لغز جديد

اختفى ماسح الأحذية الصغير، وكأنه «فص ملح وذاب» … وبرغم أن المغامرين الخمسة راقبوا المقهى طوال النهار وجزءًا من الليل، فإن الولد الصغير لم يظهر مطلقًا، وكأنه كان شبحًا أو حلمًا …

وفي صباح اليوم التالي للمراقبة قالت «نوسة»: هكذا عدنا إلى طريقٍ مغلق، ولم يعد أمامنا إلَّا أن نُنفِّض أيدينا من هذا اللغز …

قال «تختخ» في ضيق: إن هذا شيءٌ غير مفهوم … كيف اختفى الولد بهذه السرعة من أمامي … ثم اختفى تمامًا؟ يبدو أن هذا لغزٌ آخر، لا يقل غموضًا عن لغز اختفاء الحقيبة … بل أشد.

محب: لا داعي لليأس بهذه السرعة؛ فقد يظهر الولد اليوم، أو غدًا ونتابع المغامرة.

تختخ: إن ما يُضايقني أن الإجازة ستنتهي سريعًا، وقد لا نتمكَّن من متابعة المغامرة بعد ذلك، وأنا لا أُحب أن أترك شيئًا بلا حل …

عاطف: في إمكاننا يا «تختخ» أن نسأل عنه؛ فقد يكون مريضًا، أو انتقل إلى مكانٍ آخر، أو ترك مسح الأحذية … ومن الممكن أن نسأل عنه ماسحي الأحذية في المعادي، فكلهم يعرفون بعضهم بعضا …

ابتسم «تختخ» قائلا: عظيم! كيف غاب عنَّا هذا الحل البسيط؟ يبدو أن الإنسان عندما يُركِّز تفكيره في شيء ينسى بقية الأشياء … سنقوم مرةً أخرى بالبحث، وستكون مهمتنا سؤال ماسحي الأحذية.

هكذا قسَّم الأصدقاء أنفسهم مرةً أخرى، وبدأت عملية بحثٍ جديدةٍ عن ماسح الأحذية الصغير. وكانت خطتهم بسيطة … هي أن يمسح كلٌّ منهم حذاءه عند ماسح أحذية من المتجوِّلين، ويصف له الولد، ويطلب منه معلوماتٍ عنه. ولحسن الحظ استطاع الأصدقاء في اليوم التالي أن يعثروا على معلوماتٍ طيبةٍ عن الولد؛ فقد عثرت «نوسة» على ماسح أحذية صغير يعرفه، فقال لها إن اسمه «عودة»، وإن والده هو شيَّال عجوز يقف أحيانًا في محطة السكة الحديد اسمه «عباس» …

قرَّر «تختخ» أن يذهب هو للبحث عن «عباس»، ولكي يجد وسيلةً للحديث معه؛ فقد أخذ حقيبةً من البيت وتظاهر أنه عائدٌ من القاهرة، وعندما وجد «عباس» يقف بجوار القطار أعطاه الحقيبة ليحملها له.

كان «عباس» رجلًا عجوزًا قد هدَّته السنون، وكانت يده ترتعش وهو يحمل الحقيبة، حتى أحسَّ «تختخ» بالإشفاق عليه، وكاد يسترد الحقيبة منه، ولكنه تركه يحملها، فقال «عباس»: هل تُريد ركوب تاکسي؟

تختخ: لا، إنني سأذهب إلى البيت مشيًا على الأقدام.

عباس: في هذه الحالة سآخذ خمسة قروش …

تختخ: لا بأس، سأعطيك ما تطلب …

وعندما خرجا من المحطة، وخفَّت حدة الزحام وصوت القطارات، بدأ «تختخ» حديثه قائلًا: لقد كنتُ أعرف ولدك الصغير … فقد مسح لي حذائي …

ردَّ «عباس»: «عودة» … إنه ولدٌ خائب … ومع ذلك كنت أُحبه لأنه آخر أولادي …

تختخ: وأين بقية أولادك؟

عباس: لقد كبروا ووجدوا أعمالًا، ولكنهم لا يُساعدوني … للأسف الشديد لقد أضعت عمري في تربيتهم، ولكن ماذا كانت النتيجة؟!

تختخ: ولماذا لم يدخل «عودة» المدرسة؟ …

عباس: لقد أدخلته المدارس … ولكنه كان يهرب منها ويتبع الأولاد المشرَّدين … وما دام الولد يهرب من المدرسة؛ فإنه لا ينفع مطلقًا، ولم أجد حلًّا له إلَّا أن أشتري له صندوقًا لمسح الأحذية يكسب منه بعض القروش …

تختخ: ولكنني لم أرَه منذ يومين، فأين ذهب؟ …

عباس: لقد ضقتُ به؛ فهو لا يُعطيني شيئًا، وعندما يعود في المساء يطلب طعامًا، وإذا تمزَّقت ثيابه طلب ملابس جديدة، وأول أمس عاد وليس معه ملیم واحد … فضربته، وفي الصباح أخذته وسلَّمته للملجأ، وهناك يستطيع أن يأكل ويلبس ويتعلَّم شيئًا ينفعه في مستقبله، بدلًا من هذا الضياع الذي كان يعيش فيه …

تختخ: وفي أي ملجأ أدخلته؟ …

عباس: ملجأ «السيدة زينب»؛ لأنه دخله قبل ذلك وهرب منه، وقد أعدته مرةً أخرى، ولعله يتعقَّل هذه المرة …

كانت هذه المعلومات كافية جدًّا ﻟ «تختخ»، فشكر عم «عباس» ومنحه عشرة قروش، تقبَّلها الرجل شاكرًا، وحمل «تختخ» الحقيبة، وأسرع إلى البيت عندما اجتمع المغامرون الخمسة، وروى لهم «تختخ» ما حدث، قال «محب»: وماذا سنفعل الآن يا «تختخ» …؟

قال «تختخ» وهو ينظر بعيدًا: إن في ذهني خطةً جديدةً لكسب ثقة «عودة»، والحصول منه على المعلومات التي نُريدها … إن مجرَّد ذهابي إلى الملجأ والحديث إليه قد لا يكفي ليتحدَّث بصراحة، وإذا أبلغنا الشرطة واستجوبته فقد يُنكر كل شيء …

نوسة: ولماذا يُنكر؟

تختخ: لأنه خائف من شيءٍ ما. لعله خائف من العصابة … ولعله عضوٌ فيها لهذا حذَّرني وهرب …

لوزة: ماذا سنفعل إذن؟

وقف «تختخ» وهو يقول: سأطلب من المفتش «سامي» مساعدتي في دخول الملجأ كولد متشرِّد … وهناك سوف أكسب ثقة «عودة» … وأحصل منه على ما أُريد …

محب: ولكنه سيعرفك …

تختخ: لا أظن، فسوف لا يتذكَّر الولد النظيف الذي قابله، ومسح له الحذاء عندما يرى الولد المتشرِّد الذي معه في الملجأ! …

لوزة: ولكن هذه مخاطرة فظيعة یا «تختخ» …

تختخ: إنها تجرِبة جديدة أحب أن أخوضها؛ لأرى الحياة داخل الملجأ، ولعلني أخرج منها بمعلوماتٍ للكشف عن لغز الحقيبة السوداء …

وانفضَّ اجتماع الأصدقاء، وأسرع «تختخ» يتصل بالمفتش «سامي»، ويطلب مقابلته في صباح اليوم التالي.

عندما استقبل المفتش «سامي» الولد المتشرِّد الذي دخل مكتبه في الصباح لم يُصدِّق أنه «تختخ»؛ كان يلبس ثيابًا ممزَّقة، وحذاءً قديمًا، وقد اتسخ وجهه ويداه، ولولا أن المفتش يعرف إجادة «تختخ» للتنكُّر لما صدَّق أن هذا الولد المتشرِّد هو صديقه المغامر.

وجلس «تختخ» يروي للمفتِّش قصة الحقيبة السوداء، حتى وصل إلى الجزء الأخير منها، وهو طلبه دخول الملجأ. قال المفتش: هذا شيءٌ غير معقول. إنك لن تستطيع تحمُّل الحياة داخل الملجأ، فهي حياة شاقة …

قال «تختخ»: إنني أعرف ذلك، ولكني أُحب أن أُجرِّب شيئًا جديدًا …

المفتش: ولكن ماذا تنتظر من هذه المغامرة؟ إن حقيبة والد «عاطف» يبحث عنها رجال الشرطة، وسوف يجدونها، فما الداعي لأن تُغامر هذه المغامرة الخطرة؟!

تختخ: إنني أتوقع أن تكون الحقيبة بدايةً للغزٍ هام … وليس أمامي طريقٌ آخر للوصول إلى حل هذا اللغز إلَّا بدخولي الملجأ.

المفتش: وهل اتفقت مع والدَيك على هذا؟ …

تختخ: لحسن الحظ أنهما انتهزا فرصة إجازة نصف السنة وسافرا إلى أسوان لقضاء الإجازة هناك، وليس هناك أحد في البيت سوى الشغَّالة …

فكَّر المفتش قليلًا، ولكن أمام إلحاح «تختخ» لم يجد وسيلةً إلَّا أن رفع سماعة التليفون، وأجرى اتصالات مع رجاله، وبعد قليلٍ كان كل شيءٍ جاهزًا؛ فسوف يقوم أحد رجال الشرطة بالقبض على «تختخ» وتسليمه إلى الملجأ بتهمة التشرُّد.

وتبادل المفتش و«تختخ» تحيةً حارة، واتفقا على طريقة اتصال أحدهما بالآخر، ثم مشى «تختخ» إلى خارج الغرفة، فوجد شرطيًّا في انتظاره، ولم يكن الشرطي يعرف شيئًا عن حقيقة الولد الذي أمامه، كل ما كان يعرفه أنه ولد متشرِّد مطلوبٌ إيداعه ملجأ الأحداث في السيدة. وهكذا أمسكه من ذراعه واقتاده إلى سيارة الشرطة التي كثيرًا ما رآها «تختخ» تحمل اللصوص والمشرَّدين لإيداعهم السجن أو الحبس في أقسام الشرطة المختلفة …

جلس «تختخ» في الجزء الخلفي المكشوف من السيارة مع مجموعةٍ مختلفة الأشكال من اللصوص والمشرَّدين، الذين أخذوا ينظرون إليه بعيونٍ فاحصة، وهو يُحاول القيام بدوره کولدٍ متشرِّد …

ظلَّت السيارة واقفةً أمام مبنى الشرطة فترةً طويلة، وبين حينٍ وآخر ينضم إلى الموجودين عددٌ آخر من المقبوض عليهم، حتى ضاقت السيارة بمن فيها، وأحسَّ «تختخ» أنه تورَّط في مشكلةٍ مخيفة، خاصةً وقد أخذت المشاجرات على الأماكن تتزايد، ووجد نفسه يتلقَّى عدة لطمات، برغم أنه لم يشترك في أيٍّ منها …

أخيرًا تحرَّكت السيارة، وشعر «تختخ» برغبةٍ قويةٍ في أن يقفز من السيارة إلى الشارع، وينهي هذه المغامرة، ولكن ذلك كان شيئًا مستحيلًا؛ فسوف يُطارده رجال الشرطة وتصبح مشكلة.

كان الملجأ هو آخر المطاف بالنسبة لرحلة السيارة، ولم يعد فيها سوى «تختخ» وولد آخر صغير نحيف، فتعارفا وقدَّم «تختخ» نفسه للولد باسم «دنجل»، أمَّا الولد فكان اسمه «مستور».

نزل الشرطي الذي تسلَّم «تختخ»، ونادى الولدَين فنزلا، واقتادهما إلى باب الملجأ …

وعندما وقفوا أمام مبنى الملجأ الأصفر دقَّ الشرطي جرس الباب، ففُتح بعد فترة، وشعر «تختخ» وهو يخطو إلى داخله أنه يخطو إلى عالمٍ مجهول، وأحسَّ برِعدةٍ تسري في جسده. والشرطي يُغادر المكان بعد أن سلَّمهما إلى مدير الملجأ الذي بدأ يكتب البيانات الخاصة بهما في سجلٍّ خاص، ثم قال لأحد الفرَّاشين: عنبر ثلاثة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤