في أستراليا وجزائر المحيط الهادي

كم كان يَدهَشني — والباخرة تُقِلُّني إلى أستراليا — إدمانُ السيدات التدخينَ، وجلُّهن أستراليَّات، فأنت لا تكاد ترى الواحدة إلا والسيجارة في فمها، وصندوق السجاير الكبير في يدها إلى جانب كتابها، تلك ظاهرة لم أشهَدْها في سيدات الشعوب الأخرى إلا على سبيل الاستثناء. والأستراليُّون معروفون بالإباحة الشديدة؛ فهم يُطلِقون حرية كبيرة للنساء، ومما كان يثير عجبي مظهرهن يسِرن عرايا إلا في ستر العورة، وكأن أزواجهنَّ يستعرضون جمال جسومهن أمام أنظار الغير، وإذا ما أقبل المساء ارتدَين مهفهف ملابسهن في أزياء عدَّة، تتنوَّع بين ليلة وأخرى. ويجلس الجميع رجالًا ونساءً حول حلقة المرقص، ولا تكاد تُعزَف الموسيقى في التاسعة مساءً حتى يُقبِل الكل على المخاصرة والرقص إلى ساعةٍ متأخرة من الليل، وكانت تلك هي وسيلةَ التسلية الوحيدة تُقام كل ليلة. ونساء أستراليا أُعطين نصيبًا من الحرية لا يُحَد، فليس للأبَوَين على الفتاة سلطانٌ قط، وهن على جانبٍ كبير من الجمال والرشاقة وخِفة الروح، يُسرعن بالاختلاط والمعاشرة في غير تحرُّج، إلا أن فيهن شيئًا كثيرًا من الخجل، ولا يبدو عليهن شيء من الفجور الذي تَلمسه في نساء أوروبا مثلًا، وأنت لا ترى الكثيرَ منهن يقف على نواصي الطرق مُتسكِّعًا، في الكثرة المزرية التي كنتُ أراها في البلاد الأوروبية، فالمتبذِّلات هناك قليلات جدًّا.

وليس في البلاد دُور للفجور، وما الداعي لذلك والبلاد معروفة بمجاوزة الحد في الحرية، يأتي الواحدُ ما يريد في غير رقيب، اللهم إلا إذا صحب ذلك اعتداءٌ على كائنٍ مَن كان.

وكم تحدَّثَت الفتاة الأسترالية عن نفسها قائلة: كنتُ أمرح مع شاب يُنفِق عليَّ ثلاثين شلنًا في الأسبوع، ولمَّا لم يَزِدْ على ذلك هجرتُه إلى غيره، ولكن سرعان ما هجرني ونأى عني! فهلَّا عاد إليَّ حبيبي الأول!! والنساء في أستراليا أميَلُ إلى الإباحة والانقياد وراء الحرية المطلقة، حتى قيل إن حرمة المنازل هناك ضعيفة، ولا تحرص الزوجة كثيرًا على حقوق زوجها، حتى قال بعض القُضاة في حُكمه مرة: «يسود البلادَ أزواج مُنحلُّون، وزوجات بعيدات عن الوفاء.» وقضايا الطلاق هناك لا تدخل تحت حصر.

figure
اشتهَر نساء فكتوريا من مقاطعات أستراليا بالرشاقة ورفع الكُلفة عاجلًا.

ويُعنى الأستراليَّات بجمال ملابسهن وبريقها الخاطف، وتُعدُّ بعضُ الشوارع لديهم مكان الاجتماع والسمر؛ لذلك يَلبسن أفخر الأزياء، وسرعان ما تتجاذب معهن طرفًا من الحديث، فتصبح أعزَّ صديق لهن، وتَنزل ضيفًا وكأنك أحد أفراد العائلة، وتلك من بقايا عصر الرعاية الأولى يوم حَلُّوا أستراليا لأول مرة، فالغريب ينظرون إليه نظرةَ ود ولا يَرتابون في أمره. والأستراليَّات معروفات بكرم النفس وسخاء اليد معًا، ولا يتقيَّدْن بالتقاليد ولا يعبأن بالمسئوليَّات، وهن ديمقراطيَّات إلى حدٍّ كبير، لا فرق عندهن بين فقير وغني، وأقربُ شيء لديهن عند أول لقاء لك أن تُدعى ليطُفن بك أرجاء البلد، ثم يُجهِّزن لك من ألوان الطعام الكثيرَ يُحمل معك إلى نُزهة خلوية. وما أكثرَ ما يشربن من الشاي حتى على الطعام يُشرب بدل الماء، ولعلَّ الأسترالي أكثرُ أهل الأرض شربًا له. ومن أحب وسائل الرياضة لديهن العوم والاستحمام على الشواطئ، الذي ساعدهم عليه وفرةُ الشواطئ الرملية الجميلة، وقد حسَّن ذلك في أجسادهن وزاد في صحتهن، وحب الرياضة لديهن أضحى ضربًا من الهوس، لا تخلو منه واحدة. ولقد حبَّب إليهن ذلك جوُّهن الصافي، وما ورثن من أجدادهن الرعاة الأوائل، عُشاق الخيام والخلاء الفسيح.

figure
روعة الفطرة تلمسها في جمال نساء الماوري من زيلندة الجديدة.

ولقد بلغَت أستراليا من التقدم والثراء حدًّا كبيرًا، فمستواهم الثقافي عظيم بفضل جهود الدولة في التعليم الذي تُنفِق عليه فوق ثمانية ملايين من الجنيهات، هذا خلاف مجهود المدارس الأهلية، وحتى النساء يُساهمن في الشهادات العالية، وغالبهن يؤثر جانب التربية، فجل الدراسات في المدارس الابتدائية والصناعية والثانوية منهن، وكثير من المُحاضِرات في الجامعات من النساء، ولهن حق الانتخاب منذ سنة ١٨٩٤، ومنهن كثير من البوليس وبِيَدهن سلطة كبيرة.

ومستوى المعيشة بينهم مرتفع جدًّا، فالمنزل الصغير يتطلب خمسة عشر جنيهًا نفقات شهرية على الأقل، وأجر الطباخ الماهر جنيهان في الأسبوع، وأجر الخادمة أربعة جنيهات في الشهر. ويُرمى الأستراليُّون بأنهم يَفتقِرون إلى الحياة المنزلية، ولعلَ ذلك راجع إلى جوهم المشمس الصافي الجميل الذي يُشجع الحياة خارج المنزل، وإلى أنهم جميعًا موسِرون يُنفقون كثيرًا من المال في الخارج؛ لذلك كثرت الأندية التي قد يشترك الرجل والمرأة في عشَرةٍ منها في آنٍ واحد، إلى ذلك حياة الخلاء والشواطئ والمراقص التي أُغرِم بها الجميع، فلا تكاد تُكلِّم أحدهم عن بلاده حتى يسألك قائلًا: هل رأيت شواطئنا؟ وإذا دعا أحدهم صديقًا له أضافه في فندق؛ لأن المنازل يُعوِزُها الاستعداد والخدم، ولقد خلَق فيهم ذلك حبَّ الديمقراطية والرياضة التي وُلِعوا بها إلى حد الجنون.

وهم متفائلون مُستبشِرون دائمًا، فترى الواحد يقول: ذاك الضنك سيَزول في غير رجعة. ولِمَ لا! أليسَت بلادُنا غنية وفيرةَ الخيرات والموارد؟ ويُعزَى ذلك التفاؤل الجميل إلى جوِّهم المشمِس الباسم. إلى ذلك فهم نزَّاعون إلى التساهُل والتسامح وتيسير الأمور، وأنت تسمع على ألسِنَتهم دائمًا عبارة: give it a go، أي: «خليها ماشية»، وهم في ذلك يُشبِهون المصريين، ويعزو البعضُ تلك البساطة إلى عُزلتهم عن العالم وإلى المساحات الشاسعة التي يَقطنها عددهم القليل، ومثل ذلك لا يُساعد على إنتاج العقول الراجحة، وبُعد النظر في تصريف الأمور.
figure
التحية بين الماوري في زيلندة بمسح الأنوف.
ومَظهر الغِنى واليسار غالبٌ على كل فرد، فيَكاد كل واحد يملك سيارته ومسكنه الذي يتراوح ثمنه بين ٣٠٠ و٣٠٠٠ جنيه، ولا تزال البلادُ ناشئة وتثق في مستقبلها ثقة كبيرة، وكثيرًا ما كنتُ أسمع تلك العبارة تَجري على ألسنتهم مجرى المثل، وهي: تعيش أوروبا على ماضيها، وأمريكا على حاضرها، أما أستراليا فعلى مستقبلها. ويُشبِّهها البعض بغادة لما تستيقظْ من نومها بعد، فيقولون: She is a sleeping beauty.

ومن السكان الأصليين عددٌ يقارب ستين ألفًا، يتفرق جلُّهم في الصحاري الداخلية وغابات الشمال، ولا تزال منهم بقية من أكَلة لحوم البشر، ويعيشون إلى اليوم في عصرٍ لا يَزيد على سكان العصر الحجري، وكانوا يعيشون بحالتهم هذه منذ مائتَيْ ألف عام، وهم أحَطُّ أجناس البشر عقولًا، وسِحنهم منفِّرة، وليسوا على استعدادٍ للتقدُّم أبدًا، فهم يَعيشون على صيد الحيوان، وجمع بيض الطيور من أوكارها فوق الشجر، ومن أحب الأطعمة لديهم النمل، ولكي يربوه يقتلون عدوًّا لهم ويدفنونه، فيَجتمع النمل حول جثته، وعندئذٍ يجمعون النمل ليأكلوه، ويُعِدُّون طعامًا محبوبًا من أعشاش الطير، ويكسرونها وينقعونها في الماء بأوساخها ونملها، ثم يُسحَق ذلك في الماء فيكون شرابًا حمضيَّ المذاق لذيذًا عندهم. ويتزوج الرجل منهم من أي عددٍ شاء من النساء ما دام قادرًا هو وأصدقاؤه على تقديم الهدايا، ولمَّا كان ذلك يَستطيعه الطاعنون في السن من الرجال دون الشبان لم يبقَ من الفتيات مَن يكفي لزواج الشباب، وذلك قد أضعف النسلَ وأنقصه. إلى ذلك فإنهم يَئِدون البنات غالبًا لذلك انحدر جنسهم إلى طريق الفناء، رغم محاولة الدولة الإبقاء عليهم وتحسين مستواهم.

figure
ملابس أهل زيلندة بسيطة جذابة.

ومن أعجبِ عاداتهم الحدادُ والنحيب على المتوفَّى، فتراهم يَصيحون صيحاتٍ منكَرةً عالية، وبيد كلِّ منهم مضرب أو حربة يَضربون بها أجساد بعضهم ضربًا مبرِّحًا، ولا يتألم أحدُهم لذلك، ولا يحاول تجنُّب تلك الصدمات، ثم تُشعَل نار وهم حولها يُهروِلون ودماؤهم تسيل من أجسادهم، ثم تُحمَل الجثة فوق شجرة ويُنزَع اللحم عنها، ويَكسر أخو الفقيد العظام ثم تُدفَن في جُحرٍ تحت الأرض. وإذا بلغَت فتاةٌ الحلم فَضَّت بكارتَها عجوز، ثم سلَّمَتها لبعض الكهول من القبيلة يأتونها، وبعد ذلك يُقدِم الزوج على طلب يدها؛ وذلك لأن الرجال يتشاءمون من دم النساء، فلا يَقربون البنات إلا إذا ضَمِنوا زوالَ الدم منهن.

ويُباح للشبان أن يعاشروا الفتيات الواحدة تلو الأخرى، حتى تظهر الفتاةُ المرغوبة فيتزوجها الغلام.

زيلندة الجديدة موطن الماوري

لقد أبلى النساءُ بلاءً حسنًا في القتال ضد الجنس الأبيض (باكيها Pakeha كما يسمونه)، الذي كان يسلب الماوري أرضهم، ويَعمل فيهم قتلًا وتشريدًا. وحرية النساء هناك تَفوق نظراءها من بلاد الغرب؛ فالفتاة يُباح لها أن تُصادِق من تريد قبل زواجها، فإذا ما تزوجَت فُرِض عليها الوفاء لزوجها، وكان تعدد الزوجات شائعًا عندهم، وكان الأزواج يُفاخِرون بعدد زوجاتهم، وكان الرجل يستطيع أن يعلي مرتبته بين قبيلته إذا ما تزوج سيدة من قبيلة أشرفَ مِن قبيلته، وإذا تزوجَت السيدة من رجل أقلَّ منها مقامًا احتفظَت بمركزها الممتاز؛ ذلك لأن المرأة مسوَّدة بين هذا الشعب العجيب. والعادة أن يُقصَر الزواج على أفراد قبيلة واحدة، فإن حدَث وأحبَّتْ فتاةٌ غلامًا من غير شعبها وجب أن يوافق الشَّعبان على ذلك، وعندئذٍ وجب أن يَصيد الرجل غادته أو يختطفها وسط مقاومة ذَويها! وكثيرًا ما كان يُصاب عدد من هؤلاء وأولئك، وتعجب إذ تعلم أنهم يَنفِرون من ميلاد البنات ويَعُدُّونه كارثة، وكثيرًا ما كانوا يَئِدونهن، كذلك كان ميلهم إلى الدقِّ والوشم على الشِّفاه والذقون، وكان ذلك دليلَ الجاه عند الفتيات. ولِباسهن من قطعتَين من جديل الكتَّان، إحداهن تُلَف حول الخصر، والأخرى تُطرَح فوق الأكتاف، وكان رجالهم يأكلون اللحوم البشرية، ولم يكن يُسمَح للمرأة ذلك إلا انتقامًا ممَّن قتَلوا زوجها في الحروب. وكان جُل غذائهم من النبات؛ لأن حيوان اللحوم كان معدومًا في جزائرهم، اللهم إلَّا الكلاب، وكانت الزراعةُ أخص عمل للنساء، وصيد السمك للرجال. وممَّا يؤسَف له كثيرًا أنه لم يبقَ من هذا الجنس سوى أربعين ألفًا، وتحرص الحكومة الحاليَّة على حُسن معاملتهم على قدَم المساواة مع البِيض، فليس هناك «حواجزُ لونيَّة» تميز اللون الأبيض على الألوان الأخرى. ورغم أن نسبتهم اليوم لا تَزيد على ٤٪ من أهل زيلندة، فإن نفوذهم اليوم أضحى يفوق تلك النسبة بكثير؛ لأنهم شعب قابلٌ للتقدم، لا يَزال يحافظ على شخصيته رغم إغراء المدنيَّة الأوروبية له، ويُخيَّل إلى البعض أنه هو الذي يحاول تحويل الجنس الأبيض وإدماجه فيه كي يَسير مع تقاليده، وذلك لا شك راجعٌ إلى الرجعية التي امتاز بها النساء هناك.
figure
الرقص ضروب شتَّى عند الماوري.

دخلتُ قريتهم الشهيرة «رتوروا»، فكان كثيرٌ من السيدات في «فرندات» بيوتهن دائبات على شغل النسيج، والجَدْل من ألياف الكتَّان، لُوِّنَت بالأسود والأحمر في أحزمة حول الجبهة وحول الخصر، وداليات من عيدان الكتان كُسِرَت أجزاء منها في فتل رفيعة، وتُرِكَت أخرى كأنها قصب الغاب الرفيع، وتلك تُلبَس من الخصر وتتدلَّى على الثوب أو على الجسد العاري، فتروح وتغدو وتُعطي صوتًا جميلًا يَسترعي الأنظار، ويلبسه النساء والرجال، ووجوه القوم سمراء عريضة التقاطيع جَميلتُها، والشعور غزيرة هادلة سوداءُ برَّاقة، يرسلها السيدات إلى ما دون الكتفين، والأجسام أميَل إلى الغلظة والسِّمنة، وبخاصة النساء، وفيهنَّ جاذبية كبيرة وخفة روح؛ إذ لا تكاد تفارق البسماتُ ثُغورَهن أبدًا، والكل أميَلُ إلى الاجتماع، يُسارعن إليك بالحديث والسؤال عنك وعمَّا حولك في رقَّةٍ زائدة، ويعيشون عيشة مرحة سعيدة لا يَحملون همًّا، وسواءٌ أكثُرَ رزقهم أم شحَّ فهم سعداء في كِلتا الحالتَين، ولا يَعبَأون بالدنيا أبدًا؛ ولذلك لم يَعرفوا قيمة النقود، ومنهم بعض الأثرياء الذين يمتلكون مئات الألوف من الجنيهات، لكنهم يُبدِّدون منها بمقاديرَ غير معقولة، وبعضهم بدَّد ماله كلَّه ولا يزال يشعر بالسعادة، ولا يحمل من الهم شيئًا، وحتى فقراؤهم وحُفاتهم الذين كنا نراهم في ثياب خَلِقة كانوا يتقدمون إليَّ في رقة ويتطوَّعون للإرشاد، ولا يبدو عليهم إلحافٌ في طلب شيء من الهبات قط، فإن قدَّمتَ إليه شيئًا تسلَّموه شاكرين، وإن لم يكُ من ذلك شيء انصرفوا باسِمين غير مُمتعِضين، ومنطقهنَّ عذب سائغ موسيقي، وجميع الحروف تبدو ممطوطة ناعمة، تشبه اللغة الطليانية، وكل حرف في الكلمة لا بد أن يُنطَق في وضوحٍ وفي غير أضغام. وكنا نرى جُلَّ أسماء البلاد والجبال تحتفظ بأصلها الماوري، وتُحاول الدولةُ الاحتفاظَ بتلك الأسماء ما استطاعت. والماوري فصيح، زَلِق اللسان، خطيبٌ بالفطرة، وهم يُباهون بأدب لغتهم، ويُفاخرون بعضُهم بعضًا ببلاغتهم في القول.

figure
يغتسلن في مياه الفورات الطبيعية.
وكان حظِّي سعيدًا أنْ حضَرتُ حفلة راقصة وطنية، فأخذ فتياتُ الماوري بجمالهن الساحر وأرديتهن الجذابة وإلى جوارهنَّ الفِتيان، يَعرِضن علينا طرَفًا من غنائهم ورقصتهم Poi، فكانت الأنغام مشجية، وجلها مُحزنة من نَغْمة «الصَّبا»، وقريبة شبهٍ بأنغام «هواي»، وكان الجميع يغنُّون سويًّا — ومنهم الصوت الرفيع والغليظ — في انسجامٍ بديع، ثم عرَضوا رقصاتٍ مختلفةً؛ فرقصة الزوارق وهُن جلوس بعضُهن وراء بعض وأرجُلهن ممدودة، وأذرعهن تلمس الأكتاف، ويُحرِّكن الأذرع والأرجل، فيُخيَّل إليك أنهم جمعٌ من البحَّارة يُجذِّفون ويرتلون. وتلك أحَبُّ الرقصات إليهم؛ لأنهم شُهِروا بقدرتهم على بِناء الزوارق النحيلة وركوبها في عُرْض المحيط الهادي المديد. ثم رقصة الفرح، ويقفن صفوفًا متباعِدة وكل صف يُبدي حركاتٍ تُغاير الآخرَ بالأيدي والأرجل، وصفٌّ واقف والتالي له راكعٌ أو جالس. ولعلَّ أغرب الكل ما يسمونه Haka، وفي ذلك تنتهي الرقصة أو الأغنية بتكشير السِّحَن ولَيِّ الجباه وتعويج الخدود، وفتح الأفواه وإخراج الألسُن في شكلٍ بشع، ويُشفَع ذلك بصيحة مُزعجة. ويحاول كلُّ رجل وسيدة أن يُظهِر حركاتٍ غيرَ التي يُظهرها الثاني، إلى ذلك الرفس بالأرجل، وتلك يُقصَد بها تخويف العدو أو التهكم عليه، أو إدخال السرور على الإخوان، كل نوع حسَب ما يَقتضيه المقام، وتلك مِن أقسى الدروس التي يُدرَّب عليها الأطفال، ولا يُحترَم الواحد منهم إلا إذا أتقنَها، مع أنها تبدو في ظني مظهرًا وحشيًّا منفِّرًا، وقد تُعرَف هذه برقصة الحرب أحيانًا، وكنتُ أرى الأطفال يتمرَّنون عليها في ألعابهم الخاصة وسط الطرق، وكلما تحدثتُ إلى أحدهم بدَرني قائلًا: هلَّا رأيت الهاكا Haka؟ كأنها أهمُّ شيء في نظرهم.
figure
تنتظر الغادة ريثما تُشوى سلة البطاطس في حرارة الفوارات.
figure
رقصة البحر عند الماوري.

ومن فنونهم التي كانت شائعة: النقشُ على الوجوه في رسوم مختلفة، ولا يَزال يُرى أثر ذلك في المسنِّين منهم، وبخاصة النساء، فكنتُ أراهنَّ وقد خضبن ذُقونهن بالوشم الأزرق في أشكالٍ عدَّة، لكن تلك العادة آخِذةٌ في الزوال اليوم؛ إذ قلَّما كنتُ شاهدها في الجيل الناشئ.

وأكثرهم يَنزل حول مَنابع المياه الحارَّة؛ لأنهم استخدَموها في شئونهم. ولا يزالون يَحتفظون بالكثير من عاداتهم، من بينها التحيةُ بمسح الأنوف ووضع اليد في اليد، أما التقبيل فيحتقرونه ويمجُّونه.

رسَونا على جزائرِ فيجي، فانفسَح أمامنا خليجٌ مستطيل، تَحفُّه جوانبُ جبلية تكسوها الخضرة الكثيفة، ويزين مدخلَه عِقدٌ من زبَد البحر ورغاويه يبدو أبيض، ويَكاد لا يترك من المدخل إلا شطرًا ضيقًا، وذلك حاجز مَرجاني Coral reef كنا نرى بعض نَواتئ شِعابه بارزة فوق الماء، وعليه تَنكسر الموجات فتُرْغي، وتعطي ذاك اللون الأبيض الجميل. رسَونا على رصيف الميناء، وكان الجوُّ أغبرَ ماطرًا، لكنه ما لبث أن تكشَّف، وما مضى الظهرُ حتى بدَت الشمسُ ناصعة بين بُقع السحاب المنثور.
figure
الجنس البولونيزي معروف برشاقته وجماله، وتلك الغادة يَلفِت النظرَ قُرطُها من الخرز الذي ينتهي بحلقتين من الباغة الشفافة.

أخذنا سيارة طافَتْ بنا زُهاءَ ساعتَين بين وِهاد ونِجاد تَسُدها الخضرة سَدًّا، وهنا وهناك تبدو الأكواخ الخشبية في الأحياء الراقية، وأخصاصٌ من الحشائش للأحياء الفقيرة، والناس جلهم من الفيجيِّين ذوي الوجوه السوداء المفلطَحة والتقاطيع العريضة والأجسام المفتولة الطويلة؛ فهم مِن العمالقة نساءً ورجالًا.

وأعجبُ ما يَسترعي النظرَ فيهم شعرهم؛ فهم جميعًا يتركونه ينمو رأسيًّا، في هالةٍ قد تَزيد على الشبر طولًا للنساء والرجال معًا، والشعر أجعدُ خشن أسود، وقليلٌ منه مصفر، وهم يَسيرون حُفاةَ الأقدام عُراة الرءوس دائمًا. أما الملابس فتَحكي لفائفَ الهنود أسفل الجسد في ألوانٍ مُزركَشة، واللون الأحمر غالبٌ عليها، وقد يُترَك أعلى الجسد عاريًا. والنساء على جانبٍ كبير من الرقة والوداعة، ينظرن إليك ويبتسمن ثم يُسارِعن بالحديث والتودُّد إليك، ولا يُهِمهنَّ من أمر الدنيا شيء، فهن قانعات أبدًا، ويَشعرن بسعادة الحياة كاملة.

figure
«ها أيري راي» أو نظرة الترحيب.

أما سِحَنهن فمُنفِّرة في الغالب، وإن كانت أجسادُهن جميلة أميَل إلى السِّمَن، وكنا نرى القوم دائبين على أكل جوز الهند وشُرب مائه اللذيذ، وهم يجهزون دُهنه ويَبيعونه ليدهنوا به جسومهم؛ مقاومةً للحر، وتقويةً للشعر، وتجميلًا للبشَرة كما يقولون؛ ولذلك كانت رائحةُ الجزائر كلها أينما سرت والناس جميعًا، تُشع هذا الدسم الذي قد يكون زنخًا كريهًا.

figure
«ها أيري ماي» أو نظرة الوداع.
figure
رقصة ماورية مشتركة.

وفي المساء آذنَت الباخرة بالرحيل، وعزفَت موسيقاها كما هي العادة كلما أقبَلْنا على مكانٍ جديد أو انصرَفنا عنه، فأخذَت جوانب الميناء تتقارب، وينحصر جمالها بخضرتها الناصعة، وبيوتها الحمراء نُثِرت على المنحدَرات، وجماهير الناس يودِّعوننا بهزِّ أيديهم ومناديلهم. والفيجيُّون يُشبهون الماوري في رِقَّتهم وأجسامهم وخفَّة روحهم ومرحهم الدائم، لكن شتَّان بين جمال الماوري وبين وجوه هؤلاء التي يَندُر أن ترى فيها مَسْحة من جمال.

قُمنا إلى جزائرِ سَمُوَا، وحلَلْنا القرية الرئيسية هناك واسمها نوأوأولي Nuuuli، هناك استقبلَنا الأهالي بوجوههم السمحة وسِحَنهم الجميلة نساءً ورجالًا وأطفالًا، ودُعينا إلى ساحة الرقص، فدخلنا وجلسنا، فإذا بثلاثة صفوفٍ من فتيات لبسن حول الخصر حزامًا عريضًا له ذؤابات تتدلَّى إلى القدَمَين، وترَكْن النصف الأعلى عاريًا بلونه الأسمر الخمري الجذَّاب، وأجسادهن الممتلئة صحة ونشاطًا ووجوههن الجذابة، وأخذ قائدهن ينقر على صفيحةٍ بعَصاه نقراتٍ منتظِمة، وهنَّ يرقصن وقوفًا وقعودًا ويُغنِّين، ثم يختمن الأغنية والرقص بضربة من الأقدام وصيحة عالية. وكان الرجل يُعلن عن اسم كل رقصة. ويطوف علينا الفتيات بجوز الهند الطازج، وقد شطفن ناحية لنشرب ماءه اللذيذ، وتلك تحية لقدومنا.
figure
زهرة عباد القمر في يد آنسة جميلة من هنولولو.

خرَجنا نطوف البلدة، وإذا بها مجموعةُ أكواخ من قوائمَ خشبية، يُغطِّي ما بينها القش والعُشب، وقد يكون البيت مستطيلًا منحدرَ السقف، أو دائريًّا مخروطيَّ الغطاء، وفي وسط البلدة دارٌ فسيحة لعقد الاجتماعات. وللقرية أربعة رؤساء (زعماء)، وهم الذين يتكلمون ويَخطُبون في المجتمعات مدافِعين عن صوالح ذويهم. وكنا نرى أطلال بيوت مُهشمة قيل لنا إن «إعصار الهركين» مرَّ بها فاجتاح منها الكثير.

وقد استرعى نظرَنا جمالُ السِّحَن وجاذبيةُ اللون الخمري خفيف السُّمْرة، وهم قريبو شبهٍ «بالماوري» في زيلندة الجديدة، ولكنهم بعيدون البعدَ كلَّه عن أهل فيجي الزنوج، وكثيرٌ منهم خصوصًا النساء يُرسلن شعورهن السوداء البراقة الهادلة التي تَزيدهن رونقًا وجمالًا. وليس بالجزيرة عددٌ كبير بل هم قليلون، وهم من الجنس البولينزي، ويبدو لنا من أشكالهم أثرُ الجنس الصيني واضحًا. وكم كان سرورهم بوفودنا كبيرًا! فهم يَشعرون بالأنس الكبير كلما وفدَت عليهم باخرة، وكانوا يتطوَّعون جماعات لإرشادنا ولا يبتغون من وراء ذلك نفعًا، وكثير منهم كان يَعرض علينا صداقته وعنوانه لِنُكاتِبَه نساءً ورجالًا، وبعضهنَّ كان يُقدِّم عقود المرجان وبعض أشغال الخشب المنقور هدية لنا، ويرفض أن يتقاضى ثمنها. وقد عرَض الكثيرُ منهم سِلعَهم علينا، وجُلُّها من منقور الخشب الملوَّن، في أسلحة وزوارقَ وعِصيٍّ، ثم أشغال القش من سِلالٍ ملونة، ثم أرْدِيتهم، خصوصًا الحزام الذي تتدلَّى منه الأهداب الطويلة وقد نقشوا عليه اسم بلدتهم. ومن أجمل ما عرضوا قطع الأقمشة الملونة التي دقُّوها وصقَلوها من قشور الشجر، تبدو كالورق أو القماش المنشَّى، وهو متين جدًّا. ومن أبدع المناظر عقود الزهور الضخمة الملونة الطويلة، يَلبسونها جميعًا رجالًا ونساءً، وكلما ذَبُل واحد أعاضوه بغيره، وهم يفتنُّون في تنسيقه فيبدو رائعًا، ولا تكاد ترى واحدة تمشي بدون ذاك العِقد يتدلَّى على صدرها، وقد ألبَسونا تلك العقود لمَّا أن دخلنا دارهم، ولقد عزَفت فرقة الموسيقى وغنى معها جمعٌ من الفتيات على شاطئ البحر تجاه السفينة؛ وداعًا لنا عند قيامنا.

figure
آنسات هنولولو الرشيقات.
ثم أقبلنا على هنولولو، جنَّة المحيط الهادي «وجبل طارق الباسيفيك»، فاستعرضنا الطبيب، ثم تقدمَت الباخرة من الرصيف، وكانت شُرفاته وجوانبه تغصُّ بجموع المستقبِلين، تتوسطهم الموسيقى الرسمية التي تُعزَف استقبالًا لكل باخرة ووداعًا لها، وتلك عادة اتُّبِعَت منذ عهد مَليكهم كاميهاميها الخامس سنة ١٨٧٢. وكان برج الميناء الشاهق الأنيق يُشرِف علينا، تعلوه ساعةٌ كبيرة، وتزين جوانبَه الأربعة كلمةُ: ألوها، كُتِبَت بالخط الكبير، ومعناها مرحبًا ووداعًا. وما كادت تقف الباخرة حتى هاجم المستقبِلون أحبابَهم وبيد كل منهم مجموعة من عقودٍ من الزهر مختلِف ألوانه في جَمال لا يُحَد، وأخَذوا يُحَلُّون بتلك العقود أعناقَ أصحابهم، وكان باعةُ هذه العقود — وغالبهم من الفتيات — ينتشرون في جميع الطرق المؤدية إلى الميناء في كثرةٍ تَلفت النظر، وتسمع نداءهن في كل مكان، وزُهاء مائتَيْ نفسٍ مهنتهم إعداد تلك العقود، ويسمونها Leis في هنولولو، ولا يقل ما يُباع منها سنويًّا عن ٦٦٠ ألفًا بسعر شلن لكل واحد، أي نحو ٣٣ ألف جنيه، هذا خلافُ ما يُباع في الجزائر الأخرى. ولا يقل ما يُلبَس هناك عن مليون عقد في السنة، وتلك من أجمل الظواهر التي تَسترعي نظرك وأنت تَسير بينهم، وبعض النساء يلبسن عشَرة عقود كبيرة في ألوانٍ مختلفة.
figure
تُحلِّي عقود الزهر جِيدَ الناس جميعًا في هنولولو.
وجماهير المارَّة في الطرق كثيفةٌ متعددة الأجناس، فإلى جانبِ الوطنيِّين ذوي الشعر الأسود المُرسل، والسِّحَن المفلطحة، واللون الأسمر، والعيون الكبيرة، والقامات الطويلة، رأينا عددًا غالبًا من اليابانيِّين في أرديتهم الفضفاضة، ثم البرتغاليِّين، ثم الصينيين والفليبيين بسِحَنهم العجيبة، وقليل من الهنود في جسومهم الناحلة، ثم الكوريِّين في أكمامهم المنتفِخة، هذا إلى الأمريكيين والغرباء من سائر سائحي العالم، فكأنها بلدةٌ عالمية، ترى أحدث أزياء باريس تَسير جنبًا لجنب إلى جوار الأردية القومية ذات الذُّؤابات من العُشب، وتشاهد ملاعب الجولف والبولو إلى جوار اللعب بالزوارق انزلاقًا على حافَة الأمواج، وتلك أحبُّ صنوف اللعب عند الوطنيِّين، فهي بلدة بولينيزية تعيش في جوٍّ أمريكي بلَغ من المدنيَّة شأوًا، فالحياة البولينيزية الفطرية تُظِلها أحدثُ المدنيَّات وأرقاها. ثم وصَلْنا بعد مِيلَين إلى أجمل شطوط الجزيرة، ويُسمَّى Waikiki، هنا انفتحَت مدرجات الرمال النقية إلى مدِّ البصر، وأُقيمت «الفيلات» الأنيقة، واكتظَّ الشاطئ بالمستحمِّين وبالمقاهي والفنادق الفاخرة، ومن بينها نزل Waikiki الذي بلغ من الوجاهة والامتداد حدًّا كبيرًا. جلسنا إلى الشاطئ لنرى أعجوبة الرياضة البحرية هناك، ويسمونها Surfing، ترى الفِتْيان والفتيات يَمتطي كلٌّ منهم زورقًا نحيلًا أو لوحًا من خشبٍ مدبَّب الأطراف، ثم تحركه الفتاة برِجْليها وهي واقفة عليه، فيَجري الزورق ويعلو ويهبط وفق تكسُّر الموج على الشطوط هناك، في سرعةٍ وخِفةِ حركة لم أرَ لها نظيرًا، وهي خلالَ ذلك تميل وتجلس وتنام، ثم تعود واقفة، والزورق يَجري في اهتزازٍ مخيف، ويساعد على تعاقُب الأمواج الخفيفة كثرةُ شطوط المرجان. وتلك لعبة ملوكهم منذ القدم يتعلَّقون بها إلى حد المخاطرة.
figure
أجساد فتيات هنولولو ممتلئة متناسبة.
أخذنا نتجول في أحيائها الغاصَّة بالناس سيرًا على الأقدام، وكان «الهوائيُّون» أهلُ البلاد يسيرون في وجوههم التي تَحكي وجوه الماوري، إلا أنهم أكثرُ سُمرة، وهن أجمل نساء المحيط الهادي، وأجسادهن ممتلئة وتبدو عليهن علامات الصحة؛ لجودة مُناخ بلادهن، وبَساطة معيشتهن في المأكل والملبس والمسكن، فأخصُّ طعامهم السمك المشوي، يُصبُّ عليه مرق أُعِدَّ من جوز الهند، وهذا هو الطعام القومي المحبوب، كذلك فاكهة الخبز بعد تخميرها، أو مطبوخ الموز وجذور التارو (البوي Poi)، ثم الفاكهة الاستوائية. ومن آدابهم في المائدة أنه لا يصح الحديث في موضوعٍ مادي، وإلا عُدَّ ذلك مُحرَّمًا مُنكَرًا Tapu، ويجب قصر الحديث على ما يُدخِل السرور على النفس. وعند الجلوس إلى المائدة تُقدَّم آنية البوي، وهي «سلطنيَّة» يَغمس كل منهم أصابعه فيها ويتناول بعض بندق Kukui مع الملح وبعض أعشاب البحر، ثم يأكل قطعة من قديد السمك، وكلما تناول الرجل «إصبعًا» من البوي تناول النساءُ اثنَين، وعلى الضيف أن يقول بين آنٍ وآخر: heono، أي: ما ألذَّ هذا! وجلُّ ملبسهم من قشور الشجر، خصوصًا شجرة tapa التي إذا ما بلغَت بين ٣ و٤ أمتار قُطِعَت، ثم حاول النساء سلخ قشرها في قطعةٍ واحدة، ثم يُصقَل ظاهرها بالأصداف وتُعطَّن في النهر وتُدَق ثم تُجفَّف، وكثيرًا ما ترى القطعة الواحدة تفوق «ملاءة السرير» كبرًا، وإذا دُهن بزيت النرجيل أضحى «ووتربروف»، وهو متين جدًّا لكنه غير قابل للغسيل، ولرداءة رائحته يَستخدمون معه مسحوق خشب الصَّنْدل، وشكل الملابس يحكي ملاءات الهنود، ويُسمونها: Holuku. وهم يُفضِّلون السَّير عُراة الرءوس والأقدام، ويُحبون التحلِّيَ بالعقود والخواتيم نساءً ورجالًا، وإذا جنَّ الليل كثر الرقص والغناء على أنغام الموسيقى الشجيَّة الساذجة، وإذا ما رَغِبن في النوم خلَعن زينتهن من الزهور وأَلقَين بها في المهملات؛ لأنهن سيَقُمن في الصباح الباكر لقطف غيرها ونظمها عقودًا وأقراطًا وقلائد جديدة.
figure
لا يفتر ثغر فتيات هنولولو إلا عن ابتسامات دائمة.
ولا بد أن تعاشر الفتاة أحد الشبان زمانًا في «بيت العُزَّاب» قبل أن تتم خِطبتها، وذاك البيت يُقام منه الكثير في أرجاء القرية. وقد يَختار والدُ الفتاة أحدَ وُجهاء الجزيرة ليزور بنته ويفضَّ بكارتها، فإن خلت الجزيرة من الوجهاء استُدعي واحد من جزيرة مجاورة للقيام بذلك. وقد حضَرْنا رقصة Hula، وأغنية ukulele ونحن في فندق شط waikiki، فكانت ساحرة، والرقصة بدَت في تمويج الجسم في ثَنيات عدة وتحريك الأيدي والأذرع حركاتٍ ثُعبانيَّة، لتحكيَ حركات الموج وأوراق النخيل إذا ما داعبتها الرياح. أقلعت بنا الباخرة، فبدا الرصيف مائجًا بالمودِّعين وبائعات الزهور والعقود، وقد لبس كلٌّ من المسافرين والمودِّعين عشَرات العقود البديعة، وقد ركب الباخرةَ في الدرجة الثانية من هنولولو ١٤٠ مسافرًا، يعودون إلى أمريكا بعد تَمْضية عطلة الصيف. وبدأت موسيقى الوداع تُعزَف وأشرطة الورق الملون تصل ما بين فريق المسافرين والمودعين، ثم أخذت الباخرة تتنحَّى عن الميناء تدريجيًّا حتى غابت تلك البلادُ الممتعة عن الأنظار، وكان آخر ما يُرى برج الميناء وعليه كلمة aloha تودعنا، وخرجنا إلى عُرض المحيط ونحن آسفون أن برحنا جنة الباسفيك، أو جوهرة المحيط الهادي كما يسمونها غالبًا. عندئذٍ أخذ المسافرون والمسافرات يُلقون بعقود الزهور الجميلة إلى المحيط حتى لم يُخلِّفوا معهم منها شيئًا؛ لأن ذلك فألٌ حسن يؤكد لهم عودتهم لزيارة الجزيرة مرة أخرى. وكنتُ ألبس من تلك العقود اثنَين، لم تُسِغ لي نفسي أن أُلقيَ بهما إلى اليم، لكن لم أنجُ من لومِهنَّ فكلما مرَّتْ بي آنسة قالت: ألا تريد أن تعود إلى زيارة هنولولو ثانيةً؟ فأقول: بلى؛ فتلك أمنيتي. فتقول: إذَن سارع بإلقاء عقودك إلى البحر. ولَمَّا أن غلبَتْني كثرتُهن ألقيتُ بالعِقدَين على الرغم مني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤