في إفريقية

بلاد المغرب

وصلنا طرابلس فاسترعَت أنظارَنا أزياءُ النساء الجميلة؛ سراويل ملوَّنة تعلوها ملاءات مخطَّطة زاهية، وتتحلَّى الأيدي بالخواتم الثقيلة، وفي الرُّسغ وأسفل الساق سوارٌ فِضي عريض كأنه أسطوانة من صفيحٍ منقوش. والحركة في البلدة خافتة، وعند الظهيرة تُقفَل جميع المتاجر، ويلحظ الإنسان بين أهلها على قلَّتهم الهدوءَ والرغبة عن الكلام، حتى الأطفال تراهم يَسيرون متجاورين، وهم لا يتَجاذبون من الحديث إلا اليسير. وذاك الهدوء لا شك من أثر وحشة المكان، فمِن ورائه الرُّبى المجدِبة تَحميها الصحاري الممدودة، ومن أمامه البحر المائج الرهيب. أما لهجات الناس فلا تكاد تُفهَم؛ فهي بقيَّة من لسانٍ عربي سقيم، مازجَته الكلماتُ الدخيلة من اللغات الأجنبية وبخاصة الطليانيَّة، وغالب القوم يُجيدون الطليانية، والصِّبية بعد انتهائهم من المكاتب الأولية يلتحقون بالمدارس الابتدائية، ولا يُدرَّس فيها شيء من العربية قط.

وكم يروقك حديث القوم باللهجة العربية الغامضة المحرَّفة، وأنت طوال الطريق تسمع صيحات المارَّة فِتيةً وفتيات «بالك جواردا» بالعربية والطليانية معًا، كذلك كلمة «برمسو» يقولها النساء وحتى أجلاف المارة وصعاليكهم. وأحَبُّ الطعام لديهم: «البازين»، وهو أشبه «بالعصيدة المالحة»، تُعِدُّه السيدة من الماء والملح، يُغلى ويُمزَج به الدقيق، ويُرشُّ عليه بعض الزيت أو المسلي، ويرَون في تناوله اللذَّة كلَّها، ولو لم يَرُقني مطلقًا.

ثم أقبلنا على تونس، وهناك أضافني أحدُ أبنائها في داره، ولمَّا استقرَّ بنا المجلس مدَّ السِّماط التونسي في حضرة مجموعة من عِلْية القوم، فكان الطعام شهيًّا وغريبًا في جملته، أخصُّ بالذكر «الكوسكسي» الذي أدهشَني بدقَّة حُبيباته ولذيذ طعمه، يعالجونه على صنوفٍ عِدَّة، ويُجفَّف ويُصَدَّر إلى الخارج في أكياس. وكذلك «الملوخيَّة» التي تبدو في سائلٍ أسود، لا يروقك لونه وإن راقك تناوله؛ لأنهم يسحَقونها ناعمة ويُضاف إليها الزيت والبهار. ومن أشهى الأطعمة لديهم «العصبان»، ويُعدُّ من نثير أحشاء الشاة «السقط» والقلب والكبد، يُلفُّ في قطعٍ من الكرش «الكرشة»، ويُخاط في كور ويُغلى وعليه البهار والملح والبصل، ويُغطَّى بمصفاة يملؤها الكسكسي الذي يتشرَّب البخار من أسفله، وعندما ينضج اللحم السالف يُصبُّ هو والمرق فوق الكسكسي، فيكون طعامًا لذيذًا.

خرجتُ أجوب أرجاء المدينة، وكم كان يروقني مسير السيدات في أُزُرهنَّ البيضاء الناصعة من الحرير الموشي، وكأنهنَّ الملائكة يَسِرن على بُعد، وتونس نظيفة، وهندام أهلها غيرُ مُنفِّر، ويقل الحُفاة بينهم.

والزواج في تونس غير مبكر، فالآباء يَكرهون أن يُزوِّجوا أبناءهم وبناتهم صغارًا، فيندر أن تتزوج الفتاة قبل العشرين والفتى قبل الثلاثين، ويُعزى ذلك إلى غُلُو المهور، فهي لا تقل عن مائة جنيه للطبقات المتوسطة أو ما دونها، وكذلك إلى انصراف الفتيان إلى مصادقة بعض الخليلات الفرنسيَّات، وقد جلبَهن الفرنسيُّون من أيتام الحرب من بناتهم وبثُّوهن في البلاد يتصيَّدن الشباب.

قمتُ إلى الجزائر مُخترِقًا جبالها الشرقية البديعة، وتُسمَّى نجاد شرق الجزائر هذه: بلاد قابيل، يقطنها قومٌ لا يزالون يحتفظون بدمهم البربري وبعاداتهم الأصلية، ويكادون يحكمون أنفسهم بأنفسهم، وهم زُرَّاع مهَرة اعتنَقوا الإسلام، لكنهم إباحيُّون في قوانينهم المدنية وفي نسائهم اللواتي يخرجن سافراتٍ مثل جيرانهم من الطوارق في الصحراء. ومركز النساء لديهن محترم، يَحتفظن بحقوقهن قبل الرجال، ولا يكادون يُبيحون تعدد الزوجات قط، وإقليمهم غاصٌّ بالقرى والأهلين، ولا يزال الكثير يتكلم اللغة البربرية الأصلية هناك، وأظهرُ القبائل البربرية: «شاويا»، و«قابيل» يعتصمون بجبالهم، ولقد سادهم الفينيقيُّون، ثم الروم، ثم الوندال، لكنهم أدمجوهم فيهم وحفظوا شخصيَّاتهم، ثم جاء أهل آسيا من العرب واليهود، وكادوا يَدمجون البربر فيهم، ولكن يَخال الكثيرُ أن أثر البربر أغلب. وفي مدينة الجزائر نرى من الأزياء خليطًا لا أول له ولا آخر؛ هذه ارتَدَت المعطف من الصوف الأبيض الثقيل، وفي أرجلها البُلغة، وفوق رأسها اللبادة لُفَّ حولها طيَّاتٌ من حبلٍ سميك، وتلك السيدة دُثِّرت بإزارٍ مهفهف من صوف أو حرير أبيض، وأرْخَت على وجهها قناعًا أبيض دون العينَين، وتدهش إذ تسمع خليطًا من العربية المشوَّهة إلى جانب الفرنسية.

تبدأ السيدة أو الرجل الكلام بالعربية، وسرعان ما يعوَجُّ اللسان وتتدفَّق الألفاظ الفرنسية في طلاقةٍ تفوق الوصف، وحتى فتيات الشوارع يتحدَّثن بها رغم مظهرهن الرث الفقير. والعَوَز هناك منتشر إلى حدٍّ مخيف، على أن الحياة هناك رخيصة رفَّهَت عنهم بعض الشيء. وتعجب إذ ترى الفرنسية إلى جانب الوطنية في المسكن والقهوة، يتجاذبن أطراف الحديث على قدم المساواة في ديموقراطية راقتني كثيرًا، هنا ذكرتُ الترفُّع الإنجليزي والصلَف السكسوني الذي يفصل ما بين أبناء التاميز وأهل البلاد التي يحكمونها، وهذا كما يقول الفرنسيُّون مما جعل الاستعمار الفرنسي أهوَن أمرًا وأبعدَ أثرًا في نفوس المحتلين عن الاستعمار الإنجليزي؛ لذلك شعر الجزائريُّون بأنهم فرنسيُّون يُسوِّي القانون بينهم وبين سادتهم، وبذلك نَسُوا عصبيَّتهم الأولى رغم ما هم عليه من خلافٍ في الدم والعادات.

figure
إحدى جميلات الأعراب في ليبيا وطرابلس.

هداني سيري بعد لأيٍ إلى زقاق الشيطان المعلق المتلوي الزلق، الذي نزلْتُ منه إلى شارع كاسبا «القصبة»، ومنه تعرفتُ طريقي، وتلك الجهة هي الوحيدة في كل الجزائر التي حفظَت شكلها القديم الجميل. هنا انحدرَت قدَماي إلى ناحية من تلك الأزِقَّة المتعرجة، وإذا بي وسط مجموعة من بيوت كان يجلس على أبوابها نساء، هن خليط من الوطنيَّات والفرنسيَّات في شكلٍ يُنافي الآداب، يتعرَّضن للمارة ويُحاولن ضمهم إلى صدورهنَّ أو تقبيلهم، وكثيرٌ من أولئك الفرنسيَّات كُنَّ عرايا كما ولدَتْهن أمهاتهن، يتمايلن ويتهادَين ويُشِرن إلى أماكن منكَرة من أجسادهن العارية، والرطانةُ الفرنسية تحاول استمالة الناس واستهواءهم، ولا رادع ولا رقيب، وقد عنَّ لي أن آخذ بعض صورهنَّ الفوتوغرافية خِلسة، وما كِدن يُبصرن بي حتى ثارت ثائرتُهن وتجمَّعن حولي وأفسَدن الفلم، وقد اعتذرتُ لهن في شيءٍ من المداعبة، ثم انسحبتُ بعد أن قاسَيت في سبيل ذلك كثيرًا. وأمثال أولئك هن اللائي يدسُّهنَّ المستعمر كي يُفسِدن من أخلاق الوطنيِّين ويصرفوهم عن كثير من واجباتهم الوطنية، وهكذا يُحارب الغاصب الناس حتى بتلك الوسائل الدنيئة.

وكنت أعجب لاختلاط الوطنيين بالفرنسيين في كل مكان حتى في السكنى، فبعض البيوت يقطنها عائلتان: وطنية وفرنسية، ويشاطرون بعضهم كل شيء، وتلك من خصائص الاستعمار الفرنسي، فهم يُخالطون العامة ويُشاطرونهم طعامهم ومعاشهم، وكثيرًا ما كنت أرى فرنسية ووطنية في بيتٍ واحد على مائدة الكسكسي يُعِدَّانه سويًّا، ولو أن في ذلك تغلغُلًا من المستعمر في صميم البلاد لتعرُّف حقيقة حالها، إلا أن فيه فضيلةَ الديمقراطية الظاهرة التي كنت ألمسها في تعامل أبناء البلاد مع الفرنسيين على قدم المساواة في كل شيء، فالصبي الصعلوك الوطني يخرج مع «الخواجا» الوجيه الفرنسي كأنه نِدُّه أو زميله، وفي المتنزَّهات والمقاهي نرى الرجل في هندامه القذر المهلهل يجلس إلى جوار فرنسي أو فرنسية في هندامٍ أنيق وجيه، ولا تلحظ على أولئك شيئًا من الامتعاض.

figure
فتاة من أولاد نايل تلبس كامل حُليِّها الذي جمعَتْه من احتراف الرقص استعدادًا للزواج.

ومن قبائل الصحراء قُرب واحة بسكرا «أولاد نايل»، ينزلن المدن لكسب المال من وراء احترافهنَّ الرقصَ أو البِغاء، ثم يَعُدن ليستأنفن الحجاب في بلادهنَّ ولينتظرن الزواج، ويمتاز رقصُهن بحركاتٍ عنيفة في جميع أجزاء الجسم، خصوصًا «رقص البطن»، ووجوههن في غاية الجمال، وحركاتهن رشيقة، ويكاد يُثقِلهن ما يَحملن من حلي يكسو الرأس والوجه والأذرع والصدر، ويُسمَّون: «جيشات الصحراء»، وكما أن الجيشات من أساس النظام الاجتماعي في بلاد اليابان، كان راقصات أولاد نايل من أخصِّ مميزات بلاد الجزائر.

وكان يَركب إلى جِواري ذات مرة رجل جزائري وَقور، يشتغل بالتجارة بين حدود القُطرَين، ومن نوادره أنه قال للفرنسيين الذين كانوا معنا بأنه متزوج بامرأتَين، وله بيتان! أحدهما في حدود الجزائر والآخر في «أوجده» في مراكش؛ لأن عمله يَقتضي أن يُمضيَ نصف الأسبوع هنا ونصفه هناك، فكانت سخريةٌ وضحك منه على زوجتَيه، وكيف أنه يستطيع الإنفاق على بيتَين؟ لكن الرجل ردَّ عليهم ردودًا مُسكِتة، إذ قال إن ذلك خير له من طريقتهم هم، وهي تركُ امرأتهم في مكان والاختلاف إلى الغانيات حيثما وجَدوا إلى ذلك سبيلًا، وأفهمَهم أن ذلك مُحرَّم في دينه، وأن البيتَين لا يُكلِّفانه بقدر ما يتكلفه لو كان أعزَب.

figure
الموسيقيَّات المحترفات في مراكش.

قام بنا القطار إلى فاس وهو يشقُّ أرض مراكش، التي بدَت لأول وهلة سهولًا شبه مُجدِبة مملَّة، غالب أهلها يَقطنون الخيام ويَستنبِتون الغِلال، وهناك تجلَّى القديم وظهرَت معالم الإسلام والعصبية له في مظهر الناس وتعدُّد المساجد، التي يُحصى منها هناك ٢٧٠ مسجدًا، ولم أكَد ألمح كنيسة واحدة. وأول ما استرعى نظري كثرة الأسوار الشاهقة وتعقيدها، فلم أدرِ لها أولًا ولا آخرًا، تُزيِّنها بوابات ذواتُ ثلاث فتحات؛ الوسطى كبيرة تُجانِبُها اثنتان صغيرتان، ويكسوها القيشاني الأزرق البديع، وتلك البوابات تؤدي إلى طرق المدينة، وهي مختنقة مسقَّفة في الغالب في جهات الأسواق التي لا تَخبو حركتها، وكلُّهم في الرداء المغربي العجيب، وهو أبسطُ مِن أرْدية تونس، وأظهره «الجلاب»، وهو كالعَباءة الفضفاضة المقفلة من أمامها، ولها «كبود أو طرطور» هائل متصل بها، يضعه الرجل على رأسه فيُرى منتفخًا، أما النساء ففي أُزُر بيضاء من الصوف، وعليهن القناع الأبيض الثقيل. وأجملُ ما في أزيائهن «البلغة» التي تُصنَع من جلدٍ أو قماش قد شُغِل بالقصَب في نقوشٍ عربية بديعة. والناس جميعًا يلبسون تلك «البُلَغ»، حتى المثقفين منهم الذين ارتدَوُا الحُلَل الإفرنجية والطرابيش المصرية، وبعض النساء يلبسن «جلباب» الرجال؛ ولذلك كان يَصعب عليَّ التمييزُ بين النساء والرجال أحيانًا، خصوصًا إذا كانت المرأة غيرَ مقنَّعة. ومن المارة عدد كبير من السود، وقد وفدوا على البلاد من أواسط أفريقيا وتوطَّنوا وأضحَوْا من الأهلين. أما مساكن الأهلين فمدهشة، أزقَّة بعضها لا يكاد يَسمح لشخصَين بالمرور، والبعض في سراديبَ تحت الأرض، أذكَرَتْني ببيوت الواحات الخارجية عندنا في مصر، وإذا أوغلَ الإنسان فيها أضحى وسط تِيه لا أول له ولا آخر، وسكان تلك البيوت يكادون يكونون مقشوري اللون، وسِحَنهم آية في الجمال، والمغاربة أفتحُ لونًا من المصريين؛ فلقد دخلَهم الدمُ الأوروبي يوم كانت إسبانيا مُتصلة بأفريقيا. ومما يَروقك عند الأصيل الفتياتُ الصغار، كلٌّ تحمل لوحة عليها رغيف أو اثنَين تخرج بها إلى المخبز لتُنضِجها، والخبز شبيه «بالخبز الشمسي الكبير في صعيد مصر». وقد دخلتُ مَغنًى مراكشيًّا في بلدة مكناس، ظهرَت على مسرحه سيدتان في الأردية المغربية، وبيد كلٍّ «طبلة» أسطوانية نحيلة طويلة، وقد جلس في الصدر ثلاثة رجال، بيد الأوسط «كمنجة» يعزف عليها مقلوبةً كأنها الرباب، ويُمسِك الآخران بالطبل الأسطواني النحيل، وترقص الغواني على نقرات الطبل وهُنَّ يُغنين بأصوات كأنها أصوات المعزى، وفي فترة الراحة تطوف واحدة تجمع الهبات (النقود).

وفي الدار البيضاء قصَدتُ إلى مكتبة أنتقي منها ما يَروقني من «الكرتات» المصورة عن البلدة، كما هي عادتي عندما أنزل البلد لأول مرة، فرأيتُ بعض المناظر الجذابة كُتِب عليه «درب السلطان»، فاعتزمتُ زيارته، فسألتُ رجل الترام: أيَصِل هذا إلى «درب السلطان»؟ فابتسم وأشار بالإيجاب، ثم همس في أذن زميله همسات مُريبة، وأخذ كلَّ آونة يرمقني ويضحك، وما كدتُ أصل وأجتاز البوائك البديعة حتى فهمتُ أني في مكان البغايا، فعجَّلتُ بالانسحاب بعد أن عانيتُ منهن كثيرًا، وهنا فهمتُ غمزات السائق وسخريته وأنا أركب الترام إليه!

ومن أجمل ما يَروق الغريبَ في تيطوان مظهرُ السيدات يَسِرن في ملاءاتهن البيضاء من الصوف الثقيل، وقد يحملن وراء ظهورهن أطفالَهن، فترى الطفل وقد وُثِّق إلى ظهر أمه يبدو في كرة منتفخة وراءها، وعند الأصيل يتزاحم القوم من وطنيِّين وإسبان عند الميادين، بعضهم يمشي ذَهابًا ورجعةً، والبعض يؤمُّ المقاهيَ الكثيرة هناك يستمعون لأنغام الموسيقى الإسبانية الجميلة، التي يَخالها المرءُ شرقية بحتة.

وتُشرِف على المدينة «القصبة»، وحولها المباني القديمة في بيوتٍ كأنها الأجحار، بعضها مُركَّب فوق بعض، وأزِقَّتها مُلتوية مُختنقة، يعلوها الإنسان في صعودٍ وعْر، وهي قذرة. وقد صادف أن دخلتُ زقاقًا مغلقًا، فما كاد يُبصر بي السيدات حتى صِحنَ: «النصراني، النصراني»، وأخذنَ يُشبِعْنني سبًّا وشتمًا، فعجَّلتُ بالرجوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤