الفصل الخامس

مبادئ الخبرة

من المنظمة إلى الحدث

بدلًا من التركيز على المنظمة أو المجتمع، تشير الخبراتُ التي استعرضناها إلى مثالٍ أو نموذجٍ معرفي لفعلٍ مرتكز على الحدث والخبرة. من خلال الدراسة العامة لتحولات الرأسمالية المعاصرة، يفترض بولتانسكي وشيابلُّو (١٩٩٩) أنَّ ثَمةَ تحوُّلًا عريضًا يحدث على مستوى الأنماط الاجتماعية، وتمامًا كما كافَحَ ماكس فيبر منذ قرن لكي يفهم التحولَ من رأسمالية العائلة إلى رأسمالية البيروقراطية، يزعم بولتانسكي وشيابلُّو أننا نواجِه اليومَ تحدِّيًا لكي نفهم تحولًا مماثلًا في الأهمية، وهو التحوُّل من نموذج بيروقراطي إلى نموذج شبكي. ويُولِيان جلَّ عنايتهما للتغيرات التي تحدث داخل المنظمات الكبيرة؛ حيث يُبرِزان أهميةَ نماذج الفعل الجديدة التي تستند إلى أهمية المشروعات القصيرة المدى، مقابل الالتزامات الطويلة المدى، ويفترضان أن المسارات المهنية الناجحة لن تقتصر على خدمةِ مؤسسةٍ واحدة طوال العمر، ولكن الأرجح أن تَتكوَّن من سلسلةٍ من المشروعات القصيرة المدى. وبينما تكمن الثقافة الصناعية في أفكار التقدم وتركز على المستقبل، يؤكِّد بولتانسكي وشيابلو، مثل العايدي (٢٠٠١)، مدى تركيز ثقافة الشبكة على الحاضر. بدلًا من العيش في عالَمٍ مَبنيٍّ على أساسِ علاقاتٍ سببية خطية، بثقافةِ تتابُعٍ (تصبُّ في المستقبل)، تُعلِي ثقافةُ الشبكة من شأن العلاقات والارتباط الآنيَّيْن، مع تركيز على الحاضر والتزامن؛ ومن هنا كانت الأهمية البالغة للتقنيات، وأبرزها الهواتف المتحركة، التي تكثِّف خبرةَ التزامن (عن الخبرة المجتمعية للهواتف المتحركة، انظر جوريجيبري ١٩٩٧).

تمنح ثقافةُ الشبكةِ الأولويةَ للحاضر وللربط. ويعني الإحساس بالتعقيد وغياب الحسم الذي يقترن بهذا أنه لا يمكن، أو أنه من غير الحكمة، التعويل كثيرًا على المستقبل؛ فهناك طوارئ ومجاهيل تفيض عن الحد، وهذا واضح في ثقافة النشطاء الذين تعرَّضْنا لهم، الذين يركزون على الحاضر. يركز النموذج الكلاسيكي للفعل الذي ظهر في القرن العشرين على المستقبل، وأبرزُ أمثلةِ ذلك نماذجُ الاشتراكية والشيوعية التي تبنَّتْها الحركات العمالية، شأنها شأن غيرها من يوتوبيات القرن العشرين، فكلها مبنية على أساس المستقبل، ومن أجله يمكن التضحية بالحاضر. أما النشطاء الذين تعرَّضْنا لهم فيرفضون أن يسمحوا لصورة عن المستقبل بتقرير الحاضر؛ ولذلك لا يبالون كثيرًا بالبرامج أو خرائط المستقبل — يرفضون أن يبنوا نماذجَ لمجتمع المستقبل، الأمر الذي يُحبط كثيرًا من المعلِّقين. ثقافةُ التزامن هي التي توجِّه فكرةَ «اليوم العالمي» بتركيزه على رفع الصور والمعلومات في الوقت الفعلي عبر الإنترنت.

هذه الأحداث مبنية داخل ثقافة الحاجة المُلِحَّة والتزامنية، ومن الموضوعات الثابتة التي تَظهَر في المقابلات التي أجريتها مع النشطاء أهميةُ البريد والقوائم البريدية الإلكترونية، وهي أمثلة مهمة للطبيعة «الهجينة» للأنظمة الاجتماعية والتكنولوجية التي تجلب معها فرضَ الآنية، يوتوبيا التبادل الفوري والتزامنية. يناقش زكي العايدي (٢٠٠١: ٢٠٥) ظهورَ نوعٍ من ثقافة الشبكة، كامن في السوق، يحتفي بالآني، وإذ يفعل ذلك ينحو نحوَ هدمِ قدرةِ الناس على إقامةِ مسافةٍ بين كلٍّ منهم والآخَر. وتُعَد ثقافة الآني هذه محوريةً للإنترنت. تتحدث جودي، وهي ناشطة مهتمة بالعدالة في مدينة نيويورك عن مشاركتها في خمس قوائم بريدية مختلفة مُناهِضة لاتفاقية التجارة الحرة في أمريكا الشمالية (النافتا)، فتقول:

أنت تكتب رسالةً إلكترونية وتتوقَّع ردًّا فوريًّا. إذا أجريتَ مكالمةً هاتفية، ولم يردَّ عليك أحدٌ لبضعة أيام، فهذا طبيعي. تكتب رسالةً ولا تحصل على شيء لمدة أسبوعين، هذا طبيعي. يصلك بريد إلكتروني وتشعر بأن عليك أن تردَّ في الحال، وإذا لم تفعل فأنت تخرق — نوعًا ما — القانونَ الضمني بخصوص متى يُتوقَّع منك أن تردَّ على شيءٍ ما.

جودي قَلِقة من أن خبرة الآنية هذه تعطِّل القدرةَ على خلقِ مسافةٍ تأمُّليةٍ عن نفسها:

هذه الحاجة إلى الرد الفوري [لحظة صمت] صعبة. فمع كثرةِ الأشياء التي يُفترَض أن ترُدَّ عليها، أعتقد أن التأمل الذاتي المتضمَّن في الكتابة، والتفكير بشأن طريقة الرد مُعرَّضان للخطر.

لكنَّ هناك جانبًا آخَر لهذه الزمنية؛ أهمية التعدد. تصف جودي مشاركتها في فعل مدينة كيبيك ضد اتفاقية التجارة الحرة عام ٢٠٠١:

ما لدينا هو كتلة من الناس يفكرون ويُدْلون بأفكار مختلفة؛ ولذا نتحرَّك بالتزامن، ولا أعتقد أن هذا إراديٌّ بالفعل؛ أيْ أن نجلس ونقول: «حسنًا هذه استراتيجيتي، وهذه استراتيجيتك، وسننفذها كلها معًا، ونرى ما الشكل الذي ستنتهي إليه.» أظن أنه سيكون لطيفًا أن يسير الأمر هكذا، لكننا لسنا منظمين هكذا. لكن من حيث الأصل، ما يحدث هو أن كثيرًا من الاستراتيجيات المختلفة تُطرَح في الوقت نفسه … وهو ليس شيئًا حدث بالضرورة أو كان مقبولًا حتى من ١٠ سنوات مثلًا، حينما كنا لا نزال محكومين بوجودِ حلٍّ أساسي واحد للمشكلات التي كنا نواجهها، وهذا — كما أعتقد — عنصرٌ مثير من عناصر الحركة؛ وجودُ مزيدٍ من المرونة في الطريقة التي يمكن أن نعبِّر بها عن أنفسنا.

من وجهة النظر هذه، الحدث هو نقطة تجمُّع يتلاقى فيها فاعلون مختلفون، وتتقاطع فيها شبكات وتدفُّقات مختلفة. هذا واضحٌ في حالة المعسكر الذي يأتي إليه الناس ويذهبون، المرتبط بشبكات ثقافية من قبيل المهرجانات، أو بالأساليب التي تدفقت بها «استعادة الشوارع» من خلال الشبكات التي كوَّنتها موسيقى الهذيان في أوروبا. وفي حالة الولايات المتحدة؛ حيث أطلق أولُ فعلٍ من أفعال «استعادة الشوارع» حركةَ «الكتلة الحَرِجة»، نجد مثالًا للتجاوب، حيث ينساب شكلٌ من أشكال الفعل الحضري في شكل آخَر.

من التضامُن إلى التضامُن السائل

تُبيِّن أنماطُ الفعل والثقافة التي استعرضناها حتى الآن قطيعةً واضحة مع نموذج «تماثل الهوية» و«المبادئ المدنية» وفهم الجماعة باعتبار أنها مكوَّنةٌ من خلال فعل التمثيل. ويتجلى هذا في نبْذِ بنى التمثيل والتفويض، أو أنماط التنظيم التي تسير فيها الانتخابات «صعودًا» والقرارات «هبوطًا». ولهذا عددٌ من التبعات؛ بدايةً، أنه ينبغي بذلُ جهدٍ ملموس في صنع القرارات والعمليات المتضمنة، ولكن بمجرد التوصل إلى قرارات، فهي لا تُعتبَر ملزمة أخلاقيًّا كما هي الحال في أشكال التضامن؛ حيث تفعل الجماعة من خلال الفرد. تقوم جماعات الاهتمام المشترك بدور جماعات الفعل؛ إذ تعمل على مَهَمَّاتٍ تتنوع بين الاتصال، والإعلام، وتجميع الكتل، والاعتراض، والمسرح، والإسعاف الأولي، والدُّمى، والطهي، وهلم جرًّا. والثقافة المبنية عليها هذه الجماعات هي ثقافة تشارُك المهارات — يؤكد هذا ما يجلبه الناس إلى الجماعة، على العكس من الانضمام إلى جماعة والتعرُّف على تاريخها وفلسفتها. يشير هذا إشارةً واضحة إلى ما يجلبه كل شخص للفعل — تُحشَد الخبرات الشخصية، لا الهويات الجمعية. ولهذا فمبادئ الفعل مختلفة جذريًّا عن نظيرتها المرتبطة بالنموذج المعرفي الصناعي المدني. في تلك الحالة، تصنع الجماعة قرارًا ثم ينفذه أعضاؤها، أما في حالة الجماعة ذات الاهتمام المشترك فإن:

الجماعة ذات الاهتمام المشترك هي جماعة من الناس الذين تعرفهم ويمكنك الوثوق بهم. قبل أن يحدث شيء تتحدثون عمَّا تنوون فعله، وما إذا كنتم مستعدين للاعتقال أم لا. يساعد بعضكم بعضًا، ويهتم كلٌّ منكم بالآخَر، يعرف كل شخص ما يمكن أن يفعله الآخر، وما هو مهيَّأ لأن يفعله. إذا كان شخصٌ ينوي أن يُقبَض عليه، ولا ينوي شخصٌ آخَر ذلك، فسيساعد أحدكم الآخَر في هذا. (آن، طالبة وإيكولوجية، فيرمونت)

ليس هذا مثالًا ﻟ «الفاعلين النافعين»، للأفراد الذين ينفذون قرارات جماعة؛ النموذج المعرفي الذي يفعل فيه الكيان الجمعي، سواء أكان اتحادًا أم طبقة، من خلال الفرد. على العكس من ذلك، من خلال جماعة الاهتمام المشترك، يدخل كل شخص في علاقة مع آخر ملموس (أناس تعرفهم وتثق بهم)، على العكس من الارتباط بالكلية. النموذج المعرفي هنا أقرب إلى نموذج الصداقة (بال ٢٠٠٠) من حيث إن كل شخص يدرك الآخر بصفته شخصًا، على العكس من أن شخصًا ما يتولى تنفيذ وظيفة بالنيابة عن كيان جمعي أو منظمة، وهو مُدرَك في الوقت نفسه بصفته شخصًا. ثمة خبرة إدراك شخصي هنا تتسم بأنها متبادلة شأنها شأن الصداقة: تستلزم الصداقة التبادلية. وبالمثل، لا تُبنى الصداقة على الاشتراك في فئة ما؛ الصداقة هي خبرة الاعتراف بالتفرد.

الفاعلون الذين يعملون داخل نموذج «النحن-يَّة» يُظهرون علنًا هوية جمعية، من خلال الرايات واللافتات: يعلنون من هم. يفترضون أنهم يُمثَّلون بالجماعة، بالطريقة التي نظَّرها بورديو. وهذا هو أساس مفهوم المتحدث أو القائد الذي يجسِّد الكيان الجمعي، والقادر على الحديث بالنيابة عن هذا الكيان. لكن في الحالات التي استعرضناها، النموذج هو نموذج السيولة، لا الجمعية، ولا يكاد يوجد شعور بأن الفاعلين يرون أنفسهم ممثَّلين بالكيان الجمعي، الذي يمكن أن يتحدث، وأن يفعل أيضًا من خلال أعضائه. كما رأينا في حالة «الكتلة الحرجة»، يتخذ الفعل شكل حدث، تلاقٍ، لا شكل هوية. وفي هذه الحالة لا نجد كثيرًا من الممارسات والثقافات المقترنة بالعضوية. طقوس الانضمام، وبطاقات العضوية، والعضويات التي تدوم طول العمر، وما شابهها من الأشياء التي لعبت دورًا مهمًّا في منظمات مثل الحزب الشيوعي، غائبة تمامًا (انظر إيون ١٩٩٧ لمناقشة عن هذه الرموز والطقوس في تكوين مجتمعات النشطاء الأسبق). ولأنه لا يوجد كيان جمعي يفعل ويتحدث من خلال أعضائه، فلا يوجد متحدِّث باسم هذا الكيان الجمعي.

تؤكد الخبرة التي نلقاها هنا مقولة عالم الاجتماع الفرنسي جاك إيون (١٩٩٧)؛ إن أشكال الفعل المعاصرة تشتمل على ما يسميه «نهاية النضالية» (١٩٩٧) التي يقصد بها نهاية نموذج فعلٍ يكون فيه الشخص مندمجًا في تنظيم، ويفهم نفسه باعتباره أداة للمنظمة أثناء فعله. لقد أصبح إدراك الهوية الشخصية على نحو متزايد شرطًا للفعل. توضح كارين هذا حينما تصف اقتراب ممثل لتنظيم سياسي منها مباشرة بعد مداهَمةٍ شرطيةٍ بالهراوات خلال احتلالٍ ضد المنتدى الاقتصادي العالمي:

نزلتُ ليلة الثلاثاء — لمتابعة إعلامية للحدث — مع صديق — بآلة تصويري ولكني لم ألحق تصوير المداهمة بالهراوات — ووصلت إلى موقع الحدث لأجد ٣٠٠ إنسان شديدي الغضب، وأن صديقين أُخِذا توًّا إلى المستشفى، وكان الجميع [لحظة صمت]. كان موقفًا متطرفًا [لحظة صمت] والتفتُّ ومشيتُ مع الجماعة، وبينما كنت أسير أتى إليَّ شخص معه مجموعة من الأوراق على مسند أوراق، وقال: «مرحبًا! هل تريدين الانضمام إلى [اسم تنظيم سياسي]؟» كان الأمر أشبه [لحظة صمت] لا تطلب مني أن أنضم إلى اسم مختصر! وخصوصًا بعد [لحظة صمت] استطعت أن أواصل الحديث لبرهة عن مدى غضبي … (كارين، نشطة في إنديميديا، ملبورن)

على الرغم من أن ممثل التنظيم السياسي موجود في الاحتجاج يبحث عن أعضاء جدد، فهو معزول عما يجري؛ لأنه منفصل عن الناس المشاركين. والتنظيم يبدو كما لو كان فارغًا؛ مجرد اسم مختصر.

في هذه الأفعال، الجماعة خفية، أو حيثما تكن مرئية، فهي غامضة مثل جماعة «الأفرولات البيضاء» (توتي بيانكي) التي بدأت في إيطاليا بعد لقاء مع أفراد حركة ساباتيستا في المكسيك، الذين اختاروا ألا يكونوا مرئيين. حينما تُستخدَم الأسماء فهي تصف أفعالًا، لا هوية مثل: «استعادة الشوارع» أو في حالة «الشبكة المستقلة للتحرير» في الحراك ضد المنتدى الاقتصادي العالمي في ملبورن في سبتمبر ٢٠٠٠، وهي نمط من أنماط التنظيم حاضر غائب. اللافتات والرموز التي تعلن الهوية الجمعية مستبعَدة، ويعني رفض الاقتناع بفكرة أن الجماعات تستطيع تمثيل النشطاء أن الجماعات ستنتهج سياسة «لا وساطة» من منطلق أنه «ليس بإمكان أحد الحديث بالنيابة عن أحد» (كارن، إنديميديا، ملبورن). فكرة القائد أو المتحدث الذي يجسِّد الجماعة بطريقة ما مرفوضة.

يتجلى بُعد آخر لهذا في الطرق التي يستخدم بها النشطاء أسماءً متعددة. يمكن أن يستخدم الشخص الواحد أسماء عدة، حينما يوقِّع رسائل البريد الإلكتروني، أو ينشر على الإنترنت، أو حتى حينما يكتب مقالات، بينما يمكن أن يتشارك نشطاء عدةٌ الاسم نفسه، حينما يتفاعلون مع وسائط الإعلام. في احتلال «دولة بولوك الحرة» مثلًا، استخدم النسوة المتفاعلات مع وسائط الإعلام كلهن اسم تيريسا جرين. وفكرة تشارك الأسماء واستخدام أسماء متعددة هي بوضوح جزء من ثقافة الإنترنت حيث يكون الشخص متحررًا من قيود الهوية. لكن تشارك الأسماء يدل على نمط خبرة ذي طابع شخصي (في مقابل السكرتير، والخازن … إلخ.) ولكنه ليس ذا طابع فردي. تدل سيولة الأسماء على سياق تكون فيه العلاقة بين الشخص والهوية علاقة مائعة، حاضرة وغائبة، جلية وملغزة. ثمة شيء مماثل على المحك في أهمية زعيم الساباتيستا، ماركوس، لهؤلاء النشطاء، فرغم كونه شخصًا كما يتضح لنا، فهو لا يمتلك ما نتوقعه من فرد؛ اسمًا محددًا وسيرة حياة.

المقاربة السائدة إزاء الحركات الاجتماعية، بتركيزها على المنظمة والدولة، لم ترتبط على نحو ملموس بهذه الأشكال الناشئة من الفعل والثقافة التي تنطوي بوضوح على نمط جديد من العلاقات بين الخبرة الفردية والخبرة الجمعية. تسعى مقاربتان بيِّنَتا الاختلاف إلى فهم تلك الأشكال الناشئة. في الولايات المتحدة، يؤكد عدد من علماء الاجتماع ما يعتبرونه أبعادًا حاسمة لأشكال جديدة من «النزعة الشخصية»، أما في أوروبا، فيظل هناك اهتمام ملحوظ بتأويل جد مختلف؛ وهو بالتحديد أن أشكال الفعل والحركة الناشئة تمثل شكلًا جديدًا من «القَبَلِيَّة ما بعد الحداثية». أعتقد أن أيًّا من هاتين المقارَبتين ليس كافيًا لفهم ما هو على المحك في الأشكال المعاصرة من الفعل والثقافة. ولكن كلتيهما تُبرز أبعادًا مهمة من أبعاد الأشكال الناشئة؛ ولذلك فهما تثيران أسئلة مهمة.

سياسة مشخصنة؟

يستكشف عالم الاجتماع الأمريكي بول ليكترمان الملامح الناشئة للفعل والثقافة في الحركة البيئية الأمريكية، ويفترض أنه يمكن اكتشاف نموذج ناشئ للفعل والثقافة يسميه «السياسة المشخصنة»، وهو ما يراه متجليًا على وجه الخصوص في نشطاء الطبقة الوسطى الخُضر. وليوضح الأبعاد الرئيسية، يقارن ليكترمان بين ما يعتبره «سياسة مشخصنة» جديدة، وبين نماذج النشاط التي يقابلها في حركة مناهضة المواد السامة، الأمريكية من أصل أفريقي. في هذه الحالة الأخيرة، جماعات النشطاء مؤسسة على إحساس قوي بالمجتمع وبالهوية الجمعية، ويترجَم هذا إلى أنماط من الفعل ومن التنظيم أيضًا ينصبُّ تركيزها على التنظيم الرسمي (منصب الرئيس، الرئيس المشارك، المدير التنفيذي، مجلس الإدارة)، واللجان والانتخابات، ونموذج التمثيل والتفويض؛ حيث نرى الأبعاد الرئيسية لمبادئ الفعل المدنية. وفي هذه الحالة، ثمة إحساس قوي بالنضال من أجل المجتمع، والفعل باسمه، وفهم التنظيم باعتباره معبِّرًا عن المجتمع، وممثلًا لمصالحه وثقافته. وتمتلك المنظمة إحساسًا قويًّا بالقادة و«تقسيمًا واضحًا للعمل» (١٩٩٦: ١١٣) — دورها هو تمكين المجتمع، على العكس من تمكين الأعضاء الأفراد، والنتيجة أن تيسير المشاركة الفردية لا يقع في صدارة الأهداف العامة للبنية التنظيمية. بدلًا من ذلك، الهدف هو الفعل الجماعي لصالح المجتمع، وباسمه، بينما صورة المجتمع هي صورة تُؤكد الوحدة وأولويتها الأخلاقية. وفي أساس الانتماء للمجتمع أن المنظمة تمارس أشكالًا من الانضباط الداخلي؛ فرض العقوبات مثلًا على الأعضاء الذين يخفقون في تلبية التوقعات من حيث الالتزام تجاه المنظمة وفعلها.

يقابل ليكترمان ما بين هذا النموذج المجتمعي للنشاطية وبين ثقافة «خُضر» الطبقة الوسطى البيضاء وأشكال نشاطيتهم التي تتضمن ما يسميه «الالتزام المشخَّص». ويعرِّف النزعة الشخصية بأنها «الطرق المشتركة في التحدث والفعل التي تؤكد الذات الشخصية أكثر من علاقتها بمجتمعات أو مؤسسات معينة» (١٩٩٦: ١٧). واضح في رواية ليكترمان عن النشاط المجتمعي، أن الروايات عن الذات والالتزام تؤسس في ظل علاقتهما بالمجتمع. روايات المشاركة الشخصية مبنية على أساس الولاء للمجتمع، بينما ترجع أصول السلطة التي تدَّعيها المنظمة وتُعبِّئها إلى المجتمع. يفسر ليكترمان النزعة الفردية التي يلقاها بين «الخضر» على أنها تتكون من طرق الفعل التي تشتمل على ذات فردية وشخصية، تتجلى خصوصًا في الأهمية التي يوليها النشطاء للمشاركة الشخصية في القرارات، والإعراض عن تبنِّي التراتبية والتنظيم الرسميين.

يضع ليكترمان مفهومه عن النزعة الشخصية ضمن أنماط أوسع من التغير الثقافي، وخصوصًا النزعة الشخصية التي يكتشفها في الثقافة الأمريكية المعاصرة، متجلية في أهمية علم النفس المتزايدة، والتداوي بلا عقاقير، وما إلى ذلك. ويزعم أن الأهمية البالغة الممنوحة للشخصنة من قبل النشطاء «الخضر» تعكس ثقافة أوسع للطبقة الوسطى، وخصوصًا ما يسميه، متبعًا بورديو (١٩٩١)، «رأس المال الثقافي» للنشطاء. ويفترض أن مستويات التعليم العالية لدى النشطاء «الخضر» تولِّد ثقافة من الطرق الفردية للعمل، وأسلوبًا واضحًا، واهتمامًا ﺑ «تحقيق الذات» (١٩٩٦: ١٥٣). ويعكس هذا بالذات نماذج تعليمية تؤكد الإبداعية الشخصية. في سياق ضعفت فيه التقاليد السياسية الأقدم، مثل الاشتراكية، أو لم تعد تستجيب للمشكلات الاجتماعية المعاصرة، يفترض ليكترمان أن النشطاء جعلوا رأسمالهم الثقافي المشترك، وهو رأس مال ثقافي يحافظ على «سياسة الذوات»، أساس ثقافتهم (١٩٩٦: ١٨٩). وفي شيء من التناقض، بينما يختار ليكترمان نموذج نشاطية الحركة المناهِضة للمواد السامة ذا الأساس المجتمعي للمقابلة بينه وبين أشكال الفعل المشخصنة التي تسم «خضر» الطبقة الوسطى، يضع ليكترمان مصدر ثقافة النشطاء وتنظيمِهم داخل الثقافة المجتمعية؛ وهي في هذه الحالة الثقافة المشخصنة للطبقة الوسطى الأمريكية. يمكن النظر إلى النزعة الشخصية بالمعايير التي وصفها ليكترمان بوصفها ثقافة مجتمع تعكس الأصل الاجتماعي لأعضائها وموقعهم، تمامًا كغيرها من أشكال الثقافة المجتمعية. ونتيجة ذلك، فهو يعارض أفكار «الحركات الاجتماعية الجديدة» التي ظهرت في السبعينيات، مقرونة بفكرة أن مثل هذه الحركات تمثل نبذًا جذريًّا للأشكال الأسبق من الحركات الاجتماعية. النزعة الشخصية هي ذخيرة للفعل مثل غيرها، ولا تستلزم بأي حال إعادة نظر بشأن الحركات. وفوق هذا كله، يؤكد ليكترمان أهمية «التعبير الشخصي عن المعتقَد» في هذه الثقافة، التي تتجلى في الأهمية البالغة التي يوليها النشطاء لتحديد القيم المشتركة. وفي روايته، يتخذ التحدث والاجتماعات أهمية فائقة.

تولي فرانسيسكا بوليتَّا (٢٠٠٢) أهمية مماثلة للجانب الخطابي في دراستها للحركات الاجتماعية الأمريكية المعنونة «الحرية اجتماع بلا نهاية». ترى هذه المقارَبة أن الحركات الاجتماعية تشاورية وخطابية من حيث الأساس، وتستند إلى تقاليد مهمة في الفكر الاجتماعي المعاصر. وأشهر هذه التقاليد عالميًّا هو أبحاث يورجن هابرماس في ألمانيا، الذي حاول تطوير نظرية للفعل التواصلي، نظرية حاول إرساءها في الأصل على أرضية النماذج البيولوجية للتنمية الأخلاقية (استنادًا إلى كولبيرج ١٩٨١)، ولاحقًا على أرضية البنية الفلسفية للغة ذاتها، التي اعتقد أنها تحمل في داخلها إمكانية ما يسميه «موقف الحديث المثالي» (هابرماس ١٩٧٩). يفترض هذا النموذج الذي تتكرر فيه موضوعات واجهناها من قبل في كتابات روسو، أن بإمكان الناس أن يتملصوا من قيود الهويات والمصالح، ويتوصلوا إلى اتفاق، وهي عملية يراها هابرماس مرتكزة إلى محض عقلانية بنية اللغة. تجد دراسة بوليتَّا مكانها ضمن تقليد أمريكي يعتمد بشدة على الفيلسوف جون دِيُوي. اعتقد ديوي أن «عصر الآلة» حطَّم أشكال المجتمع السابقة دون أن ينشئ أشكالًا جديدة تحل محلها. كان ديوي في العشرينيات، شأنه شأن هابرماس في السبعينيات، يرى أن من شأن تطوُّر الاتصال الخطابي، وتشكيل الوفاق العقلاني المرتكز إلى عمليات اتصال كهذه أن يعيدا تشكيل المجتمع المدني. وأوضح هابرماس رأيًا مؤثرًا (١٩٩١) حينما أكد أن مقاهي أوروبا الوسطى لعبت دورًا جوهريًّا في بناء شكل الجمهور والرأي العام الجديد، أساس الديمقراطية الحديثة. من وجهة نظر هابرماس، كان قلب هذا النشاط هو «النقاش»، الذي يشكِّل بزعمه أساس «المجتمع المدني»، وهو نطاق ينشأ ما بين الفرد والدولة.

يوضح وصف بوليتَّا للحركات الاجتماعية الأمريكية رأيًا مماثلًا؛ فهي تناقش «شبكة الفعل المباشر» التي لعبت دورًا أساسيًّا في الاحتشاد في سياتل في نوفمبر ١٩٩٩ في مواجهة منظمة التجارة العالمية، مفترضة أن «شبكة الفعل المباشر» مثال جيد لما تسميه «الديمقراطية التشاركية». وتركز على وجه الخصوص على أهمية «العملية» في اجتماعات «شبكة الفعل المباشر»: دور الميسِّرين و«المراقبين المستقلين»؛ واستخدام الرموز للإشارة إلى الموافقة أو الاعتراض (هز الأصابع للتعبير عن الموافقة، وتشكيل مثلث بالأصابع للإشارة إلى القلق بشأن عملية ما، ورفع القبضة للإشارة إلى نية الاعتراض على قرار)؛ والتركيز على الحفاظ على الوقت، وغير ذلك من الابتكارات التي تبرز أهمية المشاركة الشخصية في عملية الاجتماع وصنع القرار. من وجهة نظر بوليتَّا، تمثل «شبكة الفعل المباشر» إمكانية تحقيق ما يشير إليه هابرماس بطريقة نظرية، وهو «مجتمع حديث مثالي». تصف بوليتَّا الطريقة التي يتفاعل بها الناس في اجتماعات «شبكة الفعل المباشر»:

توقع كلٌّ منهم من الآخر أن يقدم أسبابًا منطقية لتفضيل خيار على آخر. اجتهدوا لإدراك محاسن الأسباب التي يبديها كلٌّ منهم لتفضيل خيار بعينه … «لم يكن الهدف هو الاتفاق بقدر ما كان الخطاب. ولكنه كان نوعًا مميزًا من الخطاب، محكومًا بطبائع الانفتاح والاحترام المتبادل.» (بوليتَّا ٢٠٠٢: ٧؛ التشديد مضاف)

غير أن أبعادًا معينة من أبعاد النموذج المعرفي المدني تدخل هذه الرواية عن هذه الحركات. تزعم بوليتَّا أنه «على خلاف «إرادة عامة» روسُّوِيَّة تعكس إرادات الأفراد غير المتواصلين؛ فالتركيز هنا على الحوار المتبادل التواصلي.» ولكن على الرغم من تأكيد أن أسلوب الحوار المتبادل التواصلي هذا متعارض مع الفضائل التي ذكرها روسو، فإن غاية بوليتَّا مماثلة؛ إذ يجمع تحليلها بين فهم القرن التاسع عشر للمجاميع وتصور روسو للأولوية الأخلاقية للجماعة. ومن وجهة نظر بوليتَّا، وهي تناقش هذه الحركات الاجتماعية الأمريكية:

من حيث المبدأ، «استقرت السلطة بحوزة الجماعة بكاملها.» ولكن بالطبع، لا تصنع أي جماعة قراراتها بالإجماع، ولا تمنح أي جماعة قوة متساوية لمن يريدها. المسألة الحاسمة هي ما إذا كانت مسوِّغات القوة محددة، وتعاد صياغتها كلما كان ذلك ملائمًا. رغب النشطاء في كثير من المنظمات التي درسُتها في خلق أنواع جديدة من القوة الشرعية. (٢٠٠٢: ٨؛ التشديد مضاف)

تمامًا مثل ليكترمان، تؤكد بوليتَّا الاستمرارية في روايتها عن الحركات. وأصداء روسو عالية حينما تبني مفهوم الحركات على أساس أنها جماعات تمتلك السلطة؛ حيث تكون المسألة الحاسمة هي عما إذا كانت مسوِّغات هذه السلطة محددة، وقابلة لإعادة الصياغة. وهي تبرز نوعًا من التدبُّر الخطابي؛ حيث لا يكون المهم هو القرار ولكن إمكانية أن تتناقش الجماعة حول طرق اتخاذ القرارات، أو تغييرها عند اللزوم.

تفتح هاتان الروايتان عن الحركات مجالًا خصبًا. ولكن في الوقت ذاته، ينبه عمل كلا الكاتبين إلى أن النموذج المعرفي الخطابي الذي يدعوان إليه باعتباره وصفًا وأساسًا للتنظير للحركات المعاصرة ربما ينطوي على مشكلات. يشير ليكترمان إلى حالة نشطاء «الأرض أولًا»! المنجذبين إلى أفعال مباشرة من قبيل اعتراض الشاحنات أو عرقلة المناشير الآلية، الذين لا يكادون يطيقون ما يسميه أحدهم «الحديث عن الحديث عن الحديث» (١٩٩٦: ١٩٧). أما فرانسيسكا بوليتَّا (٢٠٠١: ٢٥) فتسجل ملاحظة قادة «شبكة الفعل المباشر» بنوع من الأسف أن «الشباب لا يجدون اهتمامنا بالعملية مهمًّا». هذان تلميحان داخل عمل هذين الكاتبين بأن وضع الحديث والخطاب في مركز الحركات قد لا يكون ملائمًا للتحولات الراهنة في الثقافة والفعل.

قبائل جديدة؟

بينما تُبْرز بوليتَّا (٢٠٠٢) وليكترمان (١٩٩٦) الخطاب والنقاش، معتمدَيْن بوضوح على تقليد أمريكي يقدِّس اجتماع البلدة، ازدادت المحاولات الأوروبية الرامية لإعادة النظر في العلاقة بين الخبرتين الفردية والجمعية اللتين هما على المحك في الحركات رجوعًا إلى نظريات الطقس والأداء، ومعها على نحو متزايد فكرة أن الأشكال الأقدم من الحركات الاجتماعية تُستبدَل بها أشكال جديدة من القبيلة ما بعد الحداثية.

على مر التسعينيات حاولت سلسلة من التحليلات فهم الأشكال الجديدة من الحركات ومن التآلف الاجتماعي، معتمدة جميعها على مفهوم «القبيلة» الذي طوره عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل مافيسولي (١٩٩٦). يركز آندي بينيت على التغيرات في الخبرات الجمعية المرتبطة بالموسيقى والثقافات والاستهلاك، ويفترض أن ثمة حاجة لأن يُستبدَل بالنموذج الأقدم ﻟ «الثقافة الفرعية»، بتصورها للتماسك والحدود، تصوُّرٌ أكثر سيولة، يزعم أنه يُقدَّم من خلال مفهوم القبيلة، أو لمزيد من الدقة «القبيلة الجديدة»: «التجمعات التي ظلت تقليديًّا تُعَد ثقافات فرعية متماسكة من الأفضل فهمها على أنها سلسلة من التجمعات المؤقتة المتسمة بحدود سائلة وعضويات عائمة» (١٩٩٩: ٥٩٩). يقترن مفهوم الثقافة الفرعية، وخصوصًا في بريطانيا، بمفهوم الطبقة؛ تُفهم الثقافات الفرعية على أنها تعبيرات عن الطبقة والجيل. ويسمح مفهوم «القبيلة» بتصور أكثر سيولة يعكس التأثير المتضعضع للطبقة والمكانية والنوع الاجتماعي، والأهمية المتزايدة للهويات المتعددة، والبؤر أو المواقع المتعددة «التي يمكن للفرد فيها أن يمارس دورًا أو هوية مؤقتين قبل أن يتخذ موقعًا بديلًا، ويدعي هوية مختلفة» (١٩٩٩: ٦٠٠). وكما يزعم بينيت، يسمح لنا مفهوم القبيلة في المقام الأول بفهم المؤثر والتجريبي، مقابل ما يدين به مفهوم الثقافة الفرعية لصور الطبقة الاجتماعية.

بينما يفترض بينيت أن فكرة القبيلة ينبغي أن تحل محل مفهوم الثقافة الفرعية، يستند كيفين هيذرينجتون (١٩٩٨) إلى مافيسولي ليفترض أن المفهوم ينبغي أن يحل محل «الحركات الاجتماعية الجديدة». ومن وجهة نظر هيذرينجتون، مفهوم «الحركات الاجتماعية الجديدة» لصيق أكثر مما ينبغي بالنظريات الكلية التي ترى مثل هذه الحركات على أنها فواعل قصدية تهدف إلى التغيير الاجتماعي. بدلًا من ذلك، يفترض هيذرينجتون أن أشكال الفعل والثقافةِ المعاصرةَ تُفهم على نحو أفضل باعتبارها «تجميعًا للممارسات الثقافية والسياسية» يشتمل على سياسة الهوية، والتماهي الجمعي، والممارسات الرمزية والمعرفية المرتبطة بالموقف (١٩٩٨: ١٢). ووفقًا لهيذرينجتون، الفرد الرشيد الذي تصوره فيبر هو في حالة اضمحلال، ونلقى في محله أشكالًا متزايدة من المجتمعات العاطفية والشعورية، تمثل عملية «تقليص للفردية» (١٩٩٨: ٥٢). هنا ينأى هيذرينجتون بنفسه عن كُتَّاب مثل جيدنز الذي يزعم أن الهويات هي على نحو متزايد رشيدة، وإدراكية، وتأملية، ويزعم بدلًا من ذلك أن الحياة الثقافية والهوية الشخصية يُبنيان على نحو متزايد على أساس الإحساس والعاطفة. ووفقًا لهيذرينجتون، فالقبلية الجديدة، «وهي شكل عاطفي من أشكال التفاعل الاجتماعي يمكن من خلاله التعبير عن الهوية الفردية والمجتمعية» (١٩٩٨: ٥٣)، حلت محل شكل «الحركة الاجتماعية الجديدة» الأقدم. وبدلًا من النظر إلى الحِجاج والخطاب المبرَّرين بوصفهما أساس الأشكال الجديدة من الحركات، كما تفعل بوليتَّا، يفهم هيذرينجتون الحركات على أنها مجتمعات شعور، ولفهم مثل هذه الأشكال من القابلية للتآلف الاجتماعي والفعل فهو يستخدم كلمة «بوند» الألمانية: «تجمُّع اجتماعي صغير النطاق، وانتقالي وانتقائي، مبني على التزام شعوري مشترك بمجموعة من القيم والمعتقدات مرتكز في الغالب، وإن لم يكن حصريًّا، على زعيم كاريزمي» (١٩٩٨: ١٧). وخلافًا لوضع الخطاب والحجة العقلانيين في مركز الحركات، يفترض هيذرينجتون أننا نواجه بدلًا من ذلك «بنية إحساس رومانسية» (١٩٩٨: ٦٢).

يعتمد جون أوري (٢٠٠٠) أيضًا على مفهوم «البوند» لفهم الأشكال المعاصرة من الحركات. ينصبُّ اهتمام أوري على الأشكال الجديدة من الحراكات، وأشكال القابلية للاجتماع التي تتطور من خلال هذه الحراكات وفي داخلها، وتتجاوز أشكال القابلية للاجتماع الأقدم المحددة، الكائنة ضمن حدود جغرافية، التي نسميها مجتمعات. مفهوم «البوند» جذاب من وجهة نظر أوري لأنه يجمع بين فكرتَي الانتماء والارتحال. والإشارة هنا هي إلى حركات الشباب الألمانية، في حقبة ما قبل أن تكون هناك فنادق أو جولات سياحية؛ حيث ظهرت «البونده» المكوَّنة من مجموعات صغيرة، كانت تجوب الغابات الألمانية في عملية تشكيل نوع من «الجماعة المشاعية المتحركة» (أوري ٢٠٠٠: ١٤٢). هذا الشكل من المجتمع، كما يصر أوري، مختار بوعي وبحرِّية، ومبني على وجدان وإحساس عاطفي متبادَلين؛ وهو شكل غير تقليدي من أشكال المجتمع. يقتبس أوري من هيذرينجتون:

يتم الحفاظ على البونده رمزيًّا من خلال المراقبة التأملية النشطة لتضامن الجماعة من قبل المشاركين. وبعبارة أخرى، فهم يعتمدون بدرجة عالية على مرجعية ذاتية … البونده منغلقة على ذاتها، وتنتج نظامًا للممارسات والرموز … وتنطوي البونده على الخلط بين مجالي الحياة العام والخاص لأعضائها. (هيذرينجتون ١٩٩٤: ١٦)

من وجهة نظر أوري، تكمن أهمية مفهوم «البوند» في أنه يربط ما بين خبرات التآلف الاجتماعي أو القابلية للاجتماع وبين مفهوم الحركة، مقابل نماذج المجتمع التقليدية التي تُفهَم بوصفها لصيقة بالمكان. ومن الأمثلة التي يشير إليها أوري قافلة السلام، وهي جزء من شبكة ثقافة الرحالة الأوسع التي ناقشناها من قبل. يؤكد أوري أن مثل هذه الأشكال من القابلية للاجتماع تنبثق من الشبكات، بالإقامة في فضاءات تشكلها المسارات والعُقَد، لا المكان. هذا الشكل من أشكال الإقامة — كما يزعم أوري — «حاد، ومؤقت، ومتحرك» (٢٠٠٠: ١٥٤). ويُعرَّف مثل هذه الشبكات تعريفًا ثقافيًّا لا سياسيًّا أو اجتماعيًّا (٢٠٠٠: ١٤٣). ويعني هذا أن هذه الشبكات لا تُعرَّف بِناءً على الموقع الاجتماعي والمعتقد السياسي، ولكن بِناءً على أشكال الممارسة؛ أشكال «العمل». وبدلًا من أن نفهم الحركات الاجتماعية بمعايير التحدُّث، يتيح هذا فهمًا للفعل أكثر تعقيدًا وأغنى؛ فهمًا يعترف ﺑ «تعددية الأحاسيس» (كروش وديفورج ٢٠٠٣) التي تتيح النفاذ إلى العالم، والذات، والآخر. ويضع ما هو حسيَّ في مركز خبرة الحركة.

حدود الحيوية

لأنه يشير إلى اتجاه الحسي والمجسَّد، يلتقط «مفهوم القبيلة» كما اقترحه ميشيل مافيسولي الأبعاد المهمة للحياة الاجتماعية المعاصرة. مثل الخيال، والآني، والحسي، والتجسد. ولكنه يصوغ هذا على نحو مدهش داخل إطار فلسفي قديم، إطار الحيوية الذي ظهر في فرنسا في أوائل القرن العشرين. ويعني مافيسولي بهذا أن الحياة الاجتماعية تُبنَى باطراد من خبرات الانصهار؛ حيث تُفسِح عقلانية النموذج المعرفي الصناعي المجال لنوع من انصهار فئتي الطبيعي والاجتماعي؛ حيث تصبح الخبرة الجمعية مقدسة، متجاوزةً التقسيمات المصطنعة التي ابتدعتها الحضارة. ونجد في محل الاجتماعي الحياة تنبض من خلال أشكال جديدة من المجتمعات، أو ما يطلق عليه مافيسولي «الشبق الاجتماعي». من وجهة النظر هذه، تكتسب الطقوس وخبرات الشعور أهمية بالغة، وتصبح أساس الأشكال الجديدة من خبرة الانصهار، التي هي في أساس قابلية الاجتماع المعاصرة.

قد يبدو كل ذلك تجريديًّا نوعًا ما، ولكننا يمكن أن نرى هذا النوع من الحيوية عمليًّا في البحث الحديث الذي يحاول فهم ردود الفعل اللاحقة لوفاة الأميرة ديانا عام ١٩٩٦. تفترض عالمة الاجتماع البريطانية ساشا روزنيل؛ إذ تستكشف الطقس الذي أحاط بوفاة الأميرة ديانا وتشييع جنازتها في أغسطس ١٩٩٧، أن تلال الزهور، والبالونات المحملة بالرسائل، والملايين الثلاثة من البشر التي شاركت في مراسم تشييع الجنازة وفقًا لبعض التقديرات، مصحوبة بالملايين الثلاثين في بريطانيا الذين شاركوا فيها عبر التليفزيون، كل ذلك يمثل شكلًا من الدراما الاجتماعية، «حركة اجتماعية بمعنى التغيير السياسي والثقافي والاجتماعي»، حركة اتخذت شكل «لحظة إعادة الصياغة المعنوية» (روزنيل ٢٠٠١). تستند روزنيل إلى أبحاث عالم الأنثروبولوجيا الثقافية فيكتور تيرنر لتفترض أن مثل هذه الطقوس تتضمن فترة من «الحَدِّية» حيث يخطو المشاركون خارج إطار المعايير الاجتماعية التي تنظم السلوك والتفاعل، وحيث يكون لديهم إمكانية للحديث عن الأشياء الجديدة بطرق جديدة، وأن يحسوا بالأشياء الجديدة بطرق جديدة (تيرنر ١٩٩٥). ويرتبط هذا من وجهة نظر روزنيل بشخص الأميرة ديانا التي كانت خبرة الناس بها — كما تقترح روزنيل — أنها شخصية اخترقت الحواجز لتدافع عن ضحايا الإيدز، وأمل الناس أنها ستعيد الطابع الإنساني لنظام الرفاه في بريطانيا، وترمز بالإضافة إلى ذلك أيضًا إلى حبٍّ للحياة يظهر من اهتمامها بالأزياء، وحب أولادها، والحفلات، وما إلى ذلك. وترى روزنيل أن ما بُنِي خلال فترة الحداد وتمجيد حياة الأميرة ديانا كان «مجتمعًا عاطفيًّا» قويًّا، زاعمة أننا نلقى في مجتمع العاطفة هذا ما يسميه مافيسولي «القوة»، «إرادة الحياة»، «الحالة الأكيدة للحياة الإنسانية التي تغذي الجسد الاجتماعي» (روزنيل ٢٠٠١: ١٠٣). تزعم روزنيل أن مجتمع العاطفة هذا يُظهر نبذ العالم العام المتزايد العقلنة، ونشوء عصر تشكِّله على نحو متزايد الموضوعات الديونيسية المتعلقة بنشدان البهجة، والعاطفة، واللذة، والتلقائية، وهي قلب تحرُّك نحو اعتناق شكل جديد من المجتمع المشاعي. مع تطور الموضوعات التي تنبثق من علم الاجتماع الحيوي لمافيسولي، كما تزعم روزنيل:

ثمة انسلاخ متنامٍ من المجال العام المجرد وبنياته المؤسسية، والناس مجذوبون إلى مجتمع القبيلة المتسامي العاطفي؛ تحل المقدرة — الطاقة الحية وقوة الناس — محل السلطة — قوة السياسة المؤسسية والنخب الحاكمة. وفي مكان المشروع الرشيد للبروليتاريا أو البرجوازية، وبدلًا من الأهداف والمسارات التي حددها قادة أفراد، تضع الحقبة الديونيسية طاقتها الجمعية في شخصيات خرافية. (روزنيل ٢٠٠١: ١٠٤)

من وجهة نظر روزنيل، تعكس هذه التعبيرات عن المجتمع المشاعي صحوة خُلُقية، صحوة تراها في قلب ما تسميه، مُتَّبِعةً مافيسولي، «المُقَدَّس الاجتماعي». ومن وجهة نظرها، تمثل وفاة ديانا والأحداث التي تلتها:

لحظة إعادة صياغة معنوية، شكلت وصولًا جمعيًّا، اشتياقًا إلى نظام أخلاقي جديد … خلال فترة الحداد انطلق خُلُق بهجةٍ ورغبة في الاحتفاء بالحياة: كانت ثمة إبداعية وجماليات في الاستجابة لوفاتها، لم تمجد حياتها وحسب، ولكن جمال الحياة عمومًا، وكان التكافل والروابط التي ابتُدِعت فيما بين الغرباء في فضاءات الحزن العامة تمجيدًا دوركيميًّا للحياة الجمعية، والتآلف الاجتماعي، والمقدس الاجتماعي حقًّا. (روزنيل ٢٠٠١: ٩٩، ١١١)

الحياة، الجمال، العاطفة، والأخلاقية تمتزج في هذا الوصف لصحوة «المقدس الاجتماعي». ولكن كيف نستطيع أن نعرف ما إذا كان هذا الشعور حقيقيًّا أم مصنوعًا، وما إذا كانت رواية «الموت والبعث في قلب الشعب» اللذين تصفهما روزنيل هما أكثر من مجرد مسألة شعور مستحَث بتأثير شخصية شهيرة، أو أنهما يختلفان بأي قدر عن إثارات المشاعر الأخرى كما في كأس العالم، أو الألعاب الأوليمبية، وهي أيضًا مناسبات حُللت وفق معايير الدين والطقس الدوركيمية. عمل مافيسولي حافل بالتأملات القيِّمة، ولكنه مصوغ في إطار خيار ما بين نزعة فردية محبَطة، معقلنة، وبين انصهار تُدمَج فيه الطبيعة والاجتماعي والمقدس، انصهار متأصل في نزعة الحيوية التي ترجع إلى قرن مضى، ولعبت دورًا مميزًا في ميلاد الحركات السلطوية لذلك الزمن.

ما تعرضنا له حتى الآن يمثل محاولتين لإعادة التفكير في العلاقة بين الخبرتين الفردية والجمعية. من جهة، مقاربة تؤكد العقلانية الخطابية، وتعطي أفضلية لأبعاد التحدث داخل الحركات، إلى النقطة التي تؤكد عندها بوليتَّا أن «الحرية اجتماع بلا نهاية». وأهمية هذه التحليلات هي أنها تحذرنا من التسليم بصور الانصهار المقرونة بنظريات القبائل الجديدة؛ ولكنها في الوقت نفسه، مقيدة باختزالها الفعل في الحديث والعقلانية. ومن الجهة الأخرى، نجد محاولات لبناء فهم أكثر تعقيدًا للفعل، مقاربات تجتهد للتعامل مع التجسيد ومع الحسي. ولكننا بدلًا من أن نعتنق نماذج الانصهار التي تأتي مع الاحتفاء بزمن القبائل (مافيسولي ١٩٩٦) وعودة «المقدس الاجتماعي»، نحتاج إلى الالتفات إلى التفكير في معنى الفعل.

ما وراء الفعل القصدي

يوم ١ أغسطس ٢٠٠٠، اعتُقل ٧٥ شخصًا في فيلادلفيا أثناء صنع دمًى في ورشة قبيل انعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري. في أعقاب الاعتقالات، أُحضرت آلة كبس النفايات، وحُطِّمت الدمى على مدى ثلاث ساعات. ونقل شاهد على الحدث، هو جون تارلتون (٢٠٠٠) عن مفوَّض إدارة التراخيص والتفتيشات في المدينة قوله إنه لم يكن يعلم بالانتهاكات المحددة لقواعد الإطفاء أو الصحة في المبنى. «إننا فقط نخرج النفايات … إننا نستجيب لطلب الشرطة.» يقتبس تارلتون من عاملٍ لإدارة التراخيص والتفتيشات كان محبطًا بسبب اضطراره إلى تحطيم الدمى قوله: «شعرت بأنني مستاء حقًّا.» «كان بإمكاني أن أرى أنهم لا بد وأنهم أمضوا وقتًا طويلًا لصنع هذه الدمى. لا بد أنهم كانوا يكافحون من أجل قضية يؤمنون بها.» أما نقيب الشرطة الذي كان يُشرف على العملية فكان أكثر اطمئنانًا، وقال: «ليس لدي أي أحاسيس»، «أنا مهني» (تارلتون ٢٠٠٠).

أُسقِطت التهم الموجَّهة إلى صانعي الدمى لاحقًا، أو أُطيح بها خارج المحكمة، على نحو دفع «محقق فيلادلفيا» (٨ ديسمبر ٢٠٠٠) إلى نشر رأيه بأن الحملة لم تكن تتعلق بمنع جريمة بقدر ما كانت تتعلق بمحاولة تكتيكية من جانب الشرطة لمنع تظاهرة.

تُبرز الروايات الكلاسيكية عن الحركات الاجتماعية سِمَتَي القصدية، والتنظيم، وما يسميه تيلي التشكيل العمدي للمنظمات السياسية المتخصصة. ويُعرَّف الفعل بناءً على هدفه، باعتناق أفهام التنظيم الجديدة التي تأتي مع تقسيم العمل. ويعني هذا بالطبع أن أبعاد الفعل الأخرى، مثل البهجة، والإحساس، والعمل، والمجسَّد، والحسي كلها تُطرد خارج إطار تحليلنا. يُنظَر إلى هذه الأبعاد من قِبل كُتَّاب مثل تيلي على أنها ما قبل حداثية (على نحو يردد نوعًا ما بعض الموضوعات التي نتعرض لها في مناقشة القبائل). فما هو حديث من وجهة نظر تيلي هو العمدي والموجَّه بهدف؛ وحيث إن الحركات الاجتماعية تظهر في سياق التحديث، فهذا ما يحددها هي أيضًا.

تسعى نظرية علم الاجتماع المعاصرة باطِّراد لتجاوز ما يتحول إلى فهم محدود جدًّا للفعل، وهذا أمر دقيق للغاية إذا كنا نعتزم الإحاطة بالأبعاد الرئيسية للحركات العالمية الصاعدة. ومن أهم المحاولات لتطوير روايةٍ أكثر ثراءً عن الفعل الإنساني رواية عالم الاجتماع الألماني هانز يواس (١٩٩٦)، في سعيه إلى وضع الإبداعية في مركز الفعل. يفترض يواس أن نماذج الفعل السائدة مؤسسة على ثلاث أفكار معيبة في أعماقها. أولًا، هي مصاغة وفق معيار القصدية، أي بِنْية الوسيلة-الغاية؛ حيث يحدِّد الهدف من الفعل ما يُفعَل. ويبرز هذا بالطبع التحكم، والغرض، والإدراك. ثانيًا، العلاقة بالجسد مفهومة بمعيار ذرائعي: فالجسد شيء يُستخدم لا شيئًا يُحَس. وهذا أمر مركزي لوصف تيلي للفعل بتركيزه الشديد على العقلانية، وحيث يؤكد باستمرار أن هذا يعني السيطرة على العاطفة (انظر جودوين وبوليتَّا [٢٠٠١] لمناقشة بشأن استبعاد العاطفة في نظريات الحركة الاجتماعية). وكما يفترض موزيليس (١٩٩٨) يستبعد مثل هذا الفهم للفعل طرائق الارتباط بالجسد غير الذرائعية وغير التحكمية. ويفترض يواس أنه إذا ما أردنا أن نفهم الفعل، فنحن بحاجة إلى أن نفهم أشكال الفعل غير القصدية أيضًا التي تشتمل غالبًا على إفلات السيطرة على الجسد. ويشير يواس إلى الضحك أو البكاء: «الضحك والبكاء فعلان إنسانيان متميزان، لا يمكن تحقيقهما على الوجه الأكمل من خلال القصدية» (١٩٩٦: ١٨٠). ثالثًا، ينتقد يواس أولوية نموذج الفرد المستقل ذاتيًّا الذي لا يسيطر فقط على جسده، ولكن على ذاته. تختفي الذات الداخلية في روايات الفعل هذه. لا نحتاج فقط إلى أن نطور أفهامًا للفعل تعترف بالجسم، ولكن أيضًا تعترف بالأهمية البالغة للاتصال المجسَّد، أو التفاعل الجسماني. وهنا يؤكد يواس، مستندًا إلى ميرلو بونتي، الأهمية الحاسمة للإحساس بجسدي، وبجسد الآخر كذلك، في بناء الذاتية — الذي يتجلى مثلًا في أهمية اللمس والتفاعل الجسماني بين الأم وطفلها.

تتيح لنا قضية الدمى أن نستكشف أشكال الجسمانية والتفاعل الجسماني المتضمَّن في الفعل. فالدمى «مصنوعة»؛ أي إنها نتاج «العمل». وهي تجسِّد بعمقٍ الفعلَ المناهض للعولمة، من سياتل ١٩٩٩ فصاعدًا (ليفي وميرفي ٢٠٠٢) إلى حد أنها صارت بمنزلة التوقيع للحركة الناشئة. ولكنها على هذا النحو لا تنسجم ونماذج تعريف الهوية بأنها ادعاءات عن قيمة المحتجين ووحدتهم. بدلًا من ذلك، تشير الدمى إلى مبدأ «العمل»؛ فهي شكل من أشكال الفعل الحسي، لكنها أيضًا تعبير عن التشوُّه. ومن هنا يمكن أن نعيد النظر في القيمة الخُلُقية للفعل.

الرواية المجسدة

في الشهور الثلاثة السابقة للمنتدى الاقتصادي العالمي الذي كان مزمعًا أن يَعقد اجتماعًا إقليميًّا في ملبورن، أستراليا، في سبتمبر ٢٠٠٠، بدأت شبكة من الناس تصنع دمًى عملاقة بغرض استخدامها في الحصار الممتد ثلاثة أيام الذي كان يجري التخطيط له. كان تصنيع الدمى يتم كل يومَي سبت وأحد في ورشة في منطقة صناعية، نسجًا على منوال الورشة التي صنع فيها الناس الدمى في فيلادلفيا. في كل جلسة تصنيع، كان ما بين ١٥ و٣٠ شخصًا يعملون على مشروع، يتضمن بضع دمًى. ولم يكن سوى واحد فقط في المجموعة، وهو نحات، يمتلك معرفة حقيقية بالمسائل الفنية المتضمنة في إنشاء الدمى الكبيرة حتى يتسنى حملها بأمان ولا تنكسر.

كان من المخطط أن تُصنع الدمى من مادة موجودة في المخلفات الصناعية والمنزلية في المدينة. وكان أول فعل هو حصر هذه المواقع، وإيجاد الخشب والمواد الأخرى اللازمة للهياكل، والأسلاك للمفاصل، وهكذا. ثم جُمعت هذه المواد معًا، وحدثت المناقشات الأولية بشأن ما ينبغي أن تكونه الدمى، وظهرت الفكرة المزيجة: دمية يُفترض أن تكون نموذجًا لكوكب الأرض يسيطر عليه رمز دولار ضخم، وجماعات مختلفة من الناس تحت ظله، وثعبان عملاق رمزًا للحياة على كوكب الأرض. أنشئت الدمى في فترة استغرقت نحو عشرين يومًا مع تعجُّل في الأيام الأخيرة. وعلى مر هذه الفترة، تغير تركيب الجماعة، بذهاب بعض الناس وانضمام بعضهم. ومع تقدم التشييد، أتى الناس بمواد مختلفة، وتغيَّر الشكل ومن ثم الدمى الفعلية نفسها في نهاية الأمر، ليصبح الثعبان العملاق دودة عملاقة. وفي نهاية عمل اليوم، كانت تقام مأدبة؛ حيث كان بعض الناس في كل يوم يتطوعون بالعمل على إعداد الطعام. وكانت الوجبة المتقاسَمة في نهاية اليوم ينسقها أناس منضوون في جماعة «طعام لا قنابل» (فود نوت بومبس)، وهي جماعة انبثقت في مبتدأ أمرها من شبكات سبق تكوينها في أعقاب فعل «تحالف المحار» في الولايات المتحدة قبل ذلك بنحو ٢٥ عامًا. كانت الطاولات تُصَفُّ، ويجلس الجميع ليأكلوا، وكان الطعام يُطهى على مهل، مستلهَمًا من حركة «الطعام البطيء» الإيطالية، التي تركز على طهو طعام طبيعي مقابل أكل الطعام المصنَّع. يصف نيك، النحات، ما كان يحدث خلال فترة الأشهر الثلاثة هذه:

كان الناس هناك بشروطهم، كانوا يأتون بتوقيتهم هم، هم الذين حددوا التزامهم به … وكان من العناصر الضرورية في الأمر كله زميل هندي يطهو طعامًا مذهلًا، هو نديم خمر، ونشط ملتزم على نحو مذهل، وشخصية واسعة الاطلاع على نحو مذهل، لكن لديه — حسنًا، لا أدري إن كان للخمر صلة بذلك، كلَّا، لا ينبغي أن تكون لها صلة كليًّا — لكنه يطهو هذه الأطعمة المتبلة بالكاري المذهلة، وكان يطهو الكاري كل يوم من أيام صنع الدمى، وأعتقد أن الطقس إجمالًا [لحظة صمت] كنا نثير حماسة الضيوف [لحظة صمت]. لنكون قادرين على ترتيب الموائد والمقاعد، ونملك أطباقًا كافية للجميع؛ ليتمكنوا من الجلوس حولها وممارسة طقس تناول الطعام يوميًّا وفنجان شاي — طقسان صباحي ومسائي — كانا ضروريين تمامًا. شعر الناس حقًّا بأنهم أُكسِبوا قوة لدرجة أنهم كانوا قادرين بالفعل على المشاركة. كانوا قادرين على تصريف بعض إحباطهم وكربهم من الموقف. ليس فقط الموقف الاقتصادي العالمي، لكن افتقار المجتمع بأكمله، من أسقام المجتمع المحبطة التي لا يملك معظم الناس وسيلة ليتمكنوا من التصدي لها؛ لأنهم يُحِسُّون بأنهم فُرادَى للغاية، وعاجزون تمامًا عن المشاركة في إحساس ما بالتغيير أو إحساس ما بالمشاركة في التغيير أيًّا ما يكن … ما كان مهمًّا كان المشاركة الجسدية، الصنع والعمل حقًّا. في الشهر الأخير، اشتغلنا سبعة أيام في الأسبوع، ١٠ ساعات أو ١٢ ساعة في اليوم، كان الأمر رائعًا. توجد حقًّا، كما تعلم، شبكة كبيرة من الناس هناك، يلتزمون فعليًّا في الوقت الحقيقي؛ لأنه حينما تبدأ هذه الأشياء بالحدوث، يبدءون بمنح أولوية لهذا الأمر على العمل والأنشطة الترفيهية؛ لأنه — لا أدري — أعتقد أنه يمثل حقًّا حرقة عميقة أن يشعر الناس بأنهم متجاهَلون. إنه حقًّا شيء مشجع حقًّا، أن يشعر أناس كثيرون جدًّا بالعوز في جوهرهم أو مادتهم. (نيك، نحات ونشط)

تعبِّر عملية صنع الدمى عما يمكننا أن نسميه «خُلُق الرواية»؛ فأولئك المنخرطون في الصنع قادرون على تبديل اتجاه المكان الذي كان من المخطط أن تذهب إليه الدمية؛ بناءً على تأويل ما صُنع من قبل، بينما يتركون شيئًا ما لأولئك الذين سيأتون على نحو مساوٍ ليئوِّلوه ويحوِّلوه. لا يتخذ التصنيع شكل خطة محددة سلفًا، تمضي في مسار خطِّي نحو غاية محددة سلفًا. الخُلُق خُلُق يتدفق، ويتخذ اتجاهات جديدة، ويلتف، كما يحدث في فعل إبداع عمل فني. بوجود نحو ٧٠ شخصًا مشاركين في مشروع ضخم، يُبنى هذا الأمر على شكل أخلاقي وتنظيمي من أشكال الرواية، من فهم أين يمضي التشييد، وهو ما يعني أيضًا دخول مجال يستطيع المرء المساهمة في تشكيله.

يُبرز وصف نيك التصنيع على نحو تفاعلي جسماني؛ مادية خبرة الجهد والإنهاك والتعافي المشتركة. القصة التي يحكيها هي قصة عن تعافي الكيان الشخصي؛ حيث تصبح خبرات الهشاشة والفراغ حاضرة، وتستجيب لها التفاعلية الجسمانية. ليست القصة التي يحكيها عن معارضة المنتدى الاقتصادي العالمي، أو إنشاء «هوية جمعية» بقدر ما هي عن شفاء الداخل. القصة التي يحكيها نيك هي قصة تبرز الذاتية المجسَّدة.

ليست قصة نيك قصة جماعة تلتقي بانتظام، وتحلل العالم ومشكلاته، ثم ترسم تحليلًا أو برنامجًا ليجري التواصل بشأنه من خلال الشعارات والمنشورات. بدلًا من ذلك الحديث، أو «فعل الخطاب»، جوهر ما يصفه نيك أعلاه هو جوهر «مجسَّد»، وتلعب فيه الذاتية دورًا مركزيًّا. العالم الاجتماعي الذي يشير إليه نيك شبيه بذلك الذي وصفه آلان تورين، عالم تظهر فيه الذاتية مهزولة ومجزأة، عالم يمكن أن يُفهَم فيه تصنيع الدمى على أنه شكل من أشكال الصراع من أجل الفاعلية الذاتية (ماكدونالد ١٩٩٩). يصف نيك خبرة كَوْن الناس «فرادى للغاية»، بمعنى عجزهم عن الاتصال والفعل مع الآخرين، وكونهم عاجزين عن بناء مغزًى مقترن بهذا، بما يُفضي إلى إحساس بالفراغ، فيما يصفه بأنه «الجوهر» و«المادة». لا فصل بين الروح والجسد، ولا بين العقل والجسد؛ جوهر الشخص لا يمكن فصله عن مادة الشخص؛ لا يمكن فصل الذاتية عن الجسدية. فالإنهاك الجسدي الذي يعانيه الشخص خلال صنع الدمى يفيد في إعادة وضع الذات في جسده. الزمن، والإحساس المجسَّد بالزمن ضروريان لهذا النوع من الفعل. فمثل هذا الزمن المجسَّد، حيث يكون الزمن ضروريًّا للفعل، هو مقابل تزامنية الشبكة وضرورتها المُلِحَّة.

ترجع جذور هذه الدمى إلى نيويورك وفيرمونت، في مسرح «بريد آند بابيت» للألماني المولد بيتر شومان، الذي انبثق من أول دمية استخدمها شومان في الجانب الشرقي الأدنى من مانهاتن في أوائل عقد الستينيات من القرن العشرين (انظر بريشت ١٩٩٨ لتأريخ لذلك). برز هذا النوع من الدمى في نيويورك سيتي، أول مدينة عالمية في العالم، عند التقاء الطفل المنتمي لأسرة مهاجرة ألمانية مع الإبداعية الثقافية للمدينة. وانتشر هذا النوع من أعمال الدمى من نيويورك إلى سان فرانسيسكو، إلى حركة «الفن والثورة» ثم إلى جماعات أخرى عبر البلد، ودوليًّا حيث سافرت فرقة شومان للدمى «بريد آند بابيتس» بين الولايات المتحدة وأوروبا. لكن الدمى بدأت تتخذ دورًا حاسمًا مع ظهور الحركات المناهضة للعولمة، مع جماعات تتجمع معًا لتنشئ دمًى بطرق تشبه بقدر كبير ما ذكرته، من طوكيو إلى ملبورن إلى برشلونة.

مبادئ الدمى تجريبية: تعلي الدمى الفعل على الحوار، وتتخطى حدود اللغة (رايدر ١٩٩٥). الدمى التي أنشأها شومان ضخمة وبطيئة الحركة، ومَسْخِية غالبًا، وحينما لا تقدَّم في المسرح لا تكون جميلة ولا جذابة. كان شومان متأثرًا بقوة بمسرحيات برتولد بريشت وفكرته عن «تأثير التغريب». يمكن النظر إلى الدمى في إطار تقليد المهرج، رموز إنسانية مغرَّبة مفعمة بالحياة والأمل، ولكنها في الوقت نفسه مفجوعة في عالم لا تتحكم فيه، كائنات يمكن التواصل معها من خلال التجسيد التواصلي لا من خلال الخطاب العقلاني. يلحظ جيمس فيشر (٢٠٠٠) أن الأحمق أو المهرج هو رمز موسوم بالأناركية والحسِّية، «محطِّم لعوالم اللغة وبنياتها القمعية وقيودها» (فيشر ٢٠٠٠: ١٠٥). يفهم شومان، متأثرًا بفكرة التغريب التي طورها بريشت، الدمى بهذه الطريقة أيضًا:

لماذا الدمى هدامة؟ لأن مغزى كل شيء محتوم للغاية وفي تعاضد مع الإحساس العام بكل شيء، ولكونها مجرد دمًى فهي ليست ملزَمة بهذا الإحساس، وبدلًا من ذلك فهي تستمتع بالمعنى المضاد. (شومان ١٩٩٩)

يشير شومان إلى شكل من أشكال الخبرة التواصلية يلحظه:

تدور الفنون حول مساحات لا يستطيع الناس حتى السيطرة على أنفسهم فيها، عن أشياء جذورها أعمق من مقالات الرأي الصحفية، وما إليها … للفنون فرصة التأثير على الناس بطريقتها المزعجة التي تكون بقدر أكبر في قرارة أنفسهم، ولا يسهل محوها. (مقتبس في لارسون، ٢٠٠٣)

ومن هنا أهمية الجهد البدني، الجهد الذي يعود إليه نيك باستمرار بوصفه خبرة لا تصل فقط بين الشخص والآخرين، ولكنها تسمح بإعادة الاتصال بين الذاتية والجسدية. عملية تشتمل على التقاء الداخل وشفائه، وتتسم بأنها بطيئة، وتستدام من خلال طقوس الأكل. كانت رابطة شبيهة بين صنع الدمى والزمنية والوجبات حاضرةً قبيل الفعل المضاد لاجتماع منطقة التجارة الحرة للأمريكتين، في مدينة كيبيك عام ٢٠٠٠. تحكي جودي، وهي ناشطة حضرية معنية بالعدالة من مدينة نيويورك، الموضوع نفسه، وهو الاتصال بالآخر وبناء خبرة بالداخل:

نوعًا ما، لا يمكنك صنع دمية في ثانية كما ترد على رسالة إلكترونية؛ لذا فعملية الالتقاء مع الناس لبناء شيء، وتصنيع شيء ما إيجابي، وسيُستخدم، وهو في صميمه غير عنيف ومفعم بالطاقة، ويمكن استخدامه أداة للتعبير؛ أعتقد أن تلك العملية بحد ذاتها مجزية وتمكينية. تَعْلم؛ لأنها تشبه تكسير الخبز، أو التشارك مع شخص في وجبة، حينما تنشئ شيئًا مع شخص ما، تكون بينكما صلة، وحينئذٍ أعتقد أن هذا هو الأمر الفعَّال حقًّا.

كل الحركات تُنتج ثقافة، لكن في هذه الحالة، إنتاج الثقافة هو نفسه مادة الفعل (ماكدونالد ٢٠٠٢)، التي تسمح للمرء بإدراك الآخر على أنه مختلف، وتتيح إمكانية التواصل خلف حدود اللغة:

الدمى … هي شكل متشارَك من أشكال التعبير، يستطيع شخصان يتحدثان بلغتين مختلفتين أن يأتيا معًا ويشعرا معًا بأنهما ينتجان شيئًا ما فنيًّا، وإبداعيًّا، وهي وسيلة أخرى من وسائل التواصل بينهما. وهو أمر رائع. وهو ممتع أيضًا. والأمر لا يتعلق بالمعاناة … ولكن يتعلق بأن تصبح شخصًا وتصبح جزءًا من العالم. أظن أن الدمى تفعل ذلك جيدًا حقًّا؛ ولهذا أحبها كثيرًا. (جودي، نيويورك سيتي)

من وجهة نظر جودي، تخلق الدمى إمكانية الشعور بشيء معًا، وهذا مرتبط بأن تصير شخصًا في العالم. روزلين أيضًا من نيويورك تصف خبرة مماثلة، ولكنها تستخدم لفظ «السحر»:

استخدام المسرح والدمى يبدو مثل النشاطية في أصدق صورها. خَلْق السحر هذا أكثر فعالية من الصراخ وفرض الأفكار على الآخرين. الخيال والمسرح يصلان إلى مكان أعمق داخل النفس مما يصل إليه شيء عنيف وقسري. (روزلين، إنديميديا، ٩ يوليو ٢٠٠٣)

حرية الدمية وسحرها يكشفان إمكانية فعل يتضمن أيضًا أن يصير المرء إنسانًا، فضاءً يحس كثير من النشطاء مثل روزلين بأنه مغلق بالعنف المتجلي في العوالم المحتواة المبنية على أساس الشعارات السياسية. ويصعب تخيل المزيد من استبعاده من نموذج الحركات الاجتماعية التي تصوِّر الفرد على أنه «فاعل نافع للكيان الجمعي».

الأسى والجمال: مواجهات مع النفس الهشة

تصف لولو، وهي صانعة دمى، خبرتها مع الدمى بالطريقة الآتية:

إنها تشبه المشي عبر لوحة جون سينجر سارجنت ليوم مطير؛ كل ما أراه هو سيقان مشوشة، ومماشٍ جانبية زلقة لامعة. أحيانًا أخبط رأسي. تصعب معرفة ارتفاع الرأس (رأس الدمية). عادة نحو ٨٫٥ أقدام، مما يمكنني أن أشكله. من المضحك ارتطام الرءوس في هذا السياق الجاد. لا نستطيع أيضًا أن نرى أقدامنا جيدًا، كذلك، ربما تكون أشبه بكونها حاملًا مثقلة. الرؤية الجانبية والقدرة على الحركة محدودتان. يمكن أن يكون التوازن حساسًا في الظروف الرياحية أو الزلقة، أحيانًا ما يمشي دليل مع حامل الدمية، مقدمًا إشارات صامتة حتى يتسنى لنا أن نتحرك وننحني تحت العوائق. يذكرني الأمر قليلًا بموكب (بالدمية وكأنها عربة زينة)، لكن هذا صلاة من أجل السلام. نحن وحدنا بأحاسيسنا داخل الدمية. الخوف، الحزن، الأسى، الحنين، الغربة، الأمل، كلها معنا في هذا الهيكل المصنوع من الأسلاك والورق. المشاعر التي تنتقل فينا حقيقية …

أسى «الدمى» الآسر وجمالها الفاتن لهما تأثير جذاب. صمت الدمى ومشاعرها أكبر كثيرًا من صمت الناس ومشاعرهم. العيون منجذبة للأوجه المنحوتة الكبيرة أعلى سيقان وأجسام بشرية. الأقنعة والدمى تغير الديناميات العاطفية، إنها توحي بالهيبة، إنها توسع مجال ما يعنيه البوح بأفكارنا وأحاسيسنا؛ وهو ما يعني مقاومة الخوف. تلتقط الدمى اهتمام الناس على الطريق، تبطئهم، يصير الشارع مسرحًا. سواء أكنت تمثل أم تشاهد، تصير جمهورًا وممثلًا. (ويندسلو ٢٠٠٢: ٥٣)

واسترجع الاستجابات لتحطيم الدمى في فيلادلفيا:

قال عامل المدينة: «شعرت بأنني مستاء حقًّا، كان بإمكاني أن أرى أنهم لا بد وأنهم أمضوا وقتًا طويلًا لصنع هذه الدمى. لا بد أنهم كانوا يكافحون من أجل قضية يؤمنون بها.»

قال نقيب الشرطة: «ليس لدي أي أحاسيس أنا مهني.» (تارلتون ٢٠٠٠)

خلال بضع سنوات وحسب، تعولمت الدمى لتصبح أحد الملامح الدفاعية لتجمع الحركات والجماعات التي تتلاقى بطرق مختلفة حول معارضة العولمة الليبرالية الجديدة. إنها تساعدنا على فهم تحول دقيق يستكشفه هذا الكتاب، الانتقال من حركات المجتمع الصناعي الاجتماعية (المبنية على أساس المجاميع والهويات) إلى ما أقترح أنه يمكن استكشافه بوصفه «حركات خبرة». يفترض نموذج الحركات الاجتماعية الكلاسيكي، الذي يدركها على أنها مجاميع، أن الفاعلين الاجتماعيين يفعلون «باسم هويتهم الجمعية المزعومة» (ماكآدم وزملاؤه ٢٠٠١: ١٣٧). تفهم وجهة النظر هذه نمط التواصل الذي يحدث خلال الأحداث من قبيل التظاهرات على أنه «إظهارات للقيمة، والوحدة، والأعداد، والالتزام» (تيلي ١٩٩٧). من وجهة النظر هذه، التظاهرات «تُظهر العضوية في مجتمع سكاني مهم سياسيًّا، والدعم لوضعٍ ما بوسائل الصوت والمطبوعات والأشياء الرمزية، وتتواصل مع الإرادة الجمعية من خلال الفعل بأسلوب منظم في فضاء معين، و/أو التحرك عبر سلسلة من الفضاءات» (تيلي ٢٠٠٣)؛ فهم ذرائعي على نحو استثنائي للفاعل الذي يتواصل.

مبادئ الخبرة المتضمنة في صنع الدمى وحملها مختلفة جذريًّا. تُصنع الدمى من القمامة والمهملات، وهي رسالة بأنه ليس لها قيمة مادية، لا قيمة لها في اقتصاد السوق. وتُصنع أيضًا من عجين الورق. هي هشة ومؤقتة. والواقع أنها هشة للغاية، ويمتزج هذا بصعوبة حملها، بسبب الريح والمطر، والرؤية المحدودة لأولئك الذين يكونون داخل الدمية، يثبتونها بحزام، أو يحملونها بأيديهم. توجد الدمية فقط من أجل اللحظة، من أجل الحدث، وبنهاية اليوم تتهرأ ويتساقط حطامها. تؤكد هشاشتها الشديدة وجودها في الزمن الحاضر. لا تخزن الدمى ويعاد استخدامها عبر الأحداث، بالطريقة التي تُحمَل بها أعلام النقابات المهنية ولافتاتها عامًا بعد عام، وتصير في النهاية رموزًا مبجلة للنقابة وتاريخها. يعاد صنع الدمى باستمرار بالطريقة التي وصفها نيك أعلاه. ولا يمكن فهم الدمى مطلقًا باعتبارها «إظهارًا للقيمة والوحدة والأعداد والالتزام». الدمى ليست تمثيلية، بقدر ما لا تمثِّل لوحة فنية أو قصيدة، أو «تقيم ادعاءات بشأن» الرسام أو الشاعر. ثمة نوع آخر من الاتصال على المحك هنا، أقرب إلى خبرة قراءة لوحة فنية أو الاستماع إلى قصيدة.

وكما يمكن للموسيقى أن تخلق فضاءً اجتماعيًّا، بربط أولئك الذين يستطيعون أن يسمعوا الموسيقى، فكذلك أيضًا يمكن للدمى أن تربط ما بين الناس بالطريقة التي وصفتها جودي (انظر http://www.foeeurope.org/biteback/pics/esf_puppets.jpg) لكن الخبرة ليست خبرة بناء «نحن» محسوسة بمعايير إنشاء فئة أو مجموع. الخبرة التي وصفتها لولو هي خبرة التقاء إنسان بذاته، من خلال الالتقاء بجمال غريب، ولكنها أيضًا غرابة تتخذ شكل المسخ. الدمية ليست جميلة، ولا عنيفة. الدمية صامتة، ولكنها توصل شعورًا. الدمية خارج المكان، ولكن من خلال هذا يمكنها تغيير معنى المكان، يمكنها أن تبطِّئ المرور، أن تعطل المنطق الوظيفي للناس والسيارات المتحركين؛ يصير الشارع مسرحًا؛ مسرحًا تنهار فيه الحدود الفاصلة بين الجمهور والممثل. وبالتفكير بشأن تاريخ الدمى، تربط لولو مشاركتها بخبرة «استعادة الشوارع» في بريطانيا.

الكلمات التي تستخدمها لولو مهمة؛ أسى الدمية يأسر، وجمالها يفتن. هذه صيغ تعبير لا يمكن تحقيقها من خلال القصدية. لا يمكن أن نقرر أن نكون مأسورين أو مفتونين. يستلزم التفاعل مع الدمية منا خبرة استسلام، تخلٍّ عن التحكم، من أجل أن نحسَّ. ولكن بينما هذا ليس قصديًّا، فهذا شكل من أشكال الفعل. عامل المدينة في فيلادلفيا المطالَب بالمشاركة في تحطيم الدمى «شعر بأنه مستاء حقًّا». ونقيب الشركة «لم يشعر بأي شيء»، وربط بين هذا وبين الفعل بوصفه «مهنيًّا». تندس الدمية في خبرة ذاتية، ولكن شأنها اللوحة يمكن أن نقرر أن نفتح ذاتنا لها أو أن نغلقها دونها.

تساعدنا مارجريت شيلدريك (١٩٩٩، ٢٠٠٢) على فهم ما يحدث هنا حينما تحلل مواجهة المسخ في الحياة الاجتماعية المعاصرة. هي لا تعنى بالدمى، ولكنها تلتقي بما هو «مسخي» من قبيل صور التشوه المفرط، كما في حالة طفل مولود برأسين. تصف الالتقاء بمسوخ من هذه النوعية على أنه التقاء بالذات الهشة. المسخ من الغرابة بحيث إنه يتجاوز الحدود، وإنه في آنٍ واحد أقرب مما ينبغي وأكثر قابلية للإدراك مما ينبغي، ولكنه في إفراطه الشديد هو آخر على نحو مذهل. وخبرة الغرابة هي خبرة تحطِّم ثنائية الذات-الآخر المستقرة. تجعلنا المواجهة مع مثل هذه الغرابة المذهلة منفتحين لأشكال من الهشاشة لا يمكن قولها (شيلدريك ١٩٩٩). أما والحال هكذا، كما تفترض شيلدريك، فالالتقاء بالمسخ يحطم المثال ما بعد التنويري للفاعل المستقل ذاتيًّا وشكل الذاتية اللذين يعتمدان على الفصل بين الذات والآخر. ولكنه لا يُفضي في هذه الحالة إلى خبرات من الانصهار أو التغير المفاجئ. الدمية ليست رسالة مغلقة، وليست شعارًا صريحًا وجليًّا على النقيض، كما يزعم شومان، فهي تنطوي على مواجهة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال خبرة التخلي عن التحكم بالذات. وهذه ليست مجرد مسألة إدراكية، من محاولة استنتاج ما تعنيه الدمية، وما رسالتها. على العكس، يتضمن هذا الشكل من الانفتاح على الغرابة، كما تفترض شيلدريك، شكلًا من الانفتاح الذي يعني أن يصبح المرء هشًّا. يمثل فعل بناء الدمية الحسي البدني، كما نرى بوضوح شديد في وصف نيك، استكشافًا ومواجهة للذات الهشة؛ استكشافًا يرتكز على ما تسميه شيلدريك «اقتصادَ لمسٍ علائقيًّا» (٢٠٠٢).

يشتمل أغلب روايات صنع الدمى على روايات عن المشاركة في الطعام، وأهمية دور شبكة «طعام لا قنابل». وتوجد هنا أمور على المحك أكثر بكثير من الرمزية الواضحة لتقاسم الطعام. حضور الطعام، وحقيقة أن فعل صنع الدمى يحدث في الوقت والمكان نفسيهما اللذين يحدث فيهما طهو الطعام، يعنيان أن كليهما يصيران جزءًا من الرواية، كما نرى في قصة نيك. صار دور الطعام هو دور إعلاء الخبرة الحسية التي هي بالفعل في قلب صنع الدمى. الطعام — مثله مثل مادة العجينة الورقية التي تُتَخيل منها الدمى — هش وموقوت، حينما نتعامل معه على مستوًى حسي. تحمل الرائحة معها الذكرى، ولكنها ذكرى عابرة ومراوغة أيضًا (روينز ١٩٨٨، مقتبس في كيرشنبلات-جيمبلت ١٩٩٩). بطرق عديدة، خبرة الرائحة والذكرى المراوغة التي تأتي بها هي شبيهة بخبرة النشطاء. إنهم لا يشكلون مجتمعًا مستمرًّا، ولا منظمة من باب أولى. هم ينضمون إلى عملية بناء الدمى، ويرحل بعضهم بينما يأتي غيرهم. وفي نهاية التشييد يجتمع معظمهم في فترة الحصار الممتدة ثلاثة أيام التي يتفرقون من بعدها. الطعام وسيط أداء؛ وكما يفترض كيرشنبلات-جيمبلت، فهو يخاطب الأحاسيس. المكانة المهمة في هذه الروايات ليست للأكل وحسب ولكنها للطهو أيضًا، على نحو يبرز أهمية الطعام في تعظيم النشاط الحسي في قلب صنع الدمى، وأهمية الحواس المختلفة في النفاذ إلى العالم، والإحساس بالآخر وبالذات.

الهشاشة والإحساس والصيرورة

تكررت مسألة الهشاشة بطرق مختلفة في الأفعال التي استعرضناها حتى الآن. تُبرز إحدى المقاربات ما يمكننا أن نسميه الهشاشة الذرائعية، التي تنظر إلى الهشاشة على أنها خيار استراتيجي أو ذخيرة، مثلما هي الحال حينما يعتلي المحتجون المقاعد ثلاثية الأرجل أو يدفنون أنفسهم في الأنفاق. يعتبر دوهرتي هذا مهمًّا للتفاعل الاستراتيجي بين قوات النظام وبين المحتجين، على نحو يسمح لهؤلاء الفاعلين بتطوير حملات مقاومة ناجحة. وبينما لا نقلل بأي حال من الأهمية الاستراتيجية لهذه «الهشاشة المصطنعة»، فالخبرات التي استكشفناها تشير إلى أبعاد تتجاوز نموذج الفعل الذرائعي الذي يستخدمه دوهرتي، استنادًا إلى تيلي، لتصوير ما هو على المحك في هذه الأفعال.

تُظهر الأفعال التي استعرضناها قطيعة للنموذج المعرفي المدني الذي يفعل فيه الكيان الجمعي من خلال الشخص، وكذلك النموذج الذي تُصنع فيه ادعاءات «الفاعل الجمعي». مبادئ هذه الأفعال هي مبادئ «الشخصنة» بوصفها مضاد تنفيذ دور أو وظيفة بالنيابة عن الكيان الجمعي. ما نراه، على العكس من تناقض الخاص والعام أو الفردي والجمعي، هو ما يُعرِّفه إيون وبيروني (١٩٩٧) بأنه علاقة متغيرة بين الخبرة العامة والشخصنة. النموذج المعرفي ليس نموذج الفرد، مُعرَّفًا على أساس الفصل؛ ولكن بدلًا من ذلك هو نموذج بناء تواصلي للخبرة الشخصية. ويشمل هذا قدرة على الإحساس بحضور الآخر، الذي يمكننا، كما رأينا في فيلادلفيا، قبوله أو رفضه. وكما رأينا رواية نيك لصنع الدمى، يشمل هذا مواجهة مع الذات الهشة. تقدم مارجريت شيلدريك رؤية مهمة في خبرات الهشاشة تلك، حينما تفترض أن هذه ليست «خصيصة متأصلة في الذات» ولكنها تفهم على نحو أفضل بوصفها «شرطًا أساسيًّا للصيرورة» (٢٠٠٢: ٨٥) وتقدم لنا رؤية ثاقبة حينما تكتب عن الصدمة الإدراكية التي تمر بها حينما تواجَه بعرض صور فوتوجرافية لأطفال حديثي الولادة أو مجهضين ذوي تشوهات خطرة، وهو عرض يجابِه ويأسر رد فعل:

صدمة التهديد المفترض لسوائي الذاتي التي يبدو أن الأشكال تقدمها، والإحساس الموازي بالامتنان، ينبعان كلاهما من الإدراك المحتوم بأني بصفتي ذاتًا مجسَّدة، فأنا أيضًا هشة. ليس فقط أن وحدة كينونتي غير مضمونة، ولكن أيضًا ما بدا أنه غير قابل للتساهل، أو حتى غير قابل للتفكير، هو جوهري بالتحديد لذاتي. فكرة أن الهشاشة غير القابلة للانتقاص تعد الشرط الضروري للصيرورة الجسمانية الكاملة — لذاتي ودائمًا مع الآخرين … تدعو في النهاية إلى الاستعداد للانهماك في خُلُق المخاطرة. (شيلدريك ٢٠٠٢: ٨٦)

تستخدم شيلدريك كلمة «صدمة»، مبرزة مرة أخرى خبرة غير قصدية؛ فالهشاشة التي تشير إليها شخصية محسوسة على مستوى الذات. ولكنها تكشف عن إمكانية صيرورة جسمانيةٍ للذات، مع الآخرين. ليس هذا منطق بناء «نحن»؛ ولكنه خبرة ذاتٍ، معاشة في ظل العلاقة بالآخر. شخصنة الخبرة هذه هي في قلب مبادئ الفعل الناشئة. «تندس الدمية في ذاتنا الفردية لا ذاتنا العامة». يوجد على المحك هنا ما هو أكثر من «النزعة الشخصية» للطبقة الوسطى، أو فكرة أن الحرية يمكن أن تكون اجتماعًا بلا نهاية. لكننا لا نتعامل كذلك مع أشكال جديدة من الانصهار، اندماج المقدس والقابلية للاجتماع معًا في العودة إلى القبيلة. على العكس من ذلك، نشهد نشوء مبادئ خُلُقية جديدة وأشكال جديدة من الفعل الجسماني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤