الفصل الثاني
الإسكندرية
يتميز موقع المدينة بمميزات عديدة؛ فالمكان أولًا يُطِل على بحرَين، حيث يُطِل من
الشمال على البحر المصري، كما يُدعى، ومن الجنوب على بحيرة ماريا، وتُدعى أيضًا
ماريوتيس. المدينة بكاملها تقطعها الشوارع وصالحة لركوب الخيل وقيادة المركبات، ويقطعها
شارعان عريضان جدًّا، يمتدان لأكثر من ١٠٠ قدم يوناني عرضًا، ويتقاطعان في قسمَين
وبزوايا قائمة. وتحتوي المدينة على مناطق عامة جميلة للغاية وكذلك قصور ملكية، تُشكِّل
ربع أو حتى ثلث محيط المدينة بأكمله؛ لأن كل ملك، كغيره من الملوك كان مُغرَمًا
بالفخامة؛ ومِن ثَم اعتاد إضافة بعض الزخارف للمعالم العامة؛ لذا كان من شأنه أيضًا أن
يعمل بنفسه على نفقته الخاصة على إنشاء مقر إقامة، إضافة إلى تلك المقرات القائمة
بالفعل، بحيث — وأقتبس كلمات الشاعر — «يوجد مبنًى فوق مبنًى». ومع ذلك، فكلها متصلة
بعضها ببعض وبالمرفأ. والمتحف أيضًا جزء من القصور الملكية.
سترابو، كتاب «الجغرافيا»
عندما عُهِد إلى ديميتريوس الفالرومي بمسئولية مكتبة الملك، أُغدِق عليه بالموارد
بهدف جمع كل الكتب في العالم، إن أمكن؛ وبإجرائه لعمليات شراء ونسخ، نفَّذ مُراد الملك
قدرَ استطاعته.
«خطاب أرستاس إلى فيلوكراتيس»
دائمًا ما كانت مكتبة الإسكندرية العظيمة، التي أُنشئَت نحو عام ٣٠٠ق.م على يد الملك
بطليموس الأول، الرمز الأعظم للسعي العلمي. فهنا وُلدَت فكرة ضم المعارف في مكان واحد
عن
طريق جمع نسخة من كل نص. وظل حلم جمع المعرفة في مكان واحد يُلازِم جامعي الكتب وأمناء
المكتبات منذ ذلك الحين، ويدخل في صميم مكتبات حقوق الطبع والنشر المعاصرة، والتي يحق
لها
الاحتفاظ بنسخة واحدة من كل كتاب يُنشَر في بلدها.١
سعيهم وراء هذا الحلم، بعنادٍ من المبادئ الأخلاقية، فكانوا يسرقون ويستعيرون ويستجدون؛
كانوا يفعلون أي شيء لزيادة أعداد النصوص التي تُجمَع. فكانوا يأمرون بأن تُفتَّش كل
السفن
المارة عبر الإسكندرية وأن تُصادَر أي لفائف على متنها. بعد ذلك، كان يُوضع على تلك اللفائف
بطاقة مكتوب عليها «من السفن» قبل وضعها على الرف في المكتبة. عندما أعار الأثينيون
المصريين لفائف قيمةً لنسخها، رفض المصريون إعادتها، واختاروا، عوضًا عن ذلك، أن يحتفظوا
باللفائف الأصلية ويُعيدوا نسخًا منها، مُسقِطين حقهم في المبلغ الضخم من المال الذي
دفعوه
على سبيل الضمان. أتت سياسة الاقتناء العدوانية هذه بثمارها، وفي غضون عقدَين من الزمن
ضمَّت المكتبة آلاف الكتب التي تتناول شتَّى الموضوعات بدءًا من الطهي وصولًا إلى اللاهوت
اليهودي؛ مجموعة لا مثيل لها في أي مكان على وجه الأرض، سواء من ناحية الحجم أو الموضوعات.
ولكن ملوك البطالمة لم يجمعوا الكتب فحسب، بل جمعوا كذلك العقول؛ فأقاموا مجتمعًا من
العلماء في مزار مقدس بنَوه لتمجيد الميوزات؛ الإلهات التسع اليونانيات اللواتي كُنَّ
مصدر
الإلهام للفنون والعلوم. وصار المكان معروفًا باسم «الموزيون» أي المتحف، وارتبط ارتباطًا
وثيقًا بالمكتبة؛ فكان العلماء من أنحاء عالم البحر المتوسط يُدعَون للمجيء والعمل هناك.
وبمرور الوقت، استُحدِثَت مكتبة تابعة في معبد سيرابيس (السيرابيوم) لتضم مقتنيات النصوص
والكتب المتزايدة باستمرار.
«من أين نبعت فكرة مكتبة الإسكندرية؟» هذا السؤال حيَّر عقول المؤرخين لزمن طويل.
كان
أرسطو أول شخص قد عُرف عنه أنه يجمع الكتب بصورة شخصية، واقترح الكُتَّاب، ابتداءً من
سترابو (٦٤ق.م إلى ٢٤م) ومن جاءوا بعده، أنه كان مصدر الإلهام لفكرة تأسيس مكتبات في
العديد
من المدن التي احتلها وأنشأها تلميذه الإسكندر الأكبر. من المحتمل أيضًا أن تكون فكرة
جمع
الكتب والنصوص في مكان واحد قد جاءت من أرسطو. فقد ورد أن اهتماماته الفكرية كانت بالمثل
ذات نطاق شامل، كما أن تلميذًا آخر له، هو ديميتريوس الفالرومي، كان له دور مهم في تصميم
وإنشاء مكتبة الإسكندرية. تأسَّسَت المدينة على يد الإسكندر عندما احتل مصر في عام ٣٣١ق.م،
وبحسب الروايات، اختار هو شخصيًّا الموقع، الذي كان يقع في موقع مُلائم في دلتا النيل
بين
بحيرة ماريوتيس (مريوط حاليًّا) والبحر، والذي كان يتميز بوجود طرق نقل ممتازة ومرفأين
طبيعيَّين كبيرَين على ساحل البحر المتوسط. عندما مات الإسكندر، انتقلت مصر، التي كانت
بكل
المقاييس أغنى جزء من الإمبراطورية اليونانية الشاسعة، إلى أحد أكثر قواده جدارة بالثقة،
وهو بطليموس سوتير، وقُسِّم ما تبقى بين قائدَين آخرَين، وعُرفَت المناطق الثلاث معًا
باسم
الممالك الهلنستية. نصَّب سوتير نفسه ملكًا وأسَّس سلالة حاكمة استمرَّت تحكم مصر مدة
٢٧٥
عامًا، ولم تنتهِ إلا بالانتحار المأساوي للملكة كليوباترا. لا شك في أن هذا الحكم المديد
لم يكن من المُسلَّمات؛ إذ إن سوتير كان نبيلًا مقدونيًّا حديث عهد بالمكانة التي حظي
بها؛
فتطلَّب الأمر برنامجًا ضخمًا من التطوير السياسي والاجتماعي والعسكري والثقافي لتوطيد
مركزه بوصفه حاكم مصر بلا مُنازِع. كان التنافس مع ورثة الإسكندر الآخرين شاغلًا مُستمرًّا
لكل من سوتير وابنه، سوتير الثاني، وبينما جرى بعض هذا التنافس في ميدان المعركة، فإن
قدرًا
كبيرًا منه جرَت وقائعه على المناضد وأرفف كتب المكتبة والمتحف.
مع اتساع نطاق المدينة الجميلة الجديدة على امتداد شبكتها المُتناغِمة، تشكَّلَت
هوية
ثقافية جديدة استوعبَت تقاليد مصر القديمة مع تقاليد العالم الهلنستي. في البداية انطوى
هذا
على إخضاع المصريين الأصليين وثقافتهم، وفي الوقت نفسه إحاطة البطالمة (الذين كانوا بالطبع
مقدونيين) بهالة ضرورية للغاية من الشرعية اليونانية (وتحديدًا، الأثينية) والتأكيد على
صلتهم بالإسكندر الأكبر.
٢
يظهر هذا على نحو واضح في المتحف، الذي كان مُستوحًى من أرسطو ومعبد الليقيون
(الليسيوم) في أثينا، شأنه في ذلك شأن المكتبة. كلتا المُنشأتَين كانتا تقعان داخل المزار
المقدس المُكرَّس للميوزات. وكلتاهما كانتا مُؤسَّستين مجتمعيتين. بذل البطالمة أموالهم
بسخاء من أجل المتحف، فأجزلوا العطاء للعلماء وأعفَوهم من الضرائب ووفَّروا لهم المأكل
والمسكن في جزء خاص من مجمع القصر. في وقت قريب من وقت ميلاد المسيح، جاء الجغرافي الروماني
سترابو ليزور الإسكندرية ووصف المتحف على النحو الآتي: «به مَمشًى مُغطًّى، وإيوان به
مقاعد
ومنزل كبير، فيه قاعة طعام مشتركة للمثقفين الذين يتشاركون المتحف.» وهؤلاء العلماء «لديهم
ممتلكات مُشترَكة وكاهن مسئول عن المتحف، كان في السابق يُعيِّنه الملوك، ولكن الآن
يُعيِّنه القيصر.»
1 ومع أخذ كل هذا الدعم المُقدَّم في الاعتبار، فليس مُستغرَبًا أن الكثيرين من
المفكِّرين جعلوا المدينة موطنهم. فلو كنت عالمًا، لم يكن ثمة مكان للعيش أفضل من هذا
المكان.
وبفضل الملوك البطالمة، صارت الإسكندرية أهم مركز للمعرفة في العالم القديم، مُستحوِذةً
على تاج السيطرة الثقافية اليونانية من أثينا وطارحةً رؤية جديدة للعلم الذي ترعاه الدولة
وهي الرؤية التي نالت الإعجاب وحُذي حذوها في كل أرجاء منطقة البحر المتوسط. وبينما كان
العلماء يتجادلون «بلا نهاية في حظيرة دجاج الميوزات»
2 وأرفف كتب المكتبة تمتلئ باللفائف، كانت المدينة آخذة في النمو. فقد كانت تُبنى
حمامات ومواخير ومنازل ومتاجر ومزارات مقدسة على امتداد الشوارع الفسيحة المتعامدة، في
الوقت الذي استقرَّت فيه وعملت وعاشت واختفت أحياءٌ من أمم مختلفة؛ مصريين ويهود ويونانيين،
وفيما بعدُ رومان. وسرعان ما صارت الإسكندرية واحدة من أكبر المدن على الأرض، «مركز التجارة
العالمية بلا منازع»
3 الذي صدَّر كميات ضخمة من الحبوب والبردي والكتان كانت تُزرَع على سهول النيل
الخصيبة، وتُحمَل بالسفن عبر النهر إلى المدينة وبعد ذلك تُرسَل لتُباع في أنحاء العالم
الهلنستي. وبوصفهم المُتحكِّمين في مداخل البحر المتوسط للتجار من أفريقيا وبلاد العرب
والشرق، حظي الإسكندريون بحصة جيدة من المتاجرة المُربِحة في الذهب والأفيال والتوابل
والعطور التي كانت تُشحَن في السفن من الجنوب والشرق عبر بحيرة ماريوتيس. كانت منارة
فاروس
العظيمة، التي بلغ ارتفاعها ١٢٠ مترًا والتي كانت تُعَد عجيبة أخرى من عجائب العالم القديم
السبع، تُشرِف شامخةً على الميناء، رمزًا لجلال وعظمة الإسكندرية، مُرسِلةً أشعتها عبر
البحر.
تقع الإسكندرية في مركز شبكة ضخمة من المدن، من بينها أثينا وبيرجامون ورودس وأنطاكية
وأفسوس، وفيما بعد، روما والقسطنطينية. تنقَّل العلماء والكتب بِحُرية بين تلك المدن
في
السوق المُزدهِرة بالأفكار؛ فكان الشباب المهرة من أنحاء العالم الهلنستي يتلقَّون تعليمهم
في مدنهم الأم، قبل أن يشدُّوا الرحال بحثًا عن مُعلِّمين أفضل، ومكتبات أكبر ومعرفة
أرقى.
كانت كُتب التعليم الابتدائي متوفرة لهم في المدرسة أو في المكتبة العامة المحلية؛ التي
كان
يوجد منها عدد كبير على نحو مُذهِل في العالم القديم. كان لدى معظم البلدات مجموعة من
الكتب، لكن المكتبات الكبيرة في المدن هي وحدها التي كان من الممكن أن تشتمل على نصوص
علمية
بأي عدد؛ فمعظم نسخ الكتب التي نتتبَّعها هنا كان من الممكن أن تكون مملوكة ملكية فردية،
لعلماء مُتخصِّصين. على خلاف الأدب بقصائده وخطبه ومسرحياته التي تصل إلى المئات، والتي
كانت تُنسَخ وتُباع وتُقرأ في كل أنحاء منطقة البحر المتوسط، شكَّل العلم حصة ضئيلة من
الكتابة القديمة ولم يكن محل اهتمام إلا من صفوة مُتعلِّمة؛ فلا يُعرف إلا ١٤٤ عالم رياضيات
في العصور القديمة كلها. وبينما كانت المكتبات العظيمة تمتلئ بكتب التاريخ، كانت المجموعات
الخاصة الصغيرة، الموضوعة بعناية على الأرفف خلف الأبواب المغلقة، هي ما لعب دورًا حاسمًا
في نقل العلم. ما كان لِيُصبِح بمقدور عالم رياضيات أو طب أو فلك أن يدرس دون امتلاك
بضعة
كتب خاصة به، ولا كان لِيُصبِح بمقدوره أن يُعلِّم الطلاب الذين تجمَّعوا حوله. ولأن
هذه
الأنواع من مُقتنَيات الكتب كانت خاصة، لا يتوافر إلا النذر اليسير من الأدلة التاريخية
على
وجودها، ولكن يُمكِننا أن نفترض باطمئنان أنها جُمعَت طوال المسيرة المهنية لباحثٍ ما،
بدءًا من المدرسة. كان من شأن الباحثين أن يستعيروا النصوص من مُعلِّميهم وزملائهم ويصنعوا
منها نسخًا لأنفسهم، أو يجعلوا عبيدهم أو تلاميذهم يفعلون ذلك لأجلهم.
كان التعاون أمرًا ضروريًّا؛ إذ كان يتعين على الباحثين أن يتآزروا معًا كي يتشاركوا
ما
لديهم من موارد، وغالبًا ما كانوا يفعلون ذلك في المدن الكبيرة، حيث كان يوجد بالفعل
تقليد
للتعلُّم ومكتبة؛ فكان من الصعوبة البالغة تحقيق أي تقدُّم في العلم بمعزل عن الآخرين.
ولهذا السبب لعبَت أماكن مثل الإسكندرية هذا الدور الأساسي في تاريخ العلم. كان كل المهتمين
بالتعليم الأكاديمي يعرفون ذلك؛ فإذا أرادوا أن يُحرِزوا تقدُّمًا ويتحصلوا على النصوص
وينالوا فرصة العمل مع علماء آخرين، كان عليهم أن يرتحلوا إلى أحد هذه المراكز. من
المُرجَّح أنه كان يُوجِّههم إلى أثينا أو الإسكندرية مُعلِّموهم الذين سبق لهم أن درسوا
في
هاتَين المدينتَين على الأرجح، في شبابهم. ففي عصر كان يصعب فيه للغاية الوصول إلى المعرفة
والأفكار، استند البحث الفكري على شبكات من الأشخاص المُتشابِهين في الميول والأفكار،
لكنها
كانت صغيرة جدًّا. عاش أرشميدس، أكثر علماء العالم القديم عبقرية، في سَرَقوسة في صقلية؛
التي كانت مكانًا مُنعزِلًا نسبيًّا فيما يتعلق بالبحث العلمي. وعندما مات مُعاوِنه،
كونون،
أخذ أرشميدس يُفتِّش باستماتة عن شخص «مُلِمٍّ بالهندسة» ليحلَّ محله. واشتكى أيضًا في
مقدمة أطروحته «خطوط حلزونية» من أنه «رغم انقضاء سنين عديدة … لا أجد أن أيَّ أحدٍ قد
أثار
أي مُعضِلة من المُعضِلات».
4 هذه الصيحات الحزينة تُظهِر مدى قلة عدد الناس الذين كانوا يَدرسون العلم في
هذا المستوى. أولئك هم القلة القليلة من العلماء الذين كان يتعيَّن عليهم العمل معًا
وتشارُك خبراتهم ومواردهم، لا سيما الكتب.
كانت الإسكندرية عاصمة العالم الفكري لأكثر من ألف عام؛ لذا ليس من قبيل المصادفة
أن
الرجال الثلاثة الذين سوف نتتبع أفكارهم في هذا الكتاب عاشوا ودرسوا جميعهم هناك. في
العقود
الأولى بعد إنشاء المدينة، فتَّش بطليموس الأول جاهدًا عن باحثين ليأتوا ويُساعِدوه في
تحويل مدينته إلى مكان للتعلم يُنافِس أنطاكية وأثينا ورودس. الأدلة شحيحة، ولكن يبدو
أن
إقليدس كان واحدًا من أولئك الباحثين، وأنه جاء من أثينا نحو عام ٣٠٠ق.م، حيث كان أفلاطون،
منذ بضعة عقود فقط، مُنشغِلًا بتعليم الرياضيات والفلسفة في الأكاديمية، تحت اللافتة
التي
تُعلِن: «لا تدَعوا أي جاهل بالهندسة يدخل إلى هنا.» من المُؤكَّد أن إقليدس قد جلب كتبًا
معه إلى الإسكندرية، ولا بد أن هذه الكتب نُسخَت وأُضيفَت إلى المكتبة. استقر إقليدس
في
وطنه الجديد، حيث حظي بدعم بطليموس الأول، وشرع في العمل مع باحثين آخرين مُشابِهين في
الميول والأفكار، ربما في المكتبة نفسها. تُصوِّره شذرات المعلومات المتاحة عن شخصيته،
التي
قد تكون صحيحة أو لا، على أنه رجل مجتهد يَقِظ الضمير، «ودود ومُتعاطِف مع كل من لديهم
القدرة بأي قدر على تحقيق تقدُّم في الرياضيات … ومع أنه عالم بحق، فإنه لا يتفاخر
بنفسه».
5 ومما يُؤكِّد هذه الرؤيةَ هذا الكم الضخم من العمل والتنظيم اللذَين لا بد
أنهما بُذِلا في إخراج أطروحة «العناصر»، فضلًا عن أعماله الأخرى. أقام إقليدس، الذي
كان
رجلًا جادًّا، مُولَعًا بالكتب، يحب الرياضيات حبًّا جمًّا، في الإسكندرية، واستمرت مدرسة
الرياضيات، التي تشكَّلَت حوله، لقرون. أخرجَت رحلته إلى الجنوب عبر البحر، بعيدًا عن
أثينا، دراسة الرياضيات من تحت عباءة الفلسفة، مما أتاح لها أن تُصبِح موضوعًا مُستقِلًّا
بذاته.
لم يكن إقليدس أكثر رجال الرياضيات في العصور القديمة براعة في الابتكار، فذلك الشرف
ممنوح بالإجماع لأرشميدس، ولكنه كتب أعظم مرجع رياضي في كل العصور. في أطروحة «العناصر»،
قدَّم إقليدس للعالم تفسيرًا مُتقَنًا للمبادئ الشاملة للرياضيات، معروضة بطريقة مُنظَّمة
وواضحة لدرجة أنه كان لا يزال يُستخدَم ككتاب دراسي بعد مرور ٢٣٠٠ سنة،
٣
كما أنه، حسب أحد الباحثين، «مارَس تأثيرًا على العقل البشري يفوق تأثير أي عمل
آخر فيما عدا الكتاب المقدس».
6 إن أطروحة «العناصر» دراسة منهجية للمعرفة الرياضية المتاحة في أوائل القرن
الثالث قبل الميلاد؛ لذا يقف إقليدس في مرحلة بالغة الأهمية في تاريخ الرياضيات، عند
نهاية
تقليد قديم يمتد إلى الوراء على الأقل ٢٠٠٠ عام، وعند بداية العصر الذي نحن ورثته. بشَّرَت
أطروحة «العناصر» بحلول حقبة جديدة من الرياضيات، مُوحِّدًا الأفكار الأساسية لهذا الفرع
من
العلم ومُرتقِيًا به، من مجرد حل مُعضِلات محصورة مُحدَّدة، إلى مجموعة من المبادئ التي
يُمكِن تطبيقها وإثباتها بشمولية؛ أي شيء يمكن ممارسته والاستمتاع به لذاته.
ومن أجل تحقيق هذا، لا بد أنه كان لدى إقليدس إمكانية الاطلاع على عدد ضخم من النصوص
الرياضية؛ تلك التي امتلكها شخصيًّا، والتي استُكمِلَت بنصوص أخرى كانت موجودة بالفعل
في
مجموعات النصوص الكائنة في الإسكندرية. واستنادًا إلى حجم المادة التي تناولها، من
المُرجَّح أن يكون قد تلقَّى العون من مجموعة من الباحثين كانوا يعملون تحت توجيهه. وبعد
تقييمه منهجيًّا للمعلومات المتاحة لديه، بدأ إقليدس وضع الأساسيات المُطلَقة، بدءًا
من
تعريفات الأساسيات؛ «النقطة هي شيء ما لا جزء له»، «الخط هو طول ليس له عرض».
7 ثم عرض كل موضوع عرضًا منطقيًّا، بالترتيب، مُنظِّمًا كل شيء بحيث كان الأمر
منطقيًّا وكان كل قسم يُؤدِّي بشكل طبيعي إلى القسم الذي يليه.
أطروحة «العناصر» مُقسَّمة إلى ثلاثة عشر كتابًا. يُركِّز الكتاب الأول على نظرية
فيثاغورس، ويُمثِّل الكتاب الثاني مقدمة للجبر الهندسي، ويتناول الكتابان الثالث والرابع
الدوائر، ويفحص الكتاب الخامس، وهو الأكثر إثارة للإعجاب، مسألة التناسب، بينما يُطبِّقها
الكتاب السادس على الأشكال الهندسية. تدور الكتب السابع والثامن والتاسع حول الأعداد،
والكتاب العاشر حول الجذور التربيعية، وتشرح الكتب من الحادي عشر إلى الثالث عشر الأشكال
الهندسية المُجسَّمة. لم يكن إقليدس أول من يُحاوِل تنظيم المعرفة الرياضية، ولكن نسخته
كانت بارعة للغاية، وأوضح بكثير من أي عمل سبقها، حتى إنها سرعان ما أصبحت النص المرجعي
في
الرياضيات. كان العيب في هذا الأمر أن النُّساخ والباحثين لم يعودوا ينسخون الأعمال الأقدم
التي استند إليها الكتاب. حجبَت أطروحة «العناصر» تلك الأعمال وحلَّت محلها بدرجة كبيرة
للغاية، حتى إنه لم يصِلْنا إلا أطروحة رياضية واحدة فقط أقدم منها. أحدث إقليدس تحوُّلًا
في موضوعه، وهو الرياضيات، وذلك عن طريق ابتكاره معايير وطرق شاملة لممارسة الرياضيات؛
بإدخاله لمنهج البرهان، وهي فكرة ربما يكون قد استقاها من أرسطو، والتي تُستخدَم منذ
ذلك
الحين ليس في الرياضيات فحسب، وإنما في كل العلوم الدقيقة. فهو يشرح النظريات بمجموعة
من
التعريفات، تُدعى «البديهيات» axioms (كلمة مُشتَقة من
اليونانية، وتعني «الأشياء التي يمكننا أن نعدَّها مُسلَّمات».) مُستخدِمًا مصطلحات محدودة
ومُحدَّدة بدقة شديدة حتى يُصبِح بمقدور كل شخص أن يفهم ما يعنيه؛ وبعد ذلك يُبرهِنها
مُستخدِمًا رسومًا بيانية وإثباتات هندسية، تحمل حروفًا من الأبجدية؛ وهي ممارسة علمية
لم
تتغير لأكثر من ٢٠٠٠ عام.
لا نعلم كيف استقبل أقران إقليدس أطروحة «العناصر»، ولا عدد النسخ التي صُنعَت في
تلك
المرحلة المُبكِّرة، ولكن بوسعنا أن نفترض أن نسخة واحدة على الأقل أُنتجَت لصالح مكتبة
الإسكندرية، حيث يُمكِن للباحثين الآخرين أن يتبادلوا الآراء بشأن الكتاب ويُعيدوا نسخه.
لا
ضير أيضًا أن نفترض أن نسخًا قد أُرسلَت إلى المراكز الفكرية الرئيسية للعالم القديم؛
أثينا
وأنطاكية ورودس لتعزيز مُقتنَياتها من الكتب والنصوص الرياضية. إن البدايات التاريخية
لهذا
الكتاب المُبدِع غير مُكتمِلة؛ فلا يوجد سوى آثار قليلة دالة على وجوده في القرون القليلة
الأولى التي أعقبَت وفاة إقليدس. فقد عُثِر في جزيرة إلفنتين (التي هي في الوقت الحالي
جزء
من مدينة أسوان المعاصرة) على شظايا من الفخار ترجع إلى القرن الثاني محفور عليها أشكال
وطرائق عمل من الكتاب الثالث عشر؛ أي أن شخصًا ما في جزء بعيد من مصر كان يعمل على استنباط
أفكار إقليدس، ولم يكن يعمل على مجرد مبادئ الهندسة الموجودة في الأقسام الأولى من أطروحة
«العناصر» فحسب، وإنما على الكتاب الأخير، الأكثر تعقيدًا، الذي كان بمثابة التتويج للمشروع
بأكمله. ظهرَت أيضًا بقايا من ورق بردي، تحوي رسومًا بيانية إقليدية، في مَكب قديم للنفايات
بالقرب من مدينة أوكسيرينخوس (قرية البهنسا الحالية) في مصر الوسطى، إلى جانب قِطَع صغيرة
من آلاف من المخطوطات والوثائق الأخرى، التي حفظها المُناخ الجافُّ في رمال الصحراء.
بقايا
برديات أوكسيرينخوس، التي كُتبَت ما بين عامي ٧٥ و١٢٥، هي أقدم وأكمل النماذج لرسوم إقليدس
البيانية. تُبرهِن هذه الاكتشافات على أن أطروحة «العناصر» كانت بالتأكيد تُقرأ وتُستخدَم؛
ومِن ثَم كان يُعاد نسخها وتُحفَظ، في الفترة التي أعقبَت وفاة إقليدس، ولكن من الصعب
أن
نستخلص استنتاجات عامة بشأن شهرتها من هذا القدر الضئيل من الأدلة.
في القرن الأول قبل الميلاد بدأ التقليد النشط للتعليقات الشارحة لأطروحة «العناصر»
— على
يد عالم الفلك جيمينوس، الذي عاش في رودس — يُقدِّم دلائل قاطعة على أن نسخة واحدة على
الأقل من عمل إقليدس الرائع قد شقَّت طريقها إلى هناك. ومع تطوُّر الفروع المختلفة من
العلم، تزايَد تناوُل الباحثين لأعمال الأجيال السابقة وكتابتهم لتعليقات مُفصَّلة تشرح
النص الأصلي وتُوضِّحه، غالبًا في أعمدة إلى جواره، وفي بعض الأحيان في كتب مُنفصِلة.
وقد
أصبحت التعليقات فيما بعد أحد أكثر الأشكال المعتادة للكتابة العلمية، وباعتبارها «الأداة
الثقافية المُهيمِنة»
8 في أواخر العصور القديمة، لعبَت دورًا حيويًّا في نقل الأفكار من جيل إلى جيل.
فقد كتب ستة رياضيين تعليقات مهمة على أطروحة «العناصر» في الفترة بين عام ٣٠٠ق.م وعام
٦٠٠
ميلادية، مُبرهِنين على مستوًى محدود، ولكنه ثابت، من الاهتمام. في الحقبة الهلنستية
الأقدم، كان البحث الرياضي يتسم بالابتكار والاكتشاف؛ أما هذه الأعمال فهي على النقيض،
تدل
على الطبيعة المنهجية للرياضيات في فترة ما بعد إقليدس، وهي فترة اتسمَت بالاستيعاب
والتنظيم وليس بالإبداع.
كانت أكثر التعليقات تأثيرًا تلك التي كتبها ثيون الإسكندري (٣٣٥–٤٠٥ ميلادية)، وهو
عالم
رياضيات شهير آخر، ووالد الفيلسوفة وعالمة الفلك الكبيرة هيباتيا.٤
عندما تمكن ثيون من قراءة أطروحة «العناصر»، كان قد مضى على كتابتها ٦٠٠ سنة
وكان بحاجة إلى تحديث. فعمل ثيون على تنقيح وتوضيح عمل إقليدس، مُضيفًا إثباتات جديدة،
ومُطوِّعًا اللغة، بل إنه حذف أقسامًا كانت لا تبدو منطقية. كانت نسخته المُعدَّلة ناجحة
جدًّا؛ فأُعيدَ نسخها مرات كثيرة وانتشرَت في كل أنحاء منطقة البحر المتوسط. وأصبحت هي
النسخة المرجعية، والمصدر الرئيسي الوحيد لكل النسخ المُعدَّلة الأخرى للنص طوال العصور
الوسطى وما بعدها، حتى سنة ١٨٠٨، عندما حدث أمر مُذهِل. كان باحث فرنسي يُدعى فرانسوا
بيرار
يُفرِز كومة من الكتب كان نابليون قد «تحصَّل» عليها من مكتبة الفاتيكان وأخذها عائدًا
إلى
باريس. من بين تلك الكتب كان يوجد مخطوطة لأطروحة «العناصر» يختلف اختلافًا كبيرًا عن
نسخ
ثيون المُعدَّلة. وسرعان ما أدرك الباحثون أن هذه النسخة من النص لم تكن تحتوي على تنقيحات
وإضافات ثيون؛ إذ كانت نسخة أقدم ولذا كانت أكثر أصالة؛ لذا كانت أقرب إلى نص إقليدس
الأصلي. كانت المخطوطة التي عثر عليها بيرار قد نُسخَت في القسطنطينية نحو سنة ٨٥٠ ميلادية؛
لذا ظلَّت مخبوءة لما يقرب من ألف عام، فغفل عنها الباحثون لقرون، وجسَّدَت خيطًا جديدًا
مُثيرًا يربطنا بإقليدس نفسه. بعد ذلك بثمانين سنة، استخدم جيه إل هايبرج، الذي كان أستاذ
فلسفة دنماركيًّا، المخطوطة، مع نسخ مُعدَّلة، وأجزاء من مخطوطات وإشارات أخرى، من أجل
إعداد صيغة نهائية للنص. ولا تزال نسخة هايبرج المُعدَّلة الأساس الذي بُنيَت عليه النسخة
المرجعية المعاصرة لأطروحة «العناصر» لإقليدس.
في القرون التي أعقبَت وفاة إقليدس في نحو عام ٢٦٥ق.م، واصلَت الحياة الفكرية في
الإسكندرية ازدهارها، لا سيما في العلوم والأدب والطب. وبعد أن توطَّد حكم السلالة الحاكمة
البطلمية، بدأ صفوة اليونانيين يهتمون بثروات الثقافة المصرية القديمة. فاتبعوا بعض العادات
المحلية (بما في ذلك تقليد زواج الأشقاء الذي كان مثار جدل)، وتُرجمَت نصوص مصرية إلى
اليونانية في المكتبة وامتزجت التقاليد الفكرية. كان يوجد برنامج غير مسبوق من الترجمة
اليهودية، مع صدور أول نسخة يونانية من أسفار موسى الخمسة (وهي النسخة المعروفة باسم
الترجمة السبعينية) من العبرية على يد مجموعة من شيوخ اليهود اختيرَت بعناية.
كما يعلم أي شخص يهتم باقتناء الكتب، لا يلزم أن يكون لديك كثير من الكتب على رفوفك
ليُصبِح إجراء بعض التنظيم أمرًا ضروريًّا. وسرعان ما أدرك أمناء المكتبة الإسكندريون
أنهم
بحاجة إلى الاحتفاظ بسجل لمجموعات الكتب والنصوص، وإلى وضعها على الرفوف بنوع من التنظيم
الذي يُمكِّن القُراء من العثور على عناوين بعينها. فصنع كاليماخوس القوريني، وهو شاعر
بارع
ارتبط اسمه بالمكتبة في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، فهرسًا تفصيليًّا باللفائف،
يُدعى
«بيناكيس». لم يبقَ إلا أجزاء من ١٢٠ مجلدًا أصليًّا، ولكنها تكشف عن أن النصوص قُسِّمت
إلى
القوائم الآتية: البلاغة والقانون والملاحم والتراجيديا والكوميديا والشعر الغنائي والتاريخ
والطب والرياضيات والعلوم الطبيعية وأشياء أخرى متنوعة. وكانت هذه هي أول محاولة جادة
لتنظيم المعارف في مُخطَّط شامل؛ ومِن ثَم، كانت تُمثِّل نقطة تحوُّل في تاريخ الأفكار.
أيضًا قدَّم فهرس «بيناكيس» مَسردًا مُوجَزًا بأعمال كل كاتب وأدرج كتبهم في قوائم، فلم
يُنشئ تراثًا علميًّا فحسب، وإنما أيضًا تقليدًا بإنتاج مادة تصف كلًّا من المؤلف والعمل
نفسه. بلغ هذا التقليد الشارح لنص بنص آخر (أو التقليد فوق النصي) على درجات التعبير
عنه في
الميدان المُقدَّس للأدب اليوناني، الذي كان يضم مئات من الباحثين الذين كانوا يدرسون
ويُنقِّحون ويتجادلون حول المسرحيات وشعر هوميروس ويوربيديس وسوفوكليس وغيرهم، الذين
نُسخَت
أعمالهم وبِيعَت في كل أنحاء البلدان الناطقة باليونانية، وكثير من هذه النسخ هو الأساس
الذي بُنيَت عليه الطبعات التي وصلَت إلينا في وقتنا الحاضر عبر الأجيال.
قاد البطالمة بأنفسهم هذه الملحمة الفكرية. فكان أول أربعة من هذه السلالة الحاكمة
معروفين باهتمامهم بأنشطة علمية مُتبايِنة؛ فأحدهم كان شاعرًا، وآخر كان مفتونًا بعلم
الحيوان. حضر كل الملوك البطالمة، انتهاءً بكليوباترا (التي كانت هي نفسها عالمة لغويات)،
مناسبات ومناظرات في المتحف (الموزيون)، وكان الاهتمام الفكري سمة بارزة في حكمهم. غير
أنه
في القرن الأول قبل الميلاد كانت قوة عالمية جديدة آخذة في الصعود، ولم يمضِ وقت طويل
حتى
وصلت جيوشها لتحتل المدينة الباهرة. بحلول عام ٨٠ق.م أصبحت الإسكندرية رسميًّا تحت الحكم
الروماني، ولكن سُمِح لحياتها الفكرية بالاستمرار، دون عوائق. ومع الأسف الشديد، عانت
المكتبة من خسارتها الكبيرة الأولى سنة ٤٨ق.م، عندما هاجم يوليوس قيصر المدينة وأحرقَت
قواته مُستودَعًا ضخمًا للفائف في الميناء. ليس ثمة شك في أن هذا كان غير مقصود؛ فقيصر،
على
أي حال، كان معروفًا بحبه للكتب وكان مسئولًا في السابق عن تعريف إيطاليا بالمكتبات العامة
(كشأن أمور كثيرة أخرى في الثقافة الرومانية، كانت المكتبات العامة فكرة مأخوذة من
اليونان). وعلى الرغم من اللفائف المفقودة، وعلى الرغم من الاحتلال الروماني، أعقب ذلك
فترة
ازدهار كبير؛ إذ أمدَّت مصر سادتها الجُدد بالحبوب، واستمرَّت المدينة المركز الرئيسي
للمعرفة اليونانية.
في نهاية القرن الأول الميلادي، كان شاب يُسمى كلاوديوس بطليموس واحدًا من آلاف من
الناس
الذين كانوا يعيشون في هذه الحاضرة العظيمة. ويُظهِر الامتزاج بين اسمه الأول
اليوناني-الروماني، كلاوديوس، ولقبه المصري، بطليموس (ولا توجد علاقة بينه وبين الأسرة
الحاكمة، كما ظن كثير من الباحثين لاحقًا)، القدرَ الذي قد أصبح عليه التشابك بين
الثقافتَين في الإسكندرية. لم يترك كلاوديوس بطليموس لنا إلا القليل للغاية من المعلومات
عن
حياته، ولكن من المحتمل أنه تلقَّى تعليمه في الإسكندرية وأمضى وقتًا يدرس في الموزيون
ليُنمِّي لديه حصيلة من المعارف التي سوف يستند إليها في عمله. ما نعرفه هو أنه كان مفتونًا
بعلم الفلك، حتى إنه كان يُمضي لياليه يُحدِّق في النجوم، مُكرِّسًا حياته لمحاولة تسجيل
واستيعاب حركاتها؛ واعتقد أن قيامه بذلك يُقرِّبه من الذات الإلهية.
لا بد أن بطليموس كان رجلًا يتسم بفضول هائل، وشخصًا مُنبهِرًا بالعالم الذي كان
يعيش فيه
وعازمًا على إثراء إدراكنا له. فألَّف كتبًا كثيرة، تُغطِّي مجموعة مُذهِلة من الموضوعات
وهي علم الفلك والرياضيات والجغرافيا والتنجيم، بل أيضًا نظرية الموسيقى والبصريات؛ وهي
دراسة الضوء والرؤية. ولقرون عديدة بعد موته، كان أكثر ما يشتهر به هو كتابه «الجغرافيا»،
والذي يُعَد محاولة ثورية لوصف ووضع خريطة للعالم المعروف. أما في وقتنا الحاضر، فإن
أكثر
ما يشتهر به هو تأليف كتاب «الأطروحة الرياضية» الذي تناوَل فيه بالوصف السماوات والأجرام
السماوية (وقد تُرجِم إلى العربية باسم «المجسطي»، ومنه جاء اسمه اليوناني
Almagest). يشرح جيرد جراسهوف، مؤلف كتاب «تاريخ فهرس
نجوم بطليموس»، تأثيره غير العادي، فيقول: «يتشارك كتاب بطليموس «المجسطي» مع كتاب إقليدس
«العناصر» المجدَ من حيث كونه النص العلمي الأطول أمدًا من حيث الاستخدام. فمنذ أن تبلورَت
فكرته في القرن الثاني وحتى أواخر عصر النهضة، صنَّف هذا العمل الفلكي باعتباره
علمًا.»
9
كشأن إقليدس، عمل بطليموس في مكتبة الإسكندرية، ربما إلى جانب باحثين آخرين، آخذًا
في فرز
كل ما يُمكِنه العثور عليه من أعمال في مجال الفلك، من التراث البابلي والمصري واليوناني،
إلى جانب مصادر تراث أخرى. فأخضع نظريات وملاحظات للتقييم والاختبار، قبل أن يضع المعلومات
بطريقة واضحة عقلانية ويُضيف إسهامات مُبتكَرة من بنات أفكاره. كما يُوضِّح في تمهيد
كتاب «المجسطي»:
سنُحاوِل أن نُدوِّن ملاحظاتنا عن كل شيء نظن أننا قد اكتشفناه إلى وقتنا الحاضر؛
وسنفعل هذا بأوجز ما يُمكِن وعلى نحو يُمكِن متابعته من جانب أولئك الذين أحرزوا
بالفعل بعض التقدُّم في المجال. وحرصًا على الاكتمال في معالجتنا سوف نضع كل شيء من
شأنه أن يُفيد نظرية السماء بالترتيب الصحيح، ولكن حتى نتجنب الإطالة التي لا داعي
لها، سنسرد فقط ما أثبته القدماء إثباتًا كافيًا. أما تلك الموضوعات التي لم يتعامل
أسلافنا معها على الإطلاق، أو لم يتعاملوا معها باهتمام يُكافئ مدى أهميتها
الحقيقية، فسنُناقِشها باستفاضة قدرَ استطاعتنا.
10
كان نهج بطليموس في التعاطي مع الكون رياضيًّا، وهو بديل لوصف أرسطو
المادي للسماء، الذي افترض فكرة أن النجوم مُرتَّبة على كرات كريستالية تدور حول نفسها.
في
هذا الشأن، استرشد بطليموس بأطروحة «العناصر» ودورها الجوهري في تطوُّر الرياضيات؛ فهو
لم
يستخدم عمل إقليدس العظيم نموذجًا أسلوبيًّا فحسب، بل أيضًا يقول بصراحة إنه يعتمد على
امتلاك القارئ خلفية قوية عن النظرية الهندسية. ووُضعَت نماذجه الخاصة بحركة الكواكب
بالاستعانة بالهندسة الإقليدية وشُرحَت باستخدام نظام المُسلَّمات والرسوم البيانية.
أضِف
إلى ذلك أن عمل بطليموس، مثل أطروحة «العناصر»، مُقسَّم إلى ثلاثة عشر كتابًا تأخذ القارئ
في جولة في سماء الليل، مُبتدئًا في الكتابَين الأول والثاني بالمعرفة الرياضية اللازمة،
ثم
مُركِّزًا على الشمس والقمر في الكتب الثلاثة التالية. الكتاب السادس يدور كله حول الخسوف
والكسوف، بينما يضع الكتابان السابع والثامن قائمة للنجوم. وتدور الكتب الخمسة الأخيرة
حول
الكواكب، وتُجسِّد إسهام بطليموس الأهم والمُبتكَر في مجال الفلك؛ إذ تصف نموذجًا رياضيًّا
مُعقَّدًا يُبيِّن الكيفية التي تتحرك بها الكواكب، اعتمادًا على بيانات أخذها من عالم
الفلك اليوناني الأسبق هيبارخوس،٥
ومن عمليات الرصد التي أجراها بنفسه. كان نموذج بطليموس للسماء قائمًا على
مركزية الأرض، وفيه الأرض ثابتة في المركز، وكما سنرى، ظل هذا هو الاعتقاد السائد حتى
عام
١٥٤٣، عندما طرح كوبرنيكوس مبدأ الكون الشمسي المركز، حيث وضع الشمس في المركز.
•••
يوجد الكثير من أوجه التشابه بين أفكار كل من إقليدس وبطليموس؛ لذا من السهل نسيان
أنه
كان يفصل بينهما أربعة قرون من الزمن. كانت الإسكندرية مختلفة اختلافًا تامًّا عندما
كان
بطليموس يجوب شوارعها، لكن تراث المعرفة الذي بدأ في فترة حياة إقليدس كان لا يزال باقيًا
وكانت الإسكندرية لا تزال مكانًا رائعًا لأي شخص لديه اهتمامات فكرية. اجتذبَت المكتبة
الطلاب والباحثين من جميع أنحاء منطقة البحر المتوسط، الذين، بدورهم، أضافوا إلى مجموعات
الكتب أعمالهم وكتبهم التي جلبوها معهم. آنذاك، كما هو الحال الآن، كان البحث العلمي
يزدهر
مُعتمِدًا على التعاون وتشارُك الأفكار؛ أي نقل وتبادُل المعرفة. استطاع بطليموس تأليف
كتاب
«المجسطي»؛ لأن الإسكندرية منحَته الظروف التي احتاجها لإنتاج هذا العمل المُتفرِّد،
الظروف
التي ببساطة لم تكن متاحة في أي مكان آخر في ذلك الوقت.
استند بطليموس في عمله إلى عمليات رصد للسماء أجراها فلكيُّون سابقون، وتحديدًا المصادر
البابلية القديمة والبيانات التي أعدَّها هيبارخوس، ولكنه هو الآخر أجرى بنفسه عمليات
رصد
خلال الفترة من ٢٦ مارس سنة ١٢٧ وحتى ٢ فبراير سنة ١٤١. في هذه المرحلة من تاريخ الفلك،
اقتصرَت عمليات الرصد هذه على التحديق في السماء ليلًا وتدوين ملاحظات عن مواضع النجوم
والكواكب. استخدم بطليموس أدوات متنوعة لأخذ القياسات، بما في ذلك المساطر وذات الحِلق
والأَسطُرلاب، ولكنها لم تكن دقيقة على الإطلاق. كانت الأَسطُرلابات، التي اختُرعَت في
وقتٍ
ما في القرن الثاني قبل الميلاد أجهزة مُعقَّدة؛ إذ كانت عبارة عن صفائح دائرية من النحاس
الأصفر منقوشة عليها إسقاطات خرائطية مُعقَّدة للقبة السماوية، يُمكِنها قياس الزوايا
والمساعدة في التنبؤ بتحركات النجوم. على مر التاريخ، كانت الحاجة إلى تصميم أدوات فعالة
أحدَ أعظم التحديات التي تُواجِه الفلكيين، وهي محور جهدهم لإنتاج أدق بيانات يستندون
إليها
في عمليات الرصد العلمية التي يقومون بها.
وفي الوقت الذي كان فيه بطليموس مشغولًا بوضع نظام منهجي لنظرية فلكية في الإسكندرية،
وصل
شابٌّ آخر إلى المدينة ليبحث في نوع آخر من المعرفة وهو الطب. وعلى النقيض من الشخصيات
الغامضة لإقليدس وبطليموس، نجد كلاوديوس جالينوس وكأنه يثبُ خارجًا إلينا من صفحات التاريخ،
التي كتب كثيرًا منها بنفسه. كان جالينوس، وهو الاسم الذي صار معروفًا به، واحدًا من
أغزر
كُتَّاب العصور القديمة، وكان يقوم بدعاية غير عادية لذاته (زعم تكرارًا أنه «وصل بالطب
إلى
الكمال»)،
11 والذي أدَّت به عبقريته في الطب إلى الانتقال من موطنه في بيرجامون إلى جوار
الإمبراطور في روما. يُمكِننا تخيُّله وهو يصل بالقارب إلى الإسكندرية، شابٌّ ماهر مُفعَم
بالطاقة، يمتلئ بغطرسة الشباب، عازم على ترك بصمته في هذا العالم.
كان الحظ حليف جالينوس حيث وُلِد في بيرجامون عام ١٢٩ ميلادية. في هذه المرحلة،
كانت
المدينة تنعم بفترة من النجاح الباهر؛ إذ كانت الدولة الرومانية تحميها وتُفضِّلها، وكانت
عوائد ضخمة من الزراعة والمعادن والتجارة تتدفق على خزائن البلدية، وإلى جيوب مُواطني
بيرجامون. كان والد جالينوس معماريًّا ثريًّا ومهمًّا؛ وهو اختيار ممتاز للمهنة في مدينة
كانت تخضع لبرنامج رائع من إعادة البناء والترميم. فهناك عاش وعمل في مجتمع ضخم من العُمال
والبنَّائين المُتخصِّصين؛ فكان من المُتوقَّع أن يتردد في الشوارع صوت مطارقهم وهم ينحتون
المعابد الجديدة وقاعات المحاضرات والمسارح من الحجارة والرخام. وزادت هذه الإنشاءات
الجديدة من تميُّز مدينة كانت تُعَد بالفعل واحدة من أروع المدن في العالم القديم، والتي
كانت مَقرًّا لهيكل ضخم مُكرَّس لزيوس، ومسرح مُدرَّج منحوت في جانب الجبل، وأكروبوليس
على
غرار الأكروبوليس الكائن في أثينا.٦
تلقَّى جالينوس تعليمًا متميزًا في الأجواء الفكرية المُفعَمة بالحيوية التي سادت
المدارس
العليا والمكتبة في بيرجامون، تحت رعاية تمثال أثينا، إلهة الحكمة ذات العينَين
الرماديتَين. ربما كان يقتفي أثر والده، ولكن، عندما كان في السابعة عشرة من عمره، حدث
أمر
غيَّر مجرى حياته. رأى والد جالينوس حلمًا أخبره فيه الإله أسكليبيوس أن ابنه ينبغي أن
يصير
طبيبًا. ومن تلك اللحظة، ركَّز جالينوس على الطب. كان هذا أيضًا بداية علاقته الشخصية
العميقة بالإله الذي اتبع نصيحته، التي تلقَّاها عن طريق الأحلام، بقية حياته. تدرَّب
جالينوس على يد أساتذة كانوا يعملون في الأسكليبيون (معبد الإله أسكليبيوس)؛ الذي كان
جزء
منه عبارة عن مستشفى، وجزء يُمثِّل مُنتجَعًا، وجزء بمثابة مزار مُقدَّس، وأحد أهم المراكز
العلاجية في العالم القديم. كان الناس يأتون من كل حدب وصوب ليُعالَجوا هناك، والقرابين
الصغيرة (النذور) التي كانوا يتركونها لاسترضاء أو شكر الآلهة هي أبلغ دليل على يأس الجنس
البشري في مواجهة المرض. مات والد جالينوس عندما كان جالينوس في العشرين من عمره، وسرعان
ما
شدَّ الرحال بعد ذلك مباشرة إلى مدرسة الطب في سميرنا، قبل أن ينتقل إلى كورينثوس. ومن
هناك، سافر إلى الإسكندرية — التي كانت في ذلك الوقت، مركزًا كبيرًا للطب والمكان الوحيد
الذي يُمكِنك أن تدرس فيه الهياكل العظمية البشرية — تلك المدينة التي كانت بمثابة وجهة
مهمة للطبيب الشاب الطموح.
لم يمتدح جالينوس الإسكندرية مُطلَقًا، ولكن على الرغم من أنه اشتكى من كل شيء، من
الطعام
إلى الطقس ومن المصريين أنفسهم، فقد مكث في المدينة خمسة أعوام وتعلَّم الكثير عن التشريح
والجراحة. كذلك درس عن كثبٍ علم الأدوية؛ إذ كان يوجد تراث عظيم فيما يتعلق بإنتاج الأدوية
في مصر وكان بمقدوره أن يحصل على صيغ دقيقة غير مُحرَّفة من الوصفات الدوائية. كتب جالينوس
باستفاضة عن النباتات المحلية والطعام؛ فهو يصف الذهاب إلى ميناء المدينة للتحدث إلى
البحارة بشأن الحصول على عقاقير من مناطق بعيدة. وكان هذا النهج الوقائي العملي فيما
يتعلق
بالطب هو السمة التي ميَّزَت مساره العملي بكامله.
بدأ جالينوس يكتب وهو في سن المراهقة، وهذا يُفسِّر، جزئيًّا على الأقل، إنتاجه
الهائل،
«المُنتشِر انتشارًا مُجهِدًا»، على حد وصف أحد المؤرخين، الذي يبلغ نحو ثلاثة ملايين
كلمة
تُعرَف معًا باسم «مجموعة الكتابات الجالينوسية».
12 ومما يبعث على الدهشة أن مجموعة الأعمال هذه تُشكِّل ما يصل إلى نحو نصف
الأدبيات الباقية لليونان القديمة، ولكنه ليس سوى جزء من عشرة ملايين كلمة كتبها، وفق
التقديرات. كشأن إقليدس وبطليموس، كانت قدرة جالينوس على إجراء الدراسات الاستقصائية
وتقييم
النظريات التي تلقَّاها عن أسلافه من الأطباء، وقدرته على تقديمها في شكل مُتَّسِق مُيسَّر،
هو ما يجعله على هذا القدر من الأهمية.
13 ومع ذلك، وعلى خلاف إقليدس وبطليموس، لم يفعل جالينوس هذا في مجلد واحد ضخم
مُلائم (بما يخدم مقاصدنا على وجه الخصوص). إن إسهامه الهائل في تخصُّص الطب مُنتشِر
في
مئات الكتب المُنفصِلة التي تُغطِّي نطاقًا ضخمًا من الموضوعات. ونحو خُمسها عبارة عن
تعليقات على أبقراط (٤٦٠–٣٧٠ق.م)، عملاق الطب القديم، الذي قدَّم الأساس الذي بُني عليه
عمل
جالينوس نفسه. فقد كان «النموذج الرباعي» لأبقراط عن الأخلاط والخصائص الأساسية (الأرض
والهواء والنار والماء) والمواسم والعمر، هو ما استلهم منه جالينوس نظامه الخاص. كانت
فكرة
الأمراض القائمة على فكرة الأخلاط القائلة إن الجسم البشري يحتوي على أربعة سوائل؛ العصارة
السوداء والعصارة الصفراء والبلغم والدم، وأن عدم التوازن في هذه الأخلاط يُسبِّب المرض،
هي
المبدأ الطبي السائد وصولًا إلى القرن التاسع عشر. كذلك حقَّق جالينوس اكتشافات مهمة
خاصة
به. فكان أول من أثبت أن الشرايين تحمل الدم، وبهذا أحدث تحوُّلًا في المعارف المُتعلِّقة
بالجهاز الدوري. وبيَّن الفرق بين أنواع الأعصاب واستخدم تقنيات جراحية رائدة. ومع ذلك،
كان
شغفه الأعظم هو التشريح، ومع أنه لم يكن قادرًا على تشريح الجثث البشرية (إذ كانت هذه
الممارسة غير قانونية في الإمبراطورية الرومانية منذ سنة ١٥٠ق.م)، فقد نقل المعرفة التي
اكتسبها من تشريح الخنازير والقرود، وهو شيء عادةً ما كان يفعله على الملأ، أمام جمهور
مُتحمِّس. ولم يُعارِض أحدٌ النظريات الناتجة إلى أن نشر أندرياس فيزاليوس بحثه الثوري
عن
التشريح سنة ١٥٤٣.
في سن الثامنة والعشرين، عاد جالينوس إلى بيرجامون، مسقط رأسه، ليُصبِح طبيبًا في
مدرسة
المجالدة هناك. بحلول ذلك الوقت، كان قد أمضى عشرة أعوام يَدرس، وهو «أطول تعليم طبي
مُسجَّل»،
14 وبفضل ذلك، تشكَّلَت نظرة عامة فريدة عن هذا الفرع من العلم. كان المجالدون هم
صفوة الرياضيين في ذلك الوقت، وأثناء معالجته لجروحهم، حظي جالينوس بمعلومات مُتعمِّقة
عن
وظائف الأعصاب والعضلات، مما ساعده على بناء خبرة عملية من شأنها أن تعود عليه بفائدة
كبيرة
لاحقًا في مساره المهني. فاستحدث طرُقًا جديدة لخياطة الأنسجة العضلية العميقة وابتدع
علاجات مُبتكَرة لمعالجة الإصابات.
في عام ١٦١ ميلادية، انتقل إلى روما، حيث ذاع سريعًا صِيته بوصفه مُعالِجًا موهوبًا.
واستمر يُؤلِّف الكتب، ونقَّح الأعمال التي كان قد كتبها سابقًا، وبدأ يُعطي محاضرات
عامة
ويُقدِّم عروضًا تشريحية. تنعَّم جالينوس بوصفه عضوًا مُوقَّرًا من صفوة الرومان؛ فكان
ثريًّا ومُثقَّفًا وذا علاقات قوية، ولكنه ظل نوعًا ما دخيلًا، يوناني في عالم روما.
كان
يكتب دائمًا بلغته
٧
وكان أحيانًا ما يبدي ازدراءه للمجتمع الإمبراطوري، وبخاصة سلوكه تجاه الدراسات
العملية، شاكيًا من:
مادية الأثرياء وذوي النفوذ … الذين يُؤثِرون المتعة على الفضيلة، الذين لا
يعبئون بأولئك الذين يحوزون معرفة دقيقةً ما ويُمكِنهم أن يمنحوها الآخرين … ولكن
الاحترام الذي يمنحونه رجال العلم يتوافق فقط مع حاجتهم العملية إليهم. فهم لا يرون
الجمال الخاص لكل دراسة ولا يُطيقون المُثقَّفين. وهم يحتاجون إلى الهندسة والحساب
فقط في حساب النفقات وفي تحسين قصورهم، والفلك والكهانة فقط في التكهن بمن سوف
يرثون ماله.
15
يُسهِم التقييم، الذي يحمل إدانة دامغة للحياة الفكرية الرومانية، في
تفسير السبب وراء ضآلة تأثير الأفكار العلمية في أوروبا الغربية في أواخر العصور القديمة
وما بعدها. فقد كانت ترجمة النصوص العلمية اليونانية إلى اللاتينية نادرة، وكانت على
نحو
شبه دائم تُلخَّص وتوجَز كجزء من الموسوعات. تُرجمَت بعض أعمال جالينوس إلى اللاتينية
(فالرجل، في الواقع، أمضى فترات طويلة في روما)، ولكن الأعمال التي لم تُترجَم لم تعد
تُستعمل مع اختفاء اللغة اليونانية تدريجيًّا بعد انقسام الإمبراطورية في القرن الخامس
الميلادي. وفي الشرق، بعدما أصبحت الأديرة المراكز الأساسية للمعرفة وإنتاج الكتب، سقطَت
نصوص جالينوس الفلسفية، التي لا تستسيغها العقول المسيحية، هي الأخرى في غياهب المجهول.
أما
أعماله الطبية، بأهميتها العملية المباشرة، فكانت هي الأوفر حظًّا في أن يُعاد نسخها
ومشاركتها. وكما سنرى في الفصل التالي، فإنها حُفظَت في بادئ الأمر بواسطة المجتمعات
المسيحية في سوريا وفارس، قبل أن يكتشفها الباحثون العرب في القرن التاسع.
لم تكن شهية جالينوس الفكرية النهمة قاصرة على الطب. فقد غرس فيه تعليمه المُبكِّر
في
بيرجامون شغفًا بالفلسفة، وكان أحد أكبر إنجازاته إدماج الأفكار الأرسطية مع الفكر الطبي.
وأدخل هذه السمة في أعمال متنوعة، وأبرز مثال على ذلك كتابه «أفضل طبيب هو أيضًا فيلسوف»،
وكذلك أطروحة «حول وظيفة الأعضاء»، التي تُمثِّل بحثه الهائل في علم التشريح؛ فكلا العملَين
يربط بطريقة حاسمة الفلسفة بالطب. كان جالينوس مفتونًا أيضًا بعلم فقه اللغة؛ أي الدراسة
التاريخية للغة وتأليف القواميس؛ وهما مجالا خبرة ضروريان لرجلٍ جمع مكتبة ضخمة من
المخطوطات التي ترجمها ونقَّحها بنفسه.
كان الكم الهائل من كتابات جالينوس مصدر إزعاج له عندما تعلَّق الأمر بالنقل. فقد
كانت
ببساطة كثيرة إلى درجة أنه لم يكن مُمكِنًا أن تبقى جميعها. أدرك جالينوس هذا وكان رد
فعله
النموذجي أن أنتج المزيد من الأعمال، مُفصِّلًا أي أبحاثه كانت الأكثر أهمية والكيفية
التي
ينبغي قراءتها بها. حلَّت مدرسة الطب بالإسكندرية هذه المشكلة بنظم أربع وعشرين من دراساته
فيما يُعرَف باسم «منهج جالينوس»؛ الذي دُعي فيما بعد، على نحو يبعث على الارتباك، باسم
«الستة عشر كتابًا». كان على الطلاب أن يقرءوها بترتيب مُعيَّن، والنتيجة كانت تعليمًا
طبيًّا وجيزًا وشاملًا في الوقت نفسه. كان منهج جالينوس ناجحًا للغاية حتى إنه انتشر
في
سوريا وإيطاليا، وشكَّل أساسًا للتعليم الطبي في كل أنحاء العالم الإسلامي من القرن العاشر
وما بعده. قال فيفيان نوتون، الخبير الأبرز في جالينوس والطب القديم بوجه عام، عن منهج
جالينوس: «لا يمكن أن نُوفِّيه قدره.»
16 فهذا المنهج حدَّد أُطُر دراسة الطب لقرون واقتضى أن يفهم الأطباء المبادئ التي
يستند إليها العلم، مُساعِدًا في الوقت نفسه على إضفاء الطابع المهني على هذا الفرع من
المعرفة وفرض معايير صارمة.
لم يكن ثمة أحد أكثر صخبًا بشأن شهرة جالينوس منه هو نفسه؛ إذ زعم أن لديه طلبات من
مرضى
يعيشون في كل أنحاء الإمبراطورية، وأملى أطروحات على عشرين ناسخًا في وقت واحد، وكان
هذا
إنتاجًا نصيًّا ضخمًا؛ لذا لا عجب أن التوزيع الجغرافي لعمله كان واسع النطاق للغاية.
في
السنوات التي تلت وفاته في روما، نحو سنة ٢١٠، كان نسخ الأطروحات الجالينوسية يحدث في
أماكن
بعيدة مثل المغرب، وسيطر جالينوس على موسوعات العصور القديمة. وكما هو الحال مع كتابَي
«العناصر» و«المجسطي»، أجبر حجم «مجموعة الكتابات الجالينوسية» الباحثين على ابتكار طرق
لمُعالَجة المعلومات واختصارها. كان عمل مخطوطات يستنزف قدرًا كبيرًا جدًّا من الوقت
والمال؛ لذا كانت النُّسخ الجديدة التي تشمل هذه الأعمال بمجملها نادرة. كُثِّفت الأفكار
العلمية ونُقلَت عن طريق مؤلفات ثانوية — الموسوعات والتعليقات والقواميس والملخصات —
وليس
في الشكل الذي كان كُتَّابها يسعون إليه، ولكن على الأقل بقي بعض من الأفكار الأساسية
وجرى
تناقله من جيل إلى جيل.
بحلول نهاية القرن الخامس، كانت خريطة المعرفة قد تغيَّرَت تغيُّرًا جذريًّا. كان
أغلب
مراكز المعرفة القديمة قد تلاشى، وأُغلقَت المدارس، ونُهبَت المكتبات وأُحرقَت، أو تُركَت
لتتلاشى في سكون. كانت الإسكندرية لا تزال مركزًا للتجارة وللأفكار، ولكن المكتبة كانت
مجرد
طيف لما كانت عليه في الماضي. في عام ٤١٥، كانت طُغمة من المتعصبين المسيحيين قد قتلَت
الفيلسوفة وعالمة الرياضيات هيباتيا. فاعتقادًا منهم أنها ساحرة، سلخوها حيةً بأصداف
المحار، ثم تحوَّلوا باهتمامهم صوب المعبد الرائع للإله سيرابيس ومجموعة اللفائف التي
يحويها، ونزعوا «أحجار المعبد؛ ما أدَّى إلى سقوط أعمدة الرخام الضخمة، وانهيار الجدران
نفسها».
17 كان هذا انتصارًا ساحقًا للمسيحيين في الإسكندرية. كان السيرابيوم في السابق
مركز المعرفة والسلطة الوثنية، وكان تدميره رمزًا «للحرب الواسعة النطاق التي تشنها
المسيحية على الثقافة القديمة ومقدساتها؛ الأمر الذي كان يعني الحرب على
المكتبات».
18
انقلبت الأوضاع مُجدَّدًا، بعد قرنَين من الزمن، بوصول العرب، في عام ٦٤١. حينذاك،
لم يكن
قد بقي الكثير من مكتبة الإسكندرية، وكانت مجموعتها تتألف في معظمها من مؤلفات تتناول
موضوعات عن الديانة المسيحية، التي لم تكن محط اهتمام الفاتحين المسلمين. يُحكى أن الخليفة
أمر بأن تُرسَل كل اللفائف، عدا لفائف أرسطو، إلى الحمامات العامة، حيث وُضعَت في الأفران
التي كانت تُسخِّن ماء الاستحمام. وعلى ما يبدو، استغرق الأمر ستة أشهر لإحراقها كلها.
هذه
قصة جيدة، ولكن الحقيقة أقل دراماتيكية وتسلية. لقد كان المصير الأرجح للمكتبة التدهور
التدريجي. فكان الحِبر يبهَت والبردي يتفتَّت مُتحوِّلًا إلى تراب. وإذا لم يُفكِّر أحد
في
صنع نسخ جديدة، كان ضياع المخطوطات يُصبِح أمرًا محتومًا. اندثرَت المكتبة العظيمة، ولكن
سمعتها المدوية ظلَّت رمزًا أبديًّا لسلطان المعرفة وكذلك لمأساة فقدها.
بحلول عام ٥٠٠ ميلادية، كانت الإسكندرية آخذة في الأُفول؛ إذ تجاوزَتها، في الحجم
والأهمية السياسية، مدينةُ القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية. كان أباطرة
القرن السادس مُنشغِلين ببهرجة عاصمتهم بالمباني الضخمة أكثر من الاعتناء بالمكتبة
الإمبراطورية، التي كانت قد أُنشئَت في أواسط القرن الرابع. لم يكن أي من حكام الإمبراطورية
في هذه الفترة مهتمًّا بالمعرفة العلمية بالطريقة التي سيكون عليها الخلفاء، الذين سوف
نلتقي بهم لاحقًا، أو حتى بالطريقة التي كان عليها الملوك البطالمة الأوائل. لا بد أنه
ظلت
مجموعات كتب خاصة صغيرة توجد في القسطنطينية، وبالتأكيد كانت توجد نسخ من أعمال إقليدس
وبطليموس وجالينوس في المجموعة الإمبراطورية بعد ذلك بنحو قرنَين من الزمان. إلا أنه
في عام
٥٠٠، كان مصير كتابات روافد العلوم القديمة الثلاثة العظيمة غير يقيني. فلم يبقَ إلا
بضع
نسخ من «المجسطي» و«العناصر»، إلى جانب نصوص مختارة من مجموعة الأعمال الضخمة لجالينوس،
مُتناثِرة بين كل من مصر وسوريا والأناضول واليونان. وقبع بعضها، منسيًّا، في أطلال المعابد
القديمة، أو مُختفيًا في صناديق قديمة في مكتبات مُهمَلة وبعضها الآخر كان يُمكِن العثور
عليه في بعض الأديرة أو موضوعًا على الأرفف في مجموعات كتب خاصة، تحت حماية عدد قليل
من
الباحثين الذين تمكَّنوا من إبقاء جذوة علوم الفلك والرياضيات والطب مُتَّقِدة إلى أن
بزغ
فجر الفترة العظيمة التالية من البحث العلمي، في بغداد إبَّان العصر العباسي.
هوامش
-
(١)
مكتبات حقوق الطبع والنشر في بريطانيا، والتي تُعرَف أيضًا باسم «مكتبات الإيداع
القانوني»، هي المكتبة البريطانية ومكتبة بودلي ومكتبة جامعة كامبريدج والمكتبات
الوطنية لاسكتلندا وويلز.
-
(٢)
عندما مات الإسكندر في بابل، استولى بطليموس سوتير على جثمانه وأعاده إلى مصر
ليُوطِّد مركزه باعتباره الوريث الأساسي للإسكندر.
-
(٣)
كانت أطروحة «العناصر» تُستخدَم ككتاب مدرسي في بريطانيا حتى ستينيات القرن
العشرين.
-
(٤)
قصة هيباتيا هي واحدة من أكثر القصص مأساوية وإثارة للاهتمام في العصور القديمة
كلها وجعلت منها أشهر عالمة في تلك الحقبة التاريخية. كانت هيباتيا شخصية ذات دور
قيادي بين أرباب الفكر في مدينة الإسكندرية، علَّمها والدها ثيون وعملت إلى جواره،
ولكنها أصبحت هدفًا لعداء المسيحيين للثقافة الوثنية واغتيلت على يد حشد من الغوغاء
المتعصبين دينيًّا.
-
(٥)
تندر المعلومات الموثوقة عن حياة هيبارخوس، ولكن من المحتمل أنه كان نشطًا في
رودس زهاء ١٩٠–١٢٠ق.م، حيث دوَّن مجموعة من الملاحظات استخدمها بطليموس في نماذجه
الفلكية. ورغم أن عناوين العديد من أعمال هيبارخوس معروفة لنا، فإنه لم يبقَ منها
إلا عمل واحد.
-
(٦)
كثير من آثار هذه المدينة، وفيها هيكل زيوس، موجود الآن في متحف بيرجامون في
برلين.
-
(٧)
لم يكن هذا أمرًا غير معتاد. كانت الدولة الرومانية ثنائية اللغة؛ إذ كان غالبية
الصفوة يتحدثون اليونانية واللاتينية.