ذو الوجهين

لاحظ «تختخ» خلال الأيام القليلة التالية أن «عودة» يتودَّد إليه ويُحاول أن يُصبح صديقه، وقد سُر «تختخ» من هذا التقارب الذي تم بينهما، ولكنه شعر أن هذا التودُّد له هدفٌ آخر أكثر من الصداقة. وفي نفس الوقت بدأ «الكنجة» يُحاول جمع أنصاره من جديد، وتوقَّع «تختخ» أنه يُحاول «الكنجة» أن يُثير معه المشاحنات مرةً أخرى …

وذات يومٍ في فسحةٍ ما بعد الغداء، كان «تختخ» يجلس ومعه «عودة» في الشمس الدافئة، وكان «تختخ» يُفكِّر في طريقةٍ يحصل بها على المعلومات من «عودة»، وهي المعلومات التي جاء من أجلها إلى هذا المكان.

وفجأةً نظر «عودة» إلى «تختخ»، وقال له بصوتٍ هامسٍ وهو يتلفَّت حوله: إنني أعرفك وأُريد مساعدتك.

تختخ: تعرفني؟! …

عودة: نعم أعرفك، إنك «توفيق» ابن الأستاذ «خليل»، وشهرتك «تختخ». لقد كانت خالتي تعمل عندكم منذ عامَين، وكنت أحضر أحيانًا معها، ولكنك لم ترَني، أو لعلك رأيتني ونسيت.

كانت معلومات «عودة» عن «تختخ» دقيقةً وكاملةً إلى حدٍّ أذهل «تختخ»، ولكنه استعاد رباطة جأشه؛ فقد وجد الفرصة سانحةً للحصول على المعلومات المطلوبة، فقال بسرعة: وهل عرفتني عندما تحدَّثت معك في المقهى؟ …

عودة: طبعًا، لهذا حذَّرتك من مغامرة الحقيبة السوداء، فأنا أسمع عن مغامراتك، وقد خشيت أن تدخل في صراعٍ مع خاطفي الحقيبة، وأنت لست مثلهم، إنهم أشرار … أشرار … ومجرمون …

تختخ: ومن أين عرفتَ كل هذا؟ …

عودة: قبل أن أقول لك كل شيء أُحذِّرك مرةً أخرى منهم … كذلك أُحب أن تعرف أن «الكنجة» هو الذي أرسلني لمصاحبتك وإنشاء صداقة معك. إنه ولد ذكي وقد شك فيك؛ فشكلك وأسلوبك في الكلام لا يناسب نزلاء الملاجئ، وقد طلب مني أن أتجسَّس عليك.

أُصيب «تختخ» بذهولٍ تامٍّ وهو يسمع هذه الحقائق المدهشة عن «عودة»، وعن «الكنجة»، وأدرك أنه كان ساذجًا إذ تصوَّر أن دخوله إلى الملجأ لن يُثير شك أحد …

عاد «عودة» إلى الحديث مرةً أخرى قائلًا بصوته الهامس: إنني أُحذِّرك مرةً أخرى، وأنصحك أن تخرج فورًا من هذا المكان؛ فإن «الكنجة» لن يتركك. ولا أقصد بهذا أن يضربك، ولكن شيئًا أكثر من هذا بكثير.

قال «تختخ»: إنني أشكرك على تحذريك، ولكن أطلب منك أن تقول لي الحقيقة كاملة … أُريد أن أعرف من الذي خطف الحقيبة ولماذا؟ وما دخل «الكنجة» في كل هذا؟

ردَّ «عودة» بصوتٍ مرتجف: إنني خائف منهم … أنت لا تعرفهم أمَّا أنا فأعرفهم، وكنت واحدًا منهم …

تختخ: لا تخف. إننا نعمل من أجل العدالة، ومن خلفنا رجال أقوياء يحموننا …

فكَّر «عودة» قليلًا، ثم قال: أخشى أن يشكوا في حديثنا الطويل، ومن الأفضل أن أنصرف الآن … وأراك غدًا … في نفس المكان، وفي نفس الموعد.

وانصرف «عودة» وبقي «تختخ» وحيدًا يُفكِّر فيما سمعه، وأدرك أنه وقع على أثرٍ هام لللذين خطفا الحقيبة، وما وراءهما ووراء «الكنجة» من أشخاص.

ولاحظ «تختخ» في أثناء بقية النهار والمساء أن «الكنجة» كان يتحدَّث مع «عودة» كثيرًا، وأنه كان يرمقه بنظراتٍ حادةٍ ومتحدية. وأحسَّ «تختخ» بشيءٍ من الخوف؛ فقد يكون «عودة» خائنًا، وذا وجهين، وقد يُبلغ «الكنجة» بحقيقة «تختخ»، فيتعرَّض لمشاكل رهيبة لا يدري أحد مداها، ولكنه لم يُظهر هذا الخوف الذي أحسَّ به، وظل طول الفترة يضحك مع الأولاد … ويتبادل معهم النِّكات، وكأن شيئًا لا يعنيه …

وعندما جاء موعد النوم … ذهب كل ولدٍ إلى فراشه عدا «الكنجة»، الذي سهر مع «كفتة» وولدَين آخرَين يتبادلون أحاديث هامسة، ونام «تختخ» وهم ما زالوا يتحدَّثون.

بعد منتصف الليل استيقظ «تختخ» على يد تهزُّه، وصوت خافت يُناديه، وفتح عينَيه ونظر حوله في الظلام، وسمع صوت «عودة» يقول هامسًا: «تختخ» … «تختخ» … استيقظ إنني «عودة» …

حاول «تختخ» القيام من فراشه، ولكن «عودة» أشار له بأن يتظاهر بأنه ما زال نائمًا، ولاحظ «تختخ» أن «عودة» كان يجلس على الأرض حتى لا يراه أحد، وسمعه يتحدَّث إليه قائلًا: لقد فضَّلت أن أتحدَّث إليك؛ لأن «الكنجة» غادر الملجأ الليلة …

قال «تختخ» بصوتٍ هامس: خرج! كيف؟ وهل سيعود؟ …

عودة: إنه متفق مع البواب، ويستطيع هو وبعض أعوانه الخروج في أي وقتٍ ليلًا على أن يعودوا قبل طلوع الصبح، لقد كنت أعمل معهم فترةً طويلة، وأعرف كل شيء.

تختخ: وماذا يفعلون في الليل؟

عودة: إن العصابة تستخدمهم في أعمالٍ كثيرة …

تختخ: أي عصابة؟ …

سكت «عودة» لحظات، ثم قال: إنني أخشى من رجال العصابة عليك؛ ﻓ «الكنجة» كما قلتُ لك يشك فيك، وقد حاولتُ أن أُبعد شبهاته عنك، ولكني لم أنجح، وأخشى أن تُدبِّر لك العصابة مؤامرة …

عاد «تختخ» يسأل: أي عصابةٍ التي تتحدَّث عنها؟ لا يُهمك ما سيحدث لي، ولكن المهم أن تُخبرني عن العصابة.

عودة: إنها عصابة لتزييف النقود، يرأسها زعيم قوي لم أرَه أبدًا، ولكنني سمعت عنه. وله أعوان أقوياء، وهم يستعينون بعددٍ من الأولاد في مهماتٍ خاصةٍ لنقل الأشياء من مكانٍ إلى آخر، مثل الكليشيهات التي يطبعون النقود بها، والورق الذي يطبعون عليه. وأحيانًا يقومون بنقل النقود المزيَّفة إلى عملاء العصابة …

وقفزت إلى ذهن «تختخ» حقيقة الحقيقة السوداء … لقد سُرقت من أصحابها ولم يُبلِّغوا عنها؛ لأنها كانت ممتلئةً بالنقود المزيَّفة. ولكن لماذا سُرقت؟ وقال «تختخ» يسأل «عودة»: هل كان للعصابة دخل في سرقة الحقيبة السوداء؟

عودة: نعم … إن هذه الحقيبة كانت ممتلئةً بالنقود المزيَّفة، وقد حاول رجلان من العصابة الفرار بها من الزعيم، ولكن أحد الأولاد الذين يعملون مع العصابة استطاع أن يتبعها ويسرقها من الرجلَين في المقهى ويُرجعها إلى العصابة … وقد أخبرني الولد بكل شيءٍ عندما كان يتبعهما إلى المقهى، وقد شاهدته وهو يخطفها …

تختخ: وهل تعرف مكان العصابة؟

عودة: لا، لا أحد يعرفها من الأولاد سوى «الكنجة»؛ لأنه موضع ثقة الزعيم.

وقبل أن يسأل «تختخ» أي سؤالٍ آخر تحرَّك أحد الأولاد في فراشه، فأسرع «عودة» إلى مكانه، واستلقى «تختخ» وقد امتلأ رأسه بالخواطر التي ظل يُفكِّر فيها حتى سمع صوت أقدام «الكنجة» وهو يتسلَّل عائدًا من رحلته الليلية، ويُسرع إلى فراشه دون أن يراه أحد …

وفي صباح اليوم التالي كان كل شيءٍ يسير كالمعتاد، والتقى «تختخ» «بعودة»، وكان مهتمًّا بأن يسمع منه معلوماتٍ أخرى عن العصابة، ولكن «عودة» لم يكن لديه الكثير ليقوله … لقد اشترك مع العصابة فترة، ثم تركهم وغادر الملجأ، وكانت مهمته توصيل بعض الأشياء لأفراد العصابة في أماكن متفرِّقة، أو التردُّد على المقاهي التي يذهب إليها بعض أعوان العصابة، حيث ينقل لهم المعلومات وهو يقوم بمسح أحذيتهم …

قال «تختخ» ﻟ «عودة»: إن ما يُهمني هو أن أعرف متى يخرج «الكنجة» مرةً أخرى ليلًا؛ فإنني أُريد أن أتبعه لأعرف مقر العصابة …

قال «عودة»: من الصعب معرفة متى سيخرج «الكنجة»، ولكني سأحاول معرفة موعده في المرة القادمة …

وافترق الصديقان، وذهب «عودة» لينضم إلى فريق «الكنجة»؛ لعله يستمع إلى أنباء جديدةٍ عن العصابة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤