في أمريكا الشمالية

أخيرًا حللتُ نيويورك، وأسرعتُ إلى أشهَر أنحائها وأمْعَنِها إسرافًا في اللهو، وهو برودواي. أما سيل الناس وبخاصة مساء الأحد فذاك أمره عجيب، الأكتاف تتلاصق في غير مبالاة، وأينما كنتُ أسير كان يقودني تيَّار الناس ودفْعُهم لي، والسيارات الفاخرة تسدُّ الطرق، وكنا نسمع أصوات الراديو منبعثة من كل سيارة في جلَبةٍ كبيرة. وظل جميع الناس إلى ما بعد الثانية صباحًا من بينهم الأطفال الصغار، ولهم العذر؛ إذ المكان يُبهر العقول ويَستهوي من الناس الحكيم الرزين، فما بالك بالأطفال ضِعاف الأحلام. وكنتُ كلما همَمتُ بالعودة إلى الفندق لأنام ووجَّهتُ خُطاي إليه، أجدها تُساير التيار وتأبى إلا التجوُّل في تلك المنطقة الساحرة. أما خروج الغانيات والشبان عن الحد المألوف في تبختُرهم وعناقهم وتقبيلهم على قارعة الطريق، فذاك ما كان يروعني كثيرًا، فكأن الإباحة قد بلغَت هناك غايتها وامتنع الحياء بتاتًا، والمدهش أن ذلك لم يكن يَسترعي من المارة لفتةَ استنكار أو امتِعاض، فالكل راضون بذلك، وهل الحياة في نظر برودواي إلا هذا المتاع والإسراف في المجون؟ وهل أنسى دهشتي وأنا أجوب جوانب ذاك الشارع الخلاب (برودواي) والأكتاف تكاد تتلاصق، وإذ بحسناء تجري وسط تلك الجموع الكثيفة وتُعاكس الناس يمينًا ويسارًا، وما أن وجَّهت نظري إليها حتى أمسكَتْ بصدري وأدارتني بعنفٍ، ثم «زغزغتني» وضحِكَت وهي تصيح قائلة: Excuse me, I am crazy، ومضت في مرحها هذا، ولم يُثِر ذلك من استنكار المارة شيئًا، ومن أمثال ذلك كثيرٌ وقع لي مرات عدة!
وكم أدهشني الفرق الشاسع بين الأهلين هناك وبين الإنجليز، رغم أنهم أبناءُ لسان واحد، فأخلاقهم مُتبايِنة، فالأمريكية تستنكر من الإنجليزية ترفُّعَها عن الدخول في محادثة الغير، وتَرميها بأنها صمَّاءُ خاملة الفكر، والأمريكية سريعة التعارُف ورفعِ الكُلفة عن غيرها، ولا تُخفي عن الغير حتى دخائل بيتها، فهي تتحدث للناس عن مبلغ كَسبها، وعن نشأتها الوضيعة، وعن طريقة إثرائها، تلك الأمور التي تجعلها الإنجليزيةُ سرًّا مكتومًا. ولعلَّ أميَز صفاتها: شدة بساطتها عن نساء أوروبا جميعًا، فأنت لا ترى فرقًا بين هندام الممول الكبير والعامل البسيط هناك كما ترى ذلك واضحًا في أوروبا، ولا تكاد تجد من الأنزال والمطاعم ما يخصُّ طبقة دون غيرها، فالكل سواسية على عكس ما ترى في إنجلترا مثلًا. والأمريكي في رياسته للأعمال مَدين لكفاياته ودهائه. وهو نشيط، يقِظ، مِقدام، مُغامر، يحاول أن يستعين بالنظريَّات العلمية على تذليل الصعاب كلِّها، وهو أقل سكان الأرض قناعة، وهو أبدًا نزَّاع إلى السمو والنمو، فهو يَعبد النجاح، ورمز ذلك المعبود «الريال القادر» The almighty Dollar كما يسمونه. ومن العجيب أن ذاك الإخلاص «للدولار» لا يَصحبه بُخلٌ أو تقتير أو حقد على الغير؛ إذ يُرى العامل على صفاء مع مُزاحِمه، يكلمه في غير كُلفة كأنه أخٌ له حميم.
figure
أبدع ما يُرى جمال الجسم الآدمي في هذا الوضع من الراحة والاسترخاء، بعد العجَلة وعناء العمل في أمريكا.
figure
إحدى جميلات أمريكا اللاتي يشتغلن بالطيران.

والولايات المتحدة أكبرُ مصهر للأجناس، تندمج فيها خيرُ كفايات العالم، وقد كان ينزح إليها إلى طلائع الحرب الكبرى مليون وربع في كل عام، وإنك مُدرِكٌ هذا الاختلاطَ العجيب لمجرد قراءة الأسماء التي تُكتَب على رءوس الحوانيت في نيويورك، فأنت تكاد تمر على كل اسم من الأسماء المعروفة في كل بلاد العالم المتحضِّر، فمن اليهود مثلًا في مقاطعة نيويورك وحدها عدد يزيد على يهود فلسطين كلها خمسةَ عشر ضعفًا، ومن الطليان عدد يفوق سكان روما كلها، وفي كليفلند زُهاء ثمانين في المائة من السكان من عنصرٍ أجنبي، وتشتهر مدينة ملووكي بأنها ثالثة المدن الألمانية في الدنيا.

وكثيرًا ما نحكم على مركز المرأة الأمريكية مما نشاهده من السائحات الأمريكيَّات اللاتي لا يمثلن عامة النساء هناك، بل يُظهرن ثراءهن وفاخر ثيابهن في شكلٍ قد يُثير السخرية؛ ففي أمريكا يجب أن نعلم أن المرأة صديقة الرجل، وأن كلًّا من النساء والرجال يعتقدون أن المرأة أم على كل حال، فالرجل يحترم المرأة هناك أكثر مما تُحترَم زميلتها في أوروبا مثلًا، فهي تستطيع السفر والتنقُّل آمنة مُستريحة، وتلقى كل عطفٍ وإجلال أينما سارت. وقد اعترف الرجل في أمريكا بأن المرأة أرقى منه وأسمى مكانًا؛ لذلك بالغ في احترامها وعمل وُسعَه على تزويدها بوسائل الراحة والترف، ولقد كان لذلك أثر سيِّئ على كثيرٍ من النساء هناك؛ إذ أسأن فَهمه وبالَغْن في اللهو والمجون وفي تبديد ما وفَّره لهن أزواجُهن من مالٍ وفير، وكثير من الأزواج يُسايرون زوجاتهم في ذلك، ويتحدَّثون عن ثروتهم، ويُفاخرون بما يُقيمون من ولائمَ وحفلات تُكلِّفهم بين ثلاثين وخمسين ألف ريال. ويُنفِق نساء الولايات المتحدة على وسائل التجميل من أدهنة ومساحيقَ وما إليها زُهاء ٣٠٠ مليون جنيه سنويًّا، وقد سرَت تلك العادة حتى إلى الإنجليزيَّات، فبلغ ما يُنفَق في إنجلترا على هذا السبيل ٧٠ مليون جنيه سنويًّا، ولقد أغرى هذا مُروِّجي الترف من أهل باريس وفيينَّا أن يَجدوا لصناعتهم أحسن الأسواق في نيويورك، فسافروا إليها وأقاموا أفخمَ «الأُبرات»، زُوِّدَت بخير الموسيقيين والملحِّنين والمغنِّين، يستمع إليها جمهورُ الوُجهاء من الأمريكيين الذين قد يجهلون الموسيقى جهلًا تامًّا، وقد أخذ أولئك يُنفقون الملايين؛ فسبَّب ذلك ارتفاعًا في كُلَف الحياة بين سائر الطبقات، وسرعان ما زادت فوارقُ الطبقات وضوحًا، ممَّا أدَّى إلى زيادة التبرُّم بالحياة، والعمل على الإخلال بالأمن.

figure
يستريح الطالبات من عناء الدرس في فترة الظهر في جامعة مسوري.

ولقد مُنح النساءُ حقَّ المساواة العامة مع الرجال في الأعمال والوظائف والتعليم (وإن تأخر حقُّها في الانتخاب بسبب كثرة الدخيل من النساء الأجنبيَّات بين الزوجات في أمريكا). وفي الجامعات يُنفق الرجل على أولاده وبناته جميعًا، فإن لم يَستطِع فضَّل أن تَبقى البنت في دُور التعليم، وعجَّل بإلحاق الولد مصنعًا أو محلًّا للكسب؛ لذلك أصبح المستوى الثقافي عند النساء أرقى منه عند الرجال هناك، ونَلحظ ذلك في سَعة الاطلاع؛ فبلاد أمريكا من أوفر البلاد عناية بطبع الكتب والمؤلَّفات في كثرةٍ لا تُبارى، وتَعجب لو عَلمتَ أن أكثر قرائها من النساء؛ لذلك خَشي البعضُ سوء العاقبة وزوال السعادة الزوجية في القريب، بسبب الفرق الشاسع بين عقليَّات الأزواج والزوجات.

ولقد أحدث النساءُ أثرًا اجتماعيًّا عظيمًا بفضل الأندية والجمعيَّات التي شكَّلنها لتحسين الأحوال العائلية والصحية لسائر الناس، وقد جعَلن قيمة الاشتراكات زهيدة، لدرجة أن أفقر النساء يَستطِعن المساهمة فيها، ومما تقوم به تلك الجمعيات: تعليم الجاهلات، وتنظيف الأسواق وأمكنة الاجتماع العامة والشوارع، وإلزام البائعين أن يلفُّوا المبيعات في ورق نظيف، وهُنَّ يدخلن البيوت ويتعهَّدنها بالنظافة، وبتعليم الأمهات أصلح الوسائل لرعاية الطفل وتلقِّي المحاضرات في دور التعليم ليلًا، ويعمل الأعضاء على تيسير أبواب الرزق للخريجين الحديثين من الشبان والفتيات، ومَبدؤهم أن المدينة أو القرية كالبيت، فما دام الواجب يُحتِّم على الأم المحافظةَ على نظافة مسكنها، كذلك وجبَت المحافظة على البيت الكبير، ألا وهو القرية. ولقد زاد عددُ تلك الجمعيَّات على مليونَين، ولا ننسى أثر هذه الهيئات — وكلُّ أعضائها من النساء — في إنقاذ أوروبا من المجاعة في سنة ١٩١٨ حين استنجدَت بأمريكا، فقررَت تلك الجمعياتُ أن يُوقَف عمل الخبز من القمح إلى موسم الحصاد المقبل؛ وذلك لكي يُرسَل الفائض إلى أوروبا وينقذها، وهكذا سجَّل نساء أمريكا لهنَّ يدًا بارَّة بأوروبا وأهلها. ولا شك أن الصداقة والولاء المتبادل بين المرأة والرجل هناك هو سبب هناء العائلة، فالأولاد والبنات يتَربَّون في مدارسَ واحدة إلى آخر مراحل التعليم، وتنشأ بينهم علاقاتٌ ودية كثيرة لا يقف الآباء في سبيلها، وحتى حق الطلاق تتساوى فيه المرأة مع الرجل تمامًا.

وللمرأة أن تتقلَّد أكبر المناصب والأعمال، ولا يحقد الرجل عليها بحُجة أنها تُزاحمه، فميدان العمل يتساوى فيه الجميع. ونجد أكثر الرحَّالة من النساء، وتلك وسيلة من وسائل الثقافة عندهم، وكلما قامت سيدة برحلة حاضرَت ذَويها فيما رأت، وبعضهنَّ يُشجعن الرحلات الداخلية أولًا. ولبُعد الشُّقة بين طرفَي المملكة؛ ذُلِّلَت طرق النقل وزُوِّدت بوسائلَ من النعيم لا تتوافر في غيرها، وإذا اتُّخِذ عدد الطلبة في الجامعات أساسًا للحكم على ثقافة الشعب فسكان الولايات المتحدة لا شك أكثرُ أهل الأرض تهذيبًا وتثقيفًا. على أن كثيرًا من الطالبات يُلزِمن آباءهن بالإنفاق عليهن في الجامعات، لكنهن لا يتخذن الدراسة أساسًا، بل هي فرصة للاختلاط بالشبان وتمضية وقت سعيد معهم a good time is had by all، وكثيرًا ما يكون ذلك مُنشطًا للزواج المبكر في تلك البلاد، وكثير منهنَّ يوثقن علاقة الزوجية سرًّا مع الشبان، ويُخفي الفريقان ذلك عن الآباء؛ إذ إنهم لم يَبلُغوا بعدُ مرتبةَ كسب عيشهم، ولا تكاد ترى فتاة ليست على علاقة من أي نوع مع أحد زملائها من الشبان، ولعلَّ أمريكا أكبرُ البلاد سُمعة في تلك الناحية؛ لأن أهلها — وبخاصة فتياتها — عُرِفن بالانقياد للعواطف، والحرية التي تبلغ بهن حد الإباحة، ولا يرى الآباء في ذلك عيبًا. وأمريكا هي البلد الوحيدة التي يَكاد عدد خريجي الجامعات من النساء يُكافئ المتخرجين من الرجال، وذلك دليل على المساواة التامة بين الجنسين.
figure
يعتقد الأمريكيَّات أن الاستحمام برغوة اللبن منشطة للأعصاب والعضلات، ويُكسب الجلد نعومة.

فتحرير المرأة هناك قارب نهايته وفاق سائر البلاد الأخرى، ويكفي أن تمر داخل حدائق إحدى الجامعات لترى كيف بلغَت الإباحة هناك حدها المرذول.

لذلك يصف غالب الناس الأمريكية بأنها «خليعة»، وهي حقًّا ساحرة في عِشرتها، لكن يقول الكثير بأنه جدير بنا أن نُدافع عن خلاعتها هذه؛ فهي لم تتلقَّ في تعاليمها قط بأن الرجل ممتاز عليها كما هي الحال مع فتيات العالم أجمع، فلقد شبَّتْ مُختلطة معه في جميع أطوار حياتها، وساوَتْه في كل شيء، فلم ترَ له تلك الميزة، ولم تُطبَع فيها منذ الصغرِ تلك العقيدةُ التي تجعلها تظن أن الزواج المبكر أمر لازم لها، وبذلك تُضطَرُّ أن تُرحِّب بأي شخص يَخطب يدها، بل هي تتريَّث في أمر اختيار الزوج طويلًا.

والأمريكية تمتاز بحضور بديهتها وسرعة فَهمها، وليس ذلك بمستغرَب؛ فقد حلَّت البلادَ مع زوجها مهاجرة إليها، بل ومجاهدة، حتى وصلَت جبهة الباسفيك، كذلك فهي خلاصةٌ لخيرِ ما أنتجته البشرية من أجناسٍ لا يخبو نشاطها ولا يركد ذهنها أبدًا. والأمريكية أم بكل معنى الكلمة؛ فهي التي تَرعى الأطفال وتُعلِّمهم وتثقفهم، أما الرجل فمُنهمِك وراء الحصول على ذاك «الريال السحري»، وقلَّما تُسلِّم أطفالها للمربِّيات؛ لذلك فإنها تَفهم نفسيَّاتهم في دقائقها، وإذا ما بدأ الأنجالُ سنَّ اختيار الجامعة الملائمة كانت هي خيرَ مُرشد لهم في ذلك؛ لأنها عليمة كالأب بمستوى التعليم، وهي تفوقه في أنها درَسَت أولادها دراسة سيكولوجية عملية، وهم إن ابتعَدوا عنها في جامعاتهم يُثابرون على الكتابة إليها، فلا يُحرَمون تثقيفها إياهم حتى في آخر مرحلة من مراحل تعليمهم.

وفي المدارس يشبُّ الطالب على ضرورة العمل للكسب مهما بلغ جاهُ أبيه، ولقد كان لاختلاط الجنسَين في التعليم فضلٌ في منع التكلُّف والتمويهِ من أخلاق النساء؛ لأن ذلك علَّمَهن الصراحةَ في القول والعمل، هذا إلى أن ذلك أكسَبها خبرة بنفسية الرجال، فوقَفْن على عيوبهم وفضائلهم واقتبَسْن منها الكثير.

وصلنا لوزنجليز، فكانت حياة الليل فيها وخصوصًا في شارع الملاهي برودواي يُبهر النظر ويَستهوي الحكيم، فالمقاصف والمقاهي تعددَت أشكالها وبُولِغ في تنسيقها، ودور الملاهي وبخاصة السينما فاقَت كل وصف جمالًا، وحركة المرور في الشوارع تَسُد الآفاق سدًّا.

وقد أقلَّني الترام إلى هوليوود فدُهِشتُ للحياة كيف تسير في تلك الناحية، كنت أرى النساء قد ظهرن في أزياء الرجال؛ من سراويلَ وجاكتات، وأربطة رقبة، وشعر مقصوص، بحيث يصعب التعرف إليهن بين الذكور. ومن الرجال مَن دهن وجهه، وحمَّر شفاهه، وأرخى شعره، ولمَّع أظافره، وسار بتبختُر، ويتيه عجبًا كأنه الآنسة الحسناء. أما عن جمال السِّحَن ودلال المشية وفاخر الهندام فذلك لم أرَه في مكانٍ قبل هذا، وكثير من أولئك من سَراة العالم أجمع، وبعضهم من نجوم السينما الذين طبَّقت الآفاقَ سُمعتُهم. ومنهم مَن وفد من النساء والرجال طامعًا في الغنى، راغبًا في الجاه، ساعيًا بجماله وخفَّة حركاته ورشاقة قدِّه وشجيِّ صوته أن يُصبح في عداد تلك النجوم. ولا عجب أن تُصبح هوليوود بُغيةَ الناس من أقصى الأرض، وهل يُتاح لهم من المجون ووسائل اللهو والإسراف ما يَلْقونه هناك؟ وهل في الدنيا سوى هوليوود واحدة؟ وما أبدعَ ما يُرى شارع «هوليوود بوليفار» قلب المدينة النابض، وشارع «هوليوود أفنيو» الذي يَليه فَخارًا ويَقطعه متعامدًا عليه! ما أبدعهما ليلًا حين تكاد الأضواء فيهما تُبهِر النظر وتستهوي الرزين. وقديمًا عُرِف الأمريكيُّون بالإسراف في سُبل الإعلان، ومن أخصها الإضاءة الملوَّنة المتحرِّكة ليلًا. ولم أكَد أوغل في أطراف المدينة حتى بدَت المساكن الأنيقة، بحدائقها المنسَّقة التي تُشعِر بغنى أصحابها المفرِط وحُسن ذَوقهم وجميل اختيارهم، وبخاصَّة فوق تل يُسمونه بيفرلي Beverly حيث رأينا جل منازل النجوم في إبداعٍ يفوق الوصف.
figure
آية من آيات الله تَسطع في سماء أمريكا.

وعدتُ في اليوم التالي أزور هوليوود لأني لم أَشْف من جمالها غلَّة، وتزوَّدت منه طوال اليوم. وقد لاحظتُ أن الحياة أغلى منها في سائر البلاد؛ فلا أكاد أُخرج الريال حتى لا أرى له بقية، وأنت لا تزال تُنفق الريال تِلْو أخيه حتى يُصبح وِفاضُك خِلْوًا من المال، وعندئذٍ تُفيق لنفسك، ولا تندم على ما أنفقتَ في سبيل الوقوف على حال هوليوود وأهلها. ولقد جنَت هوليوود في ظني على الجمال الطبيعي فأفسدَته وجعلَته جامدًا موحدًا؛ إذ ترى نجوم السينما ومن يلف لفَّهم يَسِرن على نمطٍ واحد في تجميل وجوههن من أسنانٍ ورموش وشِفاه وأظافر، وما إلى ذلك، حتى كان وجه الآنسة وكأنه «كليشيه» واحد طُبِع على ورق مختلف، فلم يترك لكل ضرب من ضروب الجمال شخصيته الممتازة الساحرة. ولكن برغم هذا التكلُّف فإن الجمال في هوليوود ليأسر الزائرَ ويَستهويه.

figure
عيون في طيِّها السحر الذي جعل أمريكا مطمَحَ أنظار الكثير.

قامت بنا الباخرة تبرح لوزانجليز وضواحيَها بعد أن أقَمْنا فيها يومَين كاملَين، ولم يبقَ في السفينة من الستِّمائة مسافر الذين وفدوا من زيلندة وهنولولو سوى مائة، والباقون أسرعوا إلى المقام في هوليوود، وقد أقفرَت الباخرة من أنسهم وخفةِ روحهم، فجلهم ممن ألفوا حياة المجون واللهو في غير قَيْد لدرجةٍ كانت تَهولني، فالآنسات يَختلفن إلى الفِتيان، ويغازلون بعضهم البعض جهارًا، ثم يكون التقبيل «والزغزغة» والاحتضان، وما فوق ذلك مما كنتُ أستنكره كثيرًا، والعجب أن ذلك لم يكن يَسترعي من أنظار الآخرين أو يُثير سخطهم، بل على النقيض من ذلك، كانوا يساهمون فيه. وحتى الأمهات أو الآباء كانوا يُساعدون بناتهم على ذاك اللهو، وكثير من الفتيات كُنَّ يَسِرن عرايا في غير حياء، وكانوا يسخرون مني إذا ما غضضتُ الطرْف عنهنَّ وعمَّا يأتين. ولم أشهد من الإباحة في أسفاري السالفة ما شهدتُه هذه المرة! ولا عجب؛ فجل القوم من الأمريكيين «الهوليووديِّين» والنيوزيلنديِّين والأستراليِّين، وكلهم سواسية في الأخذ بأكبر نصيب من الإباحة في كل شيء.

وفي سان فرنسسكو كانت حياة الليل صاخبةً مائجة، تزينها الأضواء الملونة التي ألفناها في هوليوود ولوزانجليز في إسرافٍ كبير، ودُور الملاهي لا تُحصى، والمطاعم والفنادق تُعدُّ بالمئات؛ ففي سان فرنسسكو ١٥٠٠ فندق، وفوق ٣٠٠ مطعم، مع أن سكانها لا يَزيدون على سبعمائة ألف، وقد عجبت كيف تجد تلك الفنادقُ والمطاعم من الزائرين ما يكفيها، لكني علمتُ أن نحو ٥٥٪ من سكان المدينة من رواد تلك النزل والمطاعم، مما أفقد البيوتَ رونقها وكاد يَقضى على نظام العائلة البديع، فلا يكاد أحدهم يأكل في بيته قط، وكثير منهم ينام في الفنادق — نساءً كانوا أو رجالًا — وإذا أضافك أحدُهم على طعامٍ أو شراب دعاك إلى أحد تلك المطاعم، أما البيت وما له من حُرمة مقدسة وجميل أثر في تربية النشء فذاك ما لا تراه هناك قط. وكثير من تلك الأماكن باهظة التكاليف؛ إذ أجر البيت فيها يفوق ستة ريالات في الليلة الواحدة، على أنك تجد الكثير بين نصف الريال والريال. وجل المطاعم على النظام «الوقافي»، تخدم نفسك وتدفع ما بين خمسة قروش وعشَرةٍ في العادة.

figure
إحدى فتيات الهنود الحمر من غرب أمريكا، ويندر أن تجد بينهن مثل هذا الجمال.
وفي جاسبر وسط جبل الركي استرعى نظرَنا عمودٌ يسمونه Totem Pole، يَذهب عهده إلى ١٨٠٠ سنة قديمًا، وهو رمز سيادة الأسرة عند الهنود الحمر، يحتفظون به ليدلَّ على أنهم من أصلٍ عريق شريف، وكنا نرى قليلًا من الهنود بوجوههم القبيحة ولونهم الأغبر الكدر وقاماتهم القصيرة وأكتافهم المقوَّسة، وعجيب أنهم بعيدون عن أي استعدادٍ للتقدُّم؛ فمستواهم العقلي منحط، وهم بَطيئو الفَهم رغم محاولة الدولتَين الأمريكية والكندية تحسين حالهم، وهم لا شك آخِذون في الانقراض. وشتَّان بين عقليَّتهم الراكدة وسِحنتهم المنفِّرة وبين الماوري من أهل زيلندة الجديدة، بذكائهم المفرِط وجمالهم الجذاب. والهنود الحمر قريبو شبَهٍ بالصينيِّين؛ لذلك رُجِّح أنهم وفدوا من الصين عن طريق سيبريا وألاسكا، وانتشروا في الأمريكتَين، ولا يَزيد عددهم في كندا عن مائة ألف. ولقد استرعت نظري آنسةٌ منهم بجمالها الفاتن، فقيل لي بأنها نادرة تَعرِض نفسها فَخورةً بجمالها على السائحين.

اخترَقتُ أمريكا من الغرب إلى الشرق، ووصلتُ منطقة شلال نياجرا، وتقع عليه بلدة «نياجرا فولز» الصغيرة التي قامت على شئون السائحين، فأسرفَت في الفنادق الفاخرة والمطاعم الكبيرة، ونسقَت من المتنزَّهات في كل ناحية، ولا يكاد ينقطع عنها سيل السائحين ليلًا ولا نهارًا، وهي لا شك خيرُ مُستراضٍ للنفس التي أرهَقها كدُّ العمل أو أضناها مضَضُ الوَجد والهوى، فهي أكبر عون للنفس أن تستعيد نشاطها الكامل في أيامٍ قليلة. إلى ذلك فهي ملتقى المحبين، حتى آثرَها كلُّ حديثَيْ عهد بالزواج، أو كلُّ أليفَين على أُهْبة الاقتران؛ لذلك أطلَقوا عليها: «أرض شهر العسل».

figure
خير ما ترى الجمال الأمريكي في «سنترال بارك» بنيويورك، حيث يلتقي الأحباب والمُتريِّضون.
ثم قُمت إلى مُنتريال، أكبر بلاد كندا، وسابعة بلاد أمريكا الشمالية، ويُطلَق عليها أحيانًا: باريس أمريكا؛ لأن الحياة فيها تَحكي حياة باريس إلى حدٍّ كبير، وحتى دُور الملاهي أضحَت من المراقص الباريسية (كابريه)، وغلَب شرب النبيذ غيرَه من المشروبات. ثم عرَّجتُ على كوبك، وكأنه من كثرة الكنائس الهائلة مقرٌّ ديني للكاثوليك، زُرنا به معبد Franciscan Sisters، وأعجب ما فيه أن الراهبات يتناوبن الركوع أمام الهيكل صباحَ مساء، بحيث لا تخلو ساعة منهن طوال العام، وقد رأينا خمس فتيات رُكَّعًا مُطأطِئات الرءوس يقرأن أورادهن، ولا ينصرفن حتى تُوافيهن صُويحباتُهن. ولم أُلاحظ إسراف النساء في المجون والتبرُّج كما رأيته في أوروبا وسائر بلاد أمريكا، فالنزعة الدينية والصبغة الجدِّيَّة هي السائدة في بلاد شرق كندا، وبالطبع كان للنساء الحظُّ الأوفر في تلك العصبية والرجعية والتمسُّك بالتقاليد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤