في آسيا

سوريا

لا يكاد الإنسان يُفرِّق المرأة من الرجل في الهندام؛ فهو سروال ضخم وقميص، ثم حزام عريض، وتلف المرأة حول الرأس عصابة سوداء. وهُنَّ سافرات، ويُكثِرن من التزيُّن بالجواهر والحُلي، والسيدة تقوم بعملٍ شاق، فهي تحمل جِرَار الماء، وتجمع الحطب، وتساعد الرجل في الحقول، وأسعدُ وقت لديهن: وقت الحصاد، عند جمع الزيتون وجني العنب، حين لا ينقطعن عن الضحك والغناء. والزواج هناك مُبكِّر؛ فقلَّما تجد فتاة في سن العشرين غيرَ متزوجة، وميلاد الولد يُعدُّ مِنة كبرى، وهم يُدلِّلون الأولاد ويُفسِدونهم، ولا بد أن يُلَفَّ الولد الصغير في قماشٍ نُثِر بمسحوق الملح؛ لمنع العين الخبيثة من جهة، ولتخفيف الرائحة الكريهة التي يُسبِّبها العرق، وهل يمكن لك أن تُلاطِف طفلًا قبل أن تقول: «ما شاء الله»؟ وجلُّهم يُعلِّقون خرَزة أو زجاجة مُستديرة زرقاء اتَّقاءَ الحسد، وإذا كان الطفل ضعيف الجسم يُسمُّونه باسم أحد الوحوش الكاسرة، ولو علَّقَ الولد قطعة من فقرات الذئب حول رقبته أمِنَ المرض. ومن سوء الحظ ونكَدِ الطالع أن تُلاقيَ سيدة تحمل جرَّة فارغة، خصوصًا عند مرور حفلة زواج، على أن الشر المتوقَّع من هذا يَخِف أثره إذا كسرَت المرأة الجرَّة أو أدخلَت فيها ذراعها! ولا يمكن أن تَترك المرأة من بقايا شعرها أو قلامة أظافرها شيئًا، وإلا أثَّر فيها مَن يحرز جزءًا منها! ونساء الأغنياء من المسلمين محجَّبات، يَخرجن وعليهن «الإزار» الأبيض أو الأسود يُلقى فوق الرأس، ويُضَم إلى الجسد بحزام في الخصر. وسكان الشمال من العرب، وفي نسائهم مَسْحة من جمال يُفسِدها الوشم على الشفة السفلى، ويفاجِئُهن الكِبَر عاجلًا؛ وذلك لأنهن يتزوجن في سنٍّ صغيرة جدًّا، فإذا بلغَت السيدةُ الثلاثين أصبحَت في عِداد العجائز. والعصبيَّات الدينية هناك بالغةٌ مبلغَها، وترى أهلَ كل ملَّة يقطنون في حيٍّ منفصل عن الأخرى، وتتعدد تلك المِلَل جدًّا، لكن المذهب السائد: المسلمون السنيُّون في جميع المدن ما عدا بيروت، وفي الجبال الغربية يَسود مذهب الشيعة، وهم يُبيحون شرب الخمر، ولا يمكن أن يُؤتمَن النساء في عُرفهم على سر؛ لذلك خبثت أرواحهم وقلَّ أن يدخلن الجنة.

figure
الدروز يَرِدُون الآبار بجِرارهم.
figure
آنسات في بيت لحم في أزيائهم العجيبة.

ونساء الشام مُكتنزات الجسم بيض الوجوه، وهنَّ على جمالٍ فتَّان يفوق الجمال المصري بكثير، وكُنَّ يتحدثن معي مُفتخِرات بجمالهن على مصر، ومعجَبات بخفة الدم المصري، تلك الخفة التي تُعوِزهن جميعًا.

وأجلى ما يبدو ذلك عند ما يسترسلن في الحديث بلُغتِهن الممطوطة وكلماتهن المنفِّرة، ولن أنسى موقف إحدى السيدات الجميلات، مع طفلها الذي خالفَها مرةً وجمح عنها وشرع في الجري بعيدًا عنها، فصاحت تنهره بصوتٍ جَهْوري وهي تقول: «ولا فشخة، ولا فشخة»، أعني: قِف مكانك، ولا تتحرك خَطْوة واحدة.

تركيا

ونساء الأتراك رغم سفورهن بعيداتٌ عن الخلاعة والإسراف في التزيُّن، فهُن يسِرن في وقار، وهُنَّ في نظري لسنَ ساحراتٍ في الجمال، والجمال الفاتن نادر بينهن، فالشاميَّات أوفرُ جمالًا، كذلك تعوزهن الرشاقة، ولم يقَع نظري على سيدة تَحكي «كرمان هانم» ملكة الجمال لديهم؛ ولذلك لم أعجب لانتخابها رغم أنها دون ذاك المقام في ظننا. لكني أعود فأمتدح فيهن هذا الاتزانَ والوقار، فالتركية زوجة فاضلة لا محالة، فكنتُ ألاحظ الكثير منهن يلبسن ملاءات وفوق الرأس قناع أسود كالستار، لكنه بدل أن يُسدَل على الوجه يُرفَعُ فوق الرأس، فظننت أن هذا مِن أثر الرجعية الأولى. وقد أسفر النساءُ جميعًا اليوم، بحيث إنك لا تفرقهن عن الغربيَّات.

figure
سيدة تركية تلبس رداء الرأس الجديد.

وهن على أدبٍ جم، حتى في المجتمعات العامة لا تكاد تسمع لهن هرجًا، ففي أنقرة تُفتَح حدائق البرلمان للجماهير؛ للنزهة وسماع الموسيقى، وكثير منهم من النساء يسِرن في كمالٍ زائد ووقار كبير، ولا تَحين منهم تلك اللَّفتات التي يراها الإنسان في غيرهن من سائر نساء بلاد أوروبا، وفيهن شيءٌ كثير من رزانة الإنجليزيَّات وبرود طباعهن، فلا تهتز لما يقع حولها، وحتى في المغاني الرئيسية في حي «تاكسيم» في إصطنبول حيث يَعرِضن بعض الرقص التركي، ويَسمع الناس أشهر المغنيات هناك، خصوصًا «حميت وصفيت»، وهما في مقام أم كلثوم عندنا، كان المستمعات على قِلَّتهنَّ يَستلفتن أنظارنا بهدوئهن وكمالهن، رغم أن المفروض في روَّاد تلك الملاهي أن يَخلعن عنهن بعضَ التكاليف ويخرجن على بعض التقاليد.

وعناية القوم بأطفالهن زائدة، فكنتُ أرى الأب المدقع في ثيابه البالية، يحمل طفله في هندامٍ نظيف ووجه أبيض ناصع لا تَشوبه قذارة قط، والرجال يُعنَون بأطفالهم ونسائهم، فترى زوجةَ هذا الفقير في أردية نظيفة، فلا تَكاد تُصدِّق أنها زوج ذاك الصعلوك.

العراق

حللتُ بلاد كردستان وافدًا من تركيا، والناس هناك خليطٌ عجيب من الأرمن والكُرْد والعرب والشوام، في أشكالٍ قذرة ومظهر مخيف! فكأنهم جميعًا من قُطَّاع الطرق. وكانت تسترعي النظرَ الكرديةُ بعيونها السوداء البرَّاقة الواسعة، وأنفِها الأشم، وقامتها الطويلة، وشعرها الأسود الغزير، والنساء هناك يلبسن خِرَقًا مرقَّعة، ويُدلين من الصُّدغَين خصلتَين ثقيلتَين طويلتَين من الشعر، وتُربَط الجبهة بمنديل ملون وكأنهن «الغجر»، والبلاد يَظهر عليها الفقر والجوع بشكلٍ مخيف.

ثم نزلتُ على بلدة الموصل التي أذكرَتْني بهجير بلاد الهند، وعلى ضفاف دجلة كان يُلقي القومُ قُماماتهم وأقذارهم، وترى النساء يغسلن ثيابهن وبيد كلٍّ مِطرَقة لدقِّ الثياب، ومنهن فئة مِن عبَدة الشيطان، ومن عاداتهن أن تُقرَع الطبول عند زواج أي فرد منهم لإشهاد الناس أن فلانًا قد تمَّ زواجه من فلانة، وهم يُبيحون تعدد الزوجات، لكنهم لا يُبيحون الطلاق قط. ونساؤهم سافرات إلا في الأسبوع الأول من الزواج، حين تظل الزوجة في عُزلة تامة، والأمير يَستطيع بسُلطته أن يَسلب أيةَ فتاة شاء، ولا عيب على الفريقَين في ذلك. والشيخ هو الذي يقود الزوجة إلى بيت زوجها ليلة الزفاف، ولا تَخطو عتبةَ الباب إلا بعد ذبح شاة تطأ دمها وهي داخلة، ولتوثيق صلة الزوجية يَضرب الزوج جَرَّة (قلة) بها مجموعةٌ من أجراس في الحائط فوق رأسها، ثم يكسر رغيفًا ليُعلِّمها كيف تكون شفيقةً بالجائعين.

أخيرًا أقبَلْنا على بغداد من موردٍ مُتهدِّم مترب منفِّر، فكنا كأنَّا ندخل في قرية صغيرة، ووقفنا قليلًا على محطة «بغداد شرق»، ثم نزَلنا في «بغداد غرب»، فكانت مني خيبةُ أمل؛ لأني كنت إخالُ بغداد رائعةَ المناظر طليَّة البُنيان، تليق بعاصمةِ دولة ناهضة ذاتِ ماضٍ مجيد. نقلَتني عربةٌ واخترَقْنا الشارع الوحيد فيها، وهو شارع الرشيد الذي يَقطع البلدة من طرَف إلى طرف، وبه كثير من المتاجر ودُور الملاهي والمقاهي، مبانيه قديمة وفي غير انسجام، ولا تكاد الأبنية تعلو طبقتَين، وتمد على جانِبَيه الأعمدةُ على نحوِ ما تراه في شارع محمد علي بمصر، وفي جانبٍ منه وقف بي السائق أمام «نزل هلال»، وما كاد يستوي بي المجلس ويُخيِّم الليل حتى كان الفِناء الرئيسي للفندق، وهو الذي تُشرِف عليه كل الحجرات، مكانًا للغناء والموسيقى والرقص، مما أذكرني برَفَهِ بغداد إبَّان عزِّها البائد، وجال الفكرُ في ألف ليلة وما رُوي لنا من أعاجيب. نزلت فإذا المكان غاصٌّ بالمستمعين المترنحين والغانيات الجميلات وقد لَعِبَت الخمرُ بعقولهم، ثم خرجتُ إلى الطريق فإذا سيول من الناس في لهوٍ ومجون، رغم أن الهندام الشرقي العربي كان يتنافر مع كل أولئك.

figure
لا يزال نساء الإسرائيليَّات في بغداد محجَّبات.

وعند الأصيل يَدهش المرءُ لسيل المارَّة الدافق فوق القنطرة الرئيسية «أو جسر مود»، وجماهيرهم المتلاصقةُ الأكتافِ من نساء ورجال يَروحون ويَغْدون في نشاطٍ وحركة، كأن البلدة في يوم عيد، هنا يَعتقد المرء أن الشعب العراقي مَرِح، ميَّال إلى الرفه والمجون بشكلٍ يفوق كل وصف. وقد استرعى نظري جمالُ السيدات ورشاقتهنَّ، يسير السافراتُ منهن — وغالبُهن من اليهود — في هندامٍ أنيق، عليهن المعاطف المهفهفة تتدلَّى من فوق الرءوس وكأنهن يُفاخِرن بإزارهن هذا؛ فهو لا يقل ثمنًا عن عشَرة جنيهات، وللأغنياء بأضعاف ذلك، والمسلمات يسمونه «العبا» ويلبسنه حتى صغار البنات، وهو من حرير يُنسَج على اليد، وبعضه تتخلَّله خيوط الذهب. ويَلفِت النظرَ في نساء العراق شعورُهن المرسَلة الغزيرة التي تَزيدهن جمالًا، ويقولون إن الحنَّاء التي يَغسلون بها الرأس عند الاستحمام هي سبب ذلك، ولعلَّ نقطة الضعف في جمال النساء طول الأنوف ودقَّتها. ويندر أن ترى بينهم القامات الطويلة والأجسام الممتلئة السمينة بين كلا الجنسين، على أن منطقهم جميعًا منفِّر غير موسيقي.

figure
الأكراد في أردية الحفلات.

وبغداد كلها فيما عدا شارع الرشيد أزِقَّة نظيفة، أرضها مرصوفة، يتوسَّطها مجرًى صغير لصرف المياه. وتكاد الشُّرفات «المشربيَّات» المتقابلة تتلاصق فتَحجب الطريق عن الشمس والنور، والبيوت جلها في هندسة شرقية ذات فِناء سماوي تُطِل عليه نواحي البيت الأخرى، ويتوسَّطه حوضُ ماء، وأبواب البيوت مُثقَلة بالحديد والنحاس كأنها أبواب القِلاع في نظامٍ شرقي بحت، والنساء ذاهبات غاديات، وبعضهن يتجاذَبْن أطراف الحديث من النوافذ في جمالٍ فاتن ونغمات موسيقية ساحرة. هنا ذكَرت المجتمع عهد أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد، حين كان الرشيد يُنفِق على طعامه كل يوم عشَرة آلاف درهم، وعلى السماط ثلاثون صنفًا من الطعام تُقدَّم في أواني الذهب والفضة، وقد أقام وليمة لزبيدة كلَّفها خمسة وخمسين مليون درهم، وكان يُقدِّم للناس أطباق الذهب تُملَأ بالنقود الفضية، وأطباق الفضة تُملأ ذهبًا. وقد أثقل زبيدة بالحلي حتى إنها لم تَستطِع النهوض والسير خطوة، ولقد كانت زبيدة مُسرفة، ومن ذلك أنها صنَعَت بساطًا من الديباج جمَع صورةَ كل حيوان وكل طائر؛ الأجسام بنسيج الذهب، والعيون باليواقيت والجواهر، وقد كلَّفها مليون دينار، وكان ثمن ثوبها الواحد خمسين ألف دينار.

هنا ذكرتُ أيضًا البَرامكة وما وصَلوا من رفهٍ وسلطان؛ فقد كانوا أكثر ترفًا، مجالس الطرب في دُورهم كلَّ ليلة، والراقصات من الغواني أمثال «فوز، وفريدة، ومنة» لا يَغِبن عن تلك المجالس، وقد كانت تُعرَض الغانيات من كافة جهات الدنيا للبيع في سوق النخَّاسين، وكان الدلَّال يُنادي ويَصف الجواريَ ويُعدِّد في جمالهن ومحاسنهن، فساق الله عليهم زبيدة، وقد أسلم الرشيد لها كل شيء حتى ماليَّة البلاد، فأخذَت تُنفِق عن سَعةٍ وإسراف، فأحصَوْا لها أنها أنفقَت وحدها ثلاثين مليون دينار، وبنَت مسجدًا على دجلة باسمها، وأنشأَتْ عين زبيدة في الحجاز، وأوصلت ماءها إلى مكة وكلَّفَتها مليون دينار. وقد بلغَت مواردُ بيت المال في عهدها خَمسَمائة مليون درهم من فِضة، وعشَرة ملايين دينار ذهبًا، وهي أوفر ما حصل في دول الإسلام جميعًا. ولمَّا مات أبو جعفر قال للمهديِّ في وصيته: إنه خلَّفَ له من الأموال ما إن كُسر عليه الخراج عشر سنوات كَفاه لأرزاق الجند، ومصلحة البيوت، وغيرها.

خرجتُ يومًا إلى المقابر وزرتُ قبر زبيدة زوج هارون الرشيد، ويمتاز عن باقي القبور حوله بأنه نُحِت في مُثمَّن، تعلوه قُبة في شكل مخروط مجزع يسترعي النظر، وحولها مَدافن أخرى ممدودة، أهمها مدفن بهلول سمير هارون الرشيد، يَؤمُّه كثير من الناس وبخاصة السيدات يوم الأربعاء، دخلتُه فإذا في فِنائه عدةُ مبانٍ نموذجية صغيرة من القش والخِرَق، وتُسَد منافذها بالحنَّاء، منها واحد وُضِع داخلَه مهدُ طفل أقامَته سيدة عقيم لا تلد؛ رجاءَ أن يمن الله عليها بمولود، وآخر داخله سرير تَنام عليه دُمْيَتان متجاورتان وضعَته فتاة تطمح إلى الزواج، فإذا ما أُجيب السؤل ذهبَت صاحبة البيت وهدمَته وقدمَت القرابين.

figure
خير ما يُرى الجمال العربي الصميم اليوم في نساء العراق من المسلمات.

واليهود في العراق شرقيُّون في كل شيء؛ في الأزياء، والعادات، والخرافات، وحتى في الزواج؛ لا يخالط الفتى خطيبته ولا يَراها إلا يوم الاتفاق على المهر! والفتيات يتزوَّجن مبكرات بين الثانيةَ عشْرة والسابعةَ عشْرة، وفي الزفاف يحضر الحاخام (الربي) ومعه كأس يملأها نبيذًا يباركه، ثم يَشرب منه الزوج نصفًا والزوجةُ الباقيَ. وفي المآتم يحتشد أقارب الفقيد في بيته نساءً ورجالًا، ويَصيحون عاليًا، والجميع يَشقُّون ثيابهم حزنًا ويُلقون بالثرى على رءوسهم.

ولقد استرعى نظري في النجف كثيرٌ من الأطفال الذين يَلبسون في آذانهم حلقاتٍ خاصةً، هي علامةُ أنهم من ذرية زواج المتعة المنتشِر بين الشيعة، ففي موسم الحج إذا ما حلَّ زائرٌ فندقًا لاقاه وسيطٌ يعرض عليه أمر المتعة مقابل أجر معيَّن، فإن قَبِل أحضر له الرجلُ جمعًا من الفتيات لِيَنتقيَ منهن، وعندئذٍ يَقصد معها إلى عالِمٍ لقراءة صيغة عقد الزواج وتحديد مدته، وهي تختلف بين شهور وسنوات، والمهر نحوُ أربعة جنيهات للشهر، ولا عيب على الجميع في ذلك العمل لأنه مشروع، ولا يَلحق الذرية أيُّ عار مطلقًا. وعند انتهاء مدة الزواج يفترق الزوجان، ولا تنتظر المرأة أن تعتد، بل تتزوج بعد ذلك بيومٍ واحد، فإن ظهَر حمل فللوالد أن يدَّعيَ الطفل له ويأخذه من أمه إذا بلغ السابعة.

ويرى أهلُ السنة في ذاك الزواج وزرًا كبيرًا؛ إذ حرَّمه النبي ، وكان مُباحًا في الجاهلية وفي الحروب في الإسلام، ويَخال البعض أن مَنشأ تلك العادة بابل، يوم أن كانت الفتياتُ يُستأجَرن للحُجَّاج في معابد «أشتر ومردوك»، ولا تزال لها بقية في «عاهرات الإله» بين الهندوس كما سيَرد في الكلام على نساء الهند.

ولا يزال كثيرٌ من الناس يُسمِّي بلاد العراق ببلاد السحر؛ لأن خرافاتهم لا حدَّ لها رغم أن الإسلام محا منها الكثير، ومن ذلك اعتقادهم في الحسد وأثر العين الخبيثة، فبعض الناس حُسَّاد بفطرتهم، تُؤَثِّر عيونهم في الغير أثرًا سيئًا، ولو كان ذلك خارجًا عن إرادة أولئك الحساد، والويل لمن عُرف عنه ذلك، وكم من مرة طلَّق الزوج زوجته لاعتقادِه أنها حاسدة.

وهم يتَّقون العينَ بلبس اللون الأزرق وتعليق الخرز الأزرق في بيوتهم وزوارقهم وسيَّاراتهم. ويَظهر أن تلك العادة أثرَت حتى على بعض بلاد أوروبا؛ لذلك كنتُ أرى لون القيشاني بالمساجد جميعًا في لونٍ أزرق، وحتى السيدات يَحِكن في طرَف إزارهن بقعة زرقاء. كذلك كنت أرى كثيرًا من أبواب البيوت قد دُقَّ عليها حذاء قديم، وأنت تسمع دائمًا عبارة «ما شاء الله» يقولها الناس جميعًا. ويتركون عيون الأطفال قذرة وأرديتهم مهلهَلة مخافة العين، وقد تطوف الأم على سبع فتيات عذارى في بيوتهن، وتعطي كل واحدة قطعة من رَصاص تضعها في فمها وتَبصُقها بين ثوبها وجسدها حتى تسقط على الأرض، ثم تأخذها الأم وتَصهرها في روث البقر، ويُوضَع ذلك على رأس الطفل. وكثيرًا ما كنتُ أرى الطفل يُرسل شعره ويلبس لباس الفتيات خشيةَ أن يحسده الناس؛ لأن الفتيان مفضَّلون على الفتيات.

وكثيرًا ما يلجأ الزوج إلى «فتَّاح الفال»، فيكتب له ورقة يضَعها على رأسه ثم يقرأ تعاويذ، ويأمره أن يُذيبها في الماء ويشرب بعضه، ويحاول أن تشرب زوجته الباقي، ثم يعطيه بَخورًا يَحرِقه عند الغروب، وبعد ذلك تحبه زوجته. ورأيتُ رجلًا يغسل يده من دِجْلة ثم رمى فيه بيضة، وعقَّب وراءها بحجر؛ وذلك لكي يُحبِّب فيه مَن يريد من النساء. ولشفاء السعال الديكي الذي يُسمُّونه هناك «حميرة أو خنزيرة» تذهب الأم إلى بائع أحذية وتفاجئه قائلة: «يا كلب، سوي لي كلب؛ خاطر الكلب ابن الكلب.» فيسلخ لها قطعة جلد يحملها الطفل المصاب فيُشفى! وبعضهم يَسقي الطفلَ ماء ولَغ فيه كلبٌ أو خنزير. ويجب أن تحبوَ المرأةُ العقيم تحت جمل واقف لينفكَّ عُقمها، والمسيحية تركع تحت نعش في الكنيسة، وكل النساء من مختلِف الديانات يُعلِّقن خِرقًا حول مدفع قديم يسمونه «أبو خزامة»، رأيتُه عند القلعة القديمة في بغداد، وقد رأيت سيدة تضع رأس طفلها في فوهة المدفع ليعيش طويلًا.

وروى لي البعضُ أن سيدة من الأغنياء مرض طفلها، فلبست خرقًا مقطَّعة وخرجَت بها وهي عاريةُ الأقدام تستجدي من سبعة بيوت بقولها: «مِن بركاتكم.» وابتاعت بما تجمَّع لديها قطعةَ ذهب، وكتبَت عليها «يعيش»، ثم لبسها طفلها، وقد تستجدي من سبعة أطفال باسم محمد، ثم يُصهَر ما جُمِع ويُعلَّق في رقبة الغلام ليعيش طويلًا. وإذا خشيَت فتاة ألا تتزوج أدَّتْ فريضة الحج إلى الإمام الكاظم أربعين يومًا، تخرج كل يوم مبكِّرة عارية القدم ولا تُكلِّم أحدًا، وإذا وصلَت الضريح قرعَت بابه ونبَّهت الإمام أنها حضرَت إليه، وبذلك تضمن زوجًا سريعًا. كذلك يهتم فتياتُ العراق بأخذ نصيبٍ من الحلوى التي تُوزَّع في الأفراح ويأكلن منه؛ لأن ذلك يُعَجِّل بزواجهن. والشيعة يَعُدون الأيام الأولى من محرم شؤمًا؛ لأن الحُسين قُتِل فيها، وكذلك أيام صفَر لأن النبي مات فيه، ويوم السبت والخميس أسعد الأيام، وإذا القمر خُسِف في رمضان وجب إزعاج الحوت الذي يَقترب من القمر في زعمهم، وقد يَبتلعه؛ لذلك يَعمِدون إلى الطبول والصفائح يَقرَعونها إرهابًا له. وفي تقليم الأظافر يجب البدء بالخِنْصر، ثم الوسطى، ثم الإبهام، ثم البِنْصر، وأخيرًا السبَّابة، هذا في اليد اليمنى، أما في اليسرى فيُبدَأ بالإبهام، فالوُسطى، فالخِنصر، فالبِنصر، فالسبابة. وكثيرًا ما يَلجَئون إلى سيد من سلالة الرسول — حتى اليهود والمسيحيِّين — لطرد الجن من الأطفال. وأكل قلوب الصبية الصغار شفاءً لبعض الأمراض؛ لذلك يحاول الكثيرُ اختطاف الصِّبية وقتلهم لهذا الغرض، ويعتقدون أن الجن قد يُحب فتاة آدمية، قد يُناديها فتقوم وراءه ليلًا إلى سراديب الدار ثم تعود. والجن في زعمهم لا يتعرض لمن يَحمل طفلة صغيرة بأذًى قط؛ لذلك لا تَجرُؤ امرأةٌ أن تمر في مكانٍ مظلم موحش إلا وهي تحمل طفلة. والبيوت لا تُسكَن إلا إذا شاع عنها الخير، وقد يبقى البيت الجديد طويلًا دون أن يستأجره أحد خشيةَ أن يكون مَجلَبة للنحس. وكثيرًا ما يسمون الأطفال: «مش عاوز»، أو «وحش»، أو «حصبة»؛ خوفًا عليهم. وإذا سقط إناء ولم يَنكسر وجب كسرُه وإلا كان شؤمًا! وإذا طارت بومة فوق النائم صاح قائلًا: «ملح وسكين»، وإلا حلَّ النكد لا محالة. ومن أمثال تلك الخرافات شيء لا يُحصى، ويخيَّل إليَّ أن كثيرًا من خرافاتنا وصلَت إلينا عن طريق الجزيرة وبابل وما فيها من تخمين وأوهام وسحر، وللنساء هناك النصيب الأكبر في التمسُّك بكل أولئك؛ لِمَا عُرِف عن المرأة من الرجعية والتمسُّك بالقديم.

figure
مثل من الجمال الإسرائيلي في بغداد.

إيران

قمتُ إلى بلاد إيران، وما كاد الأصيل يُقبِل وأنا في كرمان شاه، حتى أدهشَني جمال السيدات يَسِرن نصف محجَّبات، يلبسن إزارًا شبيهًا بإزار أهل العراق، ولكن النقاب شبكة من قماشٍ أسود مقوًّى تقف مائلةً أمام الوجه، وجمالهن فائق لولا طولُ الأنوف وتحديبُها، وهن أكثرُ حرية من نساء العراق.

أخذتُ أتجول في القسم المستحدَث من طهران، وهو جميل، طرقه فسيحة يُجانبها الشجر، وتجري إلى جوارها قنوات الماء، وتقوم عليها المباني الوطيئة. وهناك بعض متنزَّهات لا بأس بتنسيقها، تكتظُّ بالمتريِّضين في كثرةٍ هائلة، ومن بينهن كثيرٌ من الأرامل طالباتِ زواج المتعة، ويَغلب أن يَكُنَّ من الفقراء، يقصد الرجل وإيَّاها إلى الفقيه العالِم، مُعلِنين إيَّاه أنهما يُريدان زواج المتعة، أو «الصيغة» فيُقِرُّهما، ويُعَدُّ الأمر بعد ذلك مباحًا.

figure
الآنسة «مجر»: ملكة الجمال في إيران لعام ١٩٣٥.

وملاهي القوم مقصورة على المقاهي ودُور السينما، أما الراديو والتمثيل والمراقص فنادرة. وموسيقاهم شرقية بحتة، وهي أقل تشذيبًا من الموسيقى التركية، وأحَبُّ الغناء ما كان صيحات، أشبه بأغنية الفلَّاح المصري وهو يَسقي زرعه بالعود في صعيد مصر، وغالب الأنغام من نغمة «العجم»، مما يؤيِّد أن هذه البلاد هي أصل تلك النغمة. وأحبُّ الآلات الموسيقية لديهم عود يسمونه «تارة» ذو أربعة أوتار مزدوجة من السلك الرفيع، ولا تُشَد عاليًا، ورقبته بالغةُ الطول، وهي مقسَّمة بأربطة، وبطن العود «القصعة» دقيقة الوسط منتفِخة الجانبَين، وهي أصغرُ من «قصعة» عودنا، ونغمته مُطربة «بين المندولين والطنبور»، والدفُّ والنايُ مستعمَلان بكثرة، والكمان على قلَّة.

figure
مثال للجمال الفارسي.

وحول بحر الخزر كان القوم يستأصلون الأحراش من مساحات يزرعونها من الأرز والطباق، والعمل يقع كله على السيدات اللائي كُنَّ يَظهرن في ملاءاتٍ بيضاء ناصعة. وقد استرعى جمالُهن نظري؛ فهو مُخالف للسِّحَن الفارسية، ويظهر أن اختلاط الروس بالفُرس هنالك أكسبَ أولئك جمالًا عالجَ كبر الأنف الفارسية، وأشربَ اللونَ الفارسي الأبيض الناصع بعضَ الحُمرة الروسية الجذَّابة. والناس في تلك الجهات يَمونون أنفسهم بكل شيء من عمل أيديهم، وحتى الملابس ينسجونها، ويُربُّون دود القز.

وقد مُدَّت على شاطئ البحر الحدائقُ والمقاهي، فكنتُ وكأني في إحدى مدن الرفييرا تمامًا، وفي الحق أن تلك الجهة من فارس فريدة تختلف عن سائر جهات فارس في كل شيء؛ في طبيعة الأرض، وفي الجو، وفي النبت، وحتى في سكانها، فهم أكثر نشاطًا وجمالًا.

والسمك غذاء رئيسي للناس، فهو والأرز عماد الطعام، وكان لهما أثر حسن في أجسامهم؛ فهي هناك ممتلئة عن سائر جهات فارس الأخرى، إذ لم أعثر على القامات الطويلة والأجساد السمينة إلا في تلك الناحية من بلاد فارس كلها.

figure
يحتفل النساء والرجال بعيد الميلاد في سفح جبل دماوند.
figure
الموسيقيَّات المتجولات في إيران، والجالسة تعزف على التارة، أحب الآلات عندهم.

أصبحنا يوم الجمعة، والجو جميل والسماء تنتثر بالغيوم المتقطعة، وقد أمضينا ليلتنا في نزُل «سافوي» في رشت، وهو يُطِل على ميدان البلدة الجديد الذي تمتد منه الطرق المستحدَثة البديعة وتزينه المتنزهات، والمنظر من شرفة المنزل رائع؛ السماء تنقشها الغيوم، والخُضرة تمتدُّ إلى الآفاق، والمباني حولنا فاخرة، وجماهير الناس في أنظف ثيابهم؛ لأنه يوم الجمعة، يوم الراحة القومية، يَروحون ويَغدون في كثرةٍ تسترعي النظر، ولا يخلو الجمع من طائفتين؛ الغانيات في إزارهن الأسود المهفهف، والمتسوِّلات اللائي يُمسكن بتلابيبِك ويَصِحنَ في نغمة البائس المتماوِت قائلات: أرباب … أغا … وأكفُّهن مبسوطة، وكثيرٌ منهن ممن يَظهر في هندامٍ نظيف ووجهٍ مُشرق، مما أثبتَ أنهن على شيءٍ من اليسار.

figure
فتاة من بدو إيران تزوَّجَتْ ولمَّا تبلغ السادسة عشرة.

قُمتُ إلى أصفهان، ولن أنسى جولتي في «خيابان جهار باغ»، أعني: طريق الحدائق الأربع، وهو في امتدادٍ عظيم، واستقامة تكاد تشقُّ المدينة كلها، وتعبر النهر وتمتد إلى ضاحية «جلفا»، وكأنه ثلاثة طرق متجاورة؛ الأوسط الفسيح تَحُفُّه أشجار الشنار الهائلة، وهي مُتجاورة تكاد تُظِلُّ الطريق كله، يُجانبه طريقان آخران أقلُّ سَعة، وبينهما وبين الإطارَين شجرٌ يُماثِل الأوسط، وفي مجاورة صفوف الشجر مَجاري المياه المألوفة في بلاد فارس كلِّها، وهي مُستراضُ الناس طيلةَ اليوم، وبخاصة عند الأصيل حين يغصُّ بالغانيات.

وفي إيران إذا ما بلغ الغلامُ السادسة عشرة حلَّ ميقات الزواج، وقلَّما تجد رجلًا أعزب هناك. ومن عاداتهم التي لا يَكادون يَحيدون عنها: قَصْر الزواج على أبناء العمومة والخُئولة من العائلة نفسِها، وعدم مصاهرة العائلات الأخرى؛ وذلك لكيلا تخرج ثروة العائلة عنها، ولأن الأقارب في نظرهم أكثرُ محافَظةً على الوُد، فلا يُثيرون متاعبَ للأمهات، على أن ضرر تلك العادة كبيرٌ من الناحية الصحية؛ لأن ذلك يُضعِف النسل تدريجيًّا. وحفلات الزواج شائقة جدًّا، فالزوج يقدم الهدية من «صينية» عليها زُهاء مائة نوع من العقاقير، وكذلك يُقدِّم مِرآة وقماشًا أبيضَ لتُغطَّى به العروس ليلة الزفاف، كذلك بعض الشمعدانات (ماثلات)، والأحذية، هذا خلاف الحلي، ويقوم أهل الزوج في حفل للقاء أهل الزوجة الذين يَفِدون في حفلٍ إلى بيت الزوج ويُرحِّبون بها، وهنا يُلاقيها الزوج نفسُه ويُزيح عنها قِناعها، ثم يَجلسان لتناول الطعام الذي أعدَّته الزوجة، ويحاول كلٌّ منهما إطعامَ الآخر بيده، ولا تنطق الزوجةُ بكلمة حتى يُقدِّم لها هدية من حلي، والعادة أن تملأ العروس يدها ببعض الخبز والملح عندما تدخل بيتها الجديد لأول مرة تفاؤلًا. وهم يفرحون لميلاد الذكور ويُقيمون الحفلات، أما ميلاد البنات فيُقابَل بامتعاضٍ شديد، وقبل الوضع تُعِدُّ الأم سريرَين للطفل، أحدهما فاخر يُكسى بأثمن الفرش، والآخر بسيط رخيص، وتُجهِّز حُلَّتَين؛ إحداهما من حريرٍ فاخر، والأخرى من قطن، فإن كان المولود ذكرًا تمتَّع بالأشياء الثمينة، وإن كانت أنثى خصَّها النوع الرخيص البسيط!

figure
بدو الصحراء من الإيرانيِّين في سُويعات اللهو.

ويؤمُّ النساءُ هناك الحماماتِ العامةَ بكثرة، وهي أشبه بأندية للسيدات يتلاقى فيها الصحاب، ويُمضين سحابة اليوم في جوِّها البخاري الدفيء ويتبادَلْن الطعام، ويُحضِرن معهن الوسائدَ الفاخرة من الحرير وصناديق التواليت الثمينة. وعند تناول الحمام تجلس السيدة في طَسْتٍ من نُحاس أصفر، ويُدعَك جسدها كله بمسحوقٍ كالتراب، ثم تنزل في حوضٍ من الماء الساخن، وفي غرفة مجاورة تُكرِّر هذا في ماء بارد، ثم يُجفَّف جسمها ويُدعَك ويُدلَّك طويلًا، أما شعرها فيُصبَغ بمخلوط الحناء والنيلج، وتُكحَّل العيون والحواجب والأظافر بالحناء.

أفغانستان

figure
تلك العجوز قد أضافتنا في طريقنا إلى أفغانستان، وهي تُعِدُّ الفطير بيدَيها.

أما نساء أفغانستان فمُحجَّبات لدرجة مُبالَغ فيها؛ فالإزار الخارجي يَحكي «الكيس»، قد زُرَّ عند الرأس بحيث يُلبَس فيها، وهو فضفاض من أسفله، وأمام العينَين قطعة منه مُثقَّبة بخروقٍ للنظر والتنفُّس، وتحت الإزار سروال أسودُ سميك يتدلَّى إلى الحذاء ويُربَط فيه، فترى السيدة تمشي وهي تدبُّ دبيبًا في كتلةٍ واحدة تسترعي النظر، وبقدر ما رأينا من إباحة من قبلُ كانت الرجعية هنا في أشدها؛ لأن غالب القوم هنا سُنيُّون يمقتون الشيعة وتصرفاتهم.

figure
آنسة من الأفغانيَّات المسلمات في سن الزواج.

والحالة الاجتماعية تُثير الدهشة، فرغم الحجاب الذي يحوط المرأة فإن الفساد منتشرٌ سرًّا، والأمراض السرية شائعة، والعجيب أن ذلك يقع رغم إقامة الحدود، فإذا ثبتَت جريمته بشهادة ثلاثة شهود، أو واحدٍ يُزكِّيه اثنان محترَمان، أُلقيَ الجاني علانيةً من فوق قلعة البلدة إلى الأحجار المتراكمة من دونها، مسافةً لا تقل عن خمسة وعشرين مترًا، ويغلب أن يموت، والزانية توضَع في كيس يحوطه الجند، ويُؤمَر المارَّة برجمها إلى أن تموت.

ويَلحَظ الزائر الفرق الشاسع في أجسام الناس في تلك البلاد، فهي ممتلئة، تبدو عليها علائمُ القوة والصحة، عكس أبناء فارس النحال الهِزال من سوء التغذية.

ثم كان وقوفنا وسط القفار والجبال إلى جوار رهطٍ من البدو، ضرَبوا خيامهم بجانب الطريق يجاورهم مَجرًى للماء، فأحاطوا بنا، وسرعان ما أحضَروا خيمة أقاموها للنساء مِن رَكْبنا، ثم دعَوا فريقًا منَّا لزيارة خيامهم، وكانت الداعية هي رئيسةَ القبيلة، عجوز شمطاء قد أحنى ظهرَها كَرُّ السنين، وقد بدا لنا أنها صاحبة الكلمة النافذة في كل مَن حولها.

figure
الحجاب في أفغانستان كامل هكذا.

جلسنا وسط الخيام، وكان عددها يُناهز العشرين أُقيمَت في شكل هلال، وأخذنا نسمع جلَبة في داخلها وحركةَ اهتمام بأمرنا، وبعد قليل قُدِّمت لنا «قَصْعة» مُلِئَت من فطيرٍ صُبَّ عليه المَسْليُّ في كثرةٍ عافَتْه نفسي، وإلى جانب ذلك كثير من الرقاق وكعك أسمر، تُعْوِز كلَّ أولئك النظافةُ، ولم تكَد النفس تُسيغ الأكل لولا أنه فُرِض علينا، وكم تعثَّرَت أسناني في الحصى والأوساخ، هذا إلى قذارة يد العجوز التي كنتُ أراها تكنس الأرض بها وبين آونةٍ وأخرى تَمخُط فيها، ثم أعدَّتْ لنا بعض الفطير بنفسها. وقد تبيَّن لنا أنهم فقراء مُدقِعون، فأدهشَنا هذا الكرم الذي لا يُفارِق البدو حتى في بلاد الأفغان. وبعد أن أكلنا نحن الأضيافَ نُقِل الإناء إلى العجوز بجوارنا، فأكلَت منه قليلًا ثم سلمَت ما تخلَّف لرجال القبيلة، فأكلوا جانبًا منه، وما بقي بعد ذلك حُمِل إلى النساء داخل الخيام. وأكثر من ثلث سكان الأفغان من هذا الفريق المتنقِّل، الذين يَرحلون بقُطعانهم من الإبل والحمير والخيل والأغنام.

الهند

لعلَّ مستوى الهندية لا يَزال في أدنى الدرجات رغم الجهود العظيمة التي عُمِلَت لتحسين حالها، ويرجع ذلك إلى شدة إخلاص النساء هناك لقيود الدين، وبخاصة الدين البرهمي الذي لا يَقوم إلا على نظام الطبقات؛ فسلطان الرجل سائدٌ على المرأة في جميع الطبقات، وحتى طبقة «البرهما» أرقى الطبقات لا تُبيح لها أن تشترك في الحفلات ولا في الصلَوات، وهم يُبغِضون ميلاد البنات ويحتقرونه، وقد يَنجُم عن ذلك أن يتخذ الرجل له زوجة أخرى، وتعدد الزوجات شائع جدًّا خصوصًا بين الأثرياء. وقد تُخطَب الطفلة لغلامٍ تتزوج منه إذا بلغَت الرابعةَ عشرة، وكانت من قبلُ تتزوج في طفولتها، لكن القانون حدد منذ سنة ١٩٣٠ السن الأدنى للزواج بالثامنةَ عشرة للذكور والرابعة عشرة للإناث، على أن الأبوَين لا بد أن يُتِمَّا الخطوبة قبل بلوغ البنت الحلُم، ويجب أن يكون الزوجان من طبقةٍ واحدة، والمرأة التي تتزوج من طبقة أدنى من طبقتها تُصبح من المنبوذات، وتلك نكبة دونها نكبةُ الموت. والفتاة محظورٌ عليها التعليم، على أن الفتاة تجد في الزواج بعض الحرية عن بيت أبيها، خصوصًا إذا لم يكن للزوج أم، وعندئذٍ تصبح سيدةَ البيت وكلمتها تنفذ على الرجل، حتى جرى المثل على لسانهم: «بأن الرجل سبع خارج المنزل، وابن آوى في داخله». وأول عمل للمرأة الهندية في الصباح أن تَغتسل ثم تلبس ملابسها، وتضع الطابع الذي يميز طبقتها فوق جبهتها، ثم تَشرع في تنظيف أجزاء المنزل التي لا يصح للخدم من الطبقات الدنيا أن تمسَّها مخافة أن تدنسها، كذلك تقوم بتنظيف الأواني، ومهما بلَغ من سعادتها لا يصح أن تُغنِّي أو تُصفر أو ترقص؛ لأن ذلك يَنال من هيبتها. وهي قسيس الدار، تَصرف وقت فراغها في تلقين أطفالها أصول دينهم، والعجيب أن المرأة ترحب بالزوجة الثانية التي يَتخذها زوجها؛ لأنها ستجد منها رفيقًا يُخفف من ألم عزلتها، أما الغيرة على زوجها من ذلك فلا تجد إلى نفسها سبيلًا، فالمفروض وفاء الزوجة التامُّ لزوجها، أما هو فلا يُطالَب بالوفاء لزوجته. وتَدهَش إذ تعلم أن نساء الطبقات الدنيا أكثرُ حرية واستمتاعًا من نساء الطبقات العليا، وبخاصة الفقراء؛ لأن حالتهم لا تسمح بتعدد الزوجات ولا باتخاذ عاهرات الآلهة Nautch girls أو دفاداسس، أو حيازة الخادمات، ويُعنى الفقير بزوجته ويُنفِق ما يَدَّخر من دخله على تزويدها بالثياب والحلي، وكثيرًا ما ترى المرأة يُثقلها الحليُّ وهي من بين أفرادِ طبقة دنيا، وعاهرات الإله فئةٌ من الراقصات والمغنِّيات يهَبُهن آباؤهن للمعابد وهن صِغار، وإذا بلغن الحلم استأجرَهن الأغنياءُ فتراتٍ معينة بعدها يرجعن إلى المعبد، وفي المواسم يتخذهن الحُجاج والزوار محظيَّات إلى حين، ويتقاضى أجورَهن القسيس مقابل تربيتهن، وإذا حملَت الفتاة أنثى سارت سيرةَ أمها، وإن خلَّفتْ ذكرًا أضحى من خُدَّام المعبد، ولا عار في ذلك، وكم من عائلات عريقة وهبَت بناتها للمعابد لتقوم بتلك الخدمات! وكثير من الهنديات يجدن في ذلك مُرتزَقًا لهن، ويُجِلهنَّ الناس جميعًا. ومن أعجب ما ترى في بعض المقاطعات مثل: «ترافانكور، كوشين» أن الميراث يُنقَل إلى فرع النساء لا الرجال، والعرش نفسه لا يُنقَل من الرجل إلى ابنه، بل إلى أكبر أولاد أخته.
figure
آية من آيات الجمال البرهمي الهندي، وهن محجبات يقضين جلَّ حياتهن بين جدران منازلهن.

وأول ما استرعى نظري وأنا أركب البحر من جزيرة سيلان إلى الهند: منظر غني خِلْته سيدةً بادئ ذي بدء؛ لأنه كان يتدثَّر بملاءة بيضاء فضفاضة، ويتزيَّن بالخواتم الجميلة الثقيلة في جميع الأصابع، وفي يدَيْه السِّوار العريض، وفي آذانه قُرْط لامع، وفي رقبته عِقْد خاطف، وكان يتهادى في مِشيته وكأنه الحسناء. ويحاول الجميعُ التزيُّن ما استطاعوا رجالًا ونساءً، وتَزيد زينة النساء بلبس الخواتم في أصابع القدم كلها، وبوضع قطعة من الفضة في جانب الشفَة وأخرى في جانب الأنف، ولقد رأيت إحدى السيدات الغنيَّات تسير عارية القدم ومن حولها الخدم حتى ركبَت عربتها الخاصة. ولقد تعبتُ جدًّا في البحث عن مسَّاح للأحذية، فلم أجد رغم كثرة أبناء السبيل والعاطلين. والنساء سافرات وليس في وجوههن مَسْحة من جمال، وتتنوَّع أزياؤهن، لكن غالبهن يتركن الجزء الأعلى من الجسم عاريًا، أما الأقدام فعارية على الدوام.

figure
فتاة من البرهما، وهي أسمى طبقات الهند مكانًا.

وعندما حللتُ مدارس معقل الدين البرهمي لمستُ مبلغ سلطان القسس على أذهان الناس، وبخاصة النساء منهم، يتقاضَون ضرائبَ من الناس جميعًا في مناسباتٍ شتَّى، من بينها: ميلاد الطفل؛ مخافة ألَّا يطول عمره عندما تكون سنه ١٦ يومًا، حين يَغتسل بالماء المقدس، وعند تسميته، وعند حلق شعره، وفي تمام الشهر الثالث، وعند بَدء تناوله للطعام في الشهر السادس، وعندما يبدأ المشي، وعند تمام السنة، وفي نهاية السابعة حين يبدأ تعليمه، وهنا يَكتب له البرهما بالذهب على عصَوَين يُمسِك بهما في يدَيه، ثم يأخذهما فيما بعدُ لنفسه، وعند عقد الزواج، وهنا تُدفَع له مبالغُ طائلة، وعند بلوغ سن الرشد، وعند حدوث خسوف أو كسوف، وعند الموت حين يحضر ليبارك الجثة، وعند حرق الجثة، وبعد ذلك يُولِم ابن المتوفَّى للبرهما وليمة كل شهر لمدة عام، وتُقدَّم الهدايا والملابس إلى جانب الطعام، وبعد ذلك يُكرِّر هذا مرةً كل سنة حتى يموت الابن! كل تلك حقوق للبرهما واجبة الأداء وإلا خسر الجنة! هكذا كانت قصةُ هندي متعلِّم لي، وكان يَرويها وهو فَخور بدينه. ومما أثار اهتمامي الزوجات الصغيرات اللاتي كُن يحملن أطفالًا نِحالًا لا يَزيد وزن الواحد على أربعة أرطال أو خمسة، وكنتُ إخالهن يحملن إخوتَهن لا أبناءهن، لكني دُهشت لما علمتُ أن زواج البنت يبدأ من سن الثامنة، فإن تأخَّرَت إلى الثانية عشرة عُدَّ بقاؤها عارًا لا يُمحى، ودلَّ على وجود عيب فيها؛ ولذلك لم يكن عجيبًا ما يبدو من جسمها الضئيل وبِنْيتها الضعيفة، لصِغَر سنها ولأنها من سُلالة ضعيفة مثلها، أما الزوج فقد يكون طفلًا مثلها، وقد يكون كهلًا أنهكَت السنون قواه، وفي الحالتين هو غير صالح إلا لإنتاج نسلٍ بائس ضعيف، وهمُّ الزوجين أن يخلفوا من الأبناء ما استطاعوا، وبخاصة الذكور.

والأم لا تجد لها حديثًا أمام أطفالها إلا ما يتعلق بالزواج، فتُنشِّط بذلك الميول الجنسية بين الأطفال وتفسد أخلاقهنَّ عاجلًا، وهذا يُخلِّف أثره السيِّئ في قوى النشء العقلية والجسمية. والزواج المبكر عند الهندوس واجب؛ لأن فيه عصمة من الأمراض وتعجيلًا بالخلف من الذكور، ذاك الذي يَعُده الآباء شرف العائلة.

figure
إحدى الراقصات في أرديتها الفضفاضة.

وقد نسي القوم الأثر السيِّئ لذلك في إضعاف الذرية وإنهاك القوى الحيوية؛ ولذلك ليس بعجيبٍ أن تَرى الهندي فاقدًا لتلك القُوى عند بلوغه الثلاثين كما أثبت الإحصاءُ الطبي ذلك؛ ولهذا لجأ الكل إلى تناول سموم المخدرات «خصوصًا الحشيش والأفيون» والمقويات التي يُعلَن عنها في جميع جرائدهم بشكلٍ فاضح مُخجِل، حتى إن الحكومة كثيرًا ما تُصادر بعض الجرائد لجُرأتها على هذا النوع من الإعلان، وكثيرًا ما كنتُ أرى من المدمنين على تناول الأفيون والحشيش، يركنون إلى الجدران في كل مكان بشكل قذر خامل، وكأنهم الذباب.

figure
عجوز وشيخ وفتاة من سكان هملايا.
وكثيرٌ من النساء هناك عقيمات، وقد أيَّد البحث أن ذلك راجع إلى ضعف قوى الرجال من جهة، وإلى تشويه الرحم من أثر الزواج المبكر من جهة أخرى، وكثيرًا ما يلجأ الرجال إلى المعابد فيُرسلون إليها زوجاتهم بالقرابين كي يمن الله عليهن بالحمل، وفي العادة تظل المرأة هناك أيامًا، فينوب القسيس عن الإله ليلًا فيبارك المرأة وتعود وهي حامل. ولعلَّ أسوأَ نتائج هذا الزواج المبكر تقصير العمر خصوصًا بين النساء، وكثرة الموتى من الأطفال، فمتوسط العمر في بلاد الهند ٢٣ سنة، ويموت من الزوجات في كل جيل مليونًا، تسعون في المائة منهن بسبب الْتِهاب الرحم.
ومن العادات العجيبة أن الآباء قد يهَبون المولود القادم للآلهة ابتغاءَ مرضاتها، فإذا كانت أنثى سُلِّمَت لنساء المعبد، وإذا شبَّتْ عُلِّمَت الغناء والرقص، وإذا ناهزَت الثامنة أضحت خليلةَ أحد القسُس، وإذا ملَّها أضحت راقصة المعبد، وفي مواسم الحج يستأجرها بعض الحجاج، فإذا ما ذبلَت محاسنها يمنحها المعبد جُعْلًا صغيرًا، وتَترك المعبد، ولا يَرى أهلها في كل ذلك معرَّة؛ لأنها اكتسبت اسم (عاهرة الإله Devadassis)، وهؤلاء من مستلزمات المعابد كلها.
ويوصي الدين البرهمي بأن الزوج إلهُ الزوجة في الأرض، خُلِقَت لسروره وخضعَت له مهما فسد جسمه أو خُلقه أو عقله، ولا بد أن تُطيع حَماتها، ويا ويلها إن لم تُعقِب طفلًا أو عقَّبَت أنثى، فلها أن تستعبدها عندئذٍ؛ لذلك كان عدد المنتحرات بين سن ١٤، ١٩ مروِّعًا، وإذا مات زوجها حتَّم الدين أن تُحرَق جثتُها معه suttee، وإلا كانت موضعَ اللعنات، ولم يُبَح لها شيء من السرور ولا تتزوج ثانيًا، بل تحلق رأسها وتقصد أحد المعابد لتظل فيه أيامها الباقية، ويجب ألا تظهر كثيرًا أمام الناس لكيلا يُؤثِّر فيهم نَحسُ طالَعِها. وفي إحصاء سنة ١٩٢٥ بلغ عدد الأرامل في الهند ٢٦٨٤٣٨٣٨ وبمجرد شعور الحامل بألم الوضع تُنبَذ في غرفة ضيقة مظلمة، ولا يَقترب أحدٌ منها قط لأنها أصبحت نجسة، وفي الحال تأتي المولِّدة (الدَّاية)، وهي من الطبقات النجسة البائسة، فترتدي أقذرَ أسمالِها وتَسُد المنافذ وتَحرق الحطب؛ لأن الدخان والحرارة تساعد على سرعة الوضع، وإذا دخَل الغرفةَ غريبٌ أحرقَت بَخورًا مُنتِن الرائحة لمنع أثر العين الخبيثة، وتباشر عمليَّتها بأيديها القذرة، وتحاول إخراج المولود بالقوة، وتُشبِع الأم لَكْمًا بالأيدي والرأس، وقد تَطرحها أرضًا وتمشي على بطنها، وتضع في الرحم كُرات من مواد حِرِّيفة وقِطَعًا من شعر الماعز وأذناب العقارب وجلود الأفاعي وما إليها! وإذا تمَّ الوضع لا تجرؤ المولِّدة أن تقطع الحبل السري؛ لأنه من عمل امرأة أخرى أحطُّ درجةً من المولِّدة، فتنتظرها حتى تجيء. أما الطعام فيُمنَع بتاتًا عن الأم بين أربعة أيام وسبعة، ويظهر أن السبب الأصلي ألا تُصاب أواني المنزل برجس. وكثيرًا ما تتعسَّر الولادة بسبب ضيق عِظام الرحم نتيجةَ الزواج المبكر فتموت الأم، فإذا رجَّحَت المولِّدة موتها عجَّلتْ بتكحيل عيونها بمسحوق الفلفل لكي تَعمى الروح فلا تستطيع الخروج، وقد تَمد ذِراعَيها وتدق مِسمارًا يُثبتهما في الأرض؛ لكيلا تستطيع الروح التجوُّل في المنزل ومضايقة الأحياء!

وفي ناحيةٍ من كل معبد محرق الجثث، وهو بسيطٌ من الأرض تتوسَّطه حفرة مستطيلة في شكل الجسم، ويُبطَّن أسفلها بالخشب، وكنا نرى إلى جانبه جثةَ سيدة لا بأس بملامحها، وقد خُضِّبت قدَماها ويداها وجبهتُها بالحِنَّاء، ودُثِّرَت رداءً أحمر، وعَلِمنا أن هذا دليلٌ على سعد طالعها؛ لأنها ماتت قبل زوجها ولم تُصبِح أرملةً بائسة، وكان يَحوطها جمعٌ من أقربائها وبعضُ النائحات المأجورات وجمهرةٌ من المتسوِّلين، وسرعان ما حُمِلَت الجثة ووُضِعت على الحطب، وكُدِّس فوقها حُطام الخشب، وهنا تَقدم أقرب الناس إليها، وكان ابنها، وأمسَك بشُعْلةٍ وطاف حولها سبعَ مرات، ثم ألقى الشعلة على كومة الحطب، فالتهمَت كل شيء ما خلا جزءًا من عظْمة القص، وتلك الْتقَطها بعضُ القسس ووضعها في كرةٍ من طين إلى جانب قطعة من ذهب قدَّمها أهل الفقيدة، وألقاها القسيس في النهر أسفل المكان، وهنا كنا نرى جماهير الناس يغتسلون في مائه ليَطَّهَّروا من ذنوبهم، وكان بعضهم يغترف من الطين ويفحصه؛ عَلَّه يعثر على بعض القطع الذهبية التي تُلقى في النهر مع بقايا الموتى، ومن الناس من يَغسل الجديان قبل تقديمها للإله، ومنهم مَن يملأ أوانيَ من ماء النهر المقدس لِيَصبَّه على قدَمَي الإله قالي داخل المعبد، فيَسيل إلى عين يتلقَّف الماء منها جمهورُ الزائرين ويَحتسونه تبرُّكًا على ما به من أوضار، وهم يُؤْثِرونه على ماء النهر؛ لأن أقدام الإله قد زادَته طهرًا. ومما زاد المنظرَ قذارة أن غالب عباد «سيفا وقالي» من الطبقات الفقيرة، أما الأغنياء فإلههم «فنشو»، وله معابده الخاصة.

figure
فتيات المعابد (أو عاهرات الإله) اللاتي يُسرِّين عن الحُجَّاج.
figure
نساء المنبوذين في ميسور من الهند.

وفي بنارس كعبة الهندوس أذكر موقفي المزعج، تَحوطني خمسُ جثث بعضها لسيدات أُلْبِسن أقمشة ملونة، والبعض للرجال في أردية بيضاء، وبعد أن دُهِنت الجثث بالمسْليِّ غُمِرَت في النهر، وبعد تغطيتها بقطع الخشب تقدَّم أقرب الناس من كل جثة بشُعلة نار وطاف حولها سبع مرات، ثم أخذ يُشعِل النار في أركان كومة الخشب، فتصاعد الدخان وعبَّقَت الجوَّ رائحةُ اللحم الآدمي تأكله النيران، وكان يُحاول كلٌّ جهدَه ألا تُطفَأ النار قبل تمام إحراق الجثة، وإلا كانت تلك وصمةً مُخزية للفقيد وعائلته. وبعد تمام الاحتراق ينفض الواحد ما بقي من الرماد إلى النهر؛ كي تتم سعادة الفقيد، على أنَّا كثيرًا ما نرى الكلاب تحوم حول الضفاف فتَلتقط قطعًا من اللحم الذي لم يتمَّ حرقه، وكنا نرى جثث الأطفال طافيةً بين جماهير المستحمِّين؛ لأن الدين يُحرِّم إحراق جثث الأطفال ويأمر بإلقائها في النهر المقدَّس كاملة.

figure
عروس سنهالية صغيرة في كامل زينتها، وتقرأ في وجهها الملامح العربية.

منظر مُفزِع وقفتُ في جنباته ساعة وأنا لا يَكاد يستقر بي المكان خوفًا وجزعًا، وكنت أشتمُّ شيئًا من الرائحة العطرة التي عَلِمتُ أنها لبعض الأغنياء الذين يَحرقون موتاهم بخشبٍ ثمين، كالصندل والعود وما شاكلَهما.

وقد ألفت نظري وأنا في بُمباي زيُّ السيدات، وقد بدَت الألوانُ الزاهية الصافية في ملاءاتهن، وكثيرًا ما كنتُ أرى جمهرة منهن يَسِرن جماعات، كلٌّ منهن في لونٍ خاص كأنهن قوس السماء يتحرك في بريقٍ ورُوَاء.

والنساء خليط عجيب لا أول له ولا آخر، بوجوههن الممطوطة، وأجسامهن الهازلة، وألوانهن السمراء القاتمة. أما الأزياء فمدهشة في تنوُّعها وألوانها، وبخاصة إذا كُنَّ من الطبقة الممتازة، فكلها من الحرير المهفهف، هذا أحمرُ قانٍ، وذاك أخضرُ زاهٍ، والأخر أصفر فاقع، والرابع أبيض ناصع، وتلك أجمل ظاهرة تسترعي النظر في بُمباي. أما السِّحن فلا تكاد تَلمح في إحداها مَسْحة من جمال قط، فهنَّ أمعنُ قبحًا من الرجال، فكأن الطبيعة بقدرِ ما أسرفَتْ في جمال نَباتها وحيوانها اجتزأته من وجوه نسائها. على أن تقدير الجمال نِسبي على ما بدا لي؛ لأن أحد رُفقاء الباخرة من الهنود ألفَتَ نظري إلى سيدة قال بأنها آية في الجمال، فخِلْته هازلًا لا جادًّا؛ لأنها كانت على جانبٍ كبير من القبح.

figure
الزوج العملاق إلى جانب زوجته، ولم تبلغ سنها العاشرة.

ومن غريب عاداتهم أنه عند بعض قبائل البنجاب يُباح تعدد الأزواج، يعني أن الزوجة يَشترك فيها عددٌ من الرجال قد يَفوق الستة، والبيت في العادة يشتمل على كُوخَين: كوخ للزوجة وآخر للأزواج، وتُخصِّص الزوجة ليلة لكل زوج، ويغلب أن يكون الأزواج إخوة؛ وسبب ذلك قلة النساء بالنسبة للرجال بسبب وأدهنَّ، ولقد كانت العادةُ إلى عهدٍ قريب في البنجاب أن الأم عندما تلد أنثى، تقف بها على باب الدار وبيدها سكين وتنادي: هل مِن راغب في الزواج من هذه؟ فيتسلَّمها أحد المارة ويقوم بتربيتها، فإن لم يتقدَّم أحد قُتِلت. ويقولون بأن لهذا النظام فائدة، هي التخلُّص من كثرة النَّسل واحتفاظُ الأسرة بعقارها وأملاكها؛ إذ الآباء إخوة فلا تُبدَّد أملاكهم بالتوزيع بين الزوجات والأبناء، وقيل إن الفقر قد يكون من أسباب ذلك؛ لأن الزوج إذا عجز عن دفع المهر قصَد إلى رجلٍ آخرَ ميسورِ الحال، وطلب إليه أن يُشاطِرَه المرأةَ مقابل القيام بدفع مهرها، ويساعد على هذا النظام من الزواج الحياة الرعوية، حيث يَغيب الزوج بعيدًا عن زوجته زمنًا طويلًا، فيختلف إليها زوج آخرُ وثالث، وهكذا حتى يعود الأول.

وفي ناجبور بالهند يَترك الوالد ابنته تَجري في الغابة، ثم يَلحق بها الخطيبُ حتى يُمسِكَ بها. وبين سُكَّان الغابات يُوضَع الفتيان والفتيات سويًّا في حجرات، ويُترَكون أحرارًا لياليَ وأيامًا طويلة، حتى يختار كلُّ شاب زوجته. ولا يتم زواجٌ في أية طبقة إلا بعد استشارة المنجِّمين والموافقة عليه، وكم مِن زواجٍ فُسِخ لأن المنجِّم أنذَر بالنحس وسوء العاقبة، وللمنجِّمين سلطانٌ غريب على عقول الناس.

figure
جثة عروس فوق محرق الموتى في معبد قالي في كلكتا.

حدث مرةً أنْ دُعِي مُنجِّم ساعةَ ميلاد طفل كان أبوه يترقَّبه منذ بعيد، لكن المنجِّم قال بأن هذا الولدَ سيكون سببًا في موت والده يومًا ما، فما كان من الوالد إلا أن دخل في الظلام ساعةَ الولادة، وسرق الطفل وذهب به بعيدًا وقتله، فقبض البوليس عليه وحُوكِم وبذلك حُقِّقت نبوءة المُنَجِّم. وللأطفال غرام بلعب العرائس، ومن أخصها تزويج العرائس، وفيه تُراعى مَراسيم الزواج بالدقة وبكل تفصيل، وتُمثِّل الدُّمَى الزوجَين، ويُعاوِن الكبارُ الأطفالَ في تمثيل خطوات الزواج بصراحةٍ تجعل الأمرَ في نظرنا فاضحًا ومنافيًا للآداب، وإذا انتقدتَهم قالوا: ذاك أمر طبيعي، يجب ألا يكون فيه حياء. وتعدد الزوجات شائع ومُباح عند الهندوس والمسلمين على السواء. ومِن أعجب عادات بعض الهنود تعدد الأزواج، أعني أن الزوجة يكون لها ثلاثةُ أزواج أو أربعة في وقتٍ واحد، ويكثر ذلك بين أهل تلال نلجيري وسكان الساحل الغربي، ويُقال إن العادة نشأَت عن الرعاة الذين لا يَتركون النساء وحدهن، فكلما خرَج راعٍ وراء قُطعانه تُرِكَت السيدة تحت رعاية زوج معها يَحرسها؛ إذ لا يصح تركها وحيدة؛ ولذلك كان التوريث عندهم للإناث لا الذكور، والزوج بدل أن يُحضِر زوجته إلى بيت أمه يَذهب هو معها إلى بيت أمها. ويَميل لون هؤلاء إلى البياض بسبب اختلاط النساء بالمستعمِرين قديمًا، من الهولنديين والبرتغال والإنجليز الذين نزَلوا الساحلَ الغربي، وكان لهم في تلك العادة خيرُ مروِّج لزواج عدة رجال من امرأة واحدة هناك، ولتلك العادةِ بقية في بعض نساء جزيرة سيلا.

figure
إحدى نساء طبقة المنبوذين الأنجاس.
figure
غادة من طبقة «السودرا» أحطِّ الطبقات المعترَف بها.

قمتُ أعبر الدكن، فألفيتُ الناس هناك أكثرَ همجية من سواهم، ولا يَزال غالبهم من سلائل «الدرافيديين» سكان الهند الأوائل، ومِن عاداتهم أيضًا أن يُشاطِر في الزوجة الواحدة أكثرُ من زوج واحد، وبخاصة الإخوة، وكانوا إلى أمَدٍ قريب يتعقَّبون أنسابهم عن طريق الأم؛ لذلك كان الميراث الرئيسي لابن الأخت أو ابن بنتها أو لأي شخص من فرع الإناث، أما الابن فلا يرث.

ولا تزال لتلك العادة اليوم بقيةٌ بين قبائل (تودا Toda) هناك، ويَعُدُّ الهندوس أولئكم القومَ من الطبقات النجسة المنبوذة.

ولعلَّ أجمل سحنة تَمُتُّ إلى الهنود بصِلة أهل جاوة والملايو؛ فهم أقربُ إلى الملامح العربية في سُمْرة خفيفة، وهم أخفُّ روحًا وأكثرُ جاذبيةً من الصينيِّين والهنود، وإن أعوزَتِ الجميعَ النظافة.

وغالبُهن يبدون بأجسامهن العارية البراقة، وقد الْتصَقْن بجدران دُورهن في خمولٍ زائد من أثر الحرارة الشديدة، والمسلمات منهن يَرتدين اللفافات من القماش الملون، ويَسْفِرن عن وجوههن، وهن رشيقات نظيفات متدينات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤