نعتقد، والقصص المتعلِّقة بالرياضيات والرياضيين ليست استثناءً. في الجزء المتبقي من هذا الفصل سنستكشف بعضَ الخرافات الشائعة والقصص المبهمة في تاريخ الرياضيات؛ وللإيضاح، لقد سمَّيْتُها «تاريخ البرج العاجي»، و«تاريخ الأحجار المتفرقة»، و«تاريخ الصفوة». ثم سأقدِّم في بقية الكتاب بعضَ النُّهُج البديلة.

تاريخ البرج العاجي

من أهم الملامح المُلاحَظة في قصة وايلز، حقيقةُ أنه تعمَّدَ أن يغلق الباب على نفسه لسبع سنوات حتى يستطيع وضْعَ برهان النظرية الأخيرة، دون مقاطعة أو تداخل. كان فيرما هو الآخَر محبًّا للعزلة، وتفصله مسافةٌ جغرافية عمَّن قد يستطيعون فَهْم عمله وتقديره. لقد تَكلَّمْنا عن ديوفانتس وفيثاغورس أيضًا من دون أية إشارة إلى معاصريهما. هل كان هؤلاء الرجال الأربعة حقًّا عباقرة متفردين شقُّوا طرقًا جديدة بمفردهم؟ هل هذه هي الكيفية التي تُصنَع بها الرياضيات على نحو صحيح، أو على النحو الأمثل؟ دَعْنا نَعُدْ إلى فيثاغورس، ثم نتقدَّم في الزمن إلى الأمام هذه المرة.

لقد ادَّعَتِ القصص المروية عن فيثاغورس بإصرار أنه أَسَّسَ أو جذب حوله جماعة، أو أخوية، اشتركوا في عقائد دينية وفلسفية معينة، وربما أيضًا في بعض الاكتشافات الرياضية. وللأسف، إن القصص تدَّعِي أيضًا أن هذه الأخوية كانت مقيَّدةً بسرية صارمة، وهو ما يَترك بالطبع مجالًا لا نهايةَ له لتخمين نشاطاتهم. لكن حتى لو كانت هناك ذَرَّة من الحقيقة في مثل هذه القصص، فإنه يبدو أن فيثاغورس كان ذا شخصيةٍ مؤثرة بدرجة كافية ليجتذب تابعين. وفي الواقع، إن حقيقة أن اسمه ظلَّ باقيًا تَشِي بأنه كان محترمًا وموقرًا في زمن حياته، وأنه لم يكن ناسِكًا.

يمكننا بدرجة أفضل قليلًا أن نتفهَّم وضْعَ ديوفانتس، الذي كان بإمكانه وهو في الإسكندرية أن يستمتع بصحبة علماء آخَرين. من المؤكد تقريبًا أنه كان قادرًا على الوصول إلى الكتب التي جُمِعت من أماكن أخرى من عالم البحر المتوسط في المعابد، أو مجموعات الكتب الخاصة. من الممكن أن مسائل كتاب «الحساب» كانت من اختراعه الخاص، ولكنْ يمكن كذلك، بالقدر نفسه من الاحتمالية، أن يكون قد جَمَعَها من مصادر أخرى متعددة، مكتوبة أو شفهية. أحد الأفكار الأساسية المكررة في هذا الكتاب أن الرياضيات تنتقل من شخصٍ إلى آخَر من خلال الكلمة المنطوقة. وديوفانتس، شأنه شأن أي رياضي خلَّاق، ناقَشَ غالبًا بالتأكيد مسائلَه وحلولَها مع مدرِّس أو مع تلاميذ له؛ ومن ثَمَّ، فإنه ينبغي لنا أن نفكِّر فيه، ليس كشخصية صامتة تكتب كُتُبَها سرًّا، ولكن كمُواطِن في مدينةٍ حظِيَ فيها التعلُّمُ والتبادُلُ الفكري العقلاني بالاحترام والتقدير.

وحتى فيرما، الذي ظلَّ في تولوز منشغلًا بوظيفته السياسية الصارمة التي تستغرق كلَّ ساعات يومه، لم يكن منعزلًا تمامًا كما قد يبدو للوهلة الأولى. أحد أصدقائه من أيام دراسته المبكرة في بوردو كان إيتين دي إسباجنيه، الذي كان والدُه صديقًا لقانونِيٍّ ورياضيٍّ فرنسيٍّ هو فرانسوا فيت؛ كانت أعمال فيت فذَّةً في نواحٍ أخرى، لكنْ كان لها تأثيرٌ عميق على تقدُّم فيرما كرياضيٍّ. هناك صديق آخَر، ومستشار زميل في تولوز، هو بيير دي كاركافي، الذي عندما انتقَلَ إلى باريس في عام ١٦٣٦ اصطحَبَ معه أخبارَ فيرما ومكتشفاته، ومن خلال كاركافي أصبح فيرما معروفًا لدى مارين ميرسين، ومن خلال ميرسين تَراسَل مع روبيرفال، الذي ربما كان أفضل رياضي في باريس، وكذلك مع ديكارت في هولندا. وفيما بعدُ أرسَلَ بعضَ مكتشفاته، التي ظهرت عند دراسته أعمالَ ديوفانتس، إلى بليز باسكال في روان، وإلى جون واليس في أكسفورد. وهكذا فإنه حتى فيرما، البعيد عن مراكز التعليم المهمة، ارتبط بشبكة اتصالات امتدَّتْ عبر أوروبا، وبمجتمعٍ افتراضيٍّ من العلماء، سُمِّي فيما بعدُ «جمهورية الخطابات».

عند الحديث عن وايلز يكون أسهلَ كثيرًا أن نرى زيف قصة «العبقري المنعزل»؛ فقد تَعلَّم وايلز في أكسفورد وكامبريدج، وعمل فيما بعدُ في هارفرد، وبون، وبرينستون، وباريس، وفيها جميعًا كان جزءًا من مجتمعات رياضية مزدهرة. وقد الْتقط الدليلَ الرياضي، الذي ربما يكون قد وجَّهَ اهتمامَه إلى النظرية الأخيرة، من محادثة عرضية مع رياضي زميل في برينستون، وبعد سنوات خمس عندما كانت به حاجة إلى تقدُّم جديد، حضر مؤتمرًا عالميًّا من أجل الاطِّلاع على أحدث الأفكار عن الموضوع، وعندما كانت به حاجة إلى مساعدة فنية في أحد جوانب البرهان المهمة، تخلَّى عن سريته لزميلٍ — هو نيك كاتز — واشتقَّ المادةَ المطلوبة في مقرَّر محاضراتٍ للدراسات العليا، على الرغم من أنها فقدت كلَّ الحضور خلا كاتز، وقبل أسبوعين من تقديم البرهان كاملًا علانيةً في ثلاث محاضرات في كامبريدج بإنجلترا، سأل زميله باري مازور أن يختبره، واختبر البرهانَ ستةٌ آخَرون، وعندما اكتشف خطأً دَعَا وايلز أحدَ تلاميذه السابقين؛ ريتشارد تايلور، لمساعدته في إصلاحه. علاوةً على هذا، فإن وايلز لم يتوقَّف عن التدريس لطلابه، أو عن حضور الحلقات الدراسية. باختصارٍ، على الرغم من أنه أنفق ساعاتٍ عديدةً في عزلة، فقد كان جزءًا لا يتجزَّأ من مجتمعٍ أتاح له أن يفعل هذا؛ مجتمع هبَّ لمساعدته عندما كان ذلك مطلوبًا.

تثير سنوات عزلة وايلز الخيالَ، ليس لأن هذه السنوات شيء طبيعي للرياضي، ولكن لأنها كانت استثناءً. إن الرياضيات نشاط اجتماعي بالأساس على كل المستويات، وكلُّ أقسام الرياضيات في العالم تحتوي على أماكن للتحادُث — سواء أكانت مظلات في حدائق أم غرفًا عامة — وعادةً ما تحتوي على بعض أنواع أسطح الكتابة، حتى يستطيع الرياضيون أن يفكروا معًا وهم يشربون الشاي والقهوة. نادرًا ما يكتب طلاب اللغة أو التاريخ مقالاتهم على نحو مشترك، وهم لا يُشجَّعون على فعل هذا، لكن طلاب الرياضيات كثيرًا ما يفعلون ذلك، ويكون عملهم مُثمِرًا؛ إذ يعلِّم بعضهم بعضًا ويتعلَّم بعضهم من بعض. وعلى الرغم من كل ما أُحرِز مِن تقدُّم في الوسائل التكنولوجية الحديثة، فإن الرياضيات ما زال تعلُّمها لا يجري بالأساس من الكتب، بقدرِ ما يجري من أناس آخَرين، عن طريق المحاضرات والحلقات الدراسية وفصول الدراسة.

تاريخ الأحجار المتفرقة

في قصة نظرية فيرما الأخيرة المذكورة أعلاه، ظهر فيثاغورس وديوفانتس وفيرما ووايلز، ليسوا فقط كأشخاص منعزلين في حياتهم الخاصة، بل كذلك كأشخاص منعزلين بعضهم عن بعض، وكأنهم أحجار متفرقة تبرز على صفحة نهر عديم الملامح. وإذا كانت صورة البرج العاجي للتاريخ تعزل الرياضيين عن مجموعاتهم الاجتماعية ومجتمعاتهم، فإن صورة الأحجار المتفرقة تعزلهم عن ماضيهم. ولأن الماضي يفترض أنه موضوع من موضوعات التاريخ، فإن تجاهُل أجزاءٍ ضخمة منه بهذه الكيفية يبدو غريبًا، ولكنَّ عددًا مدهشًا من التواريخ الرياضية العامة يُقدَّم على صورة أحجار متفرقة.

والآن دَعْنا نختبر قصتنا، وفجواتها، مرةً أخرى بدقة أكثر قليلًا. كما كان فيثاغورس وديوفانتس شخصين مبهمين، فكذلك كان الزمن الفاصل بينهما؛ فربما لم يسمع ديوفانتس عن فيثاغورس قطُّ، لكن من المؤكَّد أنه عرف «نظرية فيثاغورس»، ليس من خلال أية كتابات لفيثاغورس، وإنما من أعمال إقليدس، الذي عاش نحو عام ٢٥٠ قبل الميلاد. وبغض الطرف عن هذا التاريخ التقريبي، فإننا لا نعلم عن إقليدس أكثر مما نعلمه عن ديوفانتس الذي جاء بعده بقرون قليلة، لكن عمل إقليدس الرئيسي «العناصر» صار المرجع الدراسي الأساسي لأطول مدة زمنية؛ إذ ظلَّ يُستخدَم في تدريس الهندسة في المدارس حتى مرور سنوات عدة من القرن العشرين. و«العناصر» تجميعٌ شامل للهندسة في زمن إقليدس، وقد نُظمَت فيه النظريات بترتيب منطقي معيَّنٍ، وأُثبِتَت فيه النظريةُ قبل الأخيرة في الكتاب الأول — «نظرية فيثاغورس» — بعناية من خلال إنشاء هندسي. قد يفترض المرء أن ديوفانتس اطَّلَع في الإسكندرية على كتاب «العناصر»، ومن الممكن أن تكون «نظرية فيثاغورس» قد جعلَتْه يفكِّر في ثلاثيات فيثاغورس؛ لكن من الممكن بالقدر نفسه أن يكون الإلهامُ قد جاء إليه من مصادر أخرى، لا نعلم عنها شيئًا.

إن إضافة التفاصيل الخاصة بالقرون القليلة الأولى بين ديوفانتس وفيرما أصعب من تلك السابقة على ديوفانتس، حتى من قبيل التخيُّل. نحن نعلم أن كتاب ديوفانتس «الحساب» كُتِب أولًا في ثلاثة عشر مجلدًا، ولكن الستة الأولى فقط هي التي ظلَّتْ باقيةً بالإغريقية، ونحن لا نعلم كيف حدث هذا ولا لماذا (اكتُشِفت في إيران عام ١٩٦٨ مخطوطةٌ باللغة العربية، يُقال إنها ترجمة للمجلدات من الرابع إلى السابع، لكن لم يتفق العلماء حول إلى أيِّ درجةٍ من الدقة تمثِّل الترجمةُ النصَّ الأصلي). لحسن الحظ، هذه المجلدات الستة قد حُفِظت للمتكلِّمين بالإغريقية في بيزنطة (القسطنطينية فيما بعدُ، والآن إسطنبول)، وفي النهاية جُلِبَت نُسَخٌ منها إلى أوروبا الغربية. وكما سنناقش فيما بعدُ في الفصل السادس، فإن باحثًا ألمانيًّا يُعرَف باسم ريجيومونتانوس رأى واحدةً منها في فينيسيا عام ١٤٦٢، واعتقد أنها تحتوي أصولَ الموضوع الأجنبي المعروف لدى الأوروبيين باسم «الجبر». وبعد قرن من الزمان درس المهندس والمتخصِّص في علم الجبر الإيطالي رافائيل بومبلي مخطوطةَ «الحساب» في الفاتيكان، وأوقَفَ العمل على كتابه في الجبر حتى يضمَّ إليه مسائلَ ديوفانتس، وقد نُشِرت النسخة المطبوعة الأولى في بازل في عام ١٥٧٥ باللاتينية، وترجمها وحرَّرها فيلهلم هولتزمان (زيلاندر)، باحث العلوم الإنسانية، الذي وصَفَ العملَ بأنه «منقطع النظير، يحتوي على الكمال الحقيقي للحساب.» واستمرت مسائل ديوفانتس تأسِر أَلْبابَ أولئك الذين اطَّلَعوا عليها، وظهرت عام ١٦٢١ طبعة لاتينية جديدة من كتاب «الحساب»، أنتجها كلود جاسبارد باشي دي ميزيرياك في باريس؛ وهذه كانت النسخة التي امتلكها فيرما وذيَّلها بالحواشي.

ليس من الصعب جدًّا ملء التفاصيل في الفترة ما بين فيرما ووايلز. نشر صامويل فيرما في عام ١٦٧٠ نظريته الأخيرة، ويبدو أنها لم تجتذب أية محاولات جدية في القرن السابع عشر، ولكنها جذبت انتباه ليونهارت أويلر في القرن الثامن عشر؛ الرياضي الأغزر إنتاجًا والأكثر مهارةً بين الرياضيين في تلك الفترة، الذي قدَّمَ معالجات لبعض حالاتها البسيطة. وفي عام ١٨١٦ قدَّمَتْ أكاديمية باريس للعلوم جائزةً للحل؛ وقد ألهَمَ هذا جهودَ صوفي جرمين، التي حقَّقَتْ بعض النجاح في حالات معينة منها، وقد استعان آخَرون بعملها وأضافوا عليه. وفوق ذلك، اتسعت المعرفة تدريجيًّا بالمسألة، وعلى مدار سنوات جذبت مئات الحلول — إن لم تكن آلافًا — المُدَّعَاة من المحترفين والهواة على حدٍّ سواء. كان معظم هذه المحاولات خاطئًا وعديم الفائدة، لكن قليلًا منها أدَّى بحق إلى اكتشافات رياضية مهمة، من شأن وايلز أن يكون قد ألمَّ بها. وعندما باشَرَ وايلز في النهاية عملَه على برهانه، فإنه استخدم بعض أعمق رياضيات القرن العشرين، التي عُرِف عنها عندئذٍ أن لها علاقة بنظرية فيرما الأخيرة؛ حدسية تانياما-شيمورا، التي قدَّمها رياضيان يابانيان في خمسينيات القرن العشرين، وطريقة كوليفاجن-فلاخ التي قدَّمَها الروسي فيكتور كوليفاجن والألماني ماتياس فلاخ في ثمانينيات القرن العشرين. لاحِظْ مرةً أخرى نزوعَ الرياضيين إلى كتابة أسماء أسلافهم في السجل التاريخي، ولاحِظْ أيضًا الشبكةَ المركَّبة للتفاعلات التاريخية الموجودة وراء نظرية مفردة.

بصفة عامة، كما رجعنا إلى الوراء أكثر، كانت الصعوبة أكبر في تبيُّن الأرض بين الأحجار المتفرقة؛ ذلك لأن معظم الأدلة قد اختفى منذ زمن بعيد. ولكن من دون المحاولة ليس هناك تاريخ، بل هناك فقط سلسلة من الحكايات التي يظل معظم التاريخ الشعبي للرياضيات غالبًا مبنيًّا عليها.

تاريخ الصفوة

على الرغم من أننا لا نعرف شيئًا تقريبًا عن حياة إقليدس أو ديوفانتس، فإننا يمكننا الحديث بشيء من الثقة عن بعض الأشياء القليلة بخصوصهما؛ فكلاهما تَعلَّمَ تعليمًا جيدًا، وأمكنه أن يكتب بالإغريقية بطلاقة، وهي لغة أهل الفكر في بلاد شرقي البحر المتوسط، وكلاهما كان له كتابات مبكرة في الرياضيات، وكلاهما كان قادرًا على فهم وتنظيم وتوسعة حدود رياضيات زمانه، والرياضيات التي كتباها لم تكن لها قيمة عملية، ولكنها كانت محاولات عقلانية فكرية مجردة. إن عدد الرجال الذين انشغلوا بالرياضيات لم يكن عددًا كبيرًا قطُّ، حتى في مدينةٍ مثل الإسكندرية. وفي الحقيقة، كان عددهم في أي وقتٍ وفي أي مكانٍ من عالم المتكلمين بالإغريقية لا يزيد عن قلة قليلة. بعبارة أخرى، كان كلٌّ من إقليدس وديوفانتس ينتمي إلى صفوة رياضية بالغة الصِّغَر.

يُظهِر لنا بعض التفكير السريع أن الرياضيات كان حاضرة بصورة أكبر مما تمَّ تدوينه؛ فالمجتمع الإغريقي، شأنه شأن سائر المجتمعات، كان فيه أصحاب متاجر، ومدبرات منازل، ومزارعون، وبنَّاءون، وآخَرون كثيرون يستخدمون القياسَ والحسابَ بصورة روتينية في حياتهم. إننا لا نعلم شيئًا تقريبًا عن أساليبهم؛ لأن مثل هؤلاء الناس لا بد أنهم تعلَّموا، وعلَّموا معظم ما تعلَّموه، بالمحاكاة وعلى نحوٍ شفهي؛ إنهم حتى لم يكونوا منظَّمين في مدارس أو طوائف، على الرغم من أننا نعرف مجموعةً منهم كانت تُسمَّى «هاربيدونابتاي»، أو «مادُّوا الحبال». بطبيعتها، لم تُخلِّف الرياضياتُ التي مارَسُوها إلا قلةً من الآثار؛ فمجموعات الأزرار، أو العلامات المحفورة في الخشب أو في الحجر أو على الرمل؛ كانت تُطرَح بمجرد أن تصير عديمة الجدوى، وبالتأكيد فإنها لم تكن لتُحفَظ في مكتبات. وعلى أية حال، كانت هذه الأنشطة تجري على يد أناسٍ في مستوًى اجتماعي متدنٍّ نسبيًّا، ولم تكن لها أهمية كبيرة، في نظر أصحاب الفكر الأكاديمي.

عندما يتكلَّم مؤرخو الرياضيات عن «رياضيات الإغريق»، كما يفعلون كثيرًا، فإنهم دائمًا ما يتكلمون عن الكتابات الممتعة عقليًّا التي أتَتْ إلينا من إقليدس وأرشميدس وديوفانتس وآخرين، وليس عن الرياضيات العامة، أو رياضيات الحدائق. وحديثًا، بدأ هذا في التغيُّر؛ إذ بدأ مؤرخو الرياضيات في الاعتراف بأن صفوة رياضيات الإغريق قد استمدت جذورَها من الرياضياتِ العملية، ورياضياتِ الحياة اليومية في بلاد شرقي البحر المتوسط، حتى إذا كان الكتَّاب المتأخِّرون قد أبعدوا أنفسهم عن هذه الجذور بتطوير نوعٍ من الرياضيات أكثر شكليةً، و«عديم» الفائدة.

ثمة شيء آخَر يجب أن يُؤخَذ بحذر عند التعامل مع المصطلح الجذَّاب «رياضيات الإغريق». لقد عاش ديوفانتس في الإسكندرية بمصر، وعاش أرشميدس في جزيرة صقلية، أما أبولونيوس، وهو رياضي آخَر من كبار الرياضيين «الإغريق»، فقد عاش في برجا الموجودة في تركيا الآن. بعبارة أخرى، على الرغم من أنهم جميعًا كتبوا بالإغريقية، فإنه لم يأتِ واحدٌ منهم من الأرض التي نعرفها الآن باسم اليونان، بل إن ديوفانتس ربما وُلِد ونشأ في القارة الأفريقية؛ وعلى الرغم من ذلك، فإن «رياضيات الإغريق» التي وُقِّرت وبُجِّلت كثيرًا من جانب أوروبيِّي عصر النهضة، قُدِّمت على أنها «أوروبية» أساسًا. إن هراء دمج الإسكندرية في أوروبا يبدو ظاهرًا بجلاء عندما نفكِّر فيما حدث من استبعادٍ لإسبانيا، في الطرف المقابل من القارة. لقد أصبحت إسبانيا تحت الحكم الإسلامي في بدايات القرن الثامن؛ ومن ثَمَّ فقد استمتعت بالثقافة والتعاليم الثرية للعالم الإسلامي؛ ومع ذلك فإن المرء يقرأ كثيرًا أن فيبوناتشي — الذي كان يكتب في بيزا بإيطاليا في القرن الثالث عشر — هو مَن أدخَلَ الأعداد العربية إلى أوروبا، وكأنَّ استخدامها في إسبانيا لمدة قرنين قبل ذلك التاريخ ليس له حساب، كما لو كانت إسبانيا بطريقة أو بأخرى ليست جزءًا أصيلًا من أوروبا. إن مَن يناصرون فكرةَ رياضيات الصفوة مالوا ميلًا طبيعيًّا إلى أن يُدْرِجوا في تاريخهم أيَّ شيء من شأنه أن يمنحهم السلطةَ والاحترامَ، بغضِّ النظر عمَّا إذا كان ذلك يخالف الحقائق الراسخة أم لا.

أينما مُورِسَت الرياضيات، فمن المرجح أن نجد عددًا قليلًا من الممارسين المتقدمين الجديرين بالتقدير، ولكنَّ هناك آخَرين كثيرين لن تدخل أسماؤهم في أي كتابِ تاريخٍ أبدًا. وإذا أعَدْنا دراسةَ الوضع في زمن فيرما، فلن نجد اختلافًا كبيرًا. في حياته، كانت فرنسا ثريةً على نحوٍ استثنائي بالنشاط العلمي الراقي؛ ويمكن للمرء أن يفكِّر في ثلاثة أو أربعة باريسيين كانوا يتواصلون بغير انقطاعٍ مع فيرما؛ وعلى سبيل التقدير السخي، ربما كان هناك عددٌ مماثل في هولندا وإيطاليا معًا، وربما شخص واحد أو شخصان في إنجلترا، ولكن ليس أكثر من ذلك. لكن النشاط الرياضي كان منتشرًا أكثر من المتوقَّع في المستوى الاجتماعي الأكثر تواضُعًا. وقد أظهر البحث الإلكتروني الحديث للمواد المرقمنة أن حوالي ربع الكتب المنشورة في إنجلترا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، قد ذَكرت الرياضيات بطريقةٍ أو بأخرى، ولو حتى بصورة عرضية. علاوةً على هذا، كانت هناك زيادة مطَّردة في الكتب الموجَّهَة للتجار والحرفيين الراغبين في اكتساب المهارات الرياضية الأساسية.

قبل أن نختتم هذا الفصل دعونا نُلْقِ نظرةً بتفصيل أكثر قليلًا على أحد هذه الكتب؛ فما من سبيل لاكتشاف تاريخ الرياضيات أفضل من التنقيب في المصادر الأصلية. نُشِر كتاب «الطريق إلى المعرفة» في إنجلترا لمؤلفه روبرت ريكورد في عام ١٥٥١، قبل نحوٍ من خمسين عامًا من ميلاد فيرما. عمل ريكورد جزءًا كبيرًا من حياته طبيبًا، وفي عام ١٥٤٩ عُيِّن مراقِبًا لدار سَكِّ العملة في بريستول، وبعد عامين عُيِّن مراقِبًا لمناجم الفضة في أيرلندا. لسوء الحظ، دخل في عداوات سياسية في هذه الفترة، وانتهى به الحال في سجن محكمة الملك في لندن؛ حيث مات عام ١٥٥٨ عن ثمانية وأربعين عامًا؛ لكنه خلال ذلك الوقت نشَرَ معظمَ أعماله الرياضية، التي يُذكَر بها الآن. لقد تَعلَّمَ ريكورد اللاتينية والإغريقية بطلاقة في أكسفورد وكامبريدج، لكنه أَقْدَمَ على قرار جريء يتمثَّل في كتابة موضوعاته الرياضية بالإنجليزية؛ وعلى وجه الخصوص، كان يهدف إلى جعل رياضيات إقليدس، وهو واحد من صفوة الرياضيين، في متناول الرجل العادي. لم يكن هذا عملًا سهلًا؛ ومن أسباب ذلك أن معظم العاملين الإنجليز على الرغم من أنهم كانوا خبراء في الخطوط العمودية والمساطر، فإنهم لم يسمعوا قطُّ عن هذا الموضوع الشكلي المسمَّى «الهندسة»، كما كان هناك سببٌ آخَر، هو أنه ببساطة لم تكن هناك كلمات إنجليزية لتعبيرات تقنية مثل «متوازي أضلاع»، أو «قطاع». وقد انكبَّ ريكورد على حلِّ كلتا المشكلتين بالتخيُّل والمهارة.

في مقدمة الكتاب الطويلة، وَصَفَ ريكورد طبقاتِ الرجال الذين تُعَدُّ الهندسةُ بالنسبة إليهم «ضروريةً جدًّا»، بدايةً من أولئك المنتمين إلى الطبقات الاجتماعية المتواضعة فصاعدًا. في القاع كان هناك «النوع غير المتعلِّم» الذي يعمل في الأرض، وحتى هؤلاء الرجال ذهب ريكورد إلى أنهم يستخدمون فَهْمَهم الغريزي الفطري للهندسة، وإلا لَانهارت قنواتهم، ولَتداعَتْ أكوامُ قشهم. تَحرَّكَ ريكورد إلى أعلى، إلى طبقة أصحاب الحِرَف، وأورد قائمة طويلة شعرًا لأولئك الذين تُعَدُّ الهندسةُ بالنسبة إليهم ضروريةً؛ كالتجار والملَّاحين والنجارين والنحاتين والنقاشين واللحامين والبنَّائين والرسامين والخياطين والإسكافيين والنسَّاجين وغيرهم، مختتِمًا بقوله:
لم يكن هناك فن بمثل هذا الذكاء البارع،
ضروري للرجل مثل هذه الهندسة السليمة.

اعتبر ريكورد أيضًا الهندسة لا غنى عنها في مِهَن مثل الطب واللاهوت والقانون، على الرغم من أن حججه كانت أقرب إلى الاصطناع وأقل إقناعًا، كلما ارتقى السلم الاجتماعي.

كان تعاطُف ريكورد مع رجل الشارع على أوضحِ ما يكون، عندما يباشِر هو الهندسة ذاتها؛ فشرحُه نموذجٌ جيد لأصول التدريس، معبر عنه بلغة واضحة بصحبة أعداد كبيرة من الأمثلة والرسوم المساعدة. في موضع متقدِّم جدًّا درَّس ريكورد مسطرةَ وفرجارَ إقليدس لإنشاء زاوية قائمة؛ لكن في حالةِ إذا كان هذا صعبًا للغاية، كان له اقتراح بديل: ارسمْ خطًّا وضَعْ عليه علامات: ثلاث وحدات، وأربعًا، وخمسًا على الترتيب، ثم استخدِمْ هذه الأطوال لإنشاء مثلث، وستكون الزاويةُ بين الضلعين الأقصرين هي الزاوية القائمة. هذا ليس إنشاءً إقليديًّا كلاسيكيًّا، بل هو طريقة لرجل عملي؛ لمادِّي الحبال.

في القرن الحادي والعشرين، يمكننا عمل قائمة أطول كثيرًا من تلك التي أوردها ريكورد لهؤلاء الذين يستخدمون الرياضيات في حياتهم اليومية؛ في المدرسة، أو في المنزل، أو في محل العمل. إنني أفكِّر في أمر والدتي إيرين، البالغة من العمر تسعة وثمانين عامًا ولا تثق في البنوك ولا في أجهزة الكمبيوتر، ولكنها تسجِّل كلَّ بنس من إنفاقها المنزلي في مفكرات معتنًى بها؛ أو أفكِّر في صديقتي تاتيانا، التي أخبرتني مرارًا كيف أنها لا تجيد الرياضيات، ولكنها تصنع لحافات مصمَّمة تصميمًا معقَّدًا (انظر الشكل ١-١). يمكنها بالتأكيد أن تصنع مثلثات قائمة الزاوية، وفي الحقيقة، إن موهبتها الفطرية في الترصيع بالفسيفساء والنسب، ربما تؤهِّلها لأنْ تكون ممثلةً عصرية لطائفةِ مادِّي الحبال.
fig1
شكل ١-١: «تلوين مائي» من صُنع تاتيانا تيكل بيبي، التي تُقِرُّ بأنها لا تجيد الرياضيات.

لا يوجد مكان في تاريخ الصفوة لإيرين أو تاتيانا؛ فالنساء على وجه الخصوص ينبغي لهنَّ أن يرتفعن على الأقل إلى مستوى صوفي جرمين قبل أن يُؤخَذن بجدية. ومع هذا، فإنه من دون الناس الذين يمارسون الرياضيات ويدرسونها في كل مستوًى، فإن الصفوة لا يمكنها أن تزدهر. وخلف المراكز التي يحتلها وايلز أو فيرما أو ديوفانتس، تمتد مناطق خلفية فسيحة من النشاط الرياضي لم تستكشفها التواريخ العامة لهذا الموضوع إلا قليلًا. وجزء من أهداف هذا الكتاب هو أن يعيد الاتزان ويعيد الرياضيات إلى رجال الشارع، ونسائه وأطفاله، وأن يعيد النظر إلى تاريخ الرياضيات من وجهة نظر جديدة إلى حدٍّ ما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤