باليرمو
فأول ذلك مدينة بلرم وهي المدينة السَّنية العظمى والمحلة البَهية الكبرى والمنبر الأعظم الأعلى على بلاد الدنيا …
وهي على ساحل البحر منها في شرقيِّها والجبال الشواهق العظام مُحدِقة بها …
ولها حُسن المَباني التي سارت الرُّكبان بنشر مَحاسنها في بناءاتها ودقائق صناعاتها وبدائع مُخترَعاتها، وهي على قسمَين قصر وربض؛ فالقصر هو القصر القديم المشهور فخرُه في كل بلد وإقليم وهو في ذاته على ثلاثة أسمطة؛ فالسماط الأوسط يشتمل على قصور مَنيعة ومنازل شامخة شريفة وكثير من المساجد والفنادق والحمامات وحوانيت التجار الكبار.
والمياه بجميع جهات المدينة مُخترِقة وعيونها جارية مُتدفِّقة وفواكهها كثيرة ومَبانيها ومُتنزَّهاتها حسنةٌ تُعجِز الواصفين وتبهَر عقول العارفين وهي بالجملة فتنة للناظرين.
إلى أين أنت مَغادِر على عجل؟ وإلى أي مكان ترغب في العودة؟
في صقلية لديك المكتبات السيراكوزية والأرجولية؛ ليس ثمةَ افتقار إلى الفلسفة اللاتينية.
لديك في المُتناوَل كتاب «الميكانيكا» للفيلسوف هيرون [السكندري] … كتاب «البصريات» لإقليدس … كتاب «البرهان القاطع» لأرسطو عن أول مبادئ المعرفة … «فلسفات» أناكساغوراس وأرسطو وثامسطيوس وبلوتارخ وغيرهم من الفلاسفة المشهورين هي [أيضًا] في مُتناوَل يدك … يُمكِنك الاستعانة بعمل جيِّد مُكرَّس لدراسة الطب، ويُمكِنني أيضًا أن أعرض عليك منشورات لاهوتية ورياضية، وأخرى عن الأحوال الجوية [نظريًّا].
تابَع كلٌّ من روبرت وروجر التقليد العائلي المُتمثِّل في كثرة الإنجاب؛ فكان لروبرت أربعة أبناء وسبع بنات، بينما تزوَّج روجر ثلاث مرات، وأنجب ما لا يقل عن سبعة عشر طفلًا في إطار الزواج، وربما بضعة أبناء خارجه. استُغِلت بنات دي هوتفيل للتضحية بهن كبيادق في استراتيجية طموحة للسلالة الحاكمة لدفع الأسرة دائمًا إلى أعلى. فقد تزوَّجَت إحدى بنات روجر الأول من كونراد، ابن الإمبراطور الروماني المُقدَّس، هنري الرابع؛ وتزوَّجت أخرى من كولومان، ملك المجر. وقدَّمت كلتا الفتاتَين إلى زوجَيهما مهرَين كبيرَين. وعندما لم تكن تحالفات الزواج خيارًا مُتاحًا، كان الإخوة يستخدمون مزيجًا من القوة الغاشمة والمكر. فقد كرَّس الأشقاء، الذين كانوا يتصفون بالانتهازية والعنف وعدم إمكانية كبح جماحهم، جُلَّ جهدهم لغزو صقلية، التي كانت في ذلك الوقت في قبضة العديد من أمراء الحرب المسلمين المُتناحِرين.
بعد غزو العرب للجزيرة في القرن التاسع، تطلَّب الأمر منهم عقودًا عديدة ليُخضِعوا صقلية إخضاعًا تامًّا. وحتى بعد أن أتموا ذلك، كان موقفهم الذي يتميز بالتسامح مع العقائد الأخرى يعني أنه كان مسموحًا للصقليين اليهود والمسيحيين أن يعيشوا ويُمارِسوا عباداتهم في سلام، ما داموا يدفعون الجزية (الضريبة المفروضة على غير المسلمين). جلب الحكام الجُدد معهم محاصيل جديدة وأنظمة ري مُتطوِّرة جعلت موسم الزراعة يمتد وأحدثَت تحولًا في الزراعة الصقلية. كانت الجزيرة تُصدِّر القمح والملح الصخري الذي له أهمية بالغة في حفظ الطعام، إلى منطقة شمال أفريقيا وما وراءها. وصل المهاجرون المسلمون (العرب والبربر والقبائل الأخرى) من شمال أفريقيا واستقروا بطمأنينة في المنطقة الخصبة ذات المساحات الخضراء، ولكن هذه الجاليات تقاتل بعضها مع بعض وكذلك مع اليونان البيزنطيين، الذين عاشوا في المنطقة الشمالية الشرقية. وبحلول أوائل القرن الحادي عشر، كانت الجزيرة قد انقسمت إلى مجموعة من المقاطعات المُتحارِبة التي يقودها أمراء حرب محليون. كانت الجزيرة مُهيَّأة للغزو.
خلف روجر على العرش ابنه، روجر الثاني، الذي ورث كثيرًا من الميزات التي كانت قد انتشلت والده وأعمامه من الفقر المُدقِع في نورماندي إلى المجد على شواطئ البحر المتوسط. ولكن كان ينقصه شيءٌ ما؛ التعليم. مات روجر الأول عندما كان ابنه طفلًا، تاركًا زوجته الشابَّة، أديليد، وصيةً على العرش. كانت أديليد، تلك المرأة الرائعة، قد تزوَّجت من روجر عندما كان في الستين من عمره وكانت هي في الخامسة عشرة. أشرفت أديليد على تعليم ابنها، وتأكَّدت من أن إخوته الثلاثة عشر الذين يكبرونه من زوجتَي زوجها الأُولَيَين قد استُبعِدوا تمامًا من وراثة العرش. أمضى روجر الثاني سنواته الأولى في ميسينا، على الساحل الشرقي الذي كان يُسيطِر عليه اليونانيون، حيث تعلَّم على يد كريستودولوس، الذي كان صقليًّا من أصول يونانية بيزنطية، والذي كان أيضًا كبيرَ مستشاري أديليد. غرس كريستودولوس في تلميذه الصغير حبًّا للتعلم والثقافة ظلَّ مُلازِمًا له بقية حياته. في نحو عام ١١١١، عندما كان في السادسة عشرة من عمره، انتقل بلاط الدوق الشاب إلى باليرمو، التي كانت مدينة مُشبَعة بتأثيرات عربية، فتحَت عينَيه على تنوُّع ثري من الثقافة الصقلية.
استمر روجر الثاني في انتهاج كثير من سياسات والده. فكان مُتسامِحًا مع العقائد الأخرى ونصَّب نفسه حامي كل البشر الذين حكمهم. كان شُغله الشاغل هو إبقاء سيطرته على مملكته وضمان السلام والاستقرار حيثما أمكن. وكان ذلك صراعًا مستمرًّا. لم ينعكس المناخ المُتفتِّح الذي ساد في البلاط على الحقول والقُرى والبلدات الريفية الصغيرة، حيث كان يندر اندماج الناس اندماجًا جيدًا. ففي المناطق القروية من صقلية، عاش المسيحيون والمسلمون مُنفصِلين تمامًا، في مناطق ومُستوطَنات مختلفة، وهو ما عزَّز حالةً من عدم الارتياح والعداوة، التي عادةً ما كانت تتحول إلى عنف. كانت الهجمات معتادة، وخاصة من قِبَل المُستوطِنين القادمين حديثًا من البر الرئيسي، الذين كانوا حريصين على توسيع أراضيهم على حساب المجتمعات المحلية المسلمة. واستمر أمر إبقاء أمراء الحرب المحليين تحت السيطرة شاغلًا رئيسيًّا لدى السلطات النورماندية. كان الأمر مختلفًا تمامًا في عالم البلاط الرفيع المستوى، حيث كان مُرحَّبًا بأذكى العقول، بغضِّ النظر عن العقيدة أو العِرق، وحيث تبادَل التجار من أنحاء العالم المعروف المعاملات التجارية واحتال بعضهم على بعض بكل لغة موجودة، ووصل الدبلوماسيون من بعيد لتعزيز مصالح بلدانهم. أما في المدن الكبرى، مثل باليرمو، فبالرغم من أن الجاليات كانت تميل إلى التجمع معًا حسب العقيدة، والاستقرار في أحياء مُعيَّنة، عاش الناس مُتقارِبين حتى إن ذلك شجَّع إقامة علاقات ودية وتعاوُن مُتبادَل.
كتب المترجم المجهول لكتاب «المجسطي» تمهيدًا مُفصَّلًا في بداية العمل، وهو مصدرنا الوحيد للمعلومات عنه وكيف انتهى به الأمر إلى ترجمة هذا الكتاب. الأمر المُحبِط أنه لا يُطلِعنا على هويته، ولا موطنه، ولكن الأمر شبه المُؤكَّد أن جنوب إيطاليا لم يكن موطنه الأصلي. بل نعرف معلومات أقل حتى من ذلك عن ترجمة من اليونانية لأطروحة إقليدس «العناصر»، أُنجِزت في صقلية في الفترة نفسها تقريبًا، ولكن من المحتمل أن يكون من ترجم الأطروحة هو الرجل نفسه؛ إذ يوجد كثير من أوجه التشابه في أسلوب الترجمة والمفردات. وحيث إنه، كما نعرف، كان يتعيَّن على أي أحد يدرس كتاب «المجسطي» أن يقرأ أطروحة «العناصر» أولًا، فمن المنطقي أن يكون هذا المُترجِم قد بدأ بأطروحة «العناصر» أو كان قد عمِل بالفعل على ترجمته.
وبناءً عليه، فإنه لا بد أنه كان يوجد نسخة مخطوطة باللغة اليونانية من أطروحة «العناصر» في صقلية في منتصف القرن الحادي عشر، وهو ما يُؤدِّي بطبيعة الحال إلى طرح السؤال الآتي: من أين جاءت هذه المخطوطة؟ المصدر الأرجح هو القسطنطينية. نعرف أن هنريكوس أريستبوس كان قد أُعطي نسخة من كتاب «المجسطي» هناك، ومن المنطقي أن نقترح أن البيزنطيين قد أعطوه أيضًا نسخة من أطروحة «العناصر». إضافة إلى ذلك، تتشابه النُّسخ الباقية من الترجمة الصقلية باللاتينية مع نسخة أريثاس اليونانية التي صُنِعت في القسطنطينية، والموجودة الآن في مكتبة بودلي في أكسفورد. وقد حدا هذا ببعض الباحثين إلى الإشارة إلى أن هنريكوس أريستبوس حصل على هذا الكتاب نفسه وأخذه معه إلى صقلية، حيث تُرجِم إلى اللاتينية ومن هناك وجد سبيله إلى إنجلترا بعد ذلك بقرون عدة. إن شبكة النقل لهذه المخطوطات مُعقَّدة للغاية، ولكن من المُمكِن تعقُّب الروابط الأكيدة، وإن كانت دقيقة. وكما سنرى، تمتَّعَت هذه الصيغة من أطروحة «العناصر» بتأثير أكبر من صيغة المُترجِم نفسه لكتاب «المجسطي»؛ إذ كانت الترجمة الوحيدة من اليونانية التي أُنجِزت في القرن الثاني عشر، وتقف جنبًا إلى جنب مع الترجمتَين من العربية إلى اللاتينية اللتَين قام بهما جيرارد الكريموني وهيرمان الكارينثي وقد ألقينا بالفعل نظرة عليهما. ومع ذلك فإن ترجمةً أخرى من العربية هي التي تُهيمِن على نقل عمل إقليدس في هذه الفترة، وهي ترجمة أديلار الباثي.
يُعد أديلار شخصية مُميزة تميزًا رائعًا في تاريخ العلم في العصور الوسطى. فبينما كان جيرارد الكريموني يخُط بسرعة ودأب في محيط الكاتدرائية في طليطلة، كان «الباثي» يختال في أنحاء جنوب إيطاليا والشرق الأوسط، ويُصادِق الملوك، وينجو من زلازل ويستمتع بوجهٍ عامٍّ بحياته على أكمل وجه. لا شك في أن إسهام جيرارد في البحث العلمي كان أكبر وأهم، ولكنه، كشخصية، بات مَنسيًّا في ذاكرة التاريخ. أما أديلار، على الجانب الآخر، فبقي ذِكره طوال القرون الثمانية الماضية على نحو جيد جدًّا. يبدو الرجل شخصية مُفعَمة بالحيوية، بغضِّ النظر عن حقيقةِ أن كل ما لدينا لنُؤسِّس عليه هو معلومات قليلة مُجزَّأة، وكتابات مُتلاشية منقوشة على مخطوطات وإشارات غير مباشرة في تمهيدات لكُتُب. من الواضح أنه كان شخصًا موهوبًا وغريب الأطوار بعض الشيء، فقد كان موسيقيًّا موهوبًا (بل موهوبًا جدًّا، في الواقع، لدرجة أنه طُلِب منه أن يعزف أمام ملكة فرنسا)، كان يستمتع بصيد الصقور بقدر ما كان يستمتع بعلم الفلك. وُلِد أديلار، الذي كان طَموحًا، ومُغامِرًا، ويهوى لفت الأنظار بعض الشيء، في إنجلترا، في الجيل الأول بعد الفتح النورماندي، وهو وقت كان حافلًا بتغيرات كبيرة، وحافلًا لبعضهم بالفرص. أسعده الحظ بأن وُلِد في أسرة ثرية، كانت على صلة بالأسقف المحلي القوي، جيسو أسقف وِيلز. تلقَّى تعليمه في باث، في الوقت الذي انتقل فيه المركز الأبرشي هناك من وِيلز على يد خلف جيسو، يوحنا التوري، الذي بدأ سريعًا في إعادة بناء وإحياء المدينة.
لا بد أن أديلار الشاب قد انتفع من هذا، ولكن، إذ كان قد استنفد الفرص التعليمية المتاحة في بلدته، فقد أُرسِل، ربما بتوصية من الأسقف يوحنا، إلى مدرسة الكاتدرائية في مدينة تورز في وادي اللوار. يحتمل أنه كان قد بدأ بالفعل دراسة العلوم في إنجلترا، وتابع بالتأكيد المزيد من الدراسة فيها في فرنسا. ولعله قد عرف بأطروحة إقليدس «العناصر» من خلال الشذرات الصغيرة من ترجمة بوثيوس، التي كانت في ذلك الوقت أساس المنهج الدراسي للرياضيات.
كان أديلار باحثًا موهوبًا، ولكنه كان نوعًا ما رجلًا مُتأنِّقًا يلبس عباءة خضراء برَّاقة وخاتمًا من الزمرد. في نسخة مخطوطة لأطروحته «قواعد العداد»، نُسِخت في باريس حوالَي سنة ١٤٠٠، يوجد صورة له وهو يُعلِّم الأعداد العربية والكسور الاثنا عشرية. ومع أنه ليس تصويرًا أمينًا له، فإنه يُصوِّره بشعر طويل ولحية كثَّة، مُرتديًا عباءة قصيرة حمراء أنيقة بدون أكمام وقميصًا تحتيًّا أزرق لازورديًّا وقبعةً مُخطَّطةً زاهيةً. وتعكس كتاباته هذه الثنائية. فنصفُها عبارة عن حوارات أدبية لبِقة مُعَدة لتثقيف شباب النبلاء، ومقدمة في لغة لاتينية أنيقة، في شكل حوار بين أديلار وابن أخيه، وهو أسلوب أدبي من شبه المُؤكَّد أنه مستعار من أفلاطون، وأهدى عمله عن الأسطرلاب، والمُسمَّى «عن عمل الأسطرلاب»، لتلميذه هنري بلانتاجينيت، الذي سيُصبِح مُستقبَلًا المَلِك هنري الثاني. يحتوي «عن عمل الأسطرلاب» على بعض المادة العلمية وأدرج أديلار مقدمة عن العداد في محاورته «عن التشابه والتنوع»، التي هي عبارة عن مناقشة لرمزية العلوم الإنسانية السبعة. وبالمثل، يشتمل كتاب «أسئلة طبيعية» على فحوص ماهرة لأسباب الظواهر الطبيعية. كان يمتلك موهبة في توصيل الأفكار العلمية المُعقَّدة وتطويعها بما يتناسب مع جمهور هاوٍ ولكنه مهتم في الوقت نفسه. عزَّزت هذه الأعمال الثلاثة من مكانة أديلار المِهَنية ومن المحتمل أنه اكتسب منها بعض المال؛ مما أتاح له أن يُمضِي وقتًا في اهتماماته الأكاديمية الجادة، التي تُشكِّل النصف الآخر من كتاباته. كان أهم هذه الكتابات ترجمته لجداول «الزِّيج» للخوارزمي من العربية، وكتاب أبي معشر «المدخل الكبير إلى علم أحكام النجوم»، وأطروحة «العناصر». تتسم هذه الأعمال بأنها موجزة وعلمية، وغنية بالمعلومات دون تنميق؛ وليست مُهداة إلى أحد. فقد كتبها أديلار لنفسه وطُلابه، للدراسة الجادة. وكالعادة، يبقى السؤال الكبير المطروح هو: أين عثر على هذه الكتب؟
لا نعرف بالضبط إلى أين ذهب أديلار، ولكن لا بد أنه قد اتخذ الطريق البري الرئيسي من شمال أوروبا إلى روما، المُسمَّى فيا فرانتشيجينا. كان الطريق، الذي يشتهر بالحُجاج، يمر عبر لاون، ثم إلى ريمز. ومن هناك، كان يُؤدِّي جنوبًا إلى ما يُعرَف الآن بسويسرا، عبر جبال الألب عند ممر سان برناردينو، حيث كان بعض السكان المحليين قد أخذوا زمام المبادرة وأقاموا بوابات تحصيل رسوم كانوا عندها يجعلون المسافرين يدفعون المال مُقابِل العبور منها. (كان هذا مصدرًا مُربِحًا للدخل، ما دام النورمان لم يعبُروا من هذه البوابات؛ إذ كانوا يُحطِّمون الحواجز، ويطعنون مُحصِّلي الرسوم، ويُكمِلون مَسيرهم إلى إيطاليا؛ فالقواعد العادية ببساطة لم تنطبق عليهم.) ما إن تجاوَز أديلار جبال الألب، لا بد أن الطريق قد قاده إلى السهول العظيمة لشمال إيطاليا وأسواق بافيا المُكتَظة. من هناك، كان الطريق يتجه إلى الساحل، مرورًا بمدن لوكا وسيينا وفيتيربو وأخيرًا روما. كان بإمكان أديلار بسهولة أن ينضم إلى جماعة من الحُجاج أو التجار في لاون وأن يُسافر جنوبًا معهم. كما طالَعنا في الفصل السابق، كان الطريق من روما إلى ساليرنو مُستقِرًّا، وكان سيمرُّ بأديلار على مونتيكاسينو. في الواقع، لعله أمضى الليلة هناك، وبخاصة لو أنه كان مُسافرًا مع مجموعة من الحُجاج. فمعظم الأديرة الكبيرة كان بها مأوًى للمسافرين، وبخاصةٍ الناس الذين يقومون بأي نوع من المَهام الدينية؛ إذ كانت تُقدِّم طعامًا بسيطًا ومَرافق أساسية مُقابِل أجر بسيط. ولكن بما أن أديلار لم يستخدم أيًّا من تراجم قسطنطين، فلا توجد رابطة فكرية مُحددة. ولكن من المُؤكَّد أنه قد تأثَّر بالنصوص الساليرنية ونظرية جالينوس الخاصة بالأخلاط الأربعة، واستخدمها في كتابه «أسئلة طبيعية». ليس من الصعب تخيُّل الإثارة التي شعر بها أديلار لوجوده في ساليرنو، يدرس مع أطباء المدينة المعروفين. اعتمد كتاب «أسئلة طبيعية» أيضًا على ترجمة ألفانو لكتاب نيميسيوس «حول طبيعة الإنسان»، الذي من المُرجَّح أنه كان متاحًا في ساليرنو؛ مما يجعل أديلار قناة مُؤكَّدة لنقل المعرفة من جنوب إيطاليا إلى شمال أوروبا. يصف أديلار مغادرته لساليرنو والتقاءه بيوناني، تناقَش معه حول الطب وبحث معه مسائل علمية أخرى، مثل المغناطيسية. وعلى الرغم من أنه لم يكتب عن هذا الحدث إلا بعد مرور سنوات، فإن سروره بمقابلة أشخاص يتمتعون بكثرة المعارف ومهتمين بالعلم لَيبدو جليًّا في كلماته.
عاد أديلار إلى إنجلترا نحو عام ١١١٦. وأصبح موظفًا رسميًّا في حكومة هنري الأول، ولكنه أيضًا بدأ يُترجِم النصوص التي صادَفها في أسفاره، وفي ذلك ترجمته اللاتينية المُؤثِّرة لأطروحة «العناصر» لإقليدس من اللغة العربية. ومن المُحيِّر، أنه يوجد ثلاث صِيَغ مختلفة من هذا النص، وكلها منسوب في الأساس إلى أديلار، ومِن ثَم تُعرَف باسم «أديلار ١»، و«أديلار ٢»، و«أديلار ٣». «أديلار ١» هي الترجمة الأساسية، و«أديلار ٢» هي ترجمةٌ تستند إلى «أديلار ١» وعلى تراجم مختلفة أخرى، بينما «أديلار ٣» هي تعليق على الصيغة «أديلار ٢». أظهرت دراسات أُجرِيت مُؤخَّرًا أنه من المحتمل أن يكون روبرت التشستري هو من كتب «أديلار ٢»، في إسبانيا، وهي الصيغة التي أوردها تيري من شارتر في كتابه «مكتبة الفنون السبعة الحرة»؛ مما يجعلها الصيغة الأكثر تأثيرًا في الصِّيَغ الثلاثة. في القرن الثالث عشر، استخدم الباحث الإيطالي كامبانوس النوفاري الصيغتَين الثانية والثالثة ليصنع إصدارًا بديلًا استمر ليُصبِح أساس أول إصدار مطبوع. تفكيك شبكة الروابط بين الصِّيغ المختلفة لنص هو أمرٌ فائق الصعوبة وأحيانًا ما يكون مُحيِّرًا للغاية. ولكن من المُذهِل أن نرى عدد المرات التي انتقلت فيها المخطوطات من مكان إلى مكان، وأن الباحثين تمكَّنوا من الحصول على مجموعة متنوعة من النُّسَخ المختلفة حتى يُنتِجوا الصِّيغ الخاصة بهم. من الواضح أنه كان يوجد مجتمع على اتصال جيد من أهل الفكر القادر بعضُهم على التواصل مع بعض عبر مسافات هائلة. وكما رأينا بالفعل، شكَّلَت شبكة الكنائس والأديرة البندكتية أساسًا لهذه الشبكة من التفاعل المتبادل، فربطت شمال إسبانيا بفرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا؛ إذ كان رجال الدين يسافرون بينها حاملين الأخبار والمراسلات، وبالطبع، الكتب.
عندما عاد أديلار إلى إنجلترا، ترجم جداول «الزيج» (جداول فلكية) للخوارزمي؛ وتحديدًا النسخة التي عدَّلها مسلمة المجريطي لتتوافق مع إحداثيات قرطبة. وقد زاد هذا من احتمال أن يكون قد سافر أيضًا إلى إسبانيا في فترةٍ زمنيةٍ ما، ولكن لا يوجد دليل يدعم هذه الفكرة. في أيٍّ من الحالتَين، لا بد أن يكون أديلار قد حصل على هذا الكتاب من شخص ذهب إلى إسبانيا، أو كان له صلات هناك. والمُرشَّح الأرجح هو بيتروس ألفونسي، وهو شخصية مُثيرة للاهتمام، وُلِد يهوديًّا في هواسكا في شمال إسبانيا، ولكنه اعتنق المسيحية في عام ١١٠٦، وكان ألفونسو الأول ملك أراجون هو أباه الروحي. لاحقًا كتب تفنيدًا للعقيدة اليهودية في شكل حوار بين شخصَيه، قبل اعتناقه المسيحية وبعده. انتفع ألفونسي من حصوله على تعليمٍ ممتاز للغات؛ إذ كان يُجيد العربية والعبرية والرومانسية، ولا بد أنه كان يعرف اللاتينية، ولا شك أنه تعلَّم الإنجليزية أثناء الأعوام التي قضاها في إنجلترا. أيضًا كانت هواسكا في محيط تأثير سرقسطة، بتقليدها المُتميِّز في الرياضيات والبحث العلمي، وهو ما انتفع منه ألفونسي أيضًا. ويُشير أحد المصادر إلى أنه عمل لصالح الملك هنري الأول ملك إنجلترا، بصفته طبيبه، وكان بالتأكيد جزءًا من دائرةٍ تضمُّ علماء فَلك وفلاسفة في مقاطعاتِ غربيِّ إنجلترا؛ في الواقع، قد يكون تشجيعُه والكتبُ التي لا بد أنه قد أحضرها معه إلى إنجلترا السببَ وراء بداية ازدهار دراسة الفَلك في البلاد في ذلك الوقت. من المُرجَّح أيضًا أنه التقى بأديلار عندما كان في المنطقة المجاورة لمدينة باث، وأنهما شرعا في العمل معًا على ترجمة جداول «الزيج» وأطروحة «العناصر» بعد ذلك بوقت قصير.
أما مسألة ما إذا كان أديلار قد تعلَّم اللغة العربية فعلًا، فهي مسألة شائكة. فقد كان بمقدوره أن يلتقط بسهولة اللغة العربية المنطوقة بدرجةٍ ما في أسفاره، ولكن تعلُّم قراءة وكتابة اللغة كان أمرًا آخر؛ فنظرًا للوضع السياسي، كان من الصعب عليه أن يعقد صلة مع الباحثين المسلمين أثناء أسفاره في الشرق. ويبدو أن أديلار كان مفتونًا ومُعجَبًا بالعلم العربي، ولكنه لم يكن ذا معرفة غزيرة به كما كان يُحِب أن يَظهر؛ إذ يُشير الباحثون المعاصرون إلى غياب مصادر عربية مُحدَّدة في كتاباته وتوصَّلوا إلى أنه حصل على معرفته بالعلم العربي واللغة العربية شفاهيةً، وليس عن طريق القراءة. على سبيل المثال، عندما سافر أديلار إلى طرسوس في قيليقية، تعلَّم التشريح البشري من رجل مُسِن، بيَّن له كيفية عمل الأوتار بتعليق جثة في ماءٍ جارٍ. ويصف أيضًا اختباءه تحت جسر بالقرب من أنطاكية عندما ضرب زلزالٌ المنطقة، وهي تفصيلة تُتيح لنا معرفة التاريخ وهو عام ١١١٤. تقع أنطاكية، التي تأسَّسَت في القرن الرابع قبل الميلاد على يد واحد من قادة الإسكندر الأكبر، على ضفاف نهر العاصي. كانت أنطاكية، مع سلوقية بييريا، مينائها البحري على البحر المتوسط، مركزًا رئيسيًّا على طريق الحرير، ينعَم برخاءٍ مُتنامٍ لدرجة أنها نافسَت مدينة الإسكندرية في بعض الأحيان. عاشت فيها جاليات من اليهود لقرون، وكذلك بعض أوائل المسيحيين. ومع استيلاء الصليبيين على المدينة، سنة ١٠٩٨، كانت قد حكمَتها الإمبراطورية العربية والبيزنطيون، ولفترة وجيزة، الأتراك السلاجقة. وقد أفسح هذا المجال لخليطٍ ثقافيٍّ فعَّال وكثير من الفرص لتبادُل الأفكار. كانت اللغة العربية هي لغة أنطاكية الرئيسية، وسرعان ما أصبحت المدينة قاعدة مهمة للأوروبيين الغربيين في الشرق الأوسط. وكان البيزيون (أهل مدينة بيزا) هم أول من استغل ذلك، وتبِعهم بعد وقت قصير الفينيسيون والجِنويون. كان البيزيون قد سانَدوا الصليبيين بالسفن والدعم البحري. وكانت مكافأتهم عبارة عن حي في مدينة أنطاكية، حيث استقروا سنة ١١٠٨، وأنشئوا مراكز تجارية على امتداد الساحل ونظموا أساطيل تجارية، كانت تنقل حمولات من التوابل والسكر والقطن والنبيذ والأقمشة الغالية إلى إيطاليا. كانت توجد أحياء للبيزيين والفينيسيين في القسطنطينية أيضًا، بوصفها جزءًا من شبكة التأثير الأوروبي المتنامية في الشام ومنطقة شرق البحر المتوسط.
طوال هذه الحكاية رأينا كيف تفتح التجارة سُبلًا تتدفق من خلالها المعرفة والأفكار، بفضل التجار والدبلوماسيين، الذين كثيرًا ما كانوا علماء، أيضًا. وكان كثير من البيزيين يندرجون ضمن هذه الفئة. في أوائل القرن الثاني عشر، غادَر ستيفن الأنطاكي مدينة بيزا وسافر إلى سوريا، حيث تعلَّم العربية وأنتج ترجمة جديدة لكتاب «كامل الصناعة الطبية» لعلي بن العباس؛ لأنه لم يعتبر أن نسخة قسطنطين أفريكانوس، المُسمَّاة «الكليات»، غير كافية فحسب، بل غير دقيقة أيضًا. ربما يكون ستيفن قد زار أنطاكية في نفس وقت زيارة أديلار لها، وإن كان كذلك، فمن المُغري أن نفترض أنهما التقَيا. لا بد أن مجتمع الباحثين كان صغيرًا للغاية؛ لذا ليس الأمر خارج نطاق الاحتمال على الإطلاق. من المُؤكَّد أن أديلار كان من شأنه أن يبحث عن أفراد لهم الاهتمامات الفكرية نفسها أينما ذهب. بل إنه من المُمكِن أن يكون ستيفن هو مصدر الإلهام لنشاط أديلار اللاحق في الترجمة ويُمكِن أن يكون قد ساعَده في الحصول على المخطوطات.
كان البلاط الإمبراطوري هو الآخر في حراك دائم؛ فمع أن باليرمو ظلَّت عاصمة إمبراطورية فريدريك، فإنه لم يقضِ أي وقت يُذكَر هناك وهو رجل راشد؛ إذ تطلَّبت الأقاليم الشاسعة التابعة له انتباهه، وعندما كان في الجنوب، كان أسعد حالًا في أبوليا، وكان يُفضِّل أيضًا نابولي، وكانت الجامعة التي أنشأها هناك هي التي طغَت على المدرسة الطبية في ساليرنو. اجتذب بلاط فريدريك أكثر رجال هذا العصر موهبة وطموحًا. ومن بين العلماء الكثيرين الذين كانوا حوله، يبرز اثنان؛ مايكل سكوت وليوناردو من بيزا، المعروف باسم فيبوناتشي.
كشأنِ أديلار قبل قرنٍ مضى، كان سكوت كثير الأسفار، وكان يترك دياره في اسكتلندا لمتابعة دراسته، ويُعتقَد أنه درس في دورهام، ثم أكسفورد وباريس. يوجد، لا محالة، كثير من الفجوات في مسار رحلته، ولكن من المُؤكَّد أنه كان في طليطلة في الثامن عشر من أغسطس سنة ١٢١٧؛ إذ إنه في ذلك اليوم وقَّع ترجمته لكتاب «الهيئة» للبطروجي وأرَّخها. وقد أُنتِج هذا النص، وتراجمُ سكوت لكتاب أرسطو «عن الحيوانات»، وتعليقٌ لابن رشد على كتاب أرسطو الرئيسي عن الكوزموغرافيا «عن السماوات والأرض»، كلها في تلك المدينة، وبقيت النُّسخ هناك. بعد ذلك سافر سكوت إلى إيطاليا، آخذًا معه نُسخًا من عمله، وسرعان ما أصبحت هذه النُّسخ مُتداوَلة هناك أيضًا. في ذلك الوقت، كان سكوت قد أتقن اللغة العربية؛ مما يُشير إلى أنه أمضى في إسبانيا بعض الوقت، يتعلم اللغة ويدرُس مع المُستعرِبين المحليين. لا بد أنه كان على قدر كبير من الإجادة في الرياضيات والعلوم حتى يُقدِّم هذه التراجم، التي اعتمد فيها أيضًا على كثير من النصوص التي تُرجِمت إلى اللاتينية قبل ذلك ببضعة عقود على يد جيرارد الكريموني والمترجمين الطليطليين الآخرين. كان سكوت على صلة وثيقة مع رودريجو، رئيس أساقفة طليطلة، ومن المحتمل أنه كان يعرف الأعضاء الأصغر سنًّا في دائرة جيرارد؛ رجال أمثال المترجم العظيم لعمل جالينوس، مارك الطليطلي؛ لذلك يعتبر مايكل سكوت قناة رئيسية لحركة الكتب والأفكار من إسبانيا إلى إيطاليا في أوائل القرن الثالث عشر، بالإضافة إلى كونه عضوًا مهمًّا من أعضاء جيل المترجمين في طليطلة الذين خلَفوا جيرارد وزملاءه.
حسبما يُورِد البابا جريجوري التاسع، كان سكوت يعرف أيضًا العبرية، التي يُمكِن أن يكون قد تعلَّمها هي الأخرى في طليطلة، من جماعة الباحثين اليهود هناك. في مرحلةٍ لاحقة في حياته، تبادَل أيضًا المراسلات مع باحث يهودي في باليرمو. نشأ كثير من القصص الغريبة والرائعة حول مايكل سكوت، وكان الجانب الأكبر منها يعتمد على شهرته بوصفه مُنجِّمًا؛ وهي مهنة كانت تتأرجح بين القبول والرفض؛ إذ كانت تحظى بتقدير وموثوقية لدى الحكام العلمانيين، ولكنها كانت تتعرض على نحو مُتكرِّر لتنديد الكنيسة وشيطنتها لها. يُحكى أنه تنبَّأ بموته بضربة على الرأس من صخرة ساقطة من أعلى، وحتى يتجنب هذا المصير، صنع خوذة من المعدن، كان يرتديها طوال الوقت، ولكنها لسوء الحظ لم تحمِه عندما سقطت قطعة من حجارة البناء من سقف كنيسة عندما كان يحضر قداسًا، فقتلته على الفور. كانت اهتمامات مايكل واسعة النطاق، كما يُمكِن أن تتوقع من باحث موهوب في هذه الفترة. فكان طبيبًا، على إلمام جيد بكلٍّ من التعليم الطبي الساليرني والأطباء العرب مثل الرازي. واستخدم هذه المصادر في أشهر عمل له، وهو كتاب «علم الفراسة»، الذي يتناول التسبيب والتكهن، بالاستعانة بالأحلام والتشريح البشري. واعتمد على كتاب «المجسطي» وعلى «جداول طليطلة» في واحد من أعماله في الفلك، ولكن تراجمه لكتابات أرسطو، التي جعلها متاحة باللغة اللاتينية للمرة الأولى، هي أهمُّ إرث نصي خلَّفه.
وصل سكوت إلى جامعة مدينة بولونيا السريعة النمو نحو عام ١٢٢٠. يُمكِننا أن نكون على يقين مُطلَق بأن أمتعته كانت مملوءة بالكتب، ولكن، فيما عدا ذلك، ليس لدينا أدنى فكرة عن الكيفية التي سافر بها. كان فريدريك الثاني في بولونيا في ذلك الوقت نفسه، ومن المحتمل جدًّا أن يكون هذا هو التوقيت الذي التقيا فيه لأول مرة، وانخرط سكوت في خدمته. ارتقى سكوت سريعًا إلى مكانة مرموقة وعاش بقية حياته في صحبة البلاط الإمبراطوري، مُسافرًا أينما ذهبوا. وتوطَّدَت علاقة وثيقة بينه وبين الإمبراطور؛ إذ تشارَكا كثيرًا من الاهتمامات وتناقشا بشأنها مُطولًا. كذلك أجرَيا معًا تجارب، لاختبار تأثير الفصد عندما يكون القمر في برج الجوزاء وحاوَلا قياس السماء باستخدام برج. أجبر فريدريك الكنيسة على السماح بإجراء عمليات تشريح البشر لأول مرة منذ عام ١٥٠ ميلادية، بينما قدَّم سكوت دراسات حالة مُفصَّلة عن مرضاه. ثمةَ أوجه تشابه هنا، وإن كانت على نطاق أكثر تواضعًا، مع بيت الحكمة في بغداد. فكشأنِ الخليفة المأمون، طرح فريدريك الثاني تساؤلاتٍ عرف عنها أنه تُوجِّه قائمةً من الاستفسارات إلى الباحثين والحكام في أنحاء الإمبراطورية والعالم الإسلامي. وقد سجَّل الفيلسوف العربي ابن سبعين الإجابات التي تلقَّاها فريدريك في كتاب «المسائل الصقلية». تعد هذه الأسئلة نافذة على عقل إنسان العصور الوسطى؛ إذ تكشِف الشواغل الفكرية في ذلك الوقت وحدود المعرفة. ينبع كثير من الأسئلة من الملاحظة المُدقِّقة لعالم الطبيعة، ومثال ذلك سؤال مثل: «لماذا يبدو المِجداف أو الرمح أو أي جسم مستقيم مغمور جزئيًّا في ماء صافٍ، مُنحنيًا (أو بالأحرى: مائلًا) نحو السطح؟» ومثل: «سأل الإمبراطور عن السبب وراء أن النجم سهيل (كانوبوس في المجموعة النجمية كارينا) يبدو للعين المجردة أكبر في صعوده منه في حال حضيضه.» وعلى ما يبدو أن بعض الكتَّاب المسلمين اعتقدوا أن تلك الأسئلة طُرِحت لاختبارهم، ولكن فريدريك لم يعرف الإجابات؛ إذ كانت بمنزلة محاولات جادة لإثارة حوار فكري. قدَّم سكوت نفسُه بعضَ الردود في أحد أعماله، مُوضِّحًا أن الأرض دائرية، مثل الكرة، ولكنها مُحاطة بالماء، مثل المُح في البيضة، مُنتقِلًا إلى مناقشة الحركة البركانية، وهي ظاهرة شغلت الحكام الصقليين والزوار والباحثين لقرون.
لم يكن في أوروبا مكان أفضل للباحث من بلاط فريدريك؛ فقد كان مركز التألق الفكري، ولكنه كان مركزًا دائم التنقل باستمرار؛ من باليرمو إلى نابولي، ومن بولونيا إلى بيزا، ومن بريشيا إلى بادوا، ومن فيينا إلى فيرونا، ومن فرانكفورت إلى كونستانس، ومن برينديزي إلى القدس؛ مسار من شأنه أن يُصيب المسافر الأكثر تمرُّسًا في السفر بالدُّوار. لأول مرة في هذه القصة، كان مَركز الحياة الأكاديمية ثابتًا في موضع واحد؛ مما يزيد زيادة هائلة من فرص نقل المعرفة وتوفير شبكة جاهزة يُمكِن من خلالها للمعرفة أن تتدفق. كان مُرحَّبًا بالباحثين من كل العقائد، ما دام بمقدورهم مجاراة الأمر. وكان الأكثر عبقرية بينهم جميعًا هو ليوناردو من بيزا، المعروف باسم فيبوناتشي. تعلَّم فيبوناتشي، نتاج إمبراطورية بيزا التجارية، على يد أفضل علماء الرياضيات العرب في بوجي (مدينة بجاية الحالية)، على ساحل شمال أفريقيا، حيث كان والده يعمل لحساب غرفة التجارة التابعة لمدينة بيزا. وقد مكَّنه هذا من مزج العبقرية النظرية لجبر الخوارزمي والأعداد الهندية العربية ونظام الترميز الموضعي مع المُتطلِّبات العملية لتجارة مدينة بيزا. كشأنِ مايكل سكوت، شقَّ هذا الشاب ذو الموهبة الاستثنائية طريقَه إلى بلاط فريدريك، حيث أصدر كتبًا أصبحت أساس دراسة الرياضيات في أوروبا الغربية. يُحدِّد كتابه «كتاب العدد» (والمعروف أيضًا باسم «كتاب العد»)، المكتوب في الأصل سنة ١٢٠٢، مبادئَ الحساب وساعَد على تعميم نظام الأعداد الهندية العربية في أوروبا.
في سنة ١٢٢٧ أو ١٢٢٨، أصدر فيبوناتشي إصدارًا جديدًا من هذا الكتاب، وأملاه على مايكل سكوت، الذي كان قد طلب نسخة منه. في التمهيد، يذكُر فيبوناتشي أيضًا أنه ألَّف كتابًا يُدعى «الهندسة العملية». تُركِّز أطروحته، المستندة إلى أطروحة «العناصر»، تركيزًا خاصًّا على العناصر غير النسبية المُدرَجة في الكتاب العاشر، مُستخدِمًا الجبر بأثرٍ مُدمِّر في التفريق بين جذور المعادلات التكعيبية والمعادلات التربيعية غير النسبية. كانت تلك على ما يبدو مهمةً أوكَلها إليه باحث آخر في بلاط فريدريك، هو جون الباليرمي، وتناقَش الاثنان في هذه المعضلات الرياضية مع الإمبراطور نفسه حينما كان البلاط في مدينة بيزا.
يُظهِر الحوار بين الباحثين المسيحيين والمسلمين في هذه الفترة الكيفيةَ التي كانوا ينتقلون بها بين عالمَيهم، ليضع بعضهم تحدياتٍ لبعض، وليعملوا معًا، ويتشاركوا الأفكار ويُوسِّعوا حدود المعرفة. لم يزِد اهتمام فريدريك، الذي نشأ خلال طفولته في باليرمو، بالعالم العربي إلا عندما سافر إلى الأرض المقدسة في ١٢٢٨-١٢٢٩ وخاض التجربة بنفسه. تعجَّب من نمط الحياة المُترَف، وجرَّب ابتكارات في الصيد بالصقور، وتعلَّم لعب الشطرنج، وأُعجِب بالتركيز على العلم في بلاط السلطان؛ وعندما عاد إلى أوروبا، أخذ معه كثيرًا من هذه الإبداعات.
حافظت صقلية على مكانتها بوصفها مركزًا للتجارة المتوسطية، ولكن نجمها، في نواحٍ أخرى، كان في طريقه إلى الأفول. وإذ كان «أعجوبة العالم» يسعى إلى السيطرة على مملكته الشاسعة، ترك ديار الطفولة. ولأن النشاط الثقافي في باليرمو كان مُركَّزًا، في معظمه، داخل جدران القصر وضمن سيطرة البلاط، فقد تدهور تدهورًا كبيرًا عندما انتقل البلاط. ضَمِن تأسيس فريدريك لجامعة في نابولي استمرارَ التعلم في جنوب إيطاليا، ولكن على حساب كل من باليرمو وساليرنو. في القرن التالي، تعزَّز وضع نابولي أكثر عندما أصبحت مَقر ملك صقلية الجديد، شارل أنجو. أبقى شارل على تقاليد أسلافه فيما يتعلق بالبحث العلمي، وإن كان ذلك بطريقة متواضعة؛ فشجَّع الباحث نيكولو ريجيو على ترجمة عدد كبير من أعمال جالينوس من اليونانية إلى اللاتينية، مُتابِعًا التقليد الصقلي المُتمثِّل في تجاوُز النُّسخ العربية إذا تمكَّنوا من إيجاد نُسَخ باللغة اليونانية الأصلية. استَبقَ هذا الجانب من البحث العلمي الحركة الإنسانية بقرون عدة؛ فكما سنرى في الفصل التالي، سيُصبِح الولع بالعودة إلى مواد المصادر اليونانية الأصلية سمة مُميِّزة للعالم الفكري في عصر النهضة، على حساب إسهام البحث العلمي العربي.
كان اسم آل دي هوتفيل قد أصبح في طي النسيان منذ زمن طويل، ولكن رحلة النورمان المُذهِلة من سُرَّاقِ ماشية إلى ملوكٍ تُعَد واحدة من الحكايات العظيمة في حقبة العصور الوسطى. فقد أدَّى نطاق تأثيرهم، الذي امتد من أقصى شمال إنجلترا إلى شواطئ جنوب إيطاليا، وأبعد من ذلك، إلى الشرق الأوسط وفي قلب القدس نفسها، إلى فتح خطوط اتصال أتاحت تبادُل الأفكار على نطاق لم يَسبق له مَثيل. كان الباحثون الرحَّالة، الذين ينطلقون نحو المجهول بحثًا عن الحكمة والتنوير، بمثابة عوامل رئيسية في نقل المعرفة وتغييرها في هذا العالم الجديد المُترابِط؛ إذ كانوا يتعلمون ويُعلِّمون وينشرون الأفكار. حوَّل النورمان صقلية إلى قوة كبرى، ومركزًا في وسط منطقة البحر المتوسط، حيث كانت الأفكار تنتقل فيما بين الثقافات. وفي بلاطهم الباهر في باليرمو، أدخلوا البحث العلمي في أوروبا إلى النطاق العلماني للمرة الأولى منذ أن أصبحت الهيمنة للمسيحية، وبذلك أنشئوا نموذجًا استُنسِخ في بلاط ملوك أوروبا لقرون. وصلت تقاليد الإمبراطوريات البيزنطية والمسلمة إلى أوروبا عبر وسائل تأثيرها، مُحدِثة تغييرًا عميقًا في ثقافة البلاط الملكي ووسائل التعبير عن القوة. يقف النورمان جنبًا إلى جنب مع الخلفاء الأمويين والعباسيين ضمن المجموعة المُبجَّلة من الحكام الذين وسِعَت اهتماماتُهم الفكرية الشخصية ومواهبهم حدودَ العلم.
بحلول وقت وفاة فريدريك الثاني، في عام ١٢٥٠، كان العالم آخذًا في التغير. بدأت القوى التجارية الإيطالية العظيمة في ذلك الحين في تحديد الأوضاع الجغرافية السياسية في منطقة البحر المتوسط. وفي شمال إيطاليا، بشَّر تعاظُم دويلات المدن المستقلة بعهد جديد؛ هو عصر النهضة.
هوامش
-
(١)
وفي ذلك الطريقة التي كان يُنظِّم بها فرض الضرائب وجمعها، وجوانب من النظام القضائي وطرق تسجيل الرقيق.
-
(٢)
تُشكِّل هذه سابقة؛ اختار روجر الثاني، نجل روجر، هو الآخر الحجر البورفيري لمقبرته، وكذلك فعل بابوات لاحقون.
-
(٣)
كان أعضاء كثيرون من صفوة المسلمين واليهود قد غادروا صقلية أثناء الغزو النورماني؛ لذا تدهورَت التجارة مع شمال أفريقيا والعالم العربي، ولكنها لم تختفِ كليةً. تحوَّل التركيز إلى أوروبا المسيحية التي كانت قد بدأت تبسط هيمنتها على البحر المتوسط. يُسلِّط الضوءَ على هذا بصورة شائقة رحلةُ ابن جبير من عكا إلى صقلية في عام ١١٨٤. فقد أبحر ابن جبير على متن مركب من جنوة، مع خمسين حاجًّا مسلمًا و٢٠٠٠ حاجٍّ مسيحي. لو أن ذلك كان قبل هذا الوقت بقرن لَكانت النِّسَب قد انعكست، ولَكان المركب قد انتمى على الأرجح إلى تاجر مسلم. انظر: ترجمة آر جيه سي برودهيرست لكتاب «رحلات ابن جبير» (لندن، جيه كيب، ١٩٥٢) وكتاب سارة ديفيز سيكورد «ملتقى عوالم ثلاثة: صقلية في منطقة البحر المتوسط أوائل العصور الوسطى» (إيثاكا، نيويورك، دار نشر جامعة كورنيل، ٢٠١٧)، ص٢٣٨-٢٣٩.
-
(٤)
في ذلك الوقت، كان المسلمون لا يزالون يُشكِّلون غالبية تعداد سكان صقلية.
-
(٥)
ارتدى روجر العباءة أمام الجماهير ومن أجل الترحيب بالضيوف، ولكن نسله من آل هوهنشتاوفن، الأباطرة الرومان المُقدَّسين، كانوا يستخدمونه رداءً للتتويج.
-
(٦)
جزءٌ مما يُسمى «المجموعة الوسطى/الفلك الصغير» الذي كان يُدرَس بين أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي».
-
(٧)
لم تكن الألقاب الأخرى جذَّابة للدرجة؛ فالسلطة البابوية، التي حرَّمَته كنسيًّا أربع مرات على الأقل، دعَته «المسيح الكذَّاب» و«مُعاقِب العالم».