الفصل السادس

ساليرنو

في ذلك الوقت ازدهرت [ساليرنو] في فن الطب لدرجة أنه لم يكن في مقدور مرض أن يستقر فيها.

ألفونسو الأول، رئيس أساقفة ساليرنو

في منتصف القرن الحادي عشر، وصل تاجر من شمال أفريقيا يُدعى قسطنطين إلى ميناء ساليرنو الإيطالي المُزدحِم ومعه شحنة من البضائع. أثناء إقامته في المدينة، أصابه المرض، فاستُدعي طبيب محلي إلى فراشه. لا نعرف كُنه العلاج الذي وصفه له هذا الطبيب وإذا ما كان قد ساهم في شفاء قسطنطين، ولكننا نعرف أن قسطنطين صُدِم من انعدام كفاءة الطبيب؛ فالرجل لم يطلب حتى عينة من البول يستند إليها في تشخيصه. كان ما سيفعله أناس كثيرون هو أن يتجاهلوا التجربة، شاكرين الرب على نجاتهم، ومُسارِعين بالعودة إلى وطنهم المُتحضِّر. ولحسن حظ تطوُّر الطب الأوروبي، أن قسطنطين كان شخصية غير عادية؛ فقد بقي في ساليرنو وبدأ يسأل الأشخاص المحليين عن نوع الكتب الطبية التي كانت متاحة هناك، وأصابه الهلع عندما دلَّت الإجابات على القدر الضئيل لما كان الإيطاليون يعرفونه عن الطب.

لو كانت هذه القصة قد حدثت في أي مدينة أخرى في أوروبا في ذلك الوقت، لكان أمرًا عاديًّا، بل مفهومًا حتى. فقد كانت المعرفة الطبية مُتخلِّفة في أوروبا الغربية في النصف الثاني من الألفية الأولى. كان الأطباء قليلين ومُتباعِدين. كان يوجد بعض النصوص الطبية في الأديرة الكارولنجية وفي مكتبات البلاط الإمبراطوري، ولكن لم يكن كثير من الناس قد قرءوها وفهموها. عندما كانوا يُصابون بمرض أو بجروح، كانت الأغلبية الساحقة تعتمد على خليط من الصلاة والأمل الأعمى و(غالبًا) تمائم عديمة القيمة كانوا يشترونها من المُعالِج المحلي.١ المفارقة الرائعة في قصة قسطنطين هي أن الحظ حالفه بأن أصابه المرض في ساليرنو؛ التي كانت في ذلك الوقت مركز المعرفة الطبية الأكثر تقدُّمًا في أوروبا كلها. في واقع الأمر، كان الطبيب الذي ازدرى قسطنطين معرفته في طليعة العلوم الإكلينيكية الغربية، وكان مُدرَّبًا على يد أفضل الأطباء، باستخدام أحدث النصوص المتاحة في ذلك الوقت. كانت ساليرنو مشهورة، حتى إنها كانت تُعرَف — على الأقل في أوروبا — بأنها مدينة أبقراط. غير أن ازدراء قسطنطين للعلاج المتوفر يُظهِر بجلاء الهوة التي كانت قائمة بين الباحثين الأوروبيين ونظرائهم المسلمين. كانت المنطقة الناطقة بالعربية قد استفادت من قرون من المعرفة العلمية والبحوث الطبية؛ فكان لديهم مستشفيات وأدلة عملية وأدوات تشخيص ومُعَدات مُتخصِّصة لعلاج المرضى والمُصابين. وعندما اكتشف قسطنطين أن العلاج الطبي الذي تلقَّاه كان أفضل من أي شيء آخر متاح في أوروبا، عقد العزم على المساعدة.

عاد قسطنطين إلى مسقط رأسه في قرطاج، حيث بدأ يدرس الطب ثم مارسه. بعد بضع سنوات، أبحر ثانيةً إلى ساليرنو، جالبًا معه كمية من الكتب التي من شأنها أن تُغيِّر حال دراسة الطب وممارسته في أوروبا، وتُعزِّز مكانة ساليرنو بصفتها المركز الرئيسي للتعليم الطبي. عادةً ما يُشاد بالمدرسة الطبية بساليرنو، التي تأسست في القرن التاسع، بوصفها أول مدرسة طبية في أوروبا. وهذا ادعاء مُضلِّل. أولًا، لم تكن المدرسة مُؤسَّسة مُنظَّمة بالمفهوم الحديث؛ إذ كانت أقرب إلى مجموعة من مُعلِّمي الطب تجمَّع حولهم الطلاب. وكما هو الحال في بغداد وطليطلة، لا توجد أدلة على وجود موقع مركزي للدراسة الطبية في المدينة. ثانيًا، كان يوجد كثير من «المدارس» الطبية في العالم القديم؛ لذا فإن أي زعم بأن ساليرنو هي الأولى هو زعم يحتاج إلى تحديد؛ فوصفها بأنها «أول مدرسة طبية في أوروبا فيما بعد العصور القديمة» ليس له الوقع نفسه. ومع ذلك، فبدءًا من نحو عام ٨٥٠ وما بعده، كانت ساليرنو في طليعة دراسة الطب لقرون عدة، وكانت المدرسة ذات تأثير بالغ في امتداد المعرفة الطبية إلى مراكز فكرية أخرى، وأن يُصبِح الطب، في نهاية الأمر، جزءًا مُعترَفًا به رسميًّا في منهج الدراسة الجامعية.

تحيَّر المؤرخون بشأن السبب الذي لأجله أصبحت ساليرنو مركزًا للطب وكيفية حدوث ذلك، والمصدر الذي جاءت منه المعرفة والكيفية التي تطوَّر بها التقليد المُتبَع هناك. حتمًا، يوجد كثير من المصادر والإجابات المحتملة، لعل أبرزها هو موقعها الجغرافي على البحر، وهواؤها النظيف، ومناخها المُعتدِل، ومناظرها الطبيعية الجميلة، والينابيع الساخنة المحلية وكثير من المنتجات المحلية الطازجة؛ إذ كان الاستحمام والحمية الغذائية جزءًا لا يتجزأ من العلاج الطبي. لآلاف السنين اشتهر هذا الساحل التيراني المُترامِي الأطراف لدى من يبحثون عن الراحة والاسترخاء. في نحو عام ٦٠٠ق.م كان اليونانيون قد استقروا على بعد بضعة كيلومترات إلى الجنوب، وما زالت المعابد الضخمة التي بنوها في بيستوم قائمة إلى يومنا هذا. بحلول القرن الأول الميلادي، كان الساحل موطنًا لفيلات فخمة ومزارع كروم، وكانت تلك هي قصور المتعة التي كان أعضاء مجلس الشيوخ والأباطرة يأتون إليها للاستمتاع بالصيف والهروب من حر روما.

والأدلة على وجود دراسة مُحدَّدة للطب، وليس مجرد نمط عام للعلاج والصحة، أمر أصعب في تحديده. اقترح الباحثون، الذين كانوا يُفتِّشون عن مكان بالقرب من ساليرنو يمكن أن يكون قد أتى منه الاهتمام بالطب، مدينة فيليا، وهي مدينة يونانية، على بعد ثمانين كيلومترًا إلى الجنوب، كانت قد اشتهرت كمركز للمعرفة تحت الحكم الروماني، في القرن الأول الميلادي، لا سيما فيما يتعلق بدراسة الفلسفة والطب. عثر علماء الآثار على تماثيل لأسكليبيوس وهيجيا، بالإضافة إلى نقوش وعملات وأدوات جراحية؛ تدعم جميعها الزعم القائل إن فيليا كانت مركزًا للبراعة الطبية. تكمن المشكلة في الانتقال من فيليا في القرن الثاني الميلادي (عندما بدأت المدينة في التدهور بسبب استمرار تفشي الملاريا) إلى ساليرنو في القرنَين الثامن أو التاسع. من المحتمل، بالطبع، أن يكون الأطباء، الذين كانوا يفرون من فيليا، قد ذهبوا إلى ساليرنو، آخذين معهم كتبهم، وبدءوا تقليدًا لدراسة الطب نجا من الفوضى التي شهدتها القرون الفاصلة؛ مما أدَّى إلى استمرارية الطب في عام ٧٠٠ ميلادية (عندما يظهر أول دليل على وجود ممارسة طبية في ساليرنو)، ولكن من المستحيل إثبات هذا.

أفضل طريقة لتناوُل مسألة بداية تاريخ المدرسة الطبية في ساليرنو هي دراسة النصوص التي كان الطلاب يتعلمون منها وتتبُّع أصولها. تضمنت هذه النصوص نسخة غير كاملة من كتاب «عن المواد الطبية» لديسقوريدوس وكتاب «الفصول» لأبقراط وكتاب «رسالة إلى جلاوكون» لجالينوس، وكلها بتراجم لاتينية. كان الكتابان الأخيران جزءًا من المنهج الدراسي الإسكندري، الذي كان قد وُضِع لتعليم الأطباء الشبان في القرنَين الثاني والثالث، والذي كان قد امتد، بحلول عام ٥٠٠، إلى القسطنطينية وأثينا أيضًا. بحلول عام ٥٣١، كانت تلك الكتب قد شقَّت طريقها، إلى جانب العديد من كتابات أرسطو إلى سوريا، حيث تُرجمَت إلى السريانية ودرسها الباحثون المحليون هناك.٢ في ثلاثينيات القرن السابع، سافر طبيب يُدعى بولس الأجانيطي إلى الإسكندرية من القسطنطينية، وربما كان ذلك بهدف جمع معارف يضعها في موسوعة طبية كان يعكف على كتابتها. وقد أصبحت هذه الموسوعة واحدة من أدق المُلخَّصات الطبية وأوسعها انتشارًا، واستخدمها الباحثون في أنحاء أوروبا في القرون التالية واقتبسوا منها.
لذا، من الواضح، بناءً على ذلك، أن هذا النوع من المعرفة كان يُتداوَل، ولو على نطاق ضيق، في مناطق حول البحر المتوسط. ولاكتشاف الكيفية التي وصلت بها إلى ساليرنو، نحتاج إلى تتبُّع الأثر الذي يبدأ في أقصى جنوب إيطاليا، في سكيلاتشي، في دير فيفاريوم، الذي تركنا فيه كاسيودوروس يجمع بقايا النظام التعليمي الكلاسيكي القديم. كانت المخطوطات التي تمكَّن من إنقاذها وإضافتها إلى مكتبته، هي، مع استثناءات قليلة، النصوص الكلاسيكية الوحيدة، التي تتناول موضوعات علمانية، المتاحة في أوروبا الغربية حتى القرن الحادي عشر. جعل كاسيودوروس الدراسة الفكرية وعمل النسخ جزءًا لا يتجزأ من نظام رهبانيته اليومي، واضعًا قاعة النسخ وإنتاج الكتب في القلب من حياة الرهبنة. كان لاعبًا مُؤثِّرًا في إدخال الأفكار الكلاسيكية وأساليب التعليم في السياق الديني، وهو ما أدَّى بدوره إلى جعل الكنيسة الاختيار الحقيقي الوحيد لأي شخص لديه اهتمامات وطموحات فكرية. وكان من نتائج هذا أن «لم يعد الشرف والمجد محصورَين في الفهم العلمي الموضوعي للظواهر الطبيعية، وإنما في تعزيز أهداف الكنيسة الجامعة.»1 تعرَّض كثير من أوجه البحث العلمي والفلسفي للتجاهل أو حتى للتدمير لأنها لم تتفق مع العقيدة المسيحية. وفي الفترة بين عامي ٥٠٠ و١١٠٠، كان الطب هو المعرفة «الدنيوية» الوحيدة التي كانت تُدرَس باستمرار. ربما يكون السبب في هذا واضحًا؛ فائدته العاجلة والعملية في مقاومة الضعف الإنساني. وحتى عودة قسطنطين إلى ساليرنو، كانت العلوم المأخوذة عن كاسيودوروس هي ما يُحدِّد أغلب جوانب دراسة الطب في أوروبا الغربية ويُيسِّرها.
كان القديس بندكت هو أول من وضع نظام رعاية المرضى باعتباره أحد المبادئ الأساسية لحياة الرهبنة. تابع كاسيودوروس هذا الأمر وتوسَّع فيه بإدخال نصوص طبية في بيانه الخاص بالتعليم، المُسمى «المؤسسات الدينية والأدب الإنساني». هذا الكتاب المُؤثِّر، الذي كان مُستخدَمًا على نطاق واسع في سائر أنحاء أوروبا لقرون، هو دليل دراسة موسوعي، وهو بالأساس عبارة عن قائمة بالنصوص التي توقَّع من رهبانه أن يكونوا على اطلاع عليها ومناقشات لفائدتها. ركَّز الجزء الأول، المُسمى «روحانية»، على النصوص الدينية، ولكن كان به قسم في نهايته يتناول الطب. بحث الجزء الثاني من العمل، والذي يحمل اسم «علمانية»، فيما سوف يُصبِح بعد ذلك «الفنون الثلاثة» و«العلوم الأربعة» بما في ذلك الرياضيات وعلم الفلك. اشتملت المؤلفات الطبية التي نصح بها على كتاب «عن المواد الطبية»، لديسقوريدوس وتراجم لاتينية، أُصدرَت في منسخه، لمؤلفات متنوعة لجالينوس وأبقراط. نعلم أن هذه الكتب كانت على أرفف دير فيفاريوم في القرن السادس؛ لأن كاسيودوروس يقول صراحة: «تركت لكم هذه الكتب، المحفوظة في غور مكتبتنا.»2 وهكذا ساعد كاسيودوروس على إدخال دراسة وممارسة الطب إلى عالم الكنيسة، بالإضافة إلى التقاليد القائمة الخاصة بالشفاء بالإيمان وارتياد المزارات المقدسة. الواقع أن الحُجَّاج الذين يسافرون إلى المزارات المقدسة هم الذين سوف يُحدِثون ابتكارًا آخر في الممارسة الطبية في أوائل العصور الوسطى؛ وهو إنشاء نُزُل صغيرة لرعاية المرضى، والمسافرين وغيرهم من ذوي الحاجة. كانت هذه النُّزُل الصغيرة تُوفِّر بالأساس الطعام والمأوى، ولكنها بدأت تدريجيًّا كذلك في تقديم رعاية طبية أكثر تخصُّصًا، مُحقِّقة المُثل العليا للمحبة المسيحية. أخيرًا، وبخاصة في أعقاب الحملات الصليبية في القرنَين الحادي عشر والثاني عشر، تحوَّلَت النُّزُل الصغيرة إلى مستشفيات.

في القرن التالي للقرن الذي كُتِب فيه كتاب «المؤسسات الدينية والأدب الإنساني»، تنقَّل الكتاب عبر سائر أنحاء منطقة البحر المتوسط وفي أرجاء أوروبا الغربية، وكان مصدرًا رئيسيًّا لكُتَّاب الموسوعات في أوائل العصور الوسطى. وباعتباره فهرسًا لمكتبات الأديرة عبر القارة، كان هذا الكتاب واحدًا من أهم الكتب في نقل المعرفة من العالم القديم إلى عالم العصور الوسطى. بالإضافة إلى ذلك، أُرسلَت نسخ من النصوص التي أدرجها الكتاب، وفي ذلك مؤلفات طبية عُثِر عليها في مكتبة دير فيفاريوم، إلى أديرة أخرى، قاصية ودانية. لا يُمكِننا تتبُّع رحلات الانتقال الدقيقة لهذه المخطوطات، ولكننا نعرف أن النصوص الطبية المتداولة في جنوب إيطاليا في القرون التالية كانت عادةً هي النصوص نفسها التي كانت موجودة في دير فيفاريوم، وأنه من المؤكد أن بعضها انتهى به المآل في المكتبة الكائنة في مونتيكاسينو. ومن هنا، كانت الرحلة قصيرة نسبيًّا إلى ساليرنو في الجنوب.

كانت مؤسسة القديس بندكت العظيمة قد واجهت وقتًا عصيبًا منذ بداياتها في عام ٥٢٩. فموقعها الاستراتيجي على قمة أقصى موضع جنوبي من نتوء صخري في جبال الأبينيني، مُنتصِبة على ارتفاع ٥٠٠ متر فوق طريق فيا لاتينا، الطريق الرئيسي من نابولي إلى روما، جعلها هدفًا واضحًا لأي جيوش تمر عبر هذا الطريق. لاذ الرهبان بالفرار إلى روما عندما نهب اللومبارديون الدير في عام ٥٨١، ولم يعودوا حتى عام ٧١٨. وما إن أُعيد بناء الدير والكنيسة حتى أُحرِقا بالكامل عندما شن العرب هجماتهم في عام ٨٨٤. هذه المرة، توجَّه الرهبان إلى مدينة كابوا القريبة، واستقروا هناك لنصف قرن. وعندما عادوا أخيرًا إلى مونتيكاسينو، في عام ٩٤٩، وجدوا المنطقة «مهملة وخربة»، ولكن، إيمانًا منهم بقدسية الموقع، الذي اختاره القديس بندكت، إن لم يكن الرب هو الذي اختاره، ثابروا في سبيل ترميم المباني وتشجيع الناس على العودة والعيش في إقليم تيرا سانكتي بندكتي المحيط بالموقع. بل تمكَّنوا حتى من الحفاظ على بعض مجموعات كتب الدير خلال هذه الفترة المُضطرِبة، وهو إنجاز مُثير للإعجاب للغاية، نظرًا للعنف، والدمار وسنوات المنفى التي تحمَّلها الرهبان. بقيت مجموعتان من هذه المجموعات — وهما مونتيكاسينو ٦٩ وإم إس مونتيكاسينو ٩٧، وهما مجموعتان صنعهما رئيس الدير برثاريوس (نحو ٨٥٦–٨٨٣) واستندتا إلى توصيات كاسيودوروس — في المكتبة إلى يومنا هذا.

كانت النصوص الطبية التي بقيت جزءًا من المنهج التعليمي الإسكندري القديم، الذي أُسِّس في أواخر العصور القديمة، والذي، بحلول عام ٥٥٠، كان قد امتد إلى إيطاليا واليونان والإمبراطورية البيزنطية. تألَّف هذا المنهج من كتب أرسطو الأربعة الأولى عن المنطق، متبوعة بأربع أطروحات أبقراطية. كذلك استخدم القسم الأخير «الكتب الستة عشر» لجالينوس، مُصنَّفة إلى سبعة مستويات، يُركِّز كل مستوًى منها على جانب مختلف من الممارسة الطبية؛ على سبيل المثال، التشريح، والمرض، والتشخيص، وهكذا دواليك. كان من شأن الطلاب أن يحضروا محاضرات (عادةً ما كانت تُكتَب بعد ذلك في صورة تعليقات) عن كل نص من النصوص على الترتيب وهم يمضون قدمًا في المنهج التعليمي. كانت التعليقات على النصوص الجالينوسية الأربعة الأولى، «عن المذاهب»، و«فنون الطب»، و«عن النبض»، و«إلى جلاوكون»، وعُرفَت مُجتمِعة باسم «للمبتدئين». وظلَّت هذه التعليقات، التي شرحت المبادئ الأساسية للطب الجالينوسي ووضَّحتها، سائدة لقرون. ودُرسَت هذه الكتب ونُسخَت على يد عدد محدود من الناس في بضعة أماكن، بما يكفي لضمان بقائها عبر أواخر العصور القديمة وبداية العصور الوسطى. وكان من هؤلاء، رجل يُدعى أجنيلوس، عاش في مدينة رافينا نحو عام ٦٥٠. وصف المؤرخون أجنيلوس بأنه «طبيب محلي» و«أستاذ في الطب» كذلك،3 وألقى محاضرات عن النصوص الجالينوسية الأربعة الأولى وتعليقاتها. وقد دوَّنها أحد طلابه، وهو شاب يُدعى سيمبليسيوس، وأعطاها عنوانًا هو «بصوت أجنيلوس»، وبقيت المحاضرات في مخطوطة من القرن التاسع اكتُشفَت في ميلانو، بينما عُثِر أيضًا على نسخ في مكتبات الكارولنجيين في شمال أوروبا.4
في حين كانت مدن كثيرة في إيطاليا تشهد تدهورًا في القرن السابع الميلادي، كانت رافينا تتمتع بفترة تألُّق وجيزة. فكانت التجارة تشهد تصاعدًا في هذه المدينة المُزدهِرة، وتعبَّد مواطنوها البالغ عددهم ٥٠ ألف نسمة في كنائس جديدة رائعة ذات أشكال فُسَيفسائية باهرة. وكان يوجد أيضًا نشاط علمي كبير. في الواقع، وُصفَت رافينا بأنها «بؤرة التعليم الطبي الأكثر تقدُّمًا في أواخر العصور القديمة».5 وبرغم صحة هذه العبارة، فإنها تُعطي انطباعًا مُتفائلًا تفاؤلًا مُضلِّلًا عن حال ذلك التعليم. ففي هذه المرحلة، كانت مجموعة النصوص الطبية عبارة عن صورة باهتة، من ناحية الجودة وكذلك الكم، للثروة الهائلة من النظريات والمحاورات التي سادت في العالم القديم. كان الصخب المُذهِل من الآراء والإنجازات الذي اتسم به البحث الطبي الهلِّينستي قد تبدَّل مُتراجِعًا إلى هيئة مُختزَلة جامدة، أُقحمَت بلا هوادة في إطار المعتقد المسيحي. فتحوَّرَت كتابات جالينوس مُتخِذة شكل مذهب «الجالينوسية»؛ مما قضى على كل مدرسة طبية بديلة وأعطى أفضلية لتأويل النشرات الجالينوسية على أي شيء آخر. كان لهذا التركيز على الجانب النظري أثر مُؤسِف تمثَّل في حجب الجوانب الأكثر إبداعًا وفائدة لإنجازات الطبيب العظيم؛ كوسائله، وملاحظته، وأسلوبه التجريبي، وبحثه العملي (مثل التشريح، على سبيل المثال) التي جعلته يقطع شوطًا كبيرًا جدًّا على درب التقدُّم العلمي. وكانت النتيجة أن النقاش الفكري، والبحث المُفصَّل وأي نوع من التقدُّم الطبي في الغرب قد ظل على حاله لقرون عديدة. قدَّم أجنيلوس رافينا وزملاؤه إسهامات مهمة في سبيل الحفاظ على المعرفة الطبية، ولكن ينبغي النظر إلى إنجازاتهم في سياقها.

ربما ازدهرت رافينا في أوائل العصور الوسطى، ولكنها كانت استثناءً. فقد كان الواقع الأشمل يتسم بالاضطراب وعدم الاستقرار. فمثل جانب كبير من جنوب إيطاليا، كانت مدينة ساليرنو بيدقًا في الحروب بين القوط الشرقيين والبيزنطيين في القرنَين الخامس والسادس، وعندما جاء اللومبارديون في القرن السابع، عانت المدينة من الطاعون والمجاعة. في عام ٧٧٤، غزا شارلمان مملكة اللومبارديين وخلع ملكهم. من هذه اللحظة، بدأت حظوظ مدينة ساليرنو في التحسن. فبوصفها المدينة الثانية في دوقية بينيفنتو، حُصِّنت المدينة في أواخر القرن الثامن وأصبحت عاصمة النصف الغربي من الدوقية. امتدت أسوار المدينة لتُحيط بالقصر الجديد ومنطقة سكنية ضخمة بها منازل وحقول وبساتين، بينما وفَّرَت قلعة دفاعية خلف المدينة، على جبل مونت ستيلا مركزَ مراقبة حيويًّا وملجأً في أوقات الهجوم. شجَّع مُلاك الأراضي المُستأجِرين لديهم على زراعة محاصيل طويلة الأمد، مثل أشجار الكروم والبندق والكستناء؛ التي وفَّرَت النبيذ والأخشاب الصلبة الثمينة للتجارة واللحاء للدباغة ودقيق الكستناء لتحويله إلى خبز أو عصيدة من الدقيق. من الناحيتَين الثقافية واللغوية، استمرت مدينة ساليرنو في امتلاك صلات مع الإمبراطورية البيزنطية الناطقة باليونانية، ليس فقط عبر التجارة، وإنما أيضًا عبر الأديرة الأرثوذكسية التي كانت مكتباتها مقرًّا للكتب المُرسَلة من القسطنطينية، ومصدرًا محتملًا لبعض النصوص الطبية التي شقَّت طريقها إلى المدرسة الطبية. إضافةً إلى هذا، تشارَك العرب الذين كانوا يعيشون في صقلية وجنوب إيطاليا الأفكار والوسائل الطبية مع جيرانهم المسيحيين.

fig22
شكل ٦-١: مشهد لمدينة ساليرنو يعود للقرن التاسع عشر.
نتيجة لذلك، نشأ وتطوَّر تقليد من البحث العلمي الطبي مُواكِبًا الثراء والنجاح بوجه عام لمدينة كانت، بحلول عام ٩٠٠، المدينة الأهم والأكثر ازدهارًا في جنوب إيطاليا قاطبة. كانت الصلات الوثيقة مع مدينة أمالفي، أول قوة بحرية أوروبية عظيمة منذ العصور القديمة، قد جلبَت الثراء لهذه المنطقة من الساحل الإيطالي. سافر التجار الأمالفيون في طول منطقة البحر المتوسط وعرضها، واشتروا وباعوا البضائع؛ إذ إن صِلاتهم المُميَّزة مع بيزنطة والبلدان العربية، وبخاصة مصر، جعلتهم مُستورِدين رئيسيين للسلع الكمالية من الشرق، ومُورِّدين للخشب والكتان والمنتجات الزراعية إلى شمال أفريقيا. كان ميناء أمالفي نفسه عبارة عن ميناء صغير تفصله عن بقية البلاد جبال عالية شديدة الانحدار كثيفة الغابات؛ لذا لم يكن يُستورَد مباشرةً إلا أثمن البضائع، مثل المنسوجات النادرة والجواهر والذهب. وبحسب الكاتب والرحالة بنيامين التطيلي، الذي زار المنطقة في القرن الثاني عشر، كان الأمالفيون «تجارًا انخرطوا في التجارة، ولا يزرعون ولا يحصدون؛ لأنهم يسكنون فوق تلال عالية وصخور شاهقة، وإنما يشترون كل شيء مُقابِل المال».6 مثل أولاد عمومتهم الفينيسيين في الشمال، دفع موطن الأمالفيين ذو الطبيعة الجبلية الوعرة سكانه إلى أن يكونوا واسعي الخيال، وإلى أن يتطلعوا إلى الخارج نحو البحر لتحقيق الثراء.٣ نتيجة لذلك، أسَّس هؤلاء القوم المغامرون جاليات في كل ميناء رئيسي من روما إلى القسطنطينية، وفي ذلك دير على جبل آثوس ومُستوطَنات داخل مدينة بيت المقدس المقدسة، قبل عقود من مجيء أول الصليبيين في عام ١٠٩٥. كان القرب الشديد لساليرنو من أمالفي، ومَرفؤها الطبيعي الواسع وطرق الربط البري مع بقية إيطاليا بمثابة ضمانة لها بأنها أهم مركز للتجارة الأمالفية؛ فازدهرت كلتا المدينتَين نتيجة للأرباح. وكما أورد الإدريسي، العالم المسلم الذي عاش في القرن الثاني عشر: كانت ساليرنو «مدينة رائعة، ذات أسواق عامرة وبها كل أصناف البضائع، وخاصة القمح وغير ذلك من الحبوب».7

من كل أنواع البضائع التي يجري المتاجرة فيها ونقلها، كانت التوابل من أكثرها ربحًا، وكانت من أكثرها أهمية فيما يتعلق بهذا السياق. كانت مجموعة كبيرة من الجذور وثمار التوت والمُستخلَصات النباتية؛ كالفلفل، والزنجبيل، والقرنفل، والزعفران، والحبهان تُستورَد من بلاد بعيدة. بالطبع، كانت هذه التوابل تُستخدم في الطبخ، ولكنها كانت تُستخدم أيضًا في إعداد العلاجات الدوائية. في ذلك الوقت، كان الطب الساليرني يعتمد في المقام الأول على العلاج العملي للمرضى، وليس على الخبرة النظرية. وكانت الصيدلة مجالًا مهمًّا من مجالات الطب الساليرني، لا سيما أنه كان بمقدور المُمارِسين صنع العقاقير ودراستها باستخدام النباتات المحلية وكذلك الأجنبية التي كان يُوفِّرها التجار الأمالفيون؛ مما كان يزيد من ذخيرتهم من العلاجات. استخدم المُمارِسون وصفات من كتاب ديسقوريدوس «عن المواد الطبية»، الذي كانت تُتداوَل منه نُسَخ في بينيفنتو بأشكال متنوعة منذ العصور القديمة، ويُكمِّله وصفات محلية أخرى أُضيفَت عبر السنين. استخدم هذه المجموعةَ من العلاجات كلُّ أنواع المُمارِسين الطبيين، ومما لا شك فيه أن الأطباء في ساليرنو استخدموها عندما كانوا يُعالِجون المرضى الكثيرين الذين كانوا يصلون إلى هناك بحثًا عن العلاج والمساعدة.

يبدو أن «المدرسة» الطبية في ساليرنو كانت مُستقِرة تمامًا بحلول القرن العاشر؛ إذ بلغت سمعتها الدولية مبلغًا جعل أسقف فِردان يسافر إلى هناك للعلاج في ثمانينيات القرن العاشر؛ لا بد أنه كانت لديه ثقة كبيرة في العلاجات التي كانت تُقدَّم جعلته يُخاطِر بالقيام بهذه الرحلة الطويلة والمحفوفة بالمخاطر من أقصى شمال فرنسا. لعله سمع عن الينابيع الحارة أو عن فوائد الاستحمام في خليج ساليرنو، وهما أمران كانا جزءًا من النظام العلاجي المُقدَّم. يبدو أنه كان يوجد العديد من المستشفيات في المدينة، وكان كثير منها مُستوصَفات مُلحَقة بالكنائس، وفي بداية الأمر، كان كثير من الأطباء من رجال الدين. وبعد أن أصبح الطب أكثر تخصُّصًا وأكاديمية في أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر، كان من المُرجَّح على نحو متزايد أن يكون مُمارِسوه من العلمانيين، فلم يعد الاشتغال بالطب قاصرًا على رجال الكنيسة بوصفه مهنة فرعية. وبحلول أوائل القرن الحادي عشر، كان الباحثون في ساليرنو قد أنتجوا نصَّين طبيَّين رئيسيَّين. الأول، الذي كتبه جاريوبونتس، هو «المجموعة الطبية»، التي تصف الأمراض وعلاجاتها، بداية من أعلى الرأس مرورًا بسائر الجسد ووصولًا إلى أخمص القدمَين. ويعتمد النص الثاني، الذي كتبه بترونيلوس، البنية نفسها. ويستنسخ الاثنان بالأساس معلومات من أجزاء من المؤلفات الجالينوسية والأبقراطية ومن كتاب «عن المواد الطبية» والتي كانت قد بقيت في موسوعات أواخر العصور القديمة، ولكن المحتوى مُنسَّق في شكل عملي أكثر؛ مما يُظهِر أن الأطباء في ساليرنو استندوا إلى نظريات قائمة في العلاج العملي للمرضى.٤ في ذلك الوقت، كانت قوة الطب الساليرني تكمن في تركيزه على الأدوية الشافية العملية والعلاجات والحمية، ولكن نشأة مجموعة مؤلفات للطب النظري كانت قد باتت وشيكة.
جاءت مجموعة المؤلفات هذه إلى ساليرنو بفضل قسطنطين الأفريقي. وليس من قبيل المفاجأة أن المعلومات عن حياته قليلة، وواهية في هذا الشأن. توجد صِيَغ عديدة لسيرة حياته، يتناقض بعضها مع بعض تناقضًا واضحًا في نقاط عديدة.٥ أكثر تلك الصيغ خيالية هي التي ذكرها المؤرخ بطرس الشماس، الذي ينتمي إلى مونتيكاسينو والذي يفتقر إلى الموثوقية إلى حد شنيع، لكنها تشتمل على قائمة مؤلفة من عشرين ترجمة من تراجم قسطنطين. أكثر صيغة يُعتمد عليها هي صيغة ماثيو إف، وهو طبيب ساليرني من منتصف القرن الثاني عشر، وهي مُدرَجة في حاشية ترجمة قسطنطين لكتاب عن الحمية الغذائية. من هذه البلبلة، يمكن التحقق مما يلي: وُلِد قسطنطين فيما نعرفه حاليًّا باسم تونس، ربما في القيروان أو بالقرب منها، وقدم إلى ساليرنو في البداية بصفته تاجرًا، رجل أمضى وقته في الإبحار في الممرات البحرية في جنوب البحر المتوسط، ومرَّ سريعًا بالساحل الصخري إلى القاهرة. يُمكِننا تخيُّله يقف على سطح مركب خشبي، وعيناه تُحملِقان في وهج شمس شمال أفريقيا، ويجول بناظرَيه في الأفق بحثًا عن علامات خطر؛ كالصخور، أو الشُّعب المرجانية، أو العواصف، أو القراصنة. كشأن رفاقه التجار، سافر قسطنطين أيضًا إلى صقلية؛ وهي رحلة محفوفة بالمخاطر كانت تُجبِر السفن على مبارحة المياه الساحلية الآمنة، بمعالمها المُطمئنة وموانئها المعتادة، والخوض مباشرة في البحر المفتوح، مُتجِهةً شرقًا لأكثر من ٣٠٠ كيلومتر. في يومنا هذا، هي عبارة عن رحلة مدتها نحو عشر ساعات بالعبَّارة، ولكن، في القرن الحادي عشر، كان من الممكن أن تستغرق ثلاثة أيام، حسب الريح والطقس ومهارات قائد السفينة. كان قسطنطين ليتوقف في صقلية في طريقه إلى ساليرنو. يُمكِننا تخيُّل البحارة على سطح السفينة يبحثون عن أول مرأًى لليابسة على مرمى البصر؛ جزيرتَي فافينيانا وماريتيمو، أو المسطحات الملحية على الساحل، بالقرب من مارسالا، التي تتلألأ عن بُعد. بعد أن أنهى عمله في باليرمو، لا بد أن القارب قد انطلق عبر البحر التيراني، مُتتبِّعًا أولًا انعطاف الساحل الصقلي، ثم انعطاف ساحل جنوب إيطاليا، على جانبه الأيمن. في المرحلة الأخيرة من الرحلة، وقعت كارثة. كانت سفينة قسطنطين قد أبحرت لتوِّها عبر خليج بوليكاسترو وكانت تسلك سبيلًا مُتعرِّجًا على طول الساحل عندما هبَّت عاصفة. انقلبت السفينة ودارت حول محورها، والأمواج تصطدم على السطح، وأثناء الاضطراب، أُتلفَت بعض المخطوطات؛ مما أثَّر على جودة التراجم التي مضى قسطنطين في إنجازها.
حسب أكثر كُتَّاب سيرته الذاتية موثوقية، كان قسطنطين قد أمضى ثلاث سنوات في شمال أفريقيا يجمع هذه الكتب، قبل أن يعود إلى إيطاليا. وقد مثَّلَت هذه الكتب، مُجتمِعة، كامل نطاق الدراسات الطبية المتاحة في هذا الجزء من العالم الإسلامي، والمُنحدِرة مباشرة من التقليد الإسكندري، الذي انتقل إلى المدن الإسلامية على طول ساحل الشمال الأفريقي، على نحو ما انتقل إلى إيطاليا والقسطنطينية. من الوارد أن يكون قسطنطين قد عثر على بعض منها في المسجد الكبير بالقيروان، الذي كان مركزًا فكريًّا مُزدهِرًا اجتمع فيه الباحثون للدراسة والنقاش تحت الأقواس التي تتخذ شكل حدوة الحصان، والتي كانت تحملها المئات من الأعمدة القديمة المأخوذة من أطلال المعابد الرومانية واليونانية المجاورة. كان الطب أحد الشواغل الرئيسية في المدينة، التي اشتهرت بأطبائها المهرة وكانت، نتيجة لذلك، مكانًا جيدًا للعثور على النصوص الطبية الحديثة. عاد قسطنطين ومعه أفضل ما أمكنه العثور عليه؛ نُسخٌ من كتاب حُنَين بن إسحاق «إيساغوجي»، وكتاب المجوسي «الكامل»، وكتب عن البول والحمى والحمية الغذائية للباحث اليهودي إسحاق بن سليمان الإسرائيلي (توفي سنة ٩٧٩)، وكتاب «الحاوي» للرازي، ودليل طبي للمسافرين للطبيب القيرواني الجزار (٨٩٥–٩٧٩)، وأطروحة عن الاتصال الجنسي، تُسمى «الجِماع». من المحتمل أن يكون هو نفسه قد ترجم كثيرًا من هذه الكتب إلى اللاتينية. وجلب أيضًا كتابًا عن السوداوية، وهو مرض نفسي أشار قسطنطين بحزن إلى أنه كان «مُستشرِيًا جدًّا في هذه المناطق».8 أصبحت هذه النصوص أساس المنهج الدراسي الطبي في أنحاء أوروبا كافة. وستظل مُؤثِّرة لقرون، مع إصدار نسخ مطبوعة في ليون سنة ١٥١٥، وبازل سنة ١٥٣٦. لم يترك قسطنطين لنا أي فكرة عن السبب وراء قيامه بهذا الأمر الاستثنائي، وما الذي دفعه إلى تكريس حياته لجلب المعرفة الطبية إلى قارة كان بالكاد يعرفها؛ ولا يسعنا إلا التخمين بشأن دوافعه.

بعدما استقر قسطنطين في ساليرنو، كان يجب أن يتعرف على كبير أساقفة المدينة، ألفانو، الذي شاركه ولعه بالطب. وكشأن كثير من الباحثين الذين التقينا بهم في هذه الرحلة، كان ألفانو شخصية غير عادية؛ فقد كان باحثًا موهوبًا، لديه اهتمامات فكرية مُنتقاة ضمَّت الأدب الكلاسيكي والعمارة وعلم اللاهوت والعلوم. كانت عائلته ثرية وذات نفوذ؛ مما ضمن له أن ينتفع بالحصول على أفضل تعليم كان يُقدَّم. كان ألفانو شاعرًا بارعًا، أشرف على بناء كاتدرائية جديدة، وكان أيضًا طبيبًا موهوبًا وفي مقدمة مُؤيِّدي المدرسة الطبية. بعدما أتقن اللغة اليونانية أثناء زيارته للقسطنطينية وهو شاب، قدَّم ترجمة لنص يُسمى «حول طبيعة الإنسان»، وهو نص ربما يكون قد حصل عليه في أسفاره في الشرق، والتي شملت الحج إلى بيت المقدس. كان هذا النص عبارة عن عمل فلسفي واسع النطاق، كتبه في القرن الرابع نيميسيوس، أسقف إيميسا (حمص الحالية)، الذي كان مُتأثِّرًا بشدة بكتابات جالينوس وأفلاطون وأرسطو. في إطار تقديمه لترجمته، بدأ ألفانو عملية استحداث حصيلة مفردات تقنية لاتينية جديدة ليُعبِّر بها عن الأفكار العلمية والفلسفية المُعقَّدة في أطروحة نيميسيوس. في الفترة الزمنية نفسها تقريبًا، كان قسطنطين يُترجِم كتاب «إيساغوجي»، وربما يكون الرجلان قد تعاونا معًا؛ فمن المؤكد أنه كان لديهم كثير من الأمور التي يُمكِنهم أن يتحدثوا معًا بشأنها. أمد ألفانو، الذي كان يتوفر له ثروة ونفوذ عائلته ونفوذ الكنيسة أيضًا، قسطنطين بالدعم المالي، فدفع له مُقابِل ترجمته لمجموعة المجوسي الطبية الضخمة، المُسماة «الكليات». بدوره، وشعورًا بالقلق إزاء المشكلات الصحية التي كان يُعاني منها صديقه، قدَّم قسطنطين مجموعة من النصائح حول أمراض المعدة. وبدأ الرجلان معًا في إحداث ثورة في دراسة الطب في ساليرنو وخارجها، فاستحدثا مصطلحات لاتينية جديدة لجلب الثروة المعرفية اليونانية العربية إلى أوروبا الغربية.

كان لألفانو كثير من الأصدقاء ذوي النفوذ، ومنهم ديسيديريوس، رئيس دير مونتيكاسينو. التقى الاثنان عندما زار ديسيديريوس مدينة ساليرنو في خمسينيات القرن الحادي عشر لتلقِّي العلاج الطبي؛ فجمعَتهما علاقة ارتكزت على اهتماماتهما الفكرية المشتركة وصارا صديقَين مُقرَّبَين. أقنع ديسيديريوس ألفانو بالعودة معه إلى مونتيكاسينو، من أجل الدراسة هناك لبعض الوقت. أغلب الظن أن ألفانو في ذلك الوقت هو الذي اقترح على قسطنطين أنه ينبغي أن ينتقل إلى هناك أيضًا. لم يكن من الممكن أن يتخيَّر وقتًا أفضل من ذلك؛ فمدينة مونتيكاسينو كانت تنعم بعصر ذهبي، بوصفها المُؤسَّسة الدينية الرفيعة المقام الأكثر تأثيرًا في أوروبا بأسرها. لا بد أن فرصة العمل في المنسخ الحافل بالعمل، مقر المخطوط الكاسيني (نسبة إلى مونتيكاسينو) المُتميِّز، مُحاطًا بباحثين آخرين وبكل التجهيزات العملية، مثل الرَّق والحبر والأقلام المتاحة مجانًا، ناهيك عن جيش من النساخ لمساعدته، كانت فرصة لا تُقاوَم. الأهم من كل ذلك، أنه كان سيُصبِح بمقدوره أن يدرس المخطوطات الطبية الموجودة بالمكتبة ويستخدمها إطارًا عند تحضيره لتراجمه من أجل القرَّاء اللاتينيين. من المحتمل أيضًا أن قسطنطين كانت تدفعه أسباب دينية تقف وراء رغبته في أن يُصبِح جزءًا من طائفة الرهبان. لا نعرف إذا ما كان قد ترك الديانة الإسلامية في مرحلةٍ ما أثناء الفترة التي قضاها في إيطاليا، أو إذا ما كان، في الواقع، قد وُلِد مسيحيًّا؛ فقد كان يوجد العديد من الطوائف المسيحية في شمال أفريقيا في ذلك الوقت.

كانت الرحلة من ساليرنو إلى مونتيكاسينو تستغرق عدة أيام، ولا بد أن قسطنطين قد شرع في رحلته على طريق فِيا بوبيليا، الذي كان يمر بنابولي في طريقه إلى كابوا، ومن هناك، سلك طريق فِيا لاتينا شمالًا. لعله رأى الدير على بُعد أميال، جاثمًا على قمة تلته الصخرية ومُطلًّا على المزارع والقرى المُحصَّنة لإقليم تيرا سانكتي بندكتي في وادي ليري بالأسفل. بعد صعودٍ مُضنٍ للتل، لعله دخل بوابات مجمع الدير الضخم ومرَّ بموقع كنيسة البازيليك الجديدة التي كانت تحت الإنشاء، والحرفيون البيزنطيون يُزيِّنونها بأشكال الفُسَيفساء والمنسوجات والحلي. ومن المحتمل جدًّا أن الأبواب البرونزية الهائلة، التي سُبكَت خِصِّيصًا في القسطنطينية بلوحات مُطعَّمة بالفضة، كانت قد رُكِّبت بالفعل.

في وقتٍ ما بعد وصوله، اقتيد قسطنطين للقاء ديسيديريوس الذي خطَّط كل هذه الروعة. فقدَّم قسطنطين إلى رئيس الدير خطابات توصية من ألفانو، ونسخة من ترجمته الجديدة لكتاب «إيساغوجي». أثناء وجود قسطنطين في مونتيكاسينو، أكمل أكبر مشروعاته، وهو كتاب «الكليات»، وأهداه لديسيديريوس. وبوصفه أول نص طبي شامل باللغة اللاتينية، كان الكتاب في غاية الأهمية، ولكنه أيضًا كان مُثيرًا للجدل. فمع أن قدرًا كبيرًا من نص قسطنطين استند إلى كتاب «كامل الصناعة الطبية»، لعلي بن العباس المجوسي (تُوفي نحو عام ٩٨٢)، فإنه لا يُشكِّل ترجمة أمينة على الإطلاق؛ فهو مُقتطِع في بعض المواضع ومُستفيض بالاستعانة بمصادر بديلة في مواضع أخرى. لا يأتي قسطنطين على ذكر المجوسي، ولا حتى مُؤلِّفي المصادر الأخرى التي أدرجها، ويبدو كأنه يُقدِّمه على أنه من ابتكاره.٦ وحذف أيضًا، أثناء تنقيحه للكتاب، كل إشارات المجوسي إلى علماء عرب سابقين، وعوضًا عن ذلك وضع مقدمة للترجمة أورد فيها قائمة بالكتب الستة عشر التي يتضمنها المنهج الدراسي الإسكندري؛ طامسًا بالفعل الإسهام العربي ومُشدِّدًا على أهمية جالينوس. ولا عجب في أن هذا أدَّى إلى اتهامات المؤرخين المعاصرين له بالسرقة الفكرية، ولكن الأمر يبدو كأن قسطنطين كان يُحاوِل مُتعمِدًا أن يُخفي الأصول العربية للنص حتى يُعظِّم من فرص قبوله في أوروبا، ولم يكن يُحاوِل أن يدعي ملكيته لنفسه. فالأحداث السياسية الأخيرة، وبخاصة في جنوب إيطاليا حيث تسبَّبَت هجمات «الساراسين» في قدر كبير من الوفيات والدمار، كانت تعني أن الموقف العام تجاه المسلمين لم يكن ينطوي على قدر كبير من القبول لهم. من جهة أخرى، أتت المعرفة الطبية في إيطاليا في ذلك الوقت من التقليد الهلِّينستي؛ لذا من المحتمل أيضًا أن قسطنطين كان يسعى لضمان توافُق عمله مع الأفكار السائدة. غير أنه من الغريب أنه قد اختار بوجه عام أن يُترجِم نُسخًا عربية من نصوص قديمة، بدلًا من الأصول اليونانية، فلا بد أنه اعتقد أنها تتفوق عليها، رغم أنه بعد ذلك أخفى مُؤلِّفيها وشدَّد على انتمائها إلى اليونان.٧ هذا التشابك المُحيِّر في الأولويات الثقافية يُسلِّط الضوء على مدى تعقيد العلاقة بين أوروبا والإسلام في ذلك الوقت.

يذكر قسطنطين اسم اثنين فقط من الكُتَّاب الذين ترجم لهم وهما الطبيب اليهودي أبو يعقوب إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، الذي بدوره أخذ قدرًا كبيرًا من معلوماته من جالينوس، وحُنَين بن إسحاق، الذي حوَّل قسطنطين اسمه إلى اللاتينية حيث أصبح إيوهانيتيوس. كذلك حوَّل إلى اليونانية كثيرًا من عناوين الأعمال التي ترجمها وكيَّف محتوياتها للجمهور اللاتيني. وينطبق هذا بصورة خاصة على كتاب «الكليات» (يعني باليونانية «كل الفنون»)، الذي استند إلى الهيكل الأساسي لكتاب المجوسي «كامل الصناعة الطبية»، ولكنه يُغفِل أقسامًا كبيرة من الأصل حاذفًا إياها لصالح مادة علمية مأخوذة من أطروحات أخرى ويُدخِل نقاشًا أدبيًّا في الطب، فيجعله عملًا ذا صلة بالأصل ولكنه مختلف اختلافًا كبيرًا. كانت هذه جزئيًّا ضرورة؛ إذ تضرَّر المخطوط أثناء العاصفة في الرحلة من أفريقيا إلى إيطاليا؛ لذا كان غير كامل وينقصه قليل من الأقسام الأخيرة، ولكن كان من أسباب ذلك أيضًا أن قسطنطين كان مُنشغِلًا بوضع منهج دراسي عملي لتعليم شباب الأطباء، وليس بتقديم تراجم أمينة للنصوص الأصلية. ومن قبيل الصدفة أن كتاب «الكليات» مليء أيضًا بالأخطاء والمعاني المُختلِطة، ولكنه كان يُستخدم على نطاق واسع دليلًا في أساسيات الطب. ومن المُذهِل أن نسخةً مخطوطة لكتاب «الكليات»، أُنتجَت في مَنسخ مونتيكاسينو وأشرف عليها قسطنطين نفسه في أواخر القرن الحادي عشر، ظلَّت باقية، وهي موجودة الآن في المكتبة الملكية في لاهاي. قرأ كثير من الباحثين الأوروبيين كتاب «الكليات» واقتبسوا منه في القرون اللاحقة، وبخاصة في أعمال الفلسفة الطبيعية. فقد حصل دانيال مورلي على نسخة، ربما أثناء وجوده في باريس، وكذلك، كما سنرى، اقتبس أديلار الباثي منه باستفاضة. بالإضافة إلى انتشاره في أرجاء أوروبا، أصبح كتاب «الكليات» جزءًا أساسيًّا من المنهج الدراسي الساليرني وكان له تأثير ضخم، بخاصة على دراسة التشريح؛ إذ أدخل قسطنطين كتابَين في هذا الموضوع لم يكونا جزءًا من العمل الأصلي للمجوسي، ولكنه مأخوذ من النصوص الجالينوسية.

كانت تلك هي النصوص الكلاسيكية الأولى عن التشريح التي توافرت في أوروبا. وكانت نصوص التشريح المتاحة للطلاب في ساليرنو محدودة للغاية؛ إذ كانت الكنيسة تستاء من دراسة التشريح، وكان هذا الجانب من الطب يُستبعد من المنهج الدراسي. مع ذلك، كانت هذه بداية التغيير، ومع ظهور تراجم قسطنطين، أضحى المُعلِّمون يشرحون التشريح لطلابهم عن طريق تشريح الخنازير، وهو أمر سرعان ما أصبح حدثًا سنويًّا.٨ كتب طبيب يُدعى المُعلِّم كوفو أقدم سجل لهذا النوع من التشريح، وكان «طريق الشفاء» أول نص من مجموعة مُؤلَّفة من أربعة نصوص تتناول هذا الموضوع، وأكثرها بدائية، وأصبحت تُعرف مُجتمِعة باسم «تشريح الخنزير». كان النص الثاني أكثر تفصيلًا واعتمد بشدة على التشريح الجالينوسي كما تُرجِم في كتاب قسطنطين «الكليات». بقيت نسخ عديدة من هذه المخطوطات وظل الطلاب يستخدمونها مقدمةً للتشريح، حتى بعد أن أحدث عمل فيزاليوس على الجُثث البشرية تغييرًا في الموضوع في القرن السادس عشر. تُبيِّن هذه الإيضاحات التشريحية أن الأطباء الساليرنيين كانوا ينظرون في الطبيعة بأنفسهم، ولم يكونوا يعتمدون دون تبصُّر على المعلومات المحدودة التي وصلت إليهم من بيزنطة والإسكندرية، وكانوا يرجعون إلى الطرق القديمة، وبخاصة الجالينوسية، في الدراسة. كان نص «تشريح الخنزير» هو بالأساس عبارة عن تسجيلات خطية لمحاضرات ألقاها مُعلِّمون ساليرنيون وهم يشقون جثث الخنازير أمام فصل دراسي مليء بالطلاب. من الواضح، إذن، أن الأطباء، بحلول منتصف القرن الثاني عشر، كانوا يدرسون التشريح بوصفه جزءًا من تدريبهم. غير أن مما يسترعي الانتباه حقًّا أنه، في التاريخ الطويل للتشريح، لم يكن ثمة تشريح رسمي لإنسان بين العامَين ١٥٠ق.م و١٣١٥ ميلادية، عندما أُجري التشريح لأول جثة على الملأ في جامعة بولونيا. غير أنه في زمن قسطنطين، كانت عمليات تشريح الجثث لاكتشاف سبب الوفاة قد أصبحت شبه شائعة، على الأقل في إيطاليا. وفي عام ١٢٣١، أعلن الإمبراطور الروماني المقدس، فريدريك الثاني، أنه يجب تشريح الجثث البشرية على الملأ مرة واحدة على الأقل كل خمسة أعوام. وسواء حدث ذلك بالفعل أم لم يحدث فهو مسألة أخرى. ومن المُثير للاهتمام أن النفور الطبيعي لدى المجتمع من ممارسة كهذه قد قلَّل من حدته الحاجة إلى إعداد جثث القتلى من الصليبيين، حتى يمكن إعادة قلوبهم إلى الديار لدفنها. فمن الممكن أن يؤدي استخدام حيوانات مثل الخنازير والقردة العليا إلى إقصاء الطبيب عن التشخيص السليم فحسب، كما بيَّن جالينوس ومُختصو التشريح الساليرنيون. والسبيل الوحيد إلى اكتشاف أسرار الجسم البشري والأمراض التي تستنزفه هو فتحه والنظر داخله، ولكن هذا لم يُصبِح النهج السائد إلا في عصر النهضة.
في الوقت الذي أصبح فيه لكتاب «الكليات» أهمية دائمة، وصار مُتداوَلًا بسرعة خارج ساليرنو، كان من شأن تراجم قسطنطين لكتاب «إيساغوجي» أن تُصبِح أكثر تأثيرًا، لا سيما عندما مُزجَت، في القرن الثالث عشر، بترجمة جديدة لكتابَي أبقراط «الفصول» و«تقدمة المعرفة»، وتعليقات جالينوس عليهما وأطروحتَين بيزنطيتَين، واحدة عن البول وأخرى عن النبض.٩ شكَّلَت هذه المجموعة من النصوص، والتي عُرفَت باسم «أرتيسيلا»، المنهج الدراسي الطبي لأوروبا الغربية على مدى السنوات الخمسمائة التالية. استندت هذه المجموعة من النصوص إلى التقليد الطبي القائم، مُضيفة إليه معلومات مُفصَّلة تشكل وحدة كاملة تحوَّلَت إلى فرع من فروع المعرفة مُنظَّمًا تنظيمًا هيكليًّا مُنضبِطًا. كان كتاب «إيساغوجي»، أول نص طبي عربي يُترجَم إلى اللاتينية، هو حجر الزاوية لمجموعة «أرتيسيلا». كان الكتاب، الذي ترجمه قسطنطين أثناء عيشه في ساليرنو، عبارة عن نسخة مُعدَّلة من كتاب جالينوس «فن الطب»، الذي قدَّمه حُنَين بن إسحاق وعنونه باسم «مسائل في الطب»؛ فكان يُشكِّل خط انتقال مباشر، ولكنه، مثل كتاب «الكليات»، عبارة عن مختارات مُتفرِّقة، وليس ترجمة شاملة. ومُجدَّدًا، كان قسطنطين قاسيًا في تعامله مع المصدر العربي. فحذف الحوار؛ إذ كان نص حُنَين مُعتمِدًا على أسئلة وأجوبة، واستعاض عنه بهيكل على شكل قائمة هو أنسب لإلقاء المحاضرات. كذلك أغفل في ترجمته بعض الأقسام وعدَّل بعضها الآخر على نحو بالغ حتى إنها لم تعد ذات معنًى على الإطلاق. لعل ذلك كان يُشكِّل أهمية لثقافة ذات تقليد مُتطوِّر لدراسة الطب، ولكن من المؤكد أنه لم يُشكِّل عائقًا أمام مسار كتاب «إيساغوجي» في أوروبا.١٠ فالمعلومات غير الدقيقة كانت أفضل من عدم وجود معلومات على الإطلاق، وسرعان ما انتقلت النسخ من مدينة إلى مدينة؛ فبحلول عام ١١٥٠ كان الباحثون في مدينة شارتر يكتبون بالفعل تعليقات عليها، وبحلول عام ١٢٧٠، اعتُمدَت أساسًا للمدارس الطبية في جامعتَي باريس ونابولي، وغيرهما.
بينما كان قسطنطين مشغولًا بمشروعه الطموح للترجمة، كان ألفانو يتعامل مع التغييرات المُزلزِلة على الساحة السياسية في ساليرنو؛ تغييرات من شأنها أن يكون لها عواقب وخيمة على انتقال المعرفة إلى بقية أوروبا الغربية. ليس واضحًا توقيت مغادرة قسطنطين للمدينة طلبًا للسلام الذي كانت تنعم به مونتيكاسينو، ولكن من المحتمل جدًّا أن ذلك كان نتيجة للقوة الجديدة التي أضحت مُؤثِّرة؛ وهم النورمانديون، الذين غزوا ساليرنو واستولوا عليها في عام ١٠٧٧، بعد حصار وحشي. كانت فترة حافلة لهؤلاء القوم الطموحين المُفعَمين بالنشاط، المُنحدِرين من نسل غزاة الفايكينج الذين كانوا قد استقروا في شمال فرنسا قبل ذلك ببضعة قرون. في ستينيات القرن الحادي عشر، عندما بدأ ويليام الفاتح التطلع بتعطش صوب الشمال، عبر القناة، نحو بريطانيا، كان كثيرون من رفاقه النورمانديين قد مضوا جنوبًا للقتال بصفتهم مرتزقة لصالح اللومبارديين، الذين كانوا يُحاوِلون الظفَر بالاستقلال عن البيزنطيين في جنوب إيطاليا. كان الفرسان النورمان يتمتعون بمهارة قتالية وثبتَت فائدتهم الكبيرة لمُستخدِميهم؛ إذ ساعدوهم على مقاومة البيزنطيين والانتصار في الحملة. فكافأهم اللومبارديون بأراضٍ، وبدءوا في اتخاذ بينيفنتو وكالابريا موطنًا لهم؛ فاستقروا هناك وأقاموا علاقات مُصاهَرة مع السكان المحليين واندمجوا في المجتمع المحلي وشكَّلوا معاقلهم الخاصة بهم. وفي موقف تجلى مرات كثيرة في التاريخ، تحوَّل المُنقِذون إلى مُعتدين، وأخيرًا صاروا غزاة مُحتلين. ولم يمضِ وقت طويل حتى أُسنِد إلى الفرسان النورمان مهمة حماية البابا نفسه، الذي كافأ قائدهم روبرت جيسكارد، في عام ١٠٥٩، بمنحه دوقيات أبوليا وكالابريا وصقلية. بدَّلَت هذه المنحة تأثير النورمان؛ فمنذ ذلك الحين فصاعدًا، كان واضحًا تمامًا أنهم لم يأتوا للاستقرار فحسب، وإنما ليحكموا. وكان جيسكارد، الابن السادس بين اثنَي عشر ابنًا لتانكريد هوتفيل، الذي كان نبيلًا نورمانيًّا غير ذي أهمية، يُلقَّب ﺑ «الماكر» أو «الثعلب».١١ وقد وصفته المؤرخة البيزنطية (والأميرة) آنا كومنينا كما يلي:
إنه صاحب شخصية مُتعجرِفة وعقل في غاية الخسة؛ كان مُقاتِلًا جسورًا، بارعًا جدًّا في هجماته على ثروة رجال عظام ونفوذهم؛ لا رادع لمساعيه من أجل تحقيق غاياته، يدفع عن نفسه النقد بحجة لا تقبل الجدل. كان رجلًا ضخم الجثة، على نحوٍ يفوق حتى أكبر الرجال بِنية؛ وكان ذا بشرة مُتورِّدة، وشعر أشقر، وكتفَين عريضَتين، وعينَين تكادان تقذفان الشرر … يقولون إن صيحة روبرت كانت تجعل عشرات الآلاف يفرون.9

على ضوء هذا، ليس ثمة مُفاجأة في انغماس جيسكارد في مهمة إخضاع وتوحيد جنوب إيطاليا، بالإضافة إلى غزو صقلية، إلى جانب أخيه، روجر هوتفيل. وبعد أن استولى روبرت على ساليرنو، آخر مدينة مُستقِلة باقية على يابسة الجنوب الإيطالي، اتخذ منها عاصمة له وشرع في بناء كاتدرائية جديدة، بمساعدة ألفانو، الذي كان قد ساند غزوه.

سيطر النورمان على جنوب إيطاليا طوال المائة سنة التالية، مُحدِثين بذلك تحولًا هائلًا في توازُن القوى في أوروبا، ومُشكِّلين روابط قوية بين جنوب القارة وبلدانهم الأصلية في الشمال، التي بقوا على اتصال وثيق بها. عيَّن جيسكارد وأخوه روجر (الذي صار حينذاك حاكمًا لصقلية، ولكنه لا يزال تابعًا اسميًّا لروبرت) رفاقهم من النورمان من إنجلترا وفرنسا في مناصب في الكنائس الإيطالية والصقلية، بينما مضى رجال الدين الجنوبيون إلى الدراسة في أديرة مثل بيك في نورماندي. وانعكس ذلك على بلاط الملوك، فسافر جون سالزبري أكثر من مرة إلى جنوب إيطاليا لدراسة اللغة اليونانية والفلسفة، وذهب باحثون آخرون للدراسة في باليرمو. وفي ساليرنو، يوجد أسماء إنجليزية عديدة في قوائم المخطوطات للأطباء الذين درسوا هناك.10 وكان أمرًا طبيعيًّا أن انفتحت أيضًا روابط التجارة؛ إذ يوجد سجلات لتاجر إنجليزي واحد في ساليرنو، وزار تاجر من برينديزي مزار القديس توماس بيكيت في كانتربري، الذي كان قد أُضيف قبل ذلك بفترة قصيرة إلى تقويم القديسين في جنوب إيطاليا. وكفلت الصلات أيضًا تدفُّق الكتب، وسرعان ما جُمعَت تراجم قسطنطين معًا في مجموعات كي يسهل استخدامها، فانتقلت شمالًا عبر شبه الجزيرة الإيطالية، فوق جبال الألب، وعبر غابات فرنسا البرية، بل حتى عبر البحر الرمادي المُضطرِب إلى إنجلترا. نقش النسَّاخ، المُنكفئون على الطاولات في الضوء الأصفر المُهتز للهب الشموع المصنوعة من الشحم، نُسخًا وُضعَت في خزائن المكتبة واستُخدمَت بوصفها كتبًا دراسية لتدريس الطب في الجامعات.

بعد مرور بضعة عقود على الدخول المُظفَّر لجيسكارد إلى ساليرنو، تحسَّن وضع النورمان مع مغادرة آلاف الرجال شمال أوروبا صوب الأرض المقدسة في الحملة الصليبية الأولى، مع كون صقلية وجنوب إيطاليا محطتَي توقُّف طبيعيتَين في مسار الرحلة المُتجِهة إلى الشرق. لم يكن من قبلُ ثمة ترحال بهذا الحجم الكبير منذ أيام السلام الروماني. كانت الحملة الصليبية جزءًا من التحول الجذري نفسه الذي كان قد شهد النفوذ المسيحي يتحرك جنوبًا في المناطق الإسلامية التقليدية في إسبانيا، تحوُّل كان له أثر عميق وحاسم على الثقافة والسياسة والمجتمع. كان العالم الأوروبي ينفتح، ويستعرض عضلاته. وأحدثت الحملة الصليبية هي الأخرى تغييرات في ساليرنو. فقد تلقَّى مئات من الرجال الجرحى العائدين من الأرض المقدسة العلاج هناك في طريق عودتهم إلى ديارهم؛ مما عزَّز سمعة المدينة من حيث كونها مركزًا للتميز في الطب.

fig23
شكل ٦-٢: روبرت الثاني دوق نورماندي يتلقى العلاج في ساليرنو من الإصابات التي لحقت به وهو يُقاتِل في الحملة الصليبية الأولى.

مات قسطنطين في وقتٍ ما في الأعوام الأخيرة من القرن الحادي عشر، في مونتيكاسينو. وبعد وفاته، واصل تلاميذه في الدير، جون أفلاسيوس وأزو، عمله في قاعة النسخ، وساعدا على ترويج تراجمه والتراجم التي قدَّماها بنفسَيهما، في العالم الأوسع، وكتبا أطروحات طبية خاصة بهما. أنهى أفلاسيوس ترجمة كتاب «الكليات» وأرسل نسخًا منه، ومن كتاب «إيساغوجي» وترجمات أخرى إلى ساليرنو، حيث بدأ باحثون، في أوائل القرن الثاني عشر، كتابة تعليقات وأدلة تعليمية على هذه النصوص. كانت مجموعة «أرتيسيلا» تتطور مُتحوِّلة إلى مجموعة مُنظَّمة من الكتب الدراسية المُخصَّصة للتدريس؛ وبمرور الوقت، أُضيفَت إلى مراكز أخرى للتعليم ونُقلَت إليها. ففي عام ١١٦١، على سبيل المثال، كان لدى أسقف هيلدسهايم ستة وعشرون كتابًا دراسيًّا في مكتبته؛ أغلبها كان تراجم لقسطنطين. في الوقت نفسه، تجدَّد الاهتمام بجهد أرسطو، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى جهد شخص واحد هو أُرسو، وهو باحث من ساليرنو. من شأن إصرار أرسطو على الملاحظة السليمة للعالم الطبيعي، وعلى التجريب والتفكير النقدي أن يكون له تأثير عميق على كل جوانب الحياة الفكرية تقريبًا، ولم يكن تدريس الطب استثناءً من هذا. فمع ظهور الجامعات في كل أنحاء أوروبا، ارتقت دراسة الطب تدريجيًّا لتُصبِح فرعًا نظريًّا أكاديميًّا، وجزءًا من المنهج الدراسي للفنون الحرة، بالتكامل مع الفلسفة الطبيعية الأرسطية واستنادًا إلى أُسُس نصية سليمة.

في ساليرنو، وغيرها من المدن، بدأ مُعلِّمو الطب، يحذون حذو جالينوس، في التركيز على مُسبِّبات الأمراض واستخدموا اكتشافاتهم لتحديد نوع العلاج الذي ينبغي عليهم وصفه. كانت طريقة جديدة تمامًا في دراسة المرض. في السابق، كان المرض يُعزى إلى غضب الرب، أو أن أرواحًا شريرة استحوذت على المريض؛ وهي أفكار أعاقت الملاحظة العقلانية والاستقصاء المنطقي. لم يعد الطب مجرد فن آلي، يقتصر على الممارسة؛ فحينذاك أصبح بمقدوره أن يأخذ مكانه إلى جانب العلوم الطبيعية الأخرى. مع ازدياد المؤلفات الطبية لتشمل كتبًا دراسية تحليلية — للتعليم والدراسة، بدلًا من الأدلة المرجعية البسيطة التي كانت موجودة في الحقبة الماضية — فأصبحت فرعًا مُنظَّمًا مُتسِقًا من فروع العلم، يستند على مجموعة مُعترَف بها عالميًّا من المراجع والأفكار؛ أفكار من شأنها أن تتغير مع ترجمة نصوص جديدة والتوصل إلى اكتشافات جديدة. بمرور الوقت، بدأ إدراج بعض من تراجم قسطنطين الأخرى في مجموعة «أرتيسيلا»، وتنامت الدراسة الطبية وازدهرت. وهذا بدوره أحدث تأثيرًا في مكانة مُمارِسي الطب، الذين تمايزوا تمايزًا مُتزايِدًا بين مُتعلِّمين وغير مُتعلِّمين. فنشأ نظام رسمي للتأهيل، يُلزِم الطلاب باتباع المنهج المُحدَّد في مجموعة «أرتيسيلا». كانت دراسة الطب تستغرق سنين عديدة، وكان عدد الطلاب الذين يستكملون المنهج محدودًا نسبيًّا. بحلول منتصف القرن الثالث عشر، كان على الطلاب أن يدرسوا المنطق لثلاثة أعوام قبل أن يُسمَح لهم أن يبدءوا منهجًا دراسيًّا مدته خمسة أعوام. وبعد ذلك، كان عليهم أن يُكمِلوا عامًا من الدراسة العملية مع طبيب مُؤهِّل. حينئذٍ فقط يُمكِنهم أن يتقدموا إلى الامتحان ويحصلوا، حال نجاحهم، على ترخيص رسمي بالممارسة. ازداد عدد الأطباء نوعًا ما بالفعل، ولكن كان بإمكان قلة قليلة فقط من صفوة أهل المدن الحصول على خدماتهم؛ لذا استمر غالبية الناس في الاعتماد على العلاج بالأعشاب ونصائح الممارسين المحليين غير الدارسين.

كانت مجموعات من هذه العلاجات، المُعتمِدة في الأصل على كتاب ديسقوريدوس «عن المواد الطبية»، مُتداوَلة لقرون، ويُضاف إليها وتُعدَّل لتُناسِب احتياجات كل من كان يستخدمها. في ساليرنو في القرن الثاني عشر، كانت تُستخدم نسختان رئيسيتان، عادةً ما تجدهما معًا في المخطوط نفسه؛ الأولى تحمل اسم «سيركا إنستانس»، وكانت على طريقة كتاب «عن المواد الطبية» وتُركِّز على «الأعشاب الطبية»، أو علاجات، تصنع من مادة واحدة فقط، وأما النسخة الثانية فكانت تُدعى «أنتيدوتاريوم نيكولاي» أو «الأقراباذين»، وهي عبارة عن مجموعة غير مُحدَّدة المعالم من الوصفات لأدوية مُركَّبة تحتوي على العديد من المكونات. يصف كتاب «سيركا إنستانس» كل نبات أو معدن أو جذر أو فطر بالتفصيل مع إدراج خصائصه حسب نظام جالينوس للدرجات والعناصر. على سبيل المثال، يُصنَّف الحبَّهان بأنه يقع «في الدرجة الثانية من حيث كونه حارًّا وجافًّا»، وهو ما يعني أنه جيد لعلاج الناس الذين يُعانون من البرودة والرطوبة. وقد مكَّن هذا النظام الأطباء من وصف الكميات الصحيحة من المادة لإعادة التوازن إلى الأخلاط الأربعة للمريض. كتب باحث ساليرني يُدعى ماتيوس بلاتيريوس أنجح صيغة من كتاب «سيركا إنستانس»، تُرجمَت إلى كل اللغات الأوروبية الرئيسية. في بعض الأماكن، كان يُشترط على الصيادلة بموجب القانون أن يكون لديهم نسخة منه في متاجرهم؛ لذا ليس من المستغرب بقاء كثير جدًّا من مخطوطاته.

fig24
شكل ٦-٣: صفحة من نسخة مخطوطة من الكتاب الشائع «سيركا إنستانس» مع رسم لنبات التربنتين.
يُدرِج «الأقراباذين» وصفات مُفصَّلة لتشكيلة ضخمة من الأدوية، نصفها يأتي مباشرة من كتاب «الكليات». ها هي وصفة «إسفنج مُنوِّم»، يُستخدَم مُخدِّرًا ومُنوِّمًا:
خذ أوقية من الأفيون من ثيفا، ثم أوقية من كل من عصير الجوسكيام [البنج الأسود] والتوت غير الناضج وتوت العُليق الأسود وبذور الخس والشوكران والخشخاش واللفاح واللبلاب الشجري. ضع كل هذا في وعاء، مع إسفنجة مأخوذة للتوِّ من البحر حتى لا تكون قد تلامست أبدًا مع المياه العذبة. عرِّضه [أي الوعاء] للشمس أثناء أيام الكلب [أشدِّ أيام الصيف قيظًا] حتى يُستهلك كل شيء. عندما تريد استخدام الإسفنجة، بلِّلها برفق بماء ساخن وضعها على منخارَي المريض، وسوف يغفو سريعًا.11
كان يمكن أن يكون لهذا الخليط الغريب جميع أنواع الآثار الجانبية، ولكن من غير المُرجَّح أن يكون النوم واحدًا منها. ومع ذلك، فهي تُذكِّرنا بوصفة الزهراوي الأكثر نجاعة للتخدير؛ إسفنجة مغموسة في القنب والأفيون. من بين كل العلاجات المذكورة في «الأقراباذين»، فإن العلاج الذي يدَّعي أكبر الادعاءات هو «الترياق العظيم لجالينوس»، جرعة سحرية تشفي كل الأمراض، ويُفترَض أن من ابتكرها هو جالينوس نفسه ويبدو أنها فعالة لعلاج طائفة مُذهِلة من الحالات، تشمل السكتة الدماغية والصرع والصداع النصفي وألم المعدة والاستسقاء والربو والمغص والجذام والجدري والقشعريرة وكل السموم، ولدغات الثعابين والزواحف. قائمة المكونات طويلة جدًّا ومُعقَّدة للغاية، لدرجة أنه من الصعب تصديق أن أحدًا تمكَّن على الإطلاق من صنعها، ولكن لو كانوا فعلوا ولو كان «الترياق العظيم» يرقى إلى مستوى سمعته، لكان بمقدورهم مُنفرِدين شفاء جميع السكان المحليين.12

تطلَّبَت هذه الأدوية تشكيلة هائلة من النبات، ومنذ فترة طويلة كانت حدائق العلاج المُتخصِّص سمة للمؤسسات الرهبانية، فكانت تُزرع جنبًا إلى جنب مع حدائق زراعة الخضر المنزلية التي كانت تُنتِج الطعام للرهبان. لا بد أن المُعالِجين المحليين العلمانيين كان لديهم أيضًا حدائق الأعشاب الخاصة بهم، وكانت ساليرنو في القرن الثاني عشر مليئة بقطع الأرض الصغيرة والبساتين المُخصَّصة لزراعة الفاكهة والخضراوات والأعشاب. كانت المنازل صغيرة نسبيًّا؛ إذ كانت عبارة عن هياكل خشبية يمكن بسهولة إزالتها ونقلها إلى مكان آخر، وكان معظم الناس يزرعون طعامهم ويُربُّون الخنازير والدجاج والإوَز، لو كان بوسعهم شراؤها. وكان العطارون والصيادلة يمتلكون حدائق الأعشاب المُتخصِّصة الخاصة بهم لتزويدهم بالنباتات اللازمة لتحضير علاجاتهم، ويستكملونها بالمُكوِّنات الغريبة التي كانوا يشترونها من تجار المدينة.

كان يوجد دائمًا كثير من النساء الحكيمات اللواتي يُعطين النصائح والعلاجات لمجتمعاتهن المحلية، ولكن في جنوب إيطاليا، كان ملحوظًا أنه كانت توجد أيضًا طبيبات مُتعلِّمات مُدرَّبات تلقَّين تعليمهن في ساليرنو ونابولي. ومما يدعو للأسى أن هذا الجانب المُتنوِّر من الطب الساليرني لم يكن شائعًا في أماكن أخرى، ومع استثناءات محدودة جدًّا، كان على النساء أن ينتظرن حتى القرن العشرين قبل أن يكون في مقدورهن دراسة الطب وممارسته بأعداد كبيرة. كان هؤلاء النساء في العصور الوسطى ماهرات بصفة خاصة في طب النساء والتوليد وصحة المرأة؛ وقد شُرحَت معارفهن مُجتمِعةً في القرن الثاني عشر في سلسلة من ثلاثة نصوص عُرفَت باسم «تروتيولا». أصول هذه النصوص غير واضحة، ولكن من المحتمل جدًّا أن امرأة من ساليرنو تُدعى «تروتا» أو «تروكتا» كانت قد شاركت في صنعها ومِن ثَم منحتها اسمها. تُغطِّي النصوص طائفة من الموضوعات تشمل الحمل والولادة بل حتى مُستحضَرات التجميل، واعتمادًا على المصادر العربية التي ترجمها قسطنطين، أدمجت طب النساء في الإطار الجالينوسي للأخلاط، ومِن ثَم في المنهج الدراسي الأكاديمي الناشئ. اعتمادًا على نصوص مُترجَمة حديثًا، ولكنها مُتجذِّرة في سنوات من المعرفة العملية للقِبالة وصحة المرأة، استخدم أطباء في كل أنحاء أوروبا نصوص «تروتيولا». كان كثيرون منهم، بالطبع، رجالًا، ربما يكونون قد شعروا بالارتياح في اكتساب بعض المعرفة الدقيقة السليمة فيما يتعلق بطريقة العمل الغامضة للجسم الأنثوي.

بغضِّ النظر عن الدخول المُتبصِّر للنساء إلى مدرسة ساليرنو الطبية، فإنه بحلول القرن الثالث عشر كانت ساليرنو قد فقدت موقعها المُسيطِر في الطب الأوروبي. فقد ارتقت مدن مثل بولونيا ومونبلييه وبادوفا لتأخذ مكانها، واستندت مناهجها التعليمية على تراجم قسطنطين وكُتُب باحثين طبيين ساليرنيين. ظل الباحثون يأتون للدراسة في ساليرنو، وعادوا معهم بالكتب الدراسية الخاصة بمجموعة «أرتيسيلا»؛ مما ضمن أن تظل المدينة بوابة مهمة للطب في أوروبا في العصور الوسطى. غير أن مدرستها الطبية تدهورت، وطغت عليها مدرسة جارتها، نابولي، بجامعتها الصاعدة وارتقائها لتُصبِح عاصمة مملكة صقلية وجنوب إيطاليا.

كانت العاصمة السابقة للإقليم هي باليرمو، وهي مدينة جميلة أنيقة على الساحل الشمالي الغربي لصقلية. كانت هذه المدينة هي المعقل الرئيسي لحكام النورمان طوال القرن الثاني عشر، ومقر بلاطهم الملكي العالمي المُتألِّق. وكما سنرى لاحقًا، فتحت العلاقات الدبلوماسية لهذا البلاط مع قسطنطين سبلًا جديدة للتبادل الثقافي مع عودة المبعوثين مُحمَّلين بالكتب إلى صقلية، وهو ما يُحاكي ما حدث في بغداد وقرطبة. ولكن ثقافة النورمان لاتينية بالأساس؛ لذا تُرجمَت هذه النصوص اليونانية مباشرة، وليس عن طريق اللغة العربية بوصفها وسيطًا، كما كان الحال في طليطلة وساليرنو. من شأن هذا الاتجاه الجديد لنقل المعرفة أن يستمر ليلعب دورًا بالغًا أثناء عصر النهضة، عندما فتَّش علماء المذهب الإنساني باجتهاد عن النصوص القديمة بلغتها اليونانية الأصلية وعرفوا قدرها، ولكن بدايات ذلك كانت في باليرمو في القرن الثاني عشر.

هوامش

  • (١)

    شملت الإمبراطورية الكارولنجية (٨٠٠–٨٨٨) جانبًا كبيرًا من ألمانيا الحالية وفرنسا وشمال إيطاليا، ومدنها الرئيسية كانت فرانكفورت وآخن.

  • (٢)

    كانت هذه النصوص من بين النصوص التي اكتشفها العرب وأخذوها إلى بغداد في القرن التاسع.

  • (٣)

    كان لدى الفينيسيين والأمالفيين العديد من القواسم المشتركة، لا سيما من ناحية الامتيازات التجارية في الإمبراطورية البيزنطية التي لعبت دورًا حيويًّا في صنع ثرائهم ونفوذهم التجاريَّين.

  • (٤)

    من المحتمل أن هذا التركيب «من أعلى الرأس إلى أخمص القدمَين» نُقِل عن بولس الأجانيطي، مؤلف الموسوعات في القرن السابع.

  • (٥)

    تتسم الكتابات الأخرى عن حياته بكونها أكثر نزوعًا إلى الخيال؛ إذ تزعم أنه سافر بعيدًا حتى وصل في أسفاره إلى الهند بحثًا عن المعرفة، وفرَّ من تونس هربًا من القتل على يد زملائه.

  • (٦)

    كان «هالي عباس»، وهو الاسم الذي أصبح المجوسي يُعرَف به في أوروبا الغربية، ‎شخصية من بلاد فارس تتسم بالغموض وفي الوقت تفسه بالعبقرية، كان واحدًا من الأطباء الثلاثة الأعظم (إلى جانب الرازي وابن سينا) في الإمبراطورية الإسلامية الشرقية، ويدل اسمه على أنه كان من عائلة زرادشتية. كان كتاب «كامل الصناعة الطبية» قد نُسِخ على نطاق واسع وتُرجِم إلى العربية والعبرية والأوردية قبل أن يُقدِّم قسطنطين نسخته اللاتينية. وكان أهم نص طبي في العالم العربي حتى ظهر كتاب «القانون» لابن سينا.

  • (٧)

    على سبيل المثال، في كتاب «إيساغوجي»، ترجم نسخة ابن حُنَين من كتاب «فن الطب» لجالينوس بدلًا من الكتاب الأصلي.

  • (٨)

    استخدم جالينوس هو الآخر الخنازير، التي تتشابه تشريحيًّا مع البشر، في التشريح.

  • (٩)

    في الطب القديم، استخدم الأطباء بول المرضى ونبضهم لتشخيص العِلَل وتحديد الموضع الذي يكمن فيه الخَلل في الأخلاط.

  • (١٠)

    بيدَ أنه مع تطور تدريس الطب، أُدرِج أيضًا كتاب «فن الطب» لجالينوس في مجموعة «أرتيسيلا»؛ حتى يتسنى قراءة النصَّين جنبًا إلى جنب.

  • (١١)

    تزوَّج تانكريد مرتَين؛ فأنجبَت له زوجته الأولى خمسة أبناء ذكور وابنة واحدة، وأنجبَت له زوجته الثانية سبعة أبناء وابنة واحدة على الأقل. كان روبرت أكبر أبناء الأسرة الثانية سنًّا. عاش غالبية الإخوة في جنوب إيطاليا، حيث تقاتلوا فيما بينهم بلا هوادة من أجل السلطة والأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤