الفصل السابع

موقف الصليبيين من النصارى

سياسة صلاح الدين والأيوبيين إزاء الأقباط

إن ضخامة الوسائل التي أعدها الصليبيون وتعدد هجماتهم تدل بلا شك على أن الحروب الصليبية كانت محاولة لمحو نفوذ الإسلام في الشرق، فقد شنت هذه الحروب أول ما شنت لانتزاع حماية القبر المقدس من الخلفاء، ولكنها ما لبثت أن تحولت إلى قتال عام بين جيوش الإسلام وجيوش المسيحية؛ أي: بين الشرق المسلم والغرب المسيحي.

لما تحدثنا عن الفتح الإسلامي، حاولنا أن نحدد موقف الفاتح واستعداد الشعوب المهددة بالغزو، كذلك سنحاول أيضًا تحديد سياسة الغزاة؛ أي: الصليبيين، نحو النصارى في مصر، وموقف النصارى منهم، غير أن المستندات التي عثرنا عليها قليلة؛ ذلك لأن النصارى في الشرق، وخاصة النصارى في مصر، فقدوا نفوذهم، كما بيَّنَّا ذلك، مما دعى مؤرخي الحروب الصليبية، سواء الشرقيين منهم أم الغربيين، إلى أن يصرفوا عنايتهم إلى غير مصير الأقليات الدينية، فلم يذكروها إلا مصادفة، كما أنهم لم ينوهوا إلا بمعلومات سطحية.

لذلك نرى أنفسنا مضطرين إلى الالتجاء إلى طريقة الاستنتاج، ومع كلٍّ، فسنحاول بما تحت أيدينا من وثائق قليلة، أن نعطي فكرة دقيقة إلى حدٍّ ما عن هذا الموضوع.

(١) جهل الصليبيين وخشونتهم

كان الصليبيون فرسانًا لا يخشون الموت، مهروا في فنون المبارزة والقتال، وكانوا يرتكزون على شجاعتهم وغلظتهم للظفر بالعدو والانتصار عليه، وكانوا يأنفون، لزهوهم وكبريائهم، الالتجاء إلى الطرق السلمية أو الدبلوماسية ليصلوا إلى رغباتهم، ويقول المؤرخ «ميشيو» Michaud: «كان البارونات والنبلاء يجهلون، لغلظتهم، الكلمات المعبرة عن حقوق المرء، وكان أفق علمهم قاصرًا على ميادين الحروب، وهي سياسة الأمراء والدول في ذلك العصر.»١
وينقل إلينا «ميشو»، من بين الروايات القديمة، هذه القصة التي تكشف لنا عن عقلية هؤلاء الفرسان في القرون الوسطى، «بينما كان عدد من الأمراء الفرنسيين يقومون بفروض الاحترام للإمبراطور «الكسيس» ساعة استقبالهم لهم، ذهب الكونت «روبير دي باري» وجلس بجانبه فأمسكه «بودوان دي هينو» من ذراعه وقال له: «اعلم أنه يجب احترام تقاليد البلاد التي نقدم إليها.» فأجابه «روبير»: «أحقًّا تقول؟ كيف يجلس هذا الفلاح بينما يقف هذا العدد الكبير من القواد العظام؟» وأراد الإمبراطور أن يفهم معنى هذا الحديث، فلما انصرف النبلاء من عنده، استبقى «روبير» وسأله عن أصله وعن وطنه، فأجابه: «إني فرنسي ومن أعرق النبلاء، وإني لا أعرف إلا شيئًا واحدًا، ذلك أن يوجد بالقرب من كل كنيسة ساحة يذهب إليها كل من يحترق شوقًا لإظهار شجاعته، وقد ذهبت إليها عدة مرات، فلم يجرؤ أحد على منازلتي.».٢

فالصليبيون إذًا ورَّطوا أنفسهم في مغامرة خطيرة للغاية لاعتمادهم على السيوف فقط، وإذا أدى الحماس إلى زيادة عددهم بكثرة، فإن الجيوش تحركت دون أن تتخذ أية حيطة، وقد تقدمها جمع غفير من الحجاج غير المسلحين، فهبوا متأثرين بخطب بطرس الراهب وبتعصبهم الديني، فواجهوا الموت بارتياح، وقد أبادهم الأتراك تقريبًا عن آخرهم.

وسافرت بعد ذلك جيوش البارونات المسلحة، وقد بلغ عدد جنودها نصف مليون تقريبًا غير أن النظام كان ينقصها، ولم يكن عليها قائد واحد، وكان الخلاف في كثير من الأحيان يدب بينهم، وكان كل فريق يميل إلى العمل حسب هواه، فتحمل الجيش من جراء ذلك مضايقات خطيرة وخسائر فادحة رغم تفوق قواته على قوة المدافعين المسلمين، كما أن ملابس الجند كانت ثقيلة بالنسبة لمناخ بلاد حارة كفلسطين، ثم إنهم لم يفكروا في استقدام أسلحة للحصار، بل عرقلوا عملياتهم الحربية بجيش من النساء، عطل حركاتهم وأبطأ تقدمهم واستهلك مؤنهم.

ثم إن الصليبيين كانوا يجهلوا طبيعة البلاد التي اجتاحوها، وكانوا لا يستعينون في أغلب الأحيان بالمرشدين أو الأدلاء، وهناك رواية، نجهل مصدرها، تقول: إن الوطنيين، واسمه قراقوش «؟»، هو الذي لفت نظر «فيليب أوغست» إلى أن مصر مفتاح سوريا، ومن ذلك الحين، تعددت حملات الصليبيين على وادي النيل بقصد قطع دابر هجمات العرب والاستيلاء على بلاد مشهورة بتربتها الخصبة،٣ ولما دخلوا الأراضي المصرية، كانوا أبعد الناس معرفة بأحوال فيضان النيل وما يترتب عليه، فتقدموا غير مبالين بالعواقب، حتى حان موعد فتح السدود ففاضت الترع والقنوات وحاصرت جيوشهم واضطرتهم إلى التسليم، وبلغ بهم الجهل بنظم البلاد السياسية حد إطلاقهم على الوزير الأفضل شاهنشاه لقب «ملك بابليون».٤

زد على ذلك أن عدم استعدادهم الدبلوماسي كان أشد خطورة عليهم من عدم استعدادهم العسكري، فقد هبّ الصليبيون لإنقاذ «الكسيس» إمبراطور بيزنطيا من الخطر العثماني، ولكن فاتهم أن يأخذوا منه الضمانات الكافية، فلما وصلوا إلى ضفاف البسفور، فاجأهم الإمبراطور بسياسته المائعة، حتى نفد صبرهم منه، ولم يتخذوا الحيطة بعقد معاهدة مع الإمبراطورية البيزنطية لتنظيم مرورهم بأراضيها إلا قبيل الحملة الثالثة.

ثم كان الصليبيون يجهلون كل شيء عن البيزنطيين الذين اشتهروا بسعة الحيلة بقدر ما مهروا في فن الدبلوماسية، وكانوا يعتبرون شعوب أوروبا شعوبًا بربرية، ويعتزمون التخلص من الصليبيين بعد أن يأمنوا خطر المسلمين ويجنوا ثمرة انتصاراتهم، ولما رأوا أن قوات الغرب لا تكفي لدرء الأخطار عن إمبراطوريتهم، أسرعوا إلى ترضية الفريقين المتحاربين، فعقد «إسحاق الملاك» معاهدتين في وقت واحد: الأولى مع فريدريك الثاني، والثانية مع صلاح الدين الأيوبي.

وكيف يطلب إلى رجال عسكريين، جلّ همهم التباري في ساحات القتال، كيف يطلب إليهم أن يحلوا رموز السياسة المعقدة أو أن يستغلوا العروض التي تقدم إليهم من شعوب أخرى، كالتتر مثلًا، لعقد محالفات؟

أكان في استطاعتهم أن يدركوا أن الشرق الإسلامي لم يكن متحدًا حينما فيه؟ وكيف يدركون، مع جهلهم التام بالديانة الإسلامية، أن خلافتين، ما زالتا قويتين، تتنازعان السيطرة على العالم الإسلامي: الأولى في مصر، وهي الخلافة الفاطمية الشيعية، والأخرى في بغداد وهي الخلافة العباسية السنية؟

ومع ذلك، فإن الصليبيين كان في مقدورهم الانتصار بلا شك ولا عناء، لو كان أمامهم العرب دون سواهم، ولكن الأتراك القادمين من آسيا تدخلوا في الأمر لرفع مستوى قوة الخلفاء المتخاذلة، فرجحوا بذلك كفة الإسلام هذا بالرغم من أن انضواءهم تحت لواء العباسيين جلب عليهم عداوة الصليبيين والفاطميين وبعض الإمارات السورية التي استغلت الفوضى السائدة لإعلان استقلالها.

حقق الفاطميون ما لم يخطر ببال الصليبيين، فأرسلوا إليهم وفدًا لعقد تحالف بينهم، ولما وصل الوفد الفاطمي عند الصليبيين كانوا وقتئذ يحاصرون أنطاكية، وترك لنا «روبير لوموان»٥ قصة رائعة عن هذه المقابلة، ويقول: «حاول الجنود المسيحيون أن يخفوا عن المسلمين ما تحملوه من بؤس وشقاء، فتزيوا بأزيائهم النفيسة وحملوا أجمل أسلحتهم … واستقبل رؤساء الجيش الوفد المصري تحت خيمة بديعة، وقال الوفد صراحة في خطابه: إن الخليفة لم يفكر أبدًا في إبرام محالفة مع المسيحيين، إلا أن انتصارات الصليبيين على الأتراك، وهم أعداء سلالة علي بن أبي طالب اللُّدا، جعل الخليفة يعتقد أن الله تعالى قد أرسلهم إلى آسيا قصاصًا وعدلًا.

وكان الخليفة المصري على استعداد ليتقرب من المسيحيين المنتصرين، ويدخل فلسطين وسوريا بجيوشه، ولما علم أن كل ما يرجوه الصليبيون هو الاستيلاء على القدس، وعد بأن يعيد الكنائس إلى سابق مجدها وإقامة الشعائر فيها، وفتح أبواب المدينة المقدسة لجميع الحجاج على أن يأتوا مجردين من الأسلحة وألا يقطنوا فيها أكثر من شهر.

كان يمكن أن يعتبر ما عرضه الوزير الأفضل شاهنشاه أساسًا للمفاوضات؛ إذ كان الفاطميون يهتمون خصوصًا بحماية حدود مصر الشرقية باستعادة فلسطين التي وقعت بين أيدي الأتراك، ثم كان نفوذ الأقليات الدينية، أو بالأحرى النفوذ الأرمني في مصر، قويًّا في ذلك الوقت؛ لأن سلطة الخليفة كانت معدومة، وليس بمستبعد على الفاطميين الذين ذهبوا بتسامحهم إلى ترقية النصارى إلى رتبة الوزارة، أن يتحالفوا عسكريًّا مع المسيحيين لإنقاذ عرشهم المتداعي.

غير أن الصليبيين لم يكونوا في مستوى يسمح لهم أن يسلكوا سياسة واسعة، ولا نعجب إذ رأيناهم بأسلوبهم الخشن: «لم نقدم إلى آسيا لنخضع لأوامر المسلمين أو نتقبل حسناتهم، وعلى كل، فإننا لم ننسَ إهانات المصريين للحجاج الغربيين، وما زلنا نذكر أن النصارى في خلافة الحاكم، سلموا إلى الجلادين، وأن كنائسهم هُدمت، ولا سيما كنيسة القيامة من أعلاها إلى أسفلها … إن المسيحيين يريدون أن يتولوا بأنفسهم حراسة القدس ويتحكموا فيها، اذهبوا وقولوا لمن أرسلكم أن عليه أن يختار الحرب أو السلم قولوا له: إن المسيحيين المعسكرين أمام أنطاكية لا يهابون شعوب مصر ولا الحبشة ولا بغداد، وإنهم لا يتحالفون إلا مع الدول التي تحترم القوانين العادلة وأعلام يسوع المسيح.»٦ ومن عجب، رغمًا عن خشونة الإجابة، فإن المفاوضات لم تقطع، بل صاحبت بعثة مسيحية الوفد الإسلامي إلى مصر.

ونقول بعد ذلك: إن الحلف الذي عرضته مصر على الصليبيين شيء لا يذكر بالنسبة للذي عرضه، فيما بعد، التتر على الملك لويس التاسع، والواقع أن عددًا كبيرًا من التتر اعتنق الدين المسيحي تحت تأثير القساوسة النسطوريين، ثم إن زوجة جنكيز خان المسيحية لم تزل تطالب زوجها بالتسامح مع أبناء دينها، والتحالف مع الصليبيين، ولو أن هذا التحالف قد أُبرم، لما استطاع الأتراك أن يصمدوا طويلًا أمام القوات المتحالفة، ولكن الصليبيين أهملوا هذا العرض الذي كان من شأنه أن يدعم الإمبراطورية اللاتينية الشرقية الآيلة للسقوط، بل عمدوا دائمًا على زيادة أعدائهم وإشعال نار البغضاء في قلوب حلفائهم، وهكذا نراهم في أثناء الحرب الصليبية الثانية، ينقلبون على واليّ دمشق، حليفهم الطبيعي؛ لأنه كان عدو الأتراك، بدلًا من أن يهاجموا قوات نور الدين.

ولا يعنينا أن ندخل في تفاصيل الحروب الصليبية، وكل ما نرجوه من عرض الحوادث السابقة، أن نبين عدم استعداد الصليبيين عسكريًّا وسياسيًّا قبل دخولهم في هذه المغامرة الكبرى، وذلك بسبب جهل تنظيمها التام، ويقول المؤرخ الحديث «رينيه جروسيه» Groussct في هذا الشأن: «لقد توغل البارونات الفرنجة بدون استعداد في هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف والمعقد أشد تعقيدًا، وكان عليهم أن يرتجلوا النظم لإنشاء دولة، ويتبعوا سياسة ثابتة إزاء الأهلين، ويبتكروا نظامًا إداريًّا ينسجم مع البيئة.»٧ وكلمة الارتجال هي خير ما يُعبر بها في هذه المناسبة؛ لأن الصليبيين لم يكونوا قد أعدوا أية خطة، ولكن الظروف هي التي أملت عليهم موقفهم، فكانوا أبعد الناس عن التفكير في الاستعانة بنصارى الشرق قبل بدء الحملة، وعلينا حينئذ أن نقتصر في بحثنا على دراسة علاقة الصليبيين بالأقليات الدينية، وهو ما يهمنا.

(٢) الصليبيون والنصارى الشرقيون

ليس بالإمكان أن ننظر إلى موقف النصارى من الصليبيين نظرة عامة، ويجب ألا يكون التمييز بين اليعاقبة والملكيين، ولكن بين اليعاقبة وبين سائر الجاليات المسيحية في الشرق؛ ذلك لأن اليعاقبة السوريين الذين لجأوا إلى مصر عند اقتراب الصليبيين من سوريا، خوفًا منهم، لم يلبثوا أن عادوا إلى بلادهم بعد أن استقر الموقف في القدس.٨

ليس من العسير أن ندرك سبب ذلك، ففي أوائل القرن العاشر الميلادي اجتاح البيزنطيون بقيادة «نقيفورفوكاس» ونائبه «جان تزيميسيس» مقاطعة صقلية وشمال سوريا، ثم لبنان، حيث أوقف الفاطميون تقدمهم، واحتفظ البيزنطيون بأكبر جزء من الأراضي التي احتلوها مدة مائة وخمسة عشر عامًا، وأخذوا يحلون بالتدريج العناصر المسيحية في تلك الجهة محل العناصر الإسلامية، وحدث قبل ظهور الصليبيين بخمس عشرة سنة أن انتزعت القبائل التركية، تحت قيادة طغرل بك، هذه الممتلكات من البيزنطيين، فمن الطبيعي إذًا أن تخف الشعوب المسيحية في أرمينيا وآسيا الصغرى وسوريا إلى استقبال الصليبيين، خاصة وأنهم لم يأتوا إلى الشرق إلا تحقيقًا لهدف ديني، وهو تحرير القدس، موضع تقديس المسيحيين أجميعن، وتلبية لدعوة الإمبراطور البيزنطي «الكسيس كومنين».

وكان الأرمن أول من ساعد الصليبيين في أثناء اجتيازهم آسيا الصغرى، ويقول «ميشو»: لم يكن «بودوان» في حاجة إلى مرشدين في بلاد كان سكانها يعرضون عليه مساعدتهم،٩ وقد انتخبه سكان الرَّها المتحمسون ملكًا عليها، ولما قدم إليها، ذهب إليه أسقفها واثنا عشر من وجهائها وأخذوا يحدثونه عن ثروة الأردن تحريضًا له على افتتاحها.
وحذا اللبنانيون حذو الأرمن، فقدموا مساعدتهم للفاتح وكانوا له خير معين،١٠ «وكان يوجد وقتئذ ببيروت عدد كبير من النصارى الملكيين واليعاقبة، ولم يترددوا جميعًا في مناصرة الصليبيين وصاهروهم عن طريق الزواج، فزاد عدد الأسر الأوروبية، وكانوا يؤلفون أغلبية الأطباء والصيادلة في الجيش وفي معسكرات الصليبيين، أضف إلى ذلك أنهم كانوا يضطلعون بأعمال الترجمة في مختلف الدواوين.».١١

وقد ارتاح الصليبيون واطمأنوا لموقف هذه العناصر؛ إذ إنهم وجدوا فيهم حلفاء مخلصين في قلب الإمبراطورية الإسلامية، وعلى أي حال، فإن الصليبيين أظهروا شعور العطف نحو جميع النصارى على حد سواء، فلم يكن أمامهم إلا عدو واحد، وهو المسلم.

وكتب ميخائيل السوري، الأسقف اليعقوبي، في هذا الصدد قائلًا: «لما اجتاز الصليبيون البحر، اجتمعوا وأخذوا عهدًا على أنفسهم أمام الله بأنهم لو دخلوا القدس سيعيشون بسلام مع مختلف المذاهب المسيحية وسيوزعون الكنائس والأديرة على جميع الطوائف المسيحية.»١٢ غير أن نشوة النصر جعلتهم ينقضون بعض وعودهم، «فلما احتل الصليبيون مدينة أنطاكية، طردوا الأروام من كنائسهم الكبرى، وطردوا أساقفهم، ثم عينوا بطريركًا وعدة أساقفة من اللاتين.»١٣ ويؤيد متى الرهاوي هذه القصة ويتهم اللاتين المنتصرين بالاستيلاء على أديرة الأرمن والروم والسوريين والجورجيين،١٤ ولكنها أعيدت إليهم بعد ذلك، ثم حدثنا ميخائيل السوري عن العلاقات بين مسيحيي الشرق والغرب، فقال: «كان يوجد أساقفة من اللاتين في أنطاكية والقدس بعد أن احتل الصليبيون هاتين المدينتين، ولكن أساقفتنا كانوا يعيشون بينهم دون أن يضطهدهم أحد أو يسوء إليهم، ولم يشر الإفرنج صعوبات فيما يختص بعقيدة سائر النصارى، ولم يحاولوا أن يفرضوا حلًّا واحدًا لاتحاد جميع الشعوب التي تعتنق المسيحية، بل كانوا يعتبرون كل من يعبد الصليب مسيحيًّا، وذلك بدون تحقيق ولا امتحان سابق.».١٥
ومما يدل أيضًا على تسامح الصليبيين مع النصارى الشرقيين، الخطاب الذي أرسله وجهاؤهم إلى البابا «أوربانوس» يدعونه فيه إلى زيارة القدس، وقالوا في هذا الخطاب: «… لقد هزمنا الأتراك والوثنيين، ولكنا لا نستطيع أن نستعمل العنف مع الملحدين من الروم والأرمن والسريان واليعاقبة … تعال وحطم بنفوذك الذي لا مثيل له الإلحاد كله.».١٦

أضف إلى ذلك أنه على أثر قيام المذابح العظيمة التي كانت سببًا في إخلاء مدينة القدس من سكانها المسلمين الذين سبق لهم إبادة العناصر النصرانية، قرر «بودوان» تعميرها بالنصارى الشرقيين، فعرض على السريان والروم القاطنين في الأردن أن يقيموا في القدس دون أن يهتم بالمذهب الذي يعتنقونه، وكذلك كان الوئام تامًّا أو يكاد يكون بين مسيحيي الشرق والغرب فيما عدا يعاقبة مصر.

ومن جهة أخرى، يشهد الرحالة ابن جبير، المعروف بعدم ميله للنصارى، أن الصليبيين كانوا يعاملون المسلمين معاملة حسنة؛ إذ قال: «المسلمون مع الإفرنج على حالة ترفيه، نعوذ بالله من الفتنة.».١٧
بقي علينا أن نبحث موقف اليعاقبة في مصر، ويبدو أن قلة المستندات والخلط بين الملكيين واليعاقبة في روايات المؤرخين لا تمكنا من الوصول إلى رأي قاطع في هذه المسألة، إلا أن أحد القرارات التي اتخذها الصليبيون إزاء الأقباط يلقي شيئًا من الضوء على هذه المسألة، لما احتل الصليبيون القدس، منعوا النصارى المصريين من الحج إلى هذه المدينة بدعوى أنهم ملحدون، وكتب أحد المؤرخين الأقباط يشكو من هذه المعاملة قائلًا: «لم يكن حزن اليعاقبة بأقل من المسلمين.»، ثم قال متحسرًا: «بأي حق يمنع النصارى الأقباط من الحج إلى القدس أو الاقتراب من المدينة؟ إن الصليبيين يكرهوننا كما لو كنا ضللنا عن الإيمان القويم.».١٨
وقد ذكرنا أن الصليبيين لم يُظهروا أي تعصب نحو المذاهب المسيحية الأخرى، فلماذا أظهروا هذا التعصب نحو المصريين وحدهم؟ هل لمسوا في أثناء وجودهم في الشرق حقد اليعاقبة إزاء الملكيين؟ إن هذا الحقد الذي بدأ منذ حركة ديوسفوروس، وامتد إلى نهاية القرن التاسع عشر يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن اليعاقبة المصريين لم يرتاحوا كثيرًا لوجود الجيوش الكاثوليكية في الشرق.١٩

ولكن، هل وجهة نظرهم هذه أعفتهم من عنت المسلمين؟

لما نشبت الحرب الصليبية الأولى، لم يسجل التاريخ أية مظاهرة ضد الأقباط، بالرغم من اشتراك الجيوش الفاطمية في القتال دفاعًا عن القدس التي انتزعتها من الأتراك قبل ظهور الصليبيين؛ ذلك لأن الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي كان يحكم البلاد تحت حكم الفاطميين.

ولما عرف الصليبيون طريق مصر، توالت اعتداءاتهم على الأراضي المصرية، وفي هذا الأثناء أخذ سلطان الفاطميين في الأفول، وبلغ الضعف بالخلفاء مبلغًا جعلهم يخضعون لحكم الوزراء إلى أن جاء اليوم الذي استنجد فيه العاضد بنور الدين، فما كان من صلاح الدين قائمقام نور الدين إلا أن دخل بعساكره الأكراد وادي النيل ليطرد منه الفاطميين والصليبيين.

ويقول تاريخ البطاركة: «إن فترة الانتقال والفوضى والحروب التي أعقبت طرد الفاطميين، عمل الأكراد ثانية بالقوانين الخاصة بزي الذميين ولطخت الكنائس بالوحل وكسرت الصلبان، وتدل كثرة الذين اعتنقوا الديانة الإسلامية من المسيحيين في هذا العصر على حدوث اضطهادات.».٢٠
ويحق لنا أن نتساءل: هل كان صلاح الدين هو ذلك القائد الذي اشتهر في الغرب بالتسامح مع رعاياه المسيحيين؟ هذا رأيهم إلى الآن؛ إذ يذكرون له ما كان يكنه من احترام لأعدائه الإفرنج، ولكنهم يعوزهم البرهان، وأخيرًا أراد أحمد زكي باشا٢١ أن يظهر التسامح الديني لمؤسس الدولة الأيوبية، فذكر لنا أن اليعاقبة في مصر كانوا يتجسسون لحساب صلاح الدين، ولكن هذا الدليل يعزز فقط وجهة نظرنا عن كراهية اليعاقبة لشعوب الغرب.
ولا ننسى أن صلاح الدين أصدر، في اليوم الذي عينه الخليفة العاضد وزيرًا بدلًا من «شيركوه»، أمرًا يحرم على الذميين شغل وظائف الدولة، ولما كان صلاح الدين متدينًا، فلم يحاول تحرير مبادئه، وكان يحذو في ذلك حذو أخيه الأكبر نور الدين، الذي كتب ذات يوم إلى الخليفة العباسي: «إن المسلمين حكموا خمسمائة عام ولم يسوءوا خلالها إلى النصارى في الإمبراطورية الإسلامية، ومن لم يسلم منهم يُقتل، «فأجاب الخليفة: «إنك لم تفهم تمامًا أقوال النبي وأن الله لا يأمرنا أن نقتل من لم يرتكب السوء.».٢٢

ولا نستطيع الجزم بأن صلاح الدين كان متعصبًا أو أنه كان يضطهد النصارى، غير أننا نعتقد أنه كان لا يميل إليهم بأي حال من الأحوال، وذلك رغم استخدامه لعدد من الكُتاب النصارى، خصوصًا وأنه لم يمنح أحدهم أي امتياز خاص.

ويصف المستشرق «رينو» Reinaud السلطان صلاح الدين بالعبارة الآتية: «لقد تنازع حكمه عاطفتان: الطموح وكرهه للنصارى، والغريب أنه لم يكره النصارى كأفراد بل كان يكرههم كأمة، فلما هزمهم سرعان ما تغير موقفه نحوهم، وآية ذلك أنه لم يكتفِ بالتسامح مع أقباط مصر، وكان عددهم في ذلك الوقت كبيرًا نوعًا ما، ولكنه احترم عهدهم وجعل بعضهم في خدمته.».٢٣

كتب «رينو» رأيه هذا اعتمادًا على موقف صلاح الدين من النصارى بعد فتحه مدينة القدس، وقد نصت شروط التسليم على أن المسيحيين الإفرنج يعتبرون وحدهم أسرى حرب، وعليهم دفع الدية الحربية إذا أرادوا فك هذا الأسر.

ويضيف ابن الأثير، الذي عاصر الحروب الصليبية، إلى ذلك قوله: «أما الفرنج من أهل القدس، فإنهم أقاموا وشرعوا في بيع ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم وذخائرهم وأموالهم وما لا يطيقون حمله وباعوا ذلك بأرخص الثمن، فاشتراه التجار من أهل العسكر واشتراه النصارى من أهل القدس، الذين ليسوا من الفرنج، فإنهم طلبوا من صلاح الدين أن يمكنهم من المقام في مساكنهم ويأخذ منهم الجزية فأجابهم إلى ذلك، فاستقروا فاشتروا حينئذ من أموال الفرنج.».٢٤
على أن تسامح صلاح الدين مع النصارى الشرقيين يعود إلى أن هؤلاء النصارى سهلوا له مهمة الاستيلاء على بيت المقدس؛ وذلك بإلحاحهم على الصليبيين بأن يسلموا المدينة، ولما كان عددهم يفوق عدد الصليبيين فقد تمكنوا من تحقيق رغبتهم.٢٥
وبالاختصار نقول: إن صلاح الدين رفض الاعتراف بالامتيازات التي حصل عليها النصارى في عهد الفاطميين، ومن المحتمل أن يكون إخراجه الذميين من وظائفهم هو، كما يقول المسيو فييت، «بمثابة حركة تطهير أجريت ضد الفاطميين أكثر منها بغضًا ضد النصارى.»، ولكن صلاح الدين لم يتوانَ في إلغاء اشتراك الخلفاء في الأعياد المسيحية، ذلك التقليد الذي كان رسخت جذوره في البلاد،٢٦ ومهما يكن من أمر، فقد بدأ السلطان في نظر الأقباط حاكمًا عادلًا ورءوفًا؛ إذ إن وجوده في الحكم منع عنهم بلاءً كثيرًا وأوقف حركة التخريب، ولولاه لاستمرت الفوضى في البلاد، ثم إن الأقباط فرحوا؛ لأن صلاح الدين ألغى الضرائب الهلالية العديدة التي أعادها آخر الخلفاء الفاطميين.
بعد أن تُوفي صلاح الدين، واجه الأيوبيون حملتين صليبيتين خطيرتين على مصر؛ «الحملة التي شنها «جان دي بريين» Brienne وحملة الملك لويس التاسع».
لما نزل «جان دي بريين» على ساحل دمياط واحتل المدينة، قلقت السلطات المصرية وأخذ أولياء الأمر يتساءلون عما إذا كان النصارى في مصر سيستقبلون الإفرنج بحفاوة، كما استقبلهم النصارى الأرمن والسوريون، وتساءلوا أيضًا هل من الحكمة أن يحولوا دون هذا التعاون الذي قد يُؤدي إلى عواقب خطيرة بالنسبة إلى المسلمين، ومما زاد المشكلة تعقيدًا أن كان في دمياط نفسها عدد كبير من النصارى الملكيين، والدليل على ذلك ما ذكره الأنطاكي عن وجود أسقف خاص بهذه المدينة في عهد الظاهر لدين الله.٢٧

وكان هذا القلق وحده كافيًا لبعث الاضطرابات في القاهرة خاصة: «وقد شمل الذهول والفزع جمع السكان، وراجت الإشاعات حول موقف النصارى فأصبحوا موضع الريبة، وثار ضدهم عدد كبير من الناس … وأصدر السلطان أمره بتعبئة نصف سكان مصر والقاهرة مختارين أو مكرهين لمقاتلة الصليبيين … أما النصارى القاطنون في القاهرة، فقد فرضت عليهم ضريبة وكذلك سائر الأغنياء».

هكذا انتهزت الحكومة فرصة الفزع الذي حل في البلاد لتملأ خزائنها التي تأثرت من الحرب القائمة، والذي يجب الإشارة إليه هي الطريقة التي توسل بها رجال الحكم ليأخذوا من النصارى أكثر قدر من المال دون أن يلجئوا إلى العنف، ويدلي «رينودو» عن هذا الحادث تفاصيل شيقة: قال: «أرسل حاكم مصر، بعد أن استشار رجال القانون، في طلب قساوسة الأقباط اليعاقبة والملكيين وقال لهم: «سافروا «مع المسلمين» وإمعانًا في تخويفهم قال: «لأجل الحرب اخرجوا مع المسلمين! غير أنكم لن تصلوا إلى باب المدينة حتى يقتلوكم، وما من أحد يستطيع أن يلومهم في الظروف التي نحن فيها»، وكان يقصد بكلامه هذا الملكيين؛ إذ كان المسلمون يأخذون عليهم حبهم للفرنج ومحاكاة عوائدهم وطريقتهم في تصفيف شعرهم، وعدم إجرائهم عملية الختان وغيرها من الأشياء المماثلة، فخاف القساوسة من هذا الكلام خوفًا شديدًا، فأسرع أحدهم إلى القول: «لدينا مبلغ ألف دينار» فأجاب الحاكم، «حسنًا اذهبوا وأحضروا هذا المبلغ»، ثم قيل للقساوسة الأقباط الذين كانوا حاضرين: «إن هؤلاء القوم ليسوا بمرتبتكم، إنكم تساوون أربعة وعشرين واحدًا منهم، ولكن إذا فرضنا أنكم لا تساوون إلا عشرة فقط، فعليكم أن تدفع ثلاثة آلاف فقط»، ووضعت الأختام على الكنيسة المعلقة وكنيسة الملكيين ومعبد اليهود.».٢٨

ويضيف «رينودو» على ما تقدم أن جنود القاهرة، وهم في طريقهم إلى دمياط، نهبوا كنائس اليعاقبة والملكيين التي صادفتهم، وأصدر السلطان أمرًا بهدم كنيسة القديس مرقس بالإسكندرية، بدعوى أنها تتحكم في الميناء، وأنه إذا ما استولى عليها الفرنج استطاعوا أن ينصبوا فيها آلات الحرب ويسيطروا على الخليج، وحاول النصارى عبثًا دفع ألفي دينار لإنقاذ الكنيسة ولكنها خربت عن آخرها.

ويبدو أن الاضطهاد كان عنيفًا؛ إذ يقول المؤرخ «كولبو» Coulbeaux في كتابه «تاريخ الحبشة»:٢٩ إن النجاشي «لابيليلا» Labilela صرح عام ١٢١٨ بدخول عشرة آلاف قبطي فروا من أعمال المسلمين الانتقامية، إلا أن ليس هناك ما كان يبرر هذا الاضطهاد بدليل أنه لا يوجد مستند عربي واحد يتكلم عن مساعدة النصارى للصليبيين، ولكن كان ظهور الصليبيين كافيًا وحده لإثارة الشك في قلوب المسلمين، وهذا حدث أيضًا في جميع البلدان التي ظهر فيها الصليبيون.
وقد أظهر الملك الكامل الذي خلف والده العادل عطفًا على النصارى إلى درجة أن الرواية الفرانسيسكانية تدعي أنه أمضى بقية حياته في دير «وهو ما نستبعده»، ويبدو أن تهديد التتار الزاحفين من الشرق قد أثر في سياسته نحو الصليبيين، وتقول إحدى الوثائق المسيحية: إنه منع سب المسيحيين بالكلمات وحتى بالإشارات،٣٠ وهدد من يخالف الأمر بالعقوبة الصارمة، غير أنه لم يستطع أن يمنع البدو من الإساءة إلى النصارى بعد أن أمر البدو باجتياح المناطق المجاورة لمدينة دمياط.٣١
فقدت الحروب الصليبية، في عهد فريدريك الثاني والملك الكامل، صبغتها الدينية بعد أن مد إمبراطور ألمانيا يده إلى الملك المسلم، الذي ترك له القدس بدون قتال، ولكنها أصبحت في عهد لويس التاسع حرب إبادة، وقد أمدنا المقريزي بالخطاب الذي أرسله لويس التاسع إلى الملك الصالح،٣٢ وهذا نصه: «أما بعد؛ فإنه لم يخفَ عليك أني أمين الأمة العيسوية كما أنه لا يخفى عليَّ أنك أمين الأمة المحمدية، وغير خافٍ عليك أن عندنا أهل جزائر الأندلس وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر، ونقتل منهم الرجال ونرمل النساء ونستأسر البنات والصبيان ونخلي منهم الديار، وأنا قد أبديت لك ما فيه الكفاية وبذلت لك النصح إلى النهاية، فلو حلفت لي بكل الأيمان وأدخلت عليّ القساوسة والرهبان وعملت قدّامي الشمع طاعة للصلبان لكنت واصلًا إليك وقاتلك في أعز البقاع إليك، فإما أن تكون البلاد لي فهي هدية حصلت في يدي، وإما أن تكون البلاد لك والغلبة عليّ فيدك العليا ممتدة إليّ، وقد عرفتك وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي تملأ السهل والجبل وعددهم كعدد الحصى، وهي مرسلون إليك بأسياف القضاء.».

ولم يكن جواب الملك الصالح على هذه الرسالة بأقل غطرسة منها؛ إذ جاء فيه: «أما بعد؛ فإنه وصل كتابك وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك وعدد أبطالك، فنحن أرباب السيوف، وما قُتل منا فرد إلا جددناه، ولا بغي علينا باغٍ إلا دمرناه، ولو رأت عيناك أيها المغرور حد سيوفنا وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل، لكان لك أن تقض على أناملك بالندم، ولا بد أن تزل بك القدم في يوم أوله لنا وآخره عليك، فهنالك تسيء الظنون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فإذا قرأت كتابي هذا فتكون فيه على أول سورة النحل أَتَىٰ أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ، وتكون على آخره سورة ص وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ، ونعود إلى قول الله تعالى وهو أصدق القائلين: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، وقول الحكماء: إن الباغي له مصرع وبغيك يصرعك وإلى البلاء يقلبك، والسلام.».

وأكبر الظن أن كان لتبادل الرسائل هذه أثره على موقف الحكام بالنسبة للنصارى في مصر، إلا أن التاريخ لا يعطينا أية معلومات عن هذه النقطة.

على أننا نستطيع أن نقدم بعض التفاصيل عما حدث في دمياط بفضل التقرير الذي وضعه «الكونت دي شامباني» عن هذه الحملة،٣٣ وعلمنا أنه بينما كان لويس التاسع يستعد لمحاصرة دمياط، قام المسلمون بقتل جميع النصارى القاطنين بالمدينة بلا شفقة ولا رحمة، وفي اليوم التالي وجد الصليبيون مدينة دمياط خاوية، أما النصارى الذين فروا من المدينة ونجوا من القتل، فقد عادوا إليها وأعملوا سيوفهم في رقاب المسلمين، الذين لم يساعدهم كبر سنهم أو مرضهم من اللحاق بالجيش الإسلامي المتقهقر، فإن هؤلاء النصارى خفوا إلى استقبال الصليبيين الذين اعتبروهم كأخوتهم، وأشركوهم في موكب انتصاراتهم.
هل كان يوجد في القاهرة في هذه الظروف شبكة للجاسوسية لحساب الصليبيين؟ إن التاريخ الإسلامي لا يذكر إلا حالة فردية واحدة؛ وهي حالة أبي الفضائل بن دوخان، كتب عنه ابن النقاش: «كان أكبر الكتاب نفوذًا، وكان قذى في عين الإسلام والخراج الذي يشوِّه وجه الدين، وكانت سلطته قوية لدرجة أنه أرسل ذات يوم إلى نصراني اعتنق الإسلام أمرًا وقع عليه السلطان ليحثه على العودة إلى المسيحية، وكان لم يزل يراسل الفرنج ويخبرهم عمَّا كان يحدث عند المسلمين والحكام والأعيان، وكان مبعوثو الفرنج والنصارى يقتحمون دائمًا مكتبه، فكان يستقبلهم بحفاوة ويصفي أعمالهم قبل أعمال غيرهم.».٣٤
هل اعتنق بعض المسلمين الديانة المسيحية في أثناء الحروب الصليبية؟ لمح إلى ذلك بعض مؤرخي الغرب، وجاء في كتبهم أن أحد الصليبيين قال: لدينا بعض المؤمنين الشرقيين الذي يُمْكِنَّا الاتكال عليهم، فهم يعرفون البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وكذلك الأخطار التي قد نصادفها فيها، وأنهم تَلَقَّوْا سر العماد بتقوى حقيقية،٣٥ ولا نعلم بالضبط إذا كان يقصد صاحب هذا القول أفراد طائفة اليعاقبة الذين عادوا إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية أو بعض المسلمين الذين اعتنقوا المسيحية.

ومن الغريب أيضًا أن نرى، بعد النكبة التي حلت بجيوش لويس التاسع وإبادتها عن بكرة أبيها، عددًا من الصليبيين قد أربكهم الفزع وبلبل أفكارهم، فأخذوا يشكون في إيمانهم، ولما خيَّروهم بين اعتناق الإسلام والموت لم يترددوا في اعتناق الإسلام.

ومهما كان الأمر، فإن الحروب الصليبية تركت أثرًا مشئومًا، وإذا كانت العلاقات بين الشرق والغرب قد امتازت بالمعرفة والاعتبار، فلا شك أيضًا أن هذه الحروب حفرت هوة عميقة بين الإسلام والمسيحية.

أما فيما يختص بأقباط مصر أي اليعاقبة، فقد رأوا في هزيمة الفرنج عقابًا جديدًا أنزل على أنصار كنيسة روما، وعلى الرغم من الاضطهادات التي عانوها فإنهم ظلوا المحور الأساسي الذي ارتكز عليه أعظم الحكام المسلمين.

هوامش

(١) Histoire des Croisades, I. P. 41.
(٢) idem, I. P. 101 – 2.
(٣) A. Rbyme, L’ Egypte Francaise, Coll “L’ Univ. Pittoresque” p. 7.
(٤) Michaud, I, p. 507.
(٥) Michaud, I, p. 156.
(٦) Michaud, I, p. 157.
(٧) Histoire des Croisades, I. p. 313.
(٨) Abbe Martin, Les Premiers Princes Croises et les Syriens Jacobites de Jerusalem, Journal Asiatique, Nov.- dec., 888.
(٩) Michaud, I, p. 136.
(١٠) Groussut, I, p. 142.
(١١) H, Lammens, La Vie a Beyrouth sous la regne des Croises, al Machriq, 1933.
(١٢) جزء ٣، ص١٨٣.
(١٣) جزء ٣، ص١٩١.
(١٤) ذكره Crousest، جزء ١، ص٢١٢.
(١٥) جزء ٣، ص٢٢٢.
(١٦) ميشو، ج١، ص١٥٠.
(١٧) رحلات ابن جبير، طبعة ليدن، الطبعة الثانية، ص٤٧٩.
(١٨) رينودو، ص٤٧٩.
(١٩) لم يسمح للملكيين بعد الحرب الصليبية السادسة بإصلاح كنائسهم بعكس اليعاقبة الذين نالوا بعض تسهيلات تتعلق بطريقة معيشتهم في حين أن أجبر الملكيون على اتباع قوانين فيها إهانة لهم.
(٢٠) Ronaudot, P. 540.
(٢١) مجلة المجمع العلمي المصري عام ١٩١٦، تحت عنوان: Coupe magique dediee a Salaheddine.
(٢٢) ميخائيل السوري، ج٣، ص٣٤٣–٥.
(٢٣) Notice Sur la Vie di Saladin. 36–7.
(٢٤) الكامل في التاريخ، القاهرة، المطبعة الأزهرية، سنة ١٣٠١ﻫ، ج١١، ص٢٥١.
(٢٥) رينودو، ص٥٤٥.
(٢٦) يقول «إميلينو»: إنه على الرغم من أن الحكم الأيوبي لم يكن قاسيًا على النصارى بالنسبة لعهود أخرى؛ فإنه من الملاحظ أن حالة النصارى تغيرت عما كانت عليه أيام الولاة أمثال عبد العزيز بن مروان، ويقص علينا إميلينو عن مؤرخ قبطي أن أحد التجار الأقباط، واسمه حنا، تزوج من مسلمة، ولما ندم على فعلته أراد أن يستشهد، فأثار عليه غضب الجماهير، واختتم المؤرخ القبطي قصته قائلًا: «صلِّ لأجلنا أيها الشهيد العظيم؛ لأنك تعرف في أية ضائقة يعيش الأقباط.» «في مجلة المجمع العلمي المصري سنة ١٨٨٥: Deux documents coptes».
(٢٧) الأنطاكي، ص٢٣٧.
(٢٨) رينودو، ص٥٧٢.
(٢٩) ص٢٥٦، ٢٦٦.
(٣٠) ذكرها المؤرخ «ميشو» في تاريخ الحروب الصليبية، ج٢، ص٤٢٥.
(٣١) نفس المصدر، ج٢، ص٢٤٠.
(٣٢) الخطط، ج١، ص٢١٩.
(٣٣) ميشو، ج٣، ص١٢٢.
(٣٤) ترجمة النص الفرنسي المنشور في المجلة الآسيوية الفرنسية سنة ١٨٥١م.
(٣٥) ميشو، وثائق عن الحروب الصليبية، ج٣، ص٤٦٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤