الفصل الثامن
فينيسيا
مكان أشبه بعالم بأكمله أكثر من كونه مدينة.
ألدو مانوتسيو
قادوني عبر أطول طريق، يُطلِقون عليه اسم القنال الكبير، وهو واسع جدًّا حتى إن
القوادس كانت على نحو مُتكرِّر يتجاوز بعضها بعضًا؛ لقد رأيت سفنًا وزنُها أربعمائة طن
أو أكثر راسيةً إلى جوار المنازل تمامًا وقد أنزلت المرساة. أعتقد أنه أجمل الطُّرق
وأحسنها بناءً في العالم ويمضي مباشرة عبر المدينة. تتسم المنازل بالضخامة والارتفاع،
وهي مَبنية من الحجارة؛ والمنازل القديمة كلها مَطلية؛ ولهذه المنازل المُنتصِبة منذ
مائة سنة واجهاتٌ من رخام أبيض من إستريا، التي تبعد نحو مائة ميل، ومطعم برخام سماقي
وصخور سربنتين. يشتمل معظم هذه المنازل على حجرتَين لهما أسقف مُذهَّبة، ومدافئ فاخرة،
وهياكل الأَسرَّة الذهبية اللون، ومداخلها من اللون نفسه، ومُؤثَّثة بأثاث فاخر للغاية.
إنها، بإيجاز، أروع المدن التي رأيتها على الإطلاق، وأكثرها احترامًا لكل السفراء
والغرباء، تُدار بأعظم قدر من الحكمة، وتخدم الرب بأقصى قدر من الإجلال.
السفير الفرنسي فيليب دي كومين (نحو ١٤٤٧–١٥١١)، مُتجوِّلًا في فينيسيا في عام
١٤٩٥
تبدأ قصة فينيسيا في القرنَين الخامس والسادس، بينما كان العالم الروماني يتعرض للانهيار
من الداخل وللهجوم من الخارج. تحوَّلت الطُّرق المُعبَّدة المستقيمة التي كانت تنقل الفيالق
الرومانية، والتجار والحُجَّاج بكفاءةٍ حول الإمبراطورية لقرون إلى سُبل للإرهاب، والجيوش
الغازيَة تسير عليها نحو روما. وفي طريقها، كانت تمرُّ بأعظم مدن شمال إيطاليا؛ أكويليا
وألتينو وبادوا، وتتوقف لا لشيء إلا لتَعيث فسادًا بفرض الحصار والسيف والنار. فرَّ أولئك
الذين تمكَّنوا من الهرب صوب البحر، حاملين المتعلقات القليلة التي تمكَّنوا من إنقاذها.
عندما وصلوا إلى حافة الماء، وجدوا أنفسهم في عالم جديد غريب. في الركن الشمالي الشرقي
من
إيطاليا، لم يكن يوجد تمييز واضح بين اليابسة والبحر، فلا أجراف لها خلجان وشواطئ، ولا
فاصل
صخري بين النطاقَين. هنا، حيث ينعطف الساحل حول أعلى البحر الأدرياتيكي، يتحد العنصران
على
مساحة شاسعة مُسطَّحة. ينزلق الماء فوق الرمال المُتموِّجة، وتظهر الجُزر وتختفي، وتنمو
غابات من البوص في أراضي المستنقعات، ويظهر الضوءُ الساطع مُتلألئًا عبر أعداد لا حصر
لها
من قطرات الماء المُتبخِّر، ويفصل سديمٌ مُتألِّق، يبدو كأنه خيالات خارقة مستحضرة في
الأفق، الزرقةَ الساطعة للسماء عن زرقة الماء الشاحبة المائلة للخضرة.
على مَدى آلاف السنين، كان النهران العظيمان، بادي وبيافا، قد رسَّبا كميات ضخمة
من
الطَّمي، المحمول من الجبال، في الخليج. شكَّلَت التيارات الطَّمي على هيئة خط مُنحنٍ
من
الأجراف الرملية، التي تجري مُوازيةً للساحل، مُكوِّنة بحيرة شاطئية ضخمة من المياه الضحلة
في المنتصف، عازلةً البحر المفتوح عن بضع قنوات يتدفق إليها الماء دخولًا وخروجًا مع
ارتفاع
المد وانخفاضه كل يوم. لم يكن مَلاذًا للطيور والأسماك والبعوض فحسب، وإنما أيضًا للاجئين
الذين تمكَّنوا من الوصول إلى الجُزر العشبية المُتغيِّرة في قوارب صغيرة مُسطَّحة القاع؛
كانت هي الزوارق الوحيدة التي يُمكِنها الإبحار في المياه المُتقلِّبة. جعل هؤلاء الناس،
الذين كانوا يتسمون بالصلابة والدأب، حياتَهم تتمحور حول هذا العالم المائي المُنبسِط،
يحميهم البحر الذي فصل بينهم وبين البر الرئيسي، ولكن في الوقت نفسه، كانت موجات المد
والجزر العالية التي كان بإمكانها أن تغمر بيوتهم في أي لحظة، تُشكِّل لهم مصدرَ تهديدٍ
مستمر، وأحيانًا تغمر المدينة إلى وقتنا هذا. تعلَّم هؤلاء الناس، الذين كانوا يُعرَفون
باسم شعب فينيتو، البقاءَ، وأخيرًا، الازدهار. اعتمدوا في تأمين احتياجاتهم من الغذاء
على
الأسماك الوفيرة في البحيرة الشاطئية وغمروا جذوع أشجار ضخمة في الماء لتكون أساسًا
لمنازلهم، وعادوا إلى المدن المُدمَّرة في البر الرئيسي للحصول على الحجارة والرخام والطوب
والخشب؛ وأي مواد بناء يُمكِنهم العثور عليها ونقلها.
بدأت مجتمعات صغيرة في النمو على مجموعة الجُزر الصغيرة في وسط البحيرة الشاطئية.
وتولَّى
حكمَ هذا المجتمع، الذي تطوَّر بنظام الحكم الخاص به، شخصٌ يُطلَق عليه مُسمَّى
dux (وتعنى القائد باللغة اللاتينية، والتي تحوَّلَت،
بمرور الوقت، إلى كلمة دوق doge)، والذي انتُخِب لأول مرة
في عام ٦٩٧ ليحكم مدينة فينيسيا الناشئة. كان الفينيسيون يتصفون بسعة الحِيلة والتصميم؛
فوضعوا جسورًا فوق قنوات المياه الضيِّقة، وأنشئوا السدود لمواجهة تيارات المد والجزر
العالية، وجفَّفوا الأرض من الماء، وبنَوا قوارب ضيِّقة مُسطَّحة القاع يُمكِنها أن تغطس
في
الماء وتنزلق عبره بسلاسة، وطوَّروا طُرقًا فعالة لتحقيق أقصى استفادة من الحياة في البحيرة
الشاطئية. ليس من المُمكِن إنتاج المحاصيل في البحر، ولكنه مَورد للربح وذلك عن طريق
إنشاء
أحواض الملح؛ وهي مناطق بها مياه ضحلة تتبخر في الشمس، تاركةً هيكتارات من المعادن
البرَّاقة، التي فصلوها ببكرات وجدَّفوا بها وصولًا إلى البر الرئيسي لمُقايَضتها بالقمح
والشعير. لقد أجبرَهم هذا الافتقار إلى الاكتفاء الذاتي على التجارة وعلى الإبحار ليس
فقط
في النهرَين الكبيرَين إلى الأسواق في كريمونا وبافيا وفيرونا، وإنما أيضًا في البحر
المفتوح على امتداد ساحل شبه جزيرة إستريا. كان التحكم في البحر الأدرياتيكي يُمثِّل
أمرًا
جوهريًّا لقدرة الفينيسيين على التجارة في البحر المتوسط والشرق، وسرعان ما أنشئوا سلسلة
من
المحطات التجارية على طول الساحل، وعرضوا الحماية على السكان من القراصنة الأشرار الذين
روَّعوا المنطقة، في مُقابِل السلطة. وفي عام ٩٩٨، أضاف دوق فينيسيا لقب قائد دالماسيا
إلى
قائمة ألقابه.
منذ البداية، كان الفينيسيون مُستقِلِّين. وقد حوَّلوا عزلتهم إلى ميزة بالابتعاد
عن
السياسة في البر الرئيسي، بينما ركَّزوا على التجارة والدبلوماسية. جغرافيًّا، كانت مدينتهم
الآخذة في النمو في موقع ممتاز بين القوتَين السياسيتَين الكبرَيَين في ذلك الوقت؛
الإمبراطورية البيزنطية شرقًا، ومملكة الفرنجة غربًا. في عام ٨١٤، أبرم سكان فينيسيا
معاهدةً عبَّرت بوضوح عن وضعهم. ربما كانوا أحد أقاليم الإمبراطورية الرومانية، ولكنهم،
كانوا، في الوقت نفسه، يدفعون خراجًا للفرنجة. كان يُمكِن لهذا أن يُؤدِّي بهم إلى الحصول
على أسوأ ما في الجانبَين، ولكنه، في الواقع، وضع الفينيسيين في مكان مُميَّز بين
الإمبراطوريتَين، والأهم أنه منحهم حقوقًا تجارية وحرية استخدام الموانئ الإيطالية. في
عام
١٠٨٢، وسَّع البيزنطيون الحقوق التجارية الفينيسية، وأعفَوهم من الضرائب والرسوم الجمركية
في سائر أنحاء الإمبراطورية، وهو ما شكَّل لحظة حاسمة أخرى بالنسبة إلى النمو التجاري
للمدينة. بحلول عام ١٠٩٩، كانت توجد تجارة توابل مُربِحة مع مصر، وكانت فينيسيا في طريقها
لإنشاء أنجح إمبراطورية بَحَرية عرفها العالم على الإطلاق.
كان الحكم المستقر الديمقراطي نسبيًّا والتنظيم الصارم والإخلاص المُطلَق للمدينة
هي
العناصر التي شكَّلَت جوهر النجاح الاستثنائي الذي حقَّقَته فينيسيا. لم يكن الإخلاص
عمليًّا فحسب، بل كان دينيًّا أيضًا. آمَن الفينيسيون بأن لمدينتهم جذورًا إلهية،
فوقَّروها، مُحقِّقين مستويات مرتفعة ارتفاعًا غير عادي من الولاء والتماسك الاجتماعي.
بينما كانت بقية أوروبا ترزح تحت نير النظام الإقطاعي، الذي في ظله كانت العائلات النبيلة
تُمزِّق أوصالها وأوصال كل من حولها في صراعات عنيفة على السلطة، ازدهرت فينيسيا باعتبارها
أول جمهورية في عالمِ ما بعد العصور القديمة. كان سكانها مُتحِدين اتحادًا وطيدًا حول
مشروع
مشترك هو تمجيد مدينتهم المحبوبة، التي أطلقوا عليها لقب «أكثر الجمهوريات سكينة». نبعَت
هذه الوحدة من تحديات الحياة في البحيرة الشاطئية. أُجبِر الفينيسيون على العمل معًا
من أجل
البقاء فحسب، من أجل التغلب على المشكلات التي واجهَتهم جرَّاء بيئتهم المُتقلِّبة. وكان
هذا الوجود المحفوف بالمخاطر يعني أنهم آثَروا الاستقرار على كل شيء آخر، وخاصةً فيما
يتعلق
بحكم المدينة. كان التنظيم والتعاون والسيطرة أمورًا ذات أهمية جوهرية لبقاء الجميع،
وسرعان
ما نشأ إطار إداري، يُشرِف عليه الدوق والنبلاء؛ أعضاء العائلات المُؤسِّسة للمدينة.
كبِرَت المدينة، ولكن ليس بالطريقة العشوائية التوسعية نفسها للمدن على البر الرئيسي؛
فكل
صف جديد من المنازل، وكل قناة، وكل ميدان كان مُخطَّطًا بعناية. وكشأن بغداد وقرطبة،
وزَّعَت فينيسيا أنواع الصناعة المختلفة على مناطق مختلفة؛ إذ كانت بِنيَتها القائمة
على
الجُزر مناسبة تمامًا لهذا الشكل من تخطيط المدن، الذي كان أمرًا مُستحدَثًا في أوروبا
في
ذلك الوقت. من المحتمل أن يكون التجار، الذين زاروا تلك المدن وأُعجِبوا بتصميمها وتنظيمها،
هم الذين جلبوا معهم هذه الفكرة إلى فينيسيا. أصبحت جزيرة مورانو مركز صناعة الزجاج عندما
نُقِلت المَسابك إلى هناك، في القرن الثالث عشر، لحماية المدينة من النيران؛ إذ شكَّلت
الأفران الهادرة التي كانت تصهر الزجاج خطرًا على مَبانيها الخشبية المُتراصَّة جنبًا
إلى
جنب بإحكام. من القرن الثاني عشر فصاعدًا، كان الركن الشمالي الشرقي من المدينة مقرًّا
للترسانة (من العبارة العربية «دار الصناعة» وتعني «مكان الإنشاء»)، ساحة السفن الفينيسية،
حيث كانت تتراوح أعداد العمال بين ٦٠٠٠ و١٦ ألف رجل، الذين كانوا يشتغلون ببناء السفن
من كل
نوع، والتي كانت تُباع وتُبحِر حول العالم. كان هذا بمنزلة القوة المُحرِّكة للإمبراطورية
الفينيسية، ومنشأ أسطولها البحري، أسطول سفنها التجارية والحربية التي كانت القوى الكبرى
تشتريها بتلهُّف طوال حقبتَي العصور الوسطى وعصر النهضة. وجاء أعظمُ تحدٍّ واجهَته الترسانة
في عام ١٢٠٤، عندما وافقَت الدولة الفينيسية على تجهيز الحملة الصليبية الرابعة بأكملها؛
الأمر الذي كان يُعَد مخاطرة مالية هائلة، ولكنها مخاطرةٌ آلَت إلى خير في النهاية. فقد
استرَد الفينيسيون السيطرة على مدينة زارا، التي تُعرَف الآن باسم زادار، ودفع لهم قادة
الحملة الصليبية أموالهم كاملةً، حتى إنهم تمكَّنوا من تدبير أمر إعادة توجيه الحملة
ضد
القسطنطينية نفسها، وما نتج عن ذلك من نهب للمدينة، قادَه الدوق الأعمى الشهير، إنريكو
داندولو، الذي زوَّد المدينة بقدر هائل من المال وأكوام من القِطَع الأثرية التي لا تُقدَّر
بثمن، وفي ذلك أربعة خيول برونزية استُنسِخت وموجودة الآن في واجهة كنيسة بازيليكا دي
سان
ماركو؛ والخيول الأصلية محفوظة بالداخل لوقايتها من تقلبات الأحوال الجوية.
ولعل من غير المُستغرَب أن فينيسيا، التي أسَّسها أناس مُبعَدون، لها تاريخ في الترحيب
بالغرباء، وأصبحت مَقصدًا للحُجاج والسياح على السواء منذ وقت مُبكِّر. فقد فتح السكان
المحليون الذين كانوا يتحلَّون بروح المبادرة خانات مثل «لوبستر»، «لونا هوتيل» و«ليتل
هورس»، وقدَّموا خدماتهم بوصفهم مُرشِدين في ميدان سان ماركو، حيث كان أصحاب الأكشاك
يبيعون
الوجبات الخفيفة والهدايا التذكارية، مثلما يفعلون اليوم. في وقتنا هذا، تُعَد السياحة
الصناعة الأكبر (والوحيدة، من عدة وجوه) في المدينة. يأتي نحو ثلاثين مليون شخص كل عام،
إلى
مدينةٍ يبلغ تعداد سكانها ٥٤ ألف نسمة فقط؛ مما أكسب فينيسيا سمعة باعتبارها ديزني لاند
إيطاليا. يأتي الزوار ليتأملوا مُتعجِّبين المدينة العائمة، ذات الطُّرق العامة المائية
والجمال الآسر. عند الوقوف في متحف «جاليريا ديل أكاديميا»، أمام لوحة من عصر النهضة
للمدينة، سيُذهِلك ضآلة التغيير الذي حدث لها. فالعمارة والجسور وزوارق الجُندول تبدو
كما
هي؛ وباستثناء الملابس المُنمَّقة، الاختلاف الملحوظ الوحيد هو أن أطباق الأقمار الصناعية
قد حلَّت محل المداخن الكثيرة على أسطح المباني. تبدو فينيسيا كأنما توقَّف عندها الزمن،
وكأنها مدينة ترفيهية تاريخية لا يُقحِم العالم الحديث فيها نفسه كثيرًا، مكانٌ يسود
فيه
الجمال والقِدَم، حيث تهالُك المباني نفسه مُشبَع بالعظمة. كثير من السياح المعاصرين
هم فقط
من زوار اليوم الواحد، حيث يصِلون على سفن سياحية يُسمَح لها بالرُّسو في البحيرة الشاطئية،
وهو أمر مُثير للجدل. ففي العصور الوسطى، كان الزائرون يمكثون وقتًا أطول كثيرًا، وغالبًا
ما كانوا يستقرون ويجعلون فينيسيا موطنهم لسنوات عديدة، وكان يُشجِّعهم على ذلك أجواء
التقبل والبيئة التجارية المُواتِية التي تتسم بها المدينة. في القرن الثاني عشر، بدأ
تدفُّق مستمر من التجار الألمان في الوصول، حيث أقاموا في منطقة مُزدحِمة بالقرب من جسر
ريالتو، حيث بنَوا، في عام ١٢٢٨، مقرَّهم الرئيسي، المعروف باسم «فونداكو دي تيديسكي».
كان
هؤلاء الشماليون المُغامِرون جزءًا من موجة من المهاجرين أحدثَت تضخمًا في تعداد فينيسيا،
الذي كان قد وصل، بحلول عام ١٣٠٠، إلى ١٢٠ ألف نسمة.
1
الجالية الكبيرة الأخرى كانت اليونانيين، الذين أتَوا للعيش والتجارة في فينيسيا بأعداد
كبيرة، وجلبوا معهم ثقافتهم القديمة ولغتهم، والأرجح أنهم كانوا أحد الأسباب وراء مجيء
الشاعر والعالم بترارك إلى فينيسيا في عام ١٣٥١. أراد أن يتعلم اليونانية حتى يستطيع
ترجمة
النصوص الكلاسيكية القديمة التي كان قد جمعها في أسفاره، والتي من شأنها أن تُقدِّم أساسًا
للحركة التي أصبحت تُعرَف باسم الإنسانية. كان بترارك صديقًا للدوق، أندريا داندولو
(١٣٠٦–١٣٥٤)، الذي يُنسَب إليه فضل المساعدة في إطلاق عصر النهضة في فينيسيا بتاريخه
المُشرِق بفضل بحوثه الوافية عن المدينة، وحظِي الرجلان بعلاقة فكرية مُفعَمة بالحيوية.
بعد
مغادرة بترارك للمدينة، استمرت هذه العلاقة عن طريق الرسائل، وهي مراسلات تابَعها أمناء
داندولو بعد وفاته؛ إذ كانوا حريصين بشدة على مواكبة التطورات البحثية العلمية في بقية
إيطاليا، حتى إنهم أقنعوا بترارك بالعودة إلى فينيسيا، آملين في أن يترك مجموعته التي
لا
مثيل لها من الكتب للمدينة عند وفاته. لسوء الحظ، أفسد الخطةَ جدالٌ حول المنطق الأرسطي
مع
بعض من النبلاء الفينيسيين. فحمل بترارك الغاضب مخطوطاته في مركب وأبحر عائدًا إلى البر
الرئيسي، ولم يعُد أبدًا.
كان بترارك من الآباء المُؤسِّسين لعصر النهضة في إيطاليا، مُلهِمًا الجيل التالي
أن يجمع
المخطوطات وأن يُشجِّع طلب العلم بأي وسيلة مُمكِنة، وكان يتراسل مع باحثٍ شابٍّ يُدعى
كولوتشيو سالوتاتي (١٣٣١–١٤١١) ويُشجِّعه، فمضى سالوتاتي في إنفاق قدر كبير مما كان يجنيه
من عمله، بصفته مستشار فلورنسا، على مجموعة تتألف من ٨٠٠ مخطوطة؛ كانت إحداها هي الترجمة
اللاتينية لكتاب «المجسطي» التي أوردناها في معرض حديثنا عن صقلية. كان سالوتاتي هو من
أرسى
فلورنسا مركزًا للحياة الفكرية في إيطاليا في القرن الرابع عشر، والسوق الرئيسي للنصوص
الكلاسيكية؛ ففي العام ١٣٩٦، دعا سالوتاتي الدبلوماسي البيزنطي مانويل كريسولوراس للمجيء
وتعليم اللغة اليونانية في المدينة؛ وهي المرة الأولى التي أُتيحَ فيها دراسة اللغة
باعتبارها مادة أكاديمية منذ أكثر من ألف عام.١
كذلك كان لدى سالوتاتي من بُعدِ النظر ما جعله يكتب إلى كريسولوراس ويطلب منه
أن يُحضِر معه أكبر قدر يُمكِنه إحضاره من المخطوطات اليونانية من القسطنطينية. أمضى
كريسولوراس ثلاثة أعوام فقط في فلورنسا، ولكن تعليمه، الذي كان ممتازًا، بناءً على رسائل
المديح التي تلقَّاها، لم يكن له أثر هائل على طلابه فحسب، بل أيضًا على الأجيال المستقبلية
التي استخدمت كتابه المدرسي لقواعد اللغة اليونانية. مثَّلَت القواميس وكتب القواعد النحوية
وغيرها من وسائل المساعدة اللغوية جانبًا حيويًّا من جوانب انتشار العلم في هذه الفترة؛
إذ
كانت ميزة هائلة لأي شخص يُحاوِل أن يتعلم لغة جديدة أو أن يُترجِم مخطوطًا. في السابق،
لم
يكُن بمقدور أحد سوى المُعلِّم أو المُترجِم (كما كان سائدًا في طليطلة وصقلية) أن يُقدِّم
هذا النوع من المعرفة. ركَّز الجزء الثاني من منهج كريسولوراس على الترجمة من اليونانية
إلى
اللاتينية، وتحاشى أسلوب الترجمة الحرفية التي كان يتبَعها المترجمون الأقدم أمثال جيرارد
الكريموني، مُفضِّلًا، عوضًا عن ذلك، التركيز على معنى النص.
كان تلاميذ كريسولوراس مُترجِمين غزيري الإنتاج؛ فكانوا يستخدمون مهاراتهم اللغوية
التي
كانوا قد اكتسبوها مُؤخَّرًا لإنتاج إصدارات جديدة مُحسَّنة من النصوص الكلاسيكية المترجمة
مباشرة من الأصل اليوناني. في الوقت نفسه، كان الباحثون الشجعان يشدُّون الرِّحال مُنطلِقين
إلى أديرة بعيدة في جبال إيطاليا آملين في العثور على نصوص قديمة مُهمَلة، استطاعت البقاء
والصمود عبر قرون في مكتبات تلك الأديرة، بل إن بعضهم، من أمثال بوجيو براشيوليني، الذي
كان
ناسخًا في الديوان البابوي، مضوا لأبعد من ذلك، مُتوجِّهين شمالًا عبر جبال الألب إلى
ألمانيا وسويسرا. في كتابه المُثير للاهتمام «الانحراف»، يصف المؤرخ ستيفن جرينبلات الرحلات
التي قام بها بوجيو، «صائد المخطوطات البارع»، إلى أديرة مثل سان جال ودير كلوني. كان
بوجيو
كاتب رسائل بارعًا؛ إذ كانت شخصيته يتردد صداها من خلال المُكاتَبات التي تبادَلها مع
أصدقائه ومَعارفه الكثيرين، وكان باحثًا واسع الاطلاع، عمل لحساب بابوات عديدين، وكان
بمقدوره أن يستشهد بكتابات شيشرون بقدر ما شاء، ولكنه أيضًا كان رجلًا كتب مجموعة من
القصص
القصيرة الماجنة، وكان يُثيره زيارة الحمامات العامة أثناء سفره في ألمانيا: «من المُضحِك
رؤية النساء العجائز الهَرِمات وكذلك الشابات يمضين عرايا إلى الماء أمام أعيُن الرجال
ويعرضن أعضاءهن الحساسة ومؤخراتهن للناظرين.»
2 كما كتب لصديقه نيكولو نيكولي.
أثمرت استكشافات بوجيو لمكتبات الأديرة في الجبال حول بحيرة كونستانس بعضَ النتائج
الجديرة بالاهتمام؛ إذ وجد بضع خُطَب مجهولة لشيشرون ومخطوطًا يحتوي على الأعمال الكاملة
لكينتيليان، وقد حظِي كلاهما بقبول حسن من رفاقه من أصحاب النزعة الإنسانية في إيطاليا.
ومع
ذلك، فقد طغى اكتشافه الأخير على كل الاكتشافات الأخرى. ففي يناير من سنة ١٤١٧، على رف
مُترِب في أعماق مكتبة بأحد الأديرة، وجد بوجيو نسخة من كتاب «في طبيعة الأشياء»، للفيلسوف
الروماني لوكريتيوس؛ وهو كتاب لم يكُن قد رأى النور لقرون، وكان الناس يتداولون عنه شائعات
فحسب. احتوت هذه القصيدة الغنائية الملحمية المُعقَّدة، التي كانت الكنيسة تَدِينها وتقمعها
لأكثر من ألف سنة، على أفكار كانت مُتمرِّدة جدًّا، وتُهدِّد النظام القائم بشدة؛ لذا
كان
بقاء هذا العمل في حد ذاته بمثابة معجزة.٢
كان لوكريتيوس (٩٩–٥٥ق.م) أبيقوريًّا، يتبَع مدرسة فلسفية تأسَّسَت في اليونان في
القرن
الثالث قبل الميلاد، على أساس الاعتقاد (الذي تبيَّن بعد ذلك أنه كان ينطوي على رؤية
ثاقبة
مُتبصِّرة) بأن كل شيء في الوجود يتكون من لَبِنات بناء صغيرة جدًّا. أطلق الأبيقوريون
على
هذه اللَّبِنات اسم «الذرات»؛ شيءٌ بالغ الصِّغر فلا يُمكِن تقسيمه أكثر من ذلك، ولا
يُمكِن
خلقه ولا تدميره. في كتاب «في طبيعة الأشياء» يتبنى لوكريتيوس بحماسةٍ هذا الطرح ومجموعة
الأفكار التي تستند إليه وهي: لا يوجد خالق ولا تدبير إلهي؛ وكل شيء في الخليقة قد تطوَّر
ويستمر في التطور والتكيف والتكاثر؛ والإنسان مجرد كائن من ملايين الكائنات الحية على
الكوكب وليس له دور محوري أو مُتفرِّد في الكون؛ وليس ثمةَ حاجةٌ إلى الخوف من الموت؛
لأن
الروح تموت ولا توجد حياة بعد الموت. لا تزال هذه الأفكار تُثير قدرًا كبيرًا من الجدل
في
بعض الأجزاء من العالم إلى يومنا هذا؛ لذا تخيَّل إلى أي مدًى كانت بالتأكيد خطيرة
ومُؤثِّرة على ما يبدو في مجتمعٍ كان يخضع بأكمله لسيطرة وحكم الكنيسة المسيحية. فيما
يتعلَّق بالدين، كان كتاب «في طبيعة الأشياء» يتسم بالصرامة: «كل الأديان المُنظَّمة
هي
عبارة عن أوهام خرافية … وتتسم دومًا بالقسوة.» يرى الأبيقوريون أن «الهدف الأسمى للحياة
البشرية هو زيادة المتعة وتقليل الألم»؛ وهو مبدأ يتناقض تناقضًا مباشرًا مع الرسالة
المسيحية التي تقول إن المعاناة في هذا العالم تُكسِبك سرورًا في العالم الآخر.
3 حوَّر الكُتَّاب المسيحيون هذه الفكرة ليصِفوا الأبيقوريين بأنهم فاسقون وعديمو
الأخلاق، ولا يهتمون إلا برغباتهم المنحطة. في نواحٍ كثيرة، تظهر القصيدة وكأنها بيان
لمنهجية العلم الحديث، وهي تتسم برؤية بعيدة المَدى لدرجة أننا ما زِلنا لم نفهم فهمًا
تامًّا أو نستكشف تمامًا كل الأفكار التي تُناقِشها. كان لدى بوجيو نسخةٌ كُتِبت في مكتبة
الدير وأرسلها إلى صديقه، نيكولو نيكولي، الذي دوَّن نسخته الخاصة بطريقة جميلة، وهي
عملية
استغرقت مدة طويلة بلغت أربعة عشر عامًا. أصبحت مَطالب بوجيو بعودة القصيدة مشحونة على
نحوٍ
مُتزايِد، وما إن تلقَّاها أخيرًا، حتى بدأ تداوُل نُسَخ منها وبدأ شعر لوكريتيوس الآسِر
في
التدفق عبر شبكات أوروبا الفكرية، مُعاوِدًا الظهور في كل أنحاء القارة؛ في الجمال السريالي
للوحة بوتيتشيلي «مولد فينوس»، ومعالجة ميشيل دي مونتين للجنس والموت في «المقالات»،
و«الذرات الصغيرة المؤتلفة» التي تصاحب الملكة ماب في مسرحية «روميو وجولييت».
4 بقيَت خمسون مخطوطة من كتاب «في طبيعة الأشياء» من القرن الخامس عشر، وهو عدد
ضخم، يُبيِّن شعبيته؛ التي ازدادت أكثر عندما طُبِع العمل للمرة الأولى، في مدينة بريشيا،
نحو سنة ١٤٧٣-١٤٧٤. وتَبِع هذا إصدارات في فيرونا سنة ١٤٨٦ وفينيسيا سنة ١٤٩٥، ونشرت
دار
ألدين للطباعة أنجح هذه الإصدارات كلها في عام ١٥٠٠.
كان كتاب «في طبيعة الأشياء» مثالًا نادرًا لنص لاتيني يحتوي على أفكار علمية، ولكن
العلماء الذين كانوا مهتمين بالرياضيات، أو الفلك، أو الطب عرفوا أنهم كانوا بحاجة إلى
التركيز على العثور على مخطوطات يونانية؛ ومن أجل هذه المخطوطات، ولَّوا وجوههم صوب الشرق،
وكانت فينيسيا، بإمبراطورية التجارة الشاسعة التابعة لها، التي تشمل معظم الجُزر في بحر
إيجه، وموانئ في الشرق الأوسط وجالية نشطة في القسطنطينية نفسها، في وضع لا يُضارَع يُتيح
لها المساعدة. استكشف المسئولون الفينيسيون، الذين كانوا مُتمركِزين في مواقعهم على هذه
الجُزر بصفتهم قضاة وحكامًا محليين، بأنفسهم قيمةَ التعليم اليوناني، المُستنِد إلى دراسة
أعمال الأدب الكلاسيكي والفلسفة والعلوم باللغة اليونانية الأصلية؛ فاشتروا مخطوطات وجلبوها
معهم لدى عودتهم إلى فينيسيا، ورسَّخوا دروس اللغة بوصفها جزءًا من المنهج الدراسي في
مدارس
المدينة التي كانت تتبع النزعة الإنسانية، وكتبوا تعليقات، وعملوا على طباعة المخطوطات،
وجمعوا ذخيرة من النصوص اليونانية. في عام ١٤٦٣، أُنشِئ كرسي للُّغة اليونانية في جامعة
بادوا، المركز الوحيد للتعليم العالي في نطاق فينيسيا والمكان الذي كان النبلاء يُرسِلون
أبناءهم إليه ليستكملوا دراساتهم. مع مرور سنوات هذا القرن، تعزَّزَت تدريجيًّا جودة
تعليم
النبلاء وزاد اهتمامهم بالأفكار الكلاسيكية.
انضم الباحثون من خلفيات طبقية أدنى، سواء كانوا فينيسيين أصليين أو زوارًا، إلى الدوائر
الفكرية للنخبة ولعبوا دورًا في إثرائها. ووصل اليونانيون بأعداد كبيرة أثناء العقود
السابقة والشهور التي تلت مباشرةً استيلاءَ الأتراك على القسطنطينية، في عام ١٤٥٣. لم
تعُد
المدينة القديمة آمنة لسكانها المسيحيين، وعندما فرُّوا غربًا، كانت فينيسيا، بعلاقاتها
الوطيدة مع الشرق الأدنى اليوناني، الوجهة الواضحة. هنالك، وجدوا مواطنين يونانيين
وإيطاليين ناطقين باليونانية وموقفًا مُنفتِحًا تجاه وطنهم الأم. عند مغادرتهم القسطنطينية،
أخذوا معهم أقيَم وأعز مُقتنَياتهم؛ الذهب والجواهر، بديهيًّا، والأعمال الفنية، والمال،
والأشياء الخاصة بالعبادة، والكتب. كانت واحدة من أهم وأخطر حالات تبعثر المخطوطات في
التاريخ. انتُزِع آلاف من النصوص التي كانت قد أُبقِيت في أمان بالمكتبات القديمة بالمدينة
في شبه جزيرة القرن الذهبي من رفوفها وعُبِّئت في صناديق خشبية، ثم دُحرِجت على عربات
يد
إلى الميناء وحُمِّلت في السفن التي أقلَّت مالكيها إلى المَنفى في أوروبا. عندما وصلت
هذه
المخطوطات إلى إيطاليا، كان الباحثون أصحاب النزعة الإنسانية في انتظارها، والريشات في
أيديهم، جاهزين لنسخها وترجمتها وتحريرها، لإنتاج أفضل وأدق نُسَخ لإعادة اكتشاف الحكمة
النقية لليونانيين القدماء، التي لم تُفسِدها القرون المُنصرِمة.
من بين كل العلماء العظام الذين وصلوا من الشرق في هذه الحقبة، كان الأشهر هو باسيليوس
بيساريون (١٤٠٣–١٤٧٢)، من طرابزون، على ساحل البحر الأسود. كان بيساريون قد تلقَّى أفضل
تعليم مُتاح في القسطنطينية، ثم درس الفلسفة الأفلاطونية المُحدَثة في بيلوبونيز مع الحكيم
الذائع الصيت جيمستوس بليثو. سرعان ما ارتقى بيساريون، الذي كان باحثًا موهوبًا يتمتع
بملَكة الدبلوماسية، التدرُّج الهرمي للكنيسة الأرثوذكسية، وفي ثلاثينيات القرن الخامس
عشر،
أُرسِل إلى إيطاليا ضمن وفد للتفاوض بشأن إعادة توحيد الكنيستَين الشرقية والغربية. كانت
رغبته في إعادة توحيد العالمَين اليوناني واللاتيني هي المُلهِم لكل جانب من جوانب مَسيرته
المهنية الطويلة والمُدهِشة؛ كان بمنزلة قناة اتصال لنقل الناس والأفكار والكتب من بيزنطة
إلى إيطاليا، ومن اليونانية إلى اللاتينية. في خضم اضطلاعه بهذا الدور، أنقذ قطاعات كبيرة
من الثقافة اليونانية التي لولا ذلك لَكان الغزاة الأتراك العثمانيون قد دمَّروها. أُعجِب
الإيطاليون ببيساريون إعجابًا كبيرًا حتى إن البابا إيجين الرابع جعله كاردينالًا، وهو
شرف
غير مسبوق لرجل دين أرثوذكسي، وشكَّل تنصيبه مؤشرًا على دخوله إلى الحياة الإيطالية
رسميًّا؛ فانتقل إلى منزل فخم على طريق أبيان، في روما، كانت غُرَفه جيدة التهوية وشُرفاته
الظليلة تعجُّ بالمهاجرين اليونانيين الذي كانوا قد وصلوا لتوِّهم من القسطنطينية، كان
من
بينهم باحثون شُبان مَهَرة، منهم العظماء، ومنهم الجيدون ومنهم المثقفون. في ظل رعايته
الكريمة والمُلهِمة، أصبح المنزل أكاديمية غير رسمية للنزعة الإنسانية، تحوي عددًا من
أضخم
وأثمن مجموعات الكتب في أي مكان في أوروبا. أقام الكاردينال مَنسخًا في منزله لتزويد
مجموعته ومن كانوا يزورونه بالمخطوطات، وعمل جنبًا إلى جنب مع الباحثين، وتزخر هوامش
كثير
من المخطوطات التي امتلكها بملاحظات كتبها بيده. كما أنتج تراجمه الخاصة به، وتماشيًا
مع
رغبته العامة في الوحدة، كتب أطروحةً سعَت إلى إحداث تناغُم بين الفلسفة الأرسطية وفلسفة
أفلاطون. ومع ذلك فإن أعظم آثاره هي مكتبته «الأكثر ثراءً في كل المكتبات التي تشكَّلَت
أثناء عصر النهضة»،
5 التي احتوت على بعضٍ من أندر وأثمن المخطوطات التي بقيت إلى يومنا هذا.
كان مَنصب بيساريون بصفته مبعوث البابا يعني أنه كان يسافر أسفارًا واسعة النطاق،
وأينما
ذهب، كان دائم البحث عن علماء يتشابهون معه في الميول والأفكار وعن كتب جديرة بالاهتمام.
في
عام ١٤٦٠ كان في فيينا، حيث التقى بعالمَي فَلك موهوبَين هما جورج فون بيورباخ (أو
بيويرباخ) ويوهان مولر (الذي يُعرَف باسم ريخيومونتانو). كان من شأن هذا اللقاء أن يُؤدِّي
إلى عواقب بعيدة المَدى ليس على المشاركين فيه فحسب، وإنما على التطور العام للعلم. كان
بيورباخ هو مُعلِّم ريخيومونتانو، الذي كان باحثًا لامعًا، درس في إيطاليا خلال شبابه
ورفض
عروض عمل من جامعات بولونيا وبادوا. وعاد، بدلًا من ذلك، إلى موطنه النمسا من أجل تدريس
ودراسة النجوم. كانت نسخته الهائلة من «جداول ألفونسين»، المُحدَّثة بعمليات الرصد التي
أجراها، هي الأحدث في السلسلة الطويلة من جداول النجوم التي التقينا بها. كان هذا عمل
بيورباخ الأعظم. كان ريخيومونتانو، الذي قُبِل في الجامعة وهو بعدُ غضٌّ في الثالثة عشرة
من
عمره، بلا شك ألمع تلاميذ بيورباخ وأبكرهم نضوجًا، وسرعان ما صار شريكه الأكاديمي؛ فقاما
معًا بعمليات رصد، مُلاحِظين ظهور مذنب هالي في يونيو عام ١٤٥٦، وناقشا عملهما بلا توقُّف،
وكذلك عمل علماء الفلك الآخرين. كلَّفهما بيساريون بإنتاج إصدار جديد مُوجَز من كتاب
بطليموس «المجسطي» يُمكِن استخدامه في التدريس؛ فشرعا في العمل من فورهما، ولكن بيورباخ
مات
فجأةً في العام التالي، ولم يكن عمره قد تجاوَز السابعة والثلاثين؛ لذا تابَع ريخيومونتانو
العمل وحده، وأكمله في عام ١٤٦٢.
لعب كتاب «الملخص» دورًا محوريًّا في نقل كتاب «المجسطي». كان الكتاب، الأيسر في
التناوُل
بسبب طوله (نصف طول الكتاب الأصلي)، واضحًا للغاية وجيد التنظيم؛ ومِن ثَم «أتاح لعلماء
الفَلك فهمًا لكتاب بطليموس لم يكونوا قد تمكَّنوا في السابق من تحقيقه».
6 اشتمل الكتاب على نظريات من مجموعة كبيرة من علماء الفلك، من بينهم ثابت بن قرة
والزرقالي ومؤلفو «جداول طليطلة»، وكان يستند إلى ترجمة جيرارد الكريموني اللاتينية لعمل
بطليموس العظيم، ومُكمِّلًا بتفاصيل من المخطوط اليوناني الأصلي المملوك لبيساريون.
٣
كان هذا هو المخطوط نفسه الذي كان هنريكوس أريستبوس قد جلبه إلى صقلية من
القسطنطينية؛ وهو موجود اليوم في مكتبة سانت مارك الوطنية في فينيسيا. في عام ١٤٩٦، أي
بعد
ثلاثين عامًا فقط من انتهاء ريخيومونتانو منه، طُبِع «الملخص» في فينيسيا، وأصبح كتابًا
دراسيًّا مُعتادًا في المنهج الدراسي للجامعة وأتاح لعلماء الفَلك المستقبليين، كوبرنيكوس
وبراهي وكيبلر وجاليليو، إمكانيةَ الاطلاع على عبقرية نظام بطليموس، والأهم من ذلك الاطلاع
على أخطائه. وخلال معالجتهم لهذه المشكلات المُحدَّدة، توصَّلوا إلى حلول مُبتكَرة دفعت
علم
الفَلك قُدمًا نحو عهد جديد من الفهم.
تمكن بيساريون من إقناع ريخيومونتانو بالعودة معه إلى إيطاليا حتى يتمكنا من متابعة
العمل
معًا. كانت علاقتهما واحدة من أهم وأخصب العلاقات العلمية البحثية في ذلك الوقت؛ إذ علَّم
بيساريون ريخيومونتانو اليونانية، بينما تشارَك ريخيومونتانو مع راعيه فهمَه الواسع
للرياضيات والفلك، وكتب ملاحظات على مخطوطات أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي» ليُفسِّر
مُسلَّمات إقليدس ونموذج بطليموس للكواكب. وصلا إلى منزل الكاردينال في روما في العشرين
من
نوفمبر سنة ١٤٦١، وألقى ريخيومونتانو أول نظرة له على مكتبة راعيه المُذهِلة، التي
«باستثناء أعمال ببس الرومي … احتوت على كل مصدر كلاسيكي أساسي لنهضة الرياضيات».
7 لا بد أنه كان حدثًا هائلًا في حياة عالم الفلك الشاب؛ فعندما كان ريخيومونتانو
شابًّا، أسعده الحظ بالدراسة تحت إشراف بيورباخ، الذي لم يتشارك معه ولعَه بالعلم فحسب،
وإنما كان قد زار إيطاليا ودونما شك أحضر معه لدى عودته كتبًا لم تكن متاحة في أي مكان
آخر
في النمسا. لا بد أن الوصول إلى روما لأول مرة كان تجربة مُدهِشة، من رؤية للخرائب
الكلاسيكية المُتناثِرة عرضًا في أنحاء المدينة، والشعور بأصداء الماضي القديم في كل
مكان.
وما كان منزل بيساريون ليُخيِّب توقُّعه؛ من باحثين يشحنون الجو بجدالٍ مُحتدِم باليونانية
والإيطالية واللاتينية؛ والمَنسخ بصفوف طاولات كان يجلس إليها النُّساخ وينقشون على رزم
من
جلد الرَّق والورق؛ ثم بعد ذلك الكتب؛ إذ وجد مئات منها، تملأ خزائن في الحوائط، بعضها
جديد
تمامًا، وبعضها قديم. لا بد أن مَشهدها بهَر ريخيومونتانو.
لم تكُن مكتبة بيساريون هي المجموعة الرائعة الوحيدة في روما في ذلك الوقت؛ ففيما
بين
عامَي ١٤٤٧ و١٤٥٥، كانت مكتبة الفاتيكان قد تحوَّلت على يد البابا المُنتمي إلى حركة
النزعة
الإنسانية نيكولاس الخامس، الذي كان مُعجَبًا ولِعًا بالتعليم الكلاسيكي وتلميذًا سابقًا
لكريسولوراس. كان يجتذب جامعِي الكتب والباحثين من كل أنحاء إيطاليا للمجيء والدراسة
في
الديوان البابوي، وأرسل وكلاء إلى الدنمارك وألمانيا واليونان بحثًا عن نصوص جديدة، فزادت
مقتنيات المكتبة من عدد ضئيل بلغ ٣٤٠ مجلدًا إلى ١١٦٠ عندما وافَته المَنية.٤
كانت النصوص اليونانية تُترجَم بانتظام على يد فريق ضمَّ بوجيو وشريكه القديم
صائد المخطوطات جيوفاني أوريسبا ولورينزو فالا وكثيرًا من الباحثين اليونانيين الذين
وصلوا
حديثًا من القسطنطينية. تحت إرشاد نيكولاس الخامس، كانت مكتبة الفاتيكان قد وُضِعت على
مَسار التحول إلى أكبر مستودعات النصوص في العالم قيمةً وإثارةً للإعجاب؛ فهي تحوي اليوم
٦٠
ألف مخطوطة و٨٠٠٠ من كتب المراحل الأولى لعصر الطباعة. كان بيساريون مُشارِكًا عن كَثَب
في
هذا المَسعى، ناصحًا ومُشجِّعًا صديقه. عرف البابا والكاردينال بعضهما بعضًا جيدًا، وبقدرِ
ما جمعهما مَنصباهما في الكنيسة، جمعهما وَلعُهما بطلب العلم، وبالرياضيات تحديدًا.٥
طوال الأعوام القليلة التالية، جاب ريخيومونتانو أنحاء إيطاليا، وكان ذلك في أغلب
الأحيان
بصحبة بيساريون، مُلتقِيًا بالإنسانيين العظام في ذلك الوقت؛ ليوناردو بروني وليون باتيستا
ألبيرتي وتوسكانيلي وآخرين غيرهم. وألقى سلسلة من المحاضرات في بادوا عن «كل تخصصات علم
الرياضيات»؛ وفي ذلك الفلك العربي، والجهد الذي بذله بشأن كتابات أرشميدس، والكثير غير
ذلك
بلا شك. زار ريخيومونتانو فينيسيا مع بيساريون، عندما أُرسِل الكاردينال إلى هناك مُوفَدًا
باباويًّا، وزار أيضًا فيتيربو (حيث قام بعمليات الرصد الفلكي خاصته)، وفيرارا وربما
أيضًا
فلورنسا. كذلك وجد مُتسَعًا من الوقت ليكتب عملًا رائدًا عن حساب المثلثات. ومع ذلك،
بحلول
عام ١٤٦٧، كان قد ودَّع الكاردينال وعاد إلى النمسا، وربما ما دفعه إلى العودة هو رغبة
في
مشاركة المعرفة التي اكتسبها مع مواطنيه، كما فعل مُرشِده، بيورباخ من قبله.
كان بيساريون قد زار فينيسيا مراتٍ كثيرة وافتُتِن بسِحر المدينة الواقعة على البحيرة
الشاطئية. فبصفته مُوفَدًا، كان قد أقام في الدير البندكتي على جزيرة سان جورجيو ماجيوري،
ومن هناك كان بمقدوره أن يتطلع عبر مياه البحيرة الشاطئية الباهتة نحو ساحة قصر الدوقية
وواجهته الجديدة، تتألق تحت أشعة الشمس، ولكن لم يكن جمال فينيسيا وحده هو ما أعجبه.
فقد
كان مُعجَبًا بنظام الحُكم الفريد — «أكثر الجمهوريات سكينة» — وفتَنه تقارُبها مع وطنه.
في
عام ١٤٦٨، كان الكاردينال في الخامسة والستين من عمره، وكان قد بدأ يُفكِّر فيما يُمكِن
أن
يحدث لمجموعة كتبه الآخذة في الازدياد عندما يُفارِق الحياة. كان الفاتيكان، القريب جدًّا
من منزله في روما، هو الاختيار الواضح. كذلك فكَّر في فلورنسا، موطن كثير من رموز عصر
النهضة الريادية الفاعلة، الذين كانوا رائدين في استخدام الرياضيات في الفنون. كانت قبة
برونليسكي الثُّمانية الأضلاع، المستوحاة من العمارة الكلاسيكية والتي أمكن بناؤها بفضل
الهندسة التطبيقية، ورافعات ضخمة، قد اكتملت منذ وقت قريب، بينما كانت إعادة اكتشافه
للمنظور الخطي تُحدِث تحولًا في طريقة تصوير الفنانين للعالم، ولكن الرب أنعم بالفعل
على
فلورنسا بمجموعة كتب رائعة، أشهرها تلك الكتب التي أنشأتها عائلة ميديشي الحاكمة؛ مكتبة
عامة في دير سان ماركو ومكتبة خاصة في منزلهم. لم تمتلك فينيسيا شيئًا مُماثِلًا؛ ومِن
ثَم
عزم بيساريون على أن يُوصِي بمجموعته الثمينة للمدينة، وكتب إلى الدوق كريستوفورو مورو:
تتجمع تقريبًا كل شعوب العالم في مدينتك، ويفعل اليونانيون ذلك بالأخص. حالَ
وصولِهم عن طريق البحر من بلدانهم ينزلون أولًا في فينيسيا، تُجبِرهم الضرورة على
المجيء إلى مدينتكم والعيش وسطكم، وهناك يبدو الأمر كأنهم يدخلون بيزنطة أخرى. وفي
ضوء ذلك، لا أجد من أحدٍ أُقدِّم له هذه الوصية أنسبَ من الفينيسيين الذين أَدينُ
لهم أنا نفسي ومُلتزِم نحوهم بموجب التزام بسبب أفضالهم المعروفة على شخصي، وعلى
مدينتهم، التي اخترتُها بلدًا لي بعد إخضاع اليونان والتي استُقبِلتُ فيها وعُرِفت
على نحوٍ مُشرِّف.
8
وما أن اتُّفِق على الشروط، حتى وقَّع على صك الهبة. ففي مُقابِل «تسعمائة مجلد ممتاز
باليونانية واللاتينية، تُساوي نحو ١٥ ألف دوقية»،
9 من شأن الدولة الفينيسية أن تُقدِّم مبنى مكتبة مناسبًا لإيواء الكتب، ولجعلها
متاحة «للطلاب من كل الأمم»،
10 ولكفالة عدم إخراجها من المدينة.
في أواخر القرن الخامس عشر، كانت فينيسيا في أوج تفوُّقها التجاري. كان يُقال إن
أي شيء
حلمت به يُمكِنك شراؤه هناك. وحسبما أورد أحد الزوار، كانت ساحة سان ماركو هي «سوق
العالم».
11 لا بد أنها كانت تذهب بعقول المسافرين القادمين من شمال أوروبا، الذين كانت
تنهال عليهم الحشود والباعة المُتجوِّلون والمُرشِدون والمحتالون والشحاذون ورائحة القنوات
الكريهة ورائحة التوابل والغناء الحزين لقائدي مراكب الجندول واصطدام الماء المستمر
بالصخور. كل عام، كان معرضٌ رائعٌ يملأ الساحة لأسبوعَين صاخبَين. وكان الآلاف يتوافدون
ليُحدِّقوا ببلاهة في تجار من جهات الأرض الأربع يستعرضون سلعهم الغريبة، وحِرَفيين محليين
يبيعون مرايا لامعة، ودانتيل مكشكش وآنية زجاجية رقيقة تلألأت بكل لون من ألوان قوس قزح.
كانت المدينة هي عاصمة الرفاهية في العالم، ومُورِّدة الموضة وملكة التجارة. كانت ساحة
سان
ماركو ممتلئة دائمًا بالتجار، ولكن مركز الأعمال الحقيقي في المدينة كان منطقة ريالتو.
في
القرن الحادي عشر، أنشأت الحكومة مَكاتب تُنظِّم الشئون الاقتصادية وكبِر حجم السوق.
بعد
ذلك بمائة عام، كانت قد تطوَّرَت إلى سوق مُترامية الأطراف، بأروقة تضم محالَّ متخصصة
حول
الأطراف، وبنوكًا خاصة، ومخازن ومراسي على القناة، حيث كانت البضائع باستمرار تُحمَّل
وتُفرَّغ.
موَّلت الثروات الهائلة التي نتجَت عن نجاح فينيسيا الاقتصادي بناءَ قصور شاسعة على
ضفاف
القنال الكبير، عُرِفت باسم casas أي المنازل. وقد اختُصِرت
الكلمة إلى Ca’ في اللهجة الفينيسية التي تتسم بتقطُّع
الصوت. كانت توجد بيوت خاصة ومَكاتب عامة لسلالات النبلاء العظام، حيث كانوا يأكلون مع
أطفالهم ويعقدون الصفقات مع التجار القادمين من الخارج. كان المَظهر هو كل شيء، فلم يكن
ثمةَ حاجةٌ لبناء قلاع مُحصَّنة وحفر خنادق في مدينة محاطة بالمياه. ومنح هذا المعماريين
والبنَّائين الفينيسيين حرية التركيز الكامل على الجمال والشكل. تنافسَت عائلات النبلاء
على
امتلاك أروع الواجهات ذات الشُّرفات المُغالى فيها والنقوش الغنية بالتفاصيل. وبالغَت
عائلة
بون في هذه المنافسة أيَّما مبالغة بجعل الأسوار الخارجية لقصرهم مَطلية بالذهب؛ مما
أكسبه
لقب «منزل الذهب».
أصبح الانحطاط والبذخ سمتَين مميزتَين لحياة النبلاء، ولكن كذلك كان حال الثقافة والبحث
العلمي، اللذَين واصَلوا السعي فيهما بلا خجل، داعين ألمع الباحثين إلى المجيء والعمل
في
المدينة. درس النبلاء الفينيسيون الشبان في البيت على يد مدرسين خصوصيين وفي المدارس
التي
أُنشِئت مؤخرًا، التي اتبعت المنهج الدراسي الإنساني، فدرَّسَت اللغة اليونانية إلى جانب
مواد أكثر تقليدية، مثل الخطابة والمنطق. وعندما أُنشِئت مدرسة للفلسفة في حي ريالتو،
سنة
١٣٩٧، كانت الرياضيات جزءًا لا يتجزأ من هذا المنهج. أعدَّت هذه المؤسسات تلاميذها للدراسة
في جامعة بادوا، التي حظِيَت، في منتصف القرن الخامس عشر، بسمعة ممتازة فيما يختص بتدريس
الفنون وكذلك الطب. سافر الباحثون من كل أنحاء أوروبا لدراسة الفلسفة الأرسطية الطبيعية،
وأول بضعة كتب من أطروحة «العناصر» لإقليدس وأجزاء من كتاب «المجسطي». في الطب، كانت
الكتب
الرئيسية لجالينوس وأبقراط، بالإضافة إلى أقسام مُعيَّنة من ترجمة جيرارد الكريموني لكتابَي
«القانون» لابن سينا و«الحاوي» للرازي.
كانت بادوا قد صارت تحت الحكم الفينيسي في عام ١٤٠٥، وابتداءً من عام ١٤٠٧، حُظِر
على
شُبان فينيسيا الدراسة في أي مكان آخر في إيطاليا، وهو مثال تقليدي على حاجة الدولة إلى
السيطرة، ولكن كان لهذا أيضًا آثاره الإيجابية؛ إذ كفل تبادلًا مستمرًّا للأفكار بين
المكانَين. شجَّع تأثير بادوا المفكرين الفينيسيين على التركيز على العلوم، على العكس
من
عاصمتَي ثقافة عصر النهضة الأخرَيَين، فلورنسا وروما، حيث كانت السيادة والأفضلية للفن
والعمارة والفلسفة والأدب. فكَونُهم تجارًا وملاحين، كان الفينيسيون براجماتيين، يُولُون
اهتمامهم لتطبيق الأفكار العلمية على المعضلات العملية التي كانوا يُصادِفونها في الملاحة
والمحاسبة وبناء القوارب والحِرَف اليدوية. ومع ارتفاع حجم التجارة وازدياد المعاملات
تعقيدًا، تزايَد احتياج التجار إلى مستويات مُتطوِّرة من المعرفة الرياضية. كانت أوسع
تطبيقات النظريات الرياضية انتشارًا في الحياة اليومية هي نظرية فيبوناتشي في الحساب،
التي
وضعها في كتابه المُسمَّى «كتاب العد». كان يُدرَّس في المدارس في كل أنحاء شمال إيطاليا،
فكان يُجهِّز الشباب بمهارات محاسبية، وأساسيات الجبر والهندسة الأولية. وحسب الكاتب
جيوردانو كاردانو، بقيَت أفكار فيبوناتشي الأكثر صعوبة، الجبر المُعقَّد ونظرية العدد
المتعلقة بمتتاليته الشهيرة، في حالة سُبَات لثلاثة قرون، إلى أن عثر باحث بيروجي شابٌّ
يُدعى لوكا باتشولي (١٤٤٧–١٥١٧) بالصدفة على نسخة من مخطوطة «كتاب العد» في مكتبة كنيسة
سان
أنطونيو دي كاستيلو، في فينيسيا. استوعب باتشولي هذه الأفكار وأدرجها في كتاب «ملخص
الحساب»، الموجز الرياضي الوافي الضخم الذي جمَّعه، فوجَّه انتباه الأجيال التالية من
الباحثين إلى تلك الأفكار.
كان باتشولي في المدينة يعمل مُدرِّسًا خصوصيًّا لعائلة فينيسية نبيلة، ويَحضُر محاضرات
في «مدرسة ريالتو» في وقت فراغه. نحو عام ١٤٧٠، غادر إلى روما، وأخيرًا أصبح راهب
فرانسيسكان، مُكرِّسًا نفسه لحياة قائمة على التنقل، ولكن يبدو أنه أمضى وقتًا طويلًا
يدرس
الرياضيات بقدر الوقت الذي أمضاه في الكرازة بكلمة الرب. كان بترارك وبوكاتشيو وغيرهما
من
الإنسانيين الأوائل قد شجَّعوا اللغة الإيطالية، وتابَع باتشولي هذا، بالدعوة إلى الترجمة
من اللاتينية إلى الإيطالية، وإلى أن تُكتَب الأعمال الجديدة بالعامية. آمَن باتشولي
بأنه
ينبغي أن يحصل الجميع على الفرصة لتعلُّم الهندسة والحساب، وسانَد أيضًا اتِّباع الأعداد
الهندية العربية. ونتيجةً لذلك، يحتلُّ مكانة فريدة فيما يتعلق بانتشار الأفكار الرياضية
أثناء عصر النهضة. كان باتشولي الباحث المُتجوِّل الأساسي، وجعله نمطُ حياته القائمُ
على
التنقل واحدًا من أفضل الرجال ذوي العلاقات في عصره، ومُرحَّبًا به في كل بلاط نبيل وكل
جامعة في شمال إيطاليا؛ فأقام مع المعماري ليون باتيستا ألبيرتي في روما، وزار نابولي،
وفي
فلورنسا عاش مع ليوناردو دافنشي لبعض الوقت، ويحمل اللقب المهم، وإن كان غير شائق، وهو
لقب
«أبو المحاسبة»، بفضل تفسيره الواضح لما كان يُعرَف باسم «طريقة فينيسيا» (تُعرَف الآن
باسم
مسك الدفاتر بنظام القيد المزدوج)، التي كانت تستخدمها أجيالٌ من التجار. كانت اهتمامات
باتشولي الرياضية واسعة اتساعًا خاصًّا؛ فكتب في الحساب، وكان خبيرًا في إقليدس وكان
يُلقي
محاضرات بصفة مُنتظِمة عن أطروحة «العناصر»، واضعًا صِيغًا جديدة بكل من اللغتَين اللاتينية
والإيطالية، وجمع كل معرفته في عمله العظيم، «ملخص الحساب»، المكتوب بالإيطالية حتى يكون
مُيسرًا على أكبر قدر مُمكِن من الناس، ونُشِر في فينيسيا، في عام ١٤٩٤. يُعَد هذا الكتاب
تجميعًا بارعًا لموضوعات عملية، مثل الأوزان والقياسات، مع المزيد من المجالات النظرية،
مثل
الجبر والهندسة، ولا يُعَد عملًا مُبتكَرًا، ولكن كان له تأثير هائل في القرن التالي
بأن
قدَّم للباحثين مُلخَّصًا مُفيدًا لنظريات إقليدس والخوارزمي وفيبوناتشي. شدَّد باتشولي
على
أهمية الدراسة والتطبيق العملي للرياضيات للمِهَنيين كالمسَّاحين والنجارين والنقاشين
والمعماريين، جامعًا العناصر العملية والنظرية للرياضيات معًا من أجل منفعة الجميع.
مؤخرًا فقط أمكَن نشر المعلومات على نطاقٍ كذلك الذي كان باتشولي تصوَّره مع ظهور
آلات
الطباعة، التي جعلت الكتب في المتناول وميسورة التكلفة (نسبيًّا) لقطاع أكبر كثيرًا من
المجتمع. في منتصف ثلاثينيات القرن الخامس عشر، كان قاطعٌ شابٌّ للأحجار الكريمة في مدينة
ستراسبورج، يُدعى يوهان جوتنبرج (١٤٠٠–١٤٦٨)، قد صمَّم طريقة ثورية لإنتاج الكتب، تقنية
من
شأنها أن تُغيِّر مَجرى التاريخ، مُستخدِمًا مهاراته في تشكيل المعادن، صب مئات من الحروف
في سبيكة خاصة من القصدير والنحاس والأنتيمون، ورتَّب هذه الحروف على هيئة كلمات وفقرات
داخل إطار، وكسى سطح الحروف بالحبر وثبَّت الإطار، ووجَّهه لأسفل، في مكبس خشبي كان قد
صنعه، مُعتمِدًا على التصميم التقليدي لمكبس عصر التفاح. بعد إدخال ورقة وتمريرها في
المكبس، جذب الذراع إلى الأسفل، فانطبع الحبر الموجود على الحروف في الورقة وشكَّل أول
صحيفة نص مطبوع في العالم الغربي.٦
أمضى جوتنبرج سنوات عدة في إتقان تصميمه، ولكن بحلول عام ١٤٥٠ كان قد عاد إلى
ماينز، مسقط رأسه، وافتتح أول مطبعة. بعد مُضِي خمسة أعوام، طُبع نحو ١٨٠ نسخة من عمله
الأشهر، طبعة جوتنبرج للكتاب المقدس، في غضون بضعة أسابيع. كان النُّساخ سيُمضون أعوامًا
ليُكمِلوا نفس المهمة، وكانت هذه الزيادة الهائلة في سرعة الإنتاج هي التي جعلت من آلة
الطباعة شيئًا بالغ الأهمية. لم يغِب عن جوتنبرج ولا معاصريه العبقرية الرائدة في اختراعه،
وانتشر الخبر كالنار في الهشيم. أُعجِب بيوس الثاني، الذي كان سيتولَّى مَنصب البابا
في
المستقبل القريب، بعينات من الكتاب المقدس المطبوع في فرانكفورت، وكتب إلى أصدقائه في
إيطاليا يصِف لهم مذهولًا كم كانت حروف الطباعة واضحة. تدرَّب الرجال على صنع وتشغيل
الطابعة، وهي مهارة انتشرت سريعًا، في نطاق ألمانيا أولًا وبعد ذلك في بلدان أخرى، وبخاصة
إيطاليا.٧
على الفور رأى الفينيسيون، الذين يتحيَّنون الفرص دائمًا، إمكانيات آلة الطباعة،
وفي عام
١٤٦٩، أصدروا لصالح يوهان من شباير امتيازًا (احتكارًا) لطباعة الكتب في فينيسيا، ينص
على
أنه: «سوف يحظى اختراع عصرنا الغريب هذا، رغم كونه مجهولًا عبر الأزمنة السابقة، بالتشجيع
والتحسين بكل السُّبل.»
12 مات يوهان في السنة التالية، ومات معه احتكاره؛ مما أتاح لآخرين، ومنهم شقيقه،
ويندلين، أن يُنشِئوا مطابع في المدينة. وفي غضون ثلاث سنوات، كان قد نُشِر أكثر من ١٣٠
طبعة؛ وكان أكثر من نصفها عن الأدب الكلاسيكي وقواعد اللغة، وكانت المجموعة التالية الأكبر
من النصوص هي النصوص الدينية، وكانت البقية كتبًا في القانون أو الفلسفة أو العلوم. لم
يكن
ثمةَ شكٌّ في أنهم كانوا قد سانَدوا أمرًا ناجحًا. في الحقيقة، كانت المدينة تمتلك كل
الظروف اللازمة لازدهار الطباعة؛ جمهور ضخم من القُرَّاء المُتعلِّمين، وقطاع بنوك جيِّد
التنظيم لتوفير التمويل، وحكومة تمتلك روح المبادرة، وشبكة تجارة راسخة، والأهم إمداداتٌ
مضمونة من الورق من الأقاليم الفينيسية في البر الرئيسي. كان مجال صناعة الورق في ذلك
الوقت
قد صار مُستقرًّا تمامًا في أوروبا، بعد أن استغرق قرونًا عديدة لينتقل من بغداد إلى
إيطاليا، عبر إسبانيا. الأهم من كل ذلك، أن المدينة لم تكن تُرحِّب بالأجانب فحسب، بل
كانت
تدعوهم بالفعل إلى المجيء؛ فالجيل الأول من العاملين في مجال الطباعة جاء كله من ألمانيا،
لينضم إلى المجتمع المُزدهِر للتجار الذين اجتمعوا في فونداكو دي تيديسكي. نتيجةً لذلك،
برزت فينيسيا سريعًا في الطباعة. وبحلول عام ١٥٠٠، كان يوجد نحو ثلاثين مطبعة تعمل في
المدينة، وكان مصدر ما بين ٣٥ و٤١ في المائة من مجموع عدد الكتب المطبوعة قبل عام ١٥٠٠
مطابع فينيسية.
سرعان ما انطلقت الطباعة في فينيسيا، ولكنها دون شك لم تكن مهنة لذوي القلوب الواهنة؛
إذ
كان الطابع يحتاج إلى طائفة عسيرة المنال من المهارات والخبرات؛ من أشغال الخشب والكيمياء
واللغات وعلم المعادن. كان يتعين أن يكون فنانًا ورجل أعمال وباحثًا في الوقت نفسه، ثم
أضف
إلى ذلك المطبعة، التي كانت مكانًا صاخبًا خطرًا حيث كان التعامل مع أحواض من الزيت المغلي
التي تُخرِج الفقاعات وحيث التعامل مع المواد الكيميائية التي تُسبِّب التآكل والزفت
المُشتعِل (لصنع الحبر الأسود) من الأشغال اليومية، ناهيك عن تشغيل إطارات الطباعة الخشبية
الثقيلة نفسها. كان كثير من الطابعين غير قادرين على التعامل مع التحديات التقنية الضخمة
للعملية والنفقات المالية اللازمة لإنتاج الكتب. كان التنافس حامي الوَطيس، وتوقَّف كثيرون
عن العمل وخسروا كل شيء، ولم يتمكَّن سوى ٢٥ بالمائة فقط من تجنُّب الإفلاس لأكثر من
خمسة
أعوام. كانت مطابع فينيسيا مُتركِزة في منطقة ميرسيريا حيث الشوارع الضيقة المُكتظة التي
تصِل بين ساحة سان ماركو وريالتو؛ كانت اللافتات التي تُظهِر أجهزة الطباعة الفردية الخاصة
بكل مطبعة تتأرجح أمام كل منها، وكانت الكتب موضوعة خارجًا على طاولات ليستعرضها الزبائن،
بينما كانت الطابعات تقرع في الورش في الخلف.
أخرجت المطابع أنواعًا كثيرة مختلفة من الكتب؛ كتبًا في الأدب الكلاسيكي، وأدلة فلكية،
وكتبًا مدرسية، وكتبًا مقدسة، وأدلة عملية، وعددًا مُذهِلًا من الأعمال العلمية. فيما
يتعلق
بالنشر العلمي في فينيسيا في أواخر القرن الخامس عشر، كانت الشخصية الأبرز هي رجلًا يحمل
اسمًا غير جذَّاب هو إرهارد راتدولت. جاء راتدولت إلى فينيسيا من موطنه ألمانيا في عام
١٤٧٥، بعد بضع سنوات فقط من بدء تشغيل أول دار طباعة، وانضم إلى ألمانيين آخرين وأنشئوا
مطبعة. كان أول كتاب طبعوه هو كتاب ريخيومونتانو «التقويم»؛٨
مما قاد المؤرخين إلى التكهن بأن راتدولت كان قد عمل لحساب عالم الفلك
ريخيومونتانو في نورنبرج وحصل على المخطوط منه هو مباشرة. كان ريخيومونتانو قد عاد إلى
ألمانيا في عام ١٤٦٧، وبعد أربع سنوات، قرَّر أن يطبع بنفسه فهرسه الكامل للنصوص الرياضية،
بهدف تأسيس معايير علمية واتساق. بعد أن حصل على دعم من تاجر ثري في نورنبرج، أسَّس مؤسسة
أبحاث مُستقِلة تضم مكتبتها الخاصة ومطبعتها ومرصدها وورشتها الخاصة لإنتاج الأدوات.
وشكَّل
هذا نقطة تحوُّل في دور العالِم في أوروبا الغربية. فلم يعُد ريخيومونتانو باحثًا مُتجولًا،
يعتمد على رعاية النبلاء ورجال الكنيسة، بل صار الآن مُستقلًّا استقلالًا كاملًا، وكان
في
طليعة مجموعة من الطابعين الفلكيين الذين سوف يُسيطِرون على هذا الفرع من العلم لسنوات
تالية. وكان أول كتاب نشره هو كتاب جورج بيورباخ «نظريات جديدة للكواكب»؛ تكريمًا لمُوجِّهه
ومُعلِّمه.
في عام ١٤٧٤، توسَّع ريخيومونتانو في برنامجه للنشر إلى سبعة وأربعين عملًا، يشمل،
إلى
جانب كتب أخرى، كتاب «المجسطي»، وأطروحة «العناصر» وأعمالًا أخرى لبطليموس وإقليدس، وكل
ما
هو متاح من أعمال أرشميدس، وكتاب أبولونيوس «المخروطات» ونصوصًا أخرى من مجموعتَي «علم
الفلك الصغير» و«المجموعة الوسطى»، إضافة إلى بعض أعماله، مثل كتاب «الملخص». بعبارة
أخرى،
كامل مجموعة كتب الرياضيات والفلك. وبدأ أيضًا في نشر تقاويم فلكية سنوية (كتب الجداول
الفلكية، «الزيج») مُدرَج فيها مواضع النجوم والكواكب، إلى جانب معلومات أخرى عن الأجرام
السماوية، لكل يوم من السنة، وظلت تصدر باستمرار منذئذٍ، وتُستخدم في الملاحة والتنجيم
ودراسة الفلك. في وقتنا هذا، تُصدِر ناسا هذه البيانات، باستخدام برمجيات مُصمَّمة خصوصًا،
وتُستخدم بصورة أساسية في ملاحة المركبات الفضائية.
كان من شأن مشروع طَموح كهذا أن يتطلب قدرًا كبيرًا من القوى العاملة. صحيحٌ أننا
لا
نستطيع الجزم بالأمر، ولكن يبدو أن راتدولت كان واحدًا من الشباب الذي عيَّنهم ريخيومونتانو
لمعاونته في الطباعة. في تلك المرحلة، لم يكن أناس كثيرون قد أتقنوا هذه التقنية الجديدة،
ونعرف من مَسار راتدولت المهني اللاحق في النشر أنه كان شغوفًا بالفلك والرياضيات، وهو
ما
من شأنه أن يجعله مُرشَّحًا مثاليًّا لمشروع ريخيومونتانو. وبافتراض أنهما عملا معًا،
فمن
المُرجَّح أيضًا أن يكون ريخيومونتانو قد أخبر راتدولت بشأن عجائب إيطاليا ونصحه بفينيسيا
بصفتها مكانًا جيدًا لتأسيس مطبعة، والأهم من كل ذلك أنه يُفسِّر السبب وراء كون أول
كتاب
طبعه راتدولت في فينيسيا كان كتاب «التقويم»، ربما استنادًا إلى مخطوطة جلبها معه من
نورنبرج.
كان كتاب «التقويم» هو الكتاب الأول من بين كتب كثيرة أنتجها راتدولت في الفلك
والرياضيات؛ ففي عام ١٤٨٢ نشر أول إصدار مطبوع من أطروحة «العناصر»، استنادًا إلى نسخة
أديلار/كامبانوس، تلك العلامة الفارقة في تاريخ عمل إقليدس العظيم والتي تُميِّز نهاية
رحلته الطويلة، من كونه مجرد لفيفة هشة قابعة في الإسكندرية القديمة إلى كتاب مطبوع في
فينيسيا في عصر النهضة، وتُشكِّل أيضًا لحظة مهمة في تاريخ الرياضيات، وتاريخ الطباعة؛
فبفضل مهارة راتدولت الإبداعية، كانت هذه هي المرة الأولى التي تُطبَع فيها أشكال بيانية
في
نص. وقد أنتج نسختَين للعرض الخاص، وطبعهما على الرَّق، مع خطاب إهداء إلى الدوق بِحبر
ذهبي. في الخطاب، أوضح أنه لم يفهم السبب في أن كتابًا مُبدِعًا ومُؤثرًا كهذا لم يكن
قد
طُبِع قبل ذلك، حتى أدرك كم كانت مهمة عمل الرسوم البيانية تُمثِّل تحديًّا صعبًا. حل
راتدولت هذه المشكلة بأن صنع ٤٢٠ قالبًا خشبيًّا مُنفصِلًا، وطبع فيها هوامش الكتاب الواسعة
جدًّا والمُصمَّمة تصميمًا خاصًّا، محافظًا على الحد المُزخرَف في صفحة العنوان والأحرف
الأولى الكبيرة في بداية كل فصل التي ازدانت بها نسخة المخطوطة. لم يكن قد ظهر بعدُ الأسلوب
التصميمي الخاص بالكتب المطبوعة وكانت لا تزال تُصمَّم لتُشبِه المخطوطات قدر الإمكان.
يقف
إصدار راتدولت من أطروحة «العناصر» جنبًا إلى جنب مع النُّسخ المُبتكَرة الأخرى من الكتاب
وهي: قِطَع البردي التي عُثِر عليها في أوكسيرينخوس والنسخة البارزة التي اشتراها الأسقف
أريثاس في عام ٨٨٨. إنه عمل يُخلِّد ذكرى الطباعة الفينيسية، وذكرى نقل المعرفة الرياضية،
وذكرى إرهارد راتدولت.
أُعيدَ نشر أطروحة «العناصر» وطبعه مرات عديدة في العقود القليلة التالية؛ ففي عام
١٥٠٥،
طُبِعت في فينيسيا ترجمة لاتينية جديدة مُستنِدة إلى مخطوطة يونانية، وبعد ثلاثة أعوام،
عاد
باتشولي إلى المدينة ليُعِد للطبع ترجمة لاتينية جديدة للنص، كانت تستند إلى تقليد
أديلار/كامبانوس، ولكن مع تعديلات وتصحيحات، وفي عام ١٥٣٣، نُشِرت أول طبعة باليونانية،
وبعد عقد من الزمن ظهرت باللغة الإيطالية؛ وتَبِعتها طبعات باللغات المحلية الأوروبية
بعد
أعوام قليلة. أصبح راتدولت واحدًا من أنجح طابعي فينيسيا وأكثرهم احترامًا؛ ففي عام ١٤٨٥،
نشر أحد عشر كتابًا واعتمد على إنجازه الرائد في طباعة الأشكال والرسوم البيانية، فاخترع
طريقةً مكَّنَته من استخدام ثلاثة أحبار ملونة مختلفة معًا في الصفحة نفسها، واستعرض
تقنيته
الجديدة في مجموعة من النصوص الفلكية، التي تُوضِّح بطريقة جميلة وصفًا لخسوف القمر مع
شكل
بياني يُبيِّن كل مرحلة من مراحل تطوُّر حالة خسوف. كان راتدولت أيضًا مسئولًا عن أول
صفحة
عنوان «حديثة»، وعن استخدام الأعداد العربية لتأريخ كتبه وعن إصدار ورق نموذج طرازي وقوائم
بالأخطاء المطبعية. لا بد أن أخبار نجاحات راتدولت وصلت إلى مدينة أوجسبورج، مسقط رأسه؛
لأن
الأسقف كتب إليه يطلب منه أن يعود وأن يضع خبرته في خدمة مواطنيه؛ لذا حزم راتدولت أحرف
طباعته وقوالبه الخشبية، وأخذ معه زوجته وأطفاله، وعاد إلى أوجسبورج، حيث أمضى بقية حياته
المهنية يطبع غالبًا الكتب الدينية. طوى النسيان راتدولت إلى حد كبير، ولم يُوفَ حقه
من
التقدير لابتكاراته الرائعة الكثيرة، وبدا ضئيلًا تمامًا مقارنة بالمُبتكِر العظيم الآخر
لأول عصر للطباعة في فينيسيا؛ ألدوس مانوتيوس.٩
كان الاختلاف الرئيسي بين ألدوس وزملائه الطابعين هو أنه هو وحده كان باحثًا جادًّا،
في
حين أنهم كانوا بوجه عام حِرَفيين، وإن كان لديهم اهتمامات فكرية. كان هذا مهمًّا لأن
كل
كتاب كان يُنشَر كان يُصنَع باستخدام مخطوط واحد على الأقل (يُعرف باسم النموذج)، إن
لم يكن
باستخدام مخطوطات عدة؛ فكان إنتاج نسخة نهائية من نصٍّ ما يتطلب مهارات ومعرفة مُتخصِّصة.
وما إن يكُن النص قد أُعِد، حتى يُجهِّز المُنضِّدون، الذين كانوا يجلسون على مقاعد عالية
وأمامهم المخطوطات، الحروف المطبعية. كانت عملية مُعقَّدة وتهدر كثيرًا من الوقت، وعادةً
ما
كانت المخطوطات صعبة القراءة، ولم يكن يوجد توحيد إملائي أو توحيد للخطوط؛ لذا كان يتعيَّن
أن يكون المُنضِّدون أذكياء وعلى مستوى تعليمي جيد؛ لأنهم إن ارتكبوا أخطاءً، فسوف تتأثر
قيمة الكتاب الناتج. إن تحديد المخطوطات الأصلية التي استخدمها الطابعون لإيجاد النُّسخ
المطبوعة الجديدة هو أمر بالغ الصعوبة، ولم يُعثَر إلا على عدد قليل جدًّا من تلك
المخطوطات. لا بد أن المُنضِّدين قد تخلَّصوا من كثير منها، فلم يكن ثمةَ حاجةٌ إليها
بعدما
أصبحت عدة مئات من النُّسخ المطبوعة متاحة، والمُرجَّح أن تكون تلك المخطوطات قد تعرَّضت
للتلف وللتلطيخ بالحبر بعد بقائها لأسابيع في بيئة دار الطباعة الصاخبة المُتسِخة.
مما لا شك فيه أنه لم يكن ثمةَ نقصٌ في مجموعات الكتب في فينيسيا لإمداد المطابع
بالمخطوطات؛ فعادةً ما كان جامعو الكتب، والباحثون والطابعون يعملون معًا لإنتاج النصوص
المطبوعة. وبفضل ما كان يتمتع به من مهارات لغوية ومعرفة واسعة النطاق، تمكَّن ألدوس
مانوتيوس من جمع كل هذه الخيوط معًا. كان عملاق الطباعة الفينيسية، ومُبتكِر النص المائل،
والكتب الصغيرة الحجم، والخطوط اليونانية السهلة القراءة، والفاصلة المنقوطة، وطائفة
أخرى
من الابتكارات، وينسب إليه أناس كثيرون فضل اختراع الكتب بالكيفية التي نعرفها في الوقت
الحاضر. درس مانوتيوس في جامعة روما قبل أن ينتقل إلى مدينة فيرارا ليتعلم اللغة اليونانية
ويعمل مدرسًا خاصًّا للنبلاء الشبان. وعلى ما يبدو أنه كان يَتبَع المسار التقليدي للباحث
الإيطالي في عصر النهضة، ولكن، في عام ١٤٨٩، غيَّر مساره فجأة وانتقل إلى فينيسيا. بعد
خمسة
أعوام، أسَّس دار ألدين للطباعة.
سرعان ما تأقلم ألدوس مع الحياة في فينيسيا، «دونما عناءٍ يُذكَر لرجل كان يُدرك
قيمة
ذاته».
13 فبفضل معرفته الهائلة وسحره المُريح وحماسته اللامتناهية للبحث العلمي، سرعان
ما أصبح عضوًا بارزًا في الدائرة التي كان مركزها جيورجيو فالا، أعظم عالم رياضيات في
فينيسيا في ذلك الوقت، ومالك أهم مجموعة من المخطوطات. يكمن إسهام فالا الرئيسي في نقل
الأفكار العلمية في التشكيلة الهائلة من مصادر الرياضيات والفلسفة الكلاسيكية التي جمعها
من
مخطوطاته، والذي يُسمَّى «أمور للبحث فيها وأخرى لتجنبها». وقد نشره مانوتيوس في عام
١٥٠٢،
ولكن حينها كان فالا قد تُوفي منذ عامَين، ولم تعُد مكتبته موجودة في فينيسيا.
١٠
كان كتابًا بالغ التأثير، يُوفِّر للباحثين من الجيل التالي طائفة واسعة من
المواد العلمية جيدة التنظيم والمترجمة ترجمة واضحة والمتيسرة، وكان يُستخدم بانتظام
باعتباره دليلًا مرجعيًّا، وفي حالات كثيرة، كانت النسخة المطبوعة الوحيدة من نص مصدري.
كان
فالا مُعلمًا عامًّا للرياضيات، ولكنه كان أيضًا يترأس دائرة من النُّساخ اليونانيين
وألقى
محاضرات في العمارة والشعر، وذهب اثنان من تلاميذه إلى ميسينا، في صقلية، لتحسين لغتهم
اليونانية، وعادوا في عام ١٤٩٤ ومعهم دليل لغوي يوناني، استخدمه ألدوس إلى جانب قواعد
كريسولوراس اللغوية لإنتاج واحد من أوائل الكتب التي نشرها، وهو بيان قاطع على عزمه على
تعزيز دراسة اللغة اليونانية.
كان ثمةَ صديقٌ آخر لفالا، وهو بالتأكيد الرجل الذي كان قد أتى به إلى فينيسيا، وهو
إيرمولاو باربارو. كان إيرمولاو يتحدث بلُغتَين هما اليونانية واللاتينية، ومكَّنه هذا
من
الاستناد إلى الكتب التي ورِثها من أبيه وجده، والتي كان يضمها قصر العائلة الفخم على
القنال الكبير مباشرة أمام منزل الذهب، وترك لنا نظرة مُتعمِّقة شاعرية عن الروتين الصيفي
لمُفكِّر ثري: «كان الصباح يُقضى في دراسة مُكثَّفة لكتابات أرسطو والخطباء أو الشعراء
اليونانيين، ثم يحين وقت غداء خفيف من المرق، والبيض والفاكهة؛ وبعد ذلك قراءة أو إملاء
أكثر استرخاءً، يعقبه حديث مع أي من الأصدقاء الذين قبلوا الدعوة للمجيء من أجل نقاش
أدبي
أو فلسفي؛ وأخيرًا، عشاء من صيد مشوي، ونزهة في حديقته النباتية لتأمُّل معرفة ديسقوريدوس
التقليدية في الأعشاب، ثم إلى الفراش.»
14 وأدَّت هذه التأملات بباربارو إلى وضع ترجمته اللاتينية لكتاب «عن المواد
الطبية»، ولكن أكثر ما يشتهر به هو هجومه اللاذع على مغالطات كتاب «التاريخ الطبيعي»
لبلينيوس.
على خلاف كثير من الطابعين في فينيسيا في نهاية القرن الخامس عشر، لم يكن ألدوس مانوتيوس
ألمانيًّا ولا فرنسيًّا، وإنما إيطاليًّا. أسَّس دار ألدين للطباعة في ١٤٩٤-١٤٩٥، في
وقتٍ
كانت الفوضى فيه تجتاح البر الرئيسي لإيطاليا في صورة غزو الجيش الفرنسي والتفشي الفتَّاك
لوباء الطاعون. لم تُفلِت فينيسيا من الطاعون، الذي أودى بحياة الآلاف، ولكنها تجنَّبت
الفرنسيين، الذين لم يكونوا مهيَّئين للإبحار عبر البحيرة الشاطئية ومهاجمة المدينة.
أتاحت
ضربة الحظ غير العادية هذه لفينيسيا التغلب على فلورنسا من ناحية كونها العاصمة الفكرية
لإيطاليا. كانت فلورنسا قد انزلقت إلى العنف ثم إلى القمع تحت تأثير الراهب المتعصِّب
سافونارولا، الذي كبت الاستقصاء الفكري في المدينة، وفرَّ علماء كثيرون، ذهب بعضهم إلى
فينيسيا. وباعتباره أبرز طابعي المدينة، لعب ألدوس دورًا قياديًّا في نهضة فينيسيا. ويرجع
نجاحه إلى عدة عوامل؛ الأول هو أنه كان شخصًا موهوبًا، بصفته باحثًا وكذلك بصفته رياديًّا،
والثاني هو أنه كان محظوظًا؛ إذ وصل بالضبط في اللحظة المناسبة، وحدَّد ثغرة في السوق؛
وهي
الطباعة باللغة اليونانية. بعد أن صمَّم (بمساعدة مُعاونيه) مجموعة من الخطوط اليونانية
الأنيقة (التي كان أحدها يستند إلى خط يد كريسولوراس)، بدأ يطبع نصوصًا كلاسيكية بلغتها
الأصلية، ومن خلال قيامه بذلك، حقَّق الغاية الأساسية لدى الإنسانيين التي تتمثل في جعل
المعرفة الأصلية للقدماء مَتاحة ومُتيسِّرة للجمهور المعاصر، دون أن تُفسِدها الترجمة.
أصبح
محل الطباعة الخاص به، الذي كان الأول في سان أجوستينو ولاحقًا في منطقة ميرسيريا، القلبَ
الفكري النابض للمدينة. ففي كل يوم، كان فيضٌ لا يتوقف من الباحثين يصِل ليتباحث في آخر
الموضوعات، باليونانية (كانت توجد غرامات على التحدث بأي لغة أخرى)، ولإعداد النصوص
للطباعة. وقد جاءت كل الشخصيات الريادية في «جمهورية الرسائل» الأوروبية جاءت إلى هناك
إجلالًا؛ فوصل إيراسموس في يناير من عام ١٥٠٨، ليُشرِف على نشر كتابه «أداجيا»؛ وزاره
الفيلسوف الإنساني الألماني يوهان روشلين قبل ذلك ببضعة أعوام، بينما جاء توماس لينيكر
قاطعًا الطريق من إنجلترا. وجعل هذا من دار ألدين للطباعة مكانًا لا يسهل العمل فيه.
في عام
١٥١٤، العام السابق لوفاته، كتب ألدوس: «بغضِّ النظر عن ستمائة شيء آخر، يوجد شيئان
بالتحديد يُقاطِعان عملي باستمرار؛ الأول هو الرسائل المتكرِّرة من رجال مثقَّفين تأتيني
من
كل أنحاء العالم … ثم الزوار الذين يأتون … ويجلسون في الجوار وأفواههم فاغرة.»
15 فالوجود في مركز العالم الفكري كان له سلبياته.
لوقت طويل، كان المؤرخون يفترضون أن النُّسخ المطبوعة التي خرجت من مطبعة مانوتيوس
صُنِعت
باستخدام مجموعة مخطوطات بيساريون، التي كان قد تبرَّع بها إلى فينيسيا قبل ذلك بعشرين
عامًا، ولكن لا يبدو، في الواقع، أن الأمر كان كذلك. فقد وصلت الكتب في شحنتَين؛ الأولى
حُمِلت من روما، في عام ١٤٦٩، عبر سلاسل جبال الألب في ثلاثين صندوقًا على ظهر قافلة
من
البغال، وأُرسِلت البقية من مدينة أوربينو، حيث كان بيساريون قد تركها في عناية الدوق
فيديريكو دي مونتيفيلترو، الذي كان رياضيًّا مُولَعًا بالرياضيات وراعيًا للتعليم. لدى
وصولها إلى فينيسيا، خُزِّنت في غرفة في قصر الدوق، وهي لا تزال في صناديق الشحن خاصتها،
وظلت هناك، تَبلى على مَهل، حتى سنة ١٥٣١، عندما أُخرِجت أخيرًا من الصناديق ووُضِعت
على
الأرفف في غرفة فوق أبواب كنيسة البازيليكا. وسيمرُّ ثلاثون عامًا أخرى قبل أن يُبنى
أخيرًا
مبنى المكتبة، الذي كان بيساريون قد وُعِد به في مقابل أن يُوصِي بكتبه، لتُولَد بذلك
مكتبة
سان مارك الوطنية. وهكذا، وفي واحدة من أشد مفارقات تاريخ الطباعة حزنًا، في الوقت الذي
كان
مانوتيوس ينشر فيه نُسَخه اليونانية المهمة لكتابات أرسطو وأرسطوفانيس والباقين، كانت
توجد
نُسَخ نموذجية من أعمالهم، بلغتها اليونانية الأصلية، تقبع في صناديق في الجانب الآخر
من
المدينة، ولكن بعيدًا عن متناوله.
كانت أعظم مواهب مانوتيوس هي قدرته على تسويق كتبه؛ فكان «واحدًا من أول من ألمُّوا
إلمامًا تامًّا بالكيفية التي كان عالم الكتب قد تغيَّر بها في العشرين سنة الأخيرة من
القرن الخامس عشر، ووضعوا استراتيجية للتسويق والدعاية أخذت في الاعتبار هذه
التغيرات»،
16 وقاد المجال. وبدءًا من عام ١٥٠٢ وما بعده، كان شعار «الدرفيل والمرساة»
محوريًّا لهذه الاستراتيجية؛ فكان الشعار، الذي كان يُمهَر على الصفحة الأولى لكل إصداراته،
ضمانةً لجودة دار ألدين للطباعة، مُفعَمًا بهالة من المسئولية والتميُّز؛ ومن المحتمل
أنه
كان أول مثال على التمييز السلعي الناجح، والمدى الذي وصل إليه تزويره من قِبَل طابعين
آخرين هو دليل واضح على قوته.
كان أبرز مطبوعات دار ألدين للطباعة هي الأعمال الكاملة لأرسطو، باللغة اليونانية؛
التي
كانت مشروعًا ضخمًا من خمسة مجلدات اشترك فيه علماء من كل أنحاء أوروبا يُمِدونه بالمخطوطات
اللازمة ويحرِّرون النسخة النهائية. ولعب توماس لينيكر، العالم الإنساني الإنجليزي، دورًا
أساسيًّا؛ فأثناء إقامته في فينيسيا في تسعينيات القرن الخامس عشر، ساعد ألدوس في تحرير
الطبعة، والنسخةُ التي عاد بها إلى الديار، المطبوعة على جلد الرق، موجودةٌ، في الوقت
الحالي، في مكتبة نيو كوليدج، في أكسفورد، واسمه Thomae
Linacri، منقوش بعناية على كل مجلد. وللمرة الأولى منذ العصور القديمة،
كانت الفلسفة الأرسطية بكامل نطاقها مُتيسِّرة لأولئك الذين يستطيعون تحمُّل كلفتها،
ومن
يعرفون اللغة اليونانية، ولكن إنتاج تلك المطبوعات الطموحة كان مكلِّفًا ولم يكن يُدِر
كثيرًا من المال. وسرعان ما أدرك ألدوس أن عليه أن يُنوِّع برنامجه ليشمل كتبًا كانت
أكثر
جاذبية لجمهور أوسع، وأنه يتعيَّن أن تُطبَع باللغة اللاتينية أو الإيطالية. كانت المثل
الإنسانية كلها حسنة جدًّا، ولكن كان عليه أن يُبقي دار الطباعة صامدة.
شهدَت الأعوام الأخيرة من القرن الخامس عشر والنصف الأول من القرن السادس عشر نشرَ
كثير
من النصوص الفلسفية والأدبية باللغة اليونانية. وهذا القول لا ينطبق على الطب؛ إذ ببساطة
لم
تكُن المخطوطات متاحة للطابعين وكانت قلةٌ قليلة من الأطباء هم الذين يستطيعون القراءة
باللغة اليونانية؛ لذا من المشكوك فيه أنه كان من المُمكِن لإصدارات مطبوعة من النصوص
الطبية أن تلقى نجاحًا كبيرًا، وغني عن القول أن مجموعة بيساريون احتوت على مجموعة جيدة
من
أطروحات جالينوس، ولكنها كانت كما رأينا، قابعة في قصر الدوق دونما استخدام. كان التعليم
الطبي راسخًا في المنهج الدراسي للجامعة، استنادًا إلى نصوص «أرتيسيلا». اعتبر أناس كثيرون
هذه النصوص كافية، ولكن، خلف الكواليس — أو بالأحرى، بين الجدران التي تحوي المجموعات
الخاصة — كانت الأمور آخذة في التغير. ففي أثناء بحثهم عن المخطوطات، كان علماء الإنسانيات
قد اكتشفوا لا محالة أعمالًا لجالينوس لم تكن معروفة في السابق (على ما يبدو أنه يوجد
مخزون
يكاد لا ينفد؛ فأحيانًا ما يُكشَف عن أعمال جديدة حتى في يومنا هذا، بعد ٢٠٠٠ عام تقريبًا
من كتابتها).١١
وجعل فحصُ هذه الأطروحات الجديدة الباحثين على دراية بجوانب من الطب الجالينوسي
غير موجودة في التقاليد العربية وتقاليد العصور الوسطى، وحفَّزَت هذه الأطروحات آفاقًا
جديدة للبحث وأبرزَت التناقضات في تلك التقاليد. عندما صادَفوا نظرية من الواضح عدم صحتها،
كان توقيرهم لجالينوس قد بلغ درجةَ أنهم ألقوا باللائمة على النُّساخ الذين نسخوا النصوص؛
ففي هذه المرحلة كان مستبعَدًا أيُّ تصوُّر مفاده أنه ربما كان مُخطئًا. الطريف في الأمر
أن
النصوص الجديدة وتراجم النصوص القائمة، لم تُجبِر العلماء في النهاية على القبول بأن
جالينوس ارتكب كثيرًا من الأخطاء الجوهرية فحسب، بل أجبرَتهم على الاستعاضة عن نظرياته
بنظريات جديدة من عندهم.
ومع ذلك، في السنوات الأولى من القرن السادس عشر، كان الفكر اليوناني مُؤلَّهًا ويُروَّج
له بنشاط؛ وخاصة من قِبَل طبيب جامع للكتب اشتملت شجرة عائلته على التدريس والدراسة في
بادوا وبولونيا وفيرارا. أثناء حياته المهنية الطويلة، كان نيكولو ليونيسينو (١٤٢٨–١٥٢٤)
قد
جمع مكتبة مُدهِشة من المخطوطات الطبية والعلمية اليونانية. وحسب الأستاذ فيفيان نوتون،
كانت «أشمل من أي مكتبة أخرى كانت معروفة قبلئذٍ أو منذئذٍ، وهي ليست متميِّزة بحجمها
الكبير فحسب، وإنما أيضًا بندرة محتوياتها.»
17 مستخدمًا مجموعته مُنطلَقًا، شنَّ هجومًا على قرون من الأخطاء والتفسيرات
الخاطئة وأخطاء النُّساخ في نقل العلوم الطبية، وبخاصة في أعمال عن الأمراض والأدوية،
وشمل
هجومه اللاذع كُتَّابًا رومانًا، لا سيما بلينيوس الأكبر، الذي زعم أنه أفسد كتاب
ديسقوريدوس «عن المواد الطبية» عن طريق الخطأ في تحديد النباتات وملء الكتاب بالمغالطات.
كانت النتيجة المترتبة على هذا هي تجدُّد تبجيل المصدر اليوناني الأصلي، وفي عام ١٤٩٩
نشر
مانوتيوس، الذي كان من معارف ليونيسينو المُقرَّبين، أول طبعة يونانية لكتاب «عن المواد
الطبية»؛ لذلك وصل عمل ديسقوريدوس إلى جمهور أوسع نطاقًا بكثير مما وصل إليه أيٌّ من
أعمال
جالينوس في ذلك الوقت. كان من شأن الصيادلة، وبالتأكيد أي أحد لديه اهتمام بعلم النبات
والرسومات النباتية، أن يحرصوا على امتلاك نسخة. لاقت طبعة ألدين نجاحًا تجاريًّا عظيمًا،
على الرغم من تعقيد عملية إنتاج قوالب خشبية من أجل الرسومات التوضيحية للنباتات.
لم يُقرِض ليونيسينو مخطوطات إلى مانوتيوس فحسب، وإنما إلى طابعين آخرين أيضًا، ومع
ذلك
لم تُصبِح الثروة الكاملة من مجموعته الجالينوسية اليونانية متاحة إلا عند وفاته، بعدما
بلغ
من العمر أرذله إذ تُوفي وهو في السادسة والتسعين من عمره. في عام ١٥٢٥ طبعت دار ألدين
للطباعة كتاب «الأعمال الكاملة» باللغة اليونانية، وهو مشروع ضخم ومُكلِّف لم يكُن ليتحقق
لو كانت فينيسيا في حالة حرب؛ لذا كان من المُمكِن شراء واستخدام «مخزون ضخم من المعدن
الذي
كان يُمكِن لولا ذلك أن يُستخدم في ترسانة الأسلحة لصُنع مَدفع»
18 لصبِّ القَدر الهائل من الحروف المطبعية اللازمة لإخراج العمل. وقد انعكس هذا
بطبيعة الحال على سعر التجزئة المرتفع؛ ثلاثين فلورين، أو جيلدر، في ألمانيا (ثلث الراتب
السنوي لطبيب في نورنبرج)، وأربعة عشر سكودو في روما، فكان سعره ميسورًا للأثرياء فقط.
وكالمعتاد، كان إسهاب جالينوس المُفرِط في غير صالحه؛ فحتى المحاولات لنشر أجزاء صغيرة
من
نِتاجه يُمكِن أن تكون محفوفة بالمخاطر؛ ففي عام ١٥٠٠ أفلست دار طباعة فينيسية بسبب طبعتها
اللاتينية من أطروحتَي جالينوس من كتاب «أرتيسيلا». لم تكن طبعة دار ألدين لكتاب «الأعمال
الكاملة» طبعة ذات تميُّز خاص، ولكنها جعلت جوانب كثيرة من عمل جالينوس متاحة للمجتمع
الطبي، وبخاصة بعدما بدأت في الظهور تراجم لاتينية، مُستنِدة إلى النُّسخ اليونانية
المطبوعة. بات التأثير المُتبادِل بين الفلسفة والطب وتدخلات جالينوس الدوائية والفضل
الذي
يَدين به إلى أبقراط، أوضح كثيرًا، وكذلك معاييره الأخلاقية وأفكاره عن الممارسة الطبية
الصحيحة. ونتيجةً لهذا، بدأ الطب في التغير والتطور بطُرق مُثيرة للاهتمام؛ ففي بادوا،
مزج
المعلِّمون في ذلك الوقت بين الدراسة النظرية والعملية، فأقاموا صلةً أوثق بين قاعة
المحاضرات وغرفة المرضى، بينما اكتسب التشريح ودراسة أجزاء الجسم أهمية متزايدة، وشجَّع
على
ذلك نشر عمل جالينوس عن الأوردة والشرايين والأعصاب؛ مما مهَّد الطريق أمام اكتشافات
عالِم
التشريح الفلمنكي العظيم فيزاليوس في أربعينيات القرن السادس عشر.
بِيعَت الكتب التي أُنتِجت في فينيسيا في ميرسيريا إلى فيضٍ لا متناهٍ من السكان المحليين
والزوار، ولكنها كانت أيضًا تُحزَم وتُحمَّل في قوارب وتُبحِر عبر نهر بادي، في أول مرحلة
من رحلاتها إلى مدن إيطالية أخرى، ومنها إلى ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإنجلترا. حملت
شبكة
التوزيع الشاسعة هذه كتبًا عبر أنحاء القارة، إلى محال لبيع الكتب وإلى البيوت؛ مما جعلها
متاحة أكثر من أي وقت مضى. مع اختراع الطباعة جاء وضع المعايير، وأصبحت مصادر المعلومات
أكثر تماثلًا ودقة بكثير، في حالِ إذا ما كان الطابع قد أدَّى عمله على نحو صحيح. انخفض
سعر
الكتب انخفاضًا كبيرًا مع تزايُد الإنتاج ونمو سوقها. لعبَت الكتب الثُّمانية القطع والأصغر
حجمًا دورًا فعَّالًا في انخفاض السعر؛ فباستخدام ورقٍ أقل بكثير، أصبح إنتاجها أرخص؛
إذ
كان الورق غالي الثمن، كان يُمثِّل خمسين بالمائة من التكاليف التي كان يتحملها الطابعون.
في البداية، كانت الكتب الثُّمانية القطع كتبًا مُخصَّصة للتعبد، إلى أن بدأ ألدوس في
طباعة
أدب كلاسيكي في هذا الحجم، وفي حينِ أنه دائمًا ما كانت كتبه غالية الثمن للغاية، استوعب
الطابعون الآخرون هذا الابتكار وباعوا تلك الكتب بأسعار أقل. وبحلول نهاية القرن السادس
عشر، كان في مقدور حتى الحِرَفيين المُلِمين بالقراءة والكتابة أن يشتروا الكتب، وفي
ذلك
الوقت كان يوجد أيضًا عدد أكبر بكثير من الكتب المعروضة باللغات المحلية.
بحلول عام ١٥٠٠ كانت فكرة الكون «المتماسِك والمحدود والمنظَّم» التي كانت سائدة
في القرن
الماضي قد بدأت تتفكك.
19 كان العالم آخذًا في الاتساع، مُوسِّعًا نطاق المعرفة ومُجبِرًا البشرية على
إعادة تخيُّل مكانهم فيه. لم يعُد ممكِنًا الإيمان بأن المفكرين الكلاسيكيين كانوا يحملون
مفتاح حل لكل شيء، ولا أن باستطاعة الكتب القديمة أن تُقدِّم كل الإجابات. كانت الإصدارات
الجديدة المطبوعة من كتابات إقليدس وجالينوس وبطليموس مهمة في نشر أفكارهم، ولكنها اضطلعت
أيضًا بدور أساسي في تسليط الضوء على أخطائهم. في القرن السادس عشر، كان من شأن العلماء
أن
يُركِّزوا على تصحيح هذه المغالطات والاستعاضة عنها بنظريات جديدة مُستنِدة إلى بحث مفصَّل
في عالم الطبيعة، ممهِّدةً الطريق للاكتشافات المُذهِلة لثورة القرن السابع عشر
العلمية.
في نهاية القرن الخامس عشر، كانت كل الأعمال العظيمة التي تتبَّعناها من العصور القديمة
قد ظهرت كلها في إصدارات مطبوعة؛ ومِن ثَم كان إرثها في أمان. ما تبع ذلك كان فترةً من
الاستيعاب والتصحيح وإعادة الاكتشاف والإنقاذ، وكان من شأن هذا العمل الحيوي المُتمثِّل
في
إعادة التقييم أن يُمكِّن علماء الجيل التالي من الاستفادة من أفكار إقليدس وجالينوس
وبطليموس، وكل هؤلاء الذين كانت كتاباتهم قد حُفِظت لألف سنة، كما كان من شأنه أن يُمكِّن
علماء ذلك الجيل من إحداث ثورة في الفلك والرياضيات والطب.
هوامش
-
(١)
مع أن الناس كانوا يستعملون اللغة اليونانية العامية باستمرار لغةً للتخاطب في
صقلية وأجزاء من جنوب إيطاليا طوال العصور الوسطى، كما رأينا في الفصل
السابق.
-
(٢)
زعم القديس جيروم، الكاتب المسيحي الذي عاش في القرن الرابع، والذي كان من صفاته
الانتباه إلى التفاصيل الماجنة، أن لوكريتيوس قد جُن بعد أن شرب ترياق حُب وانتحر
عندما كان في الرابعة والأربعين من عمره.
-
(٣)
استُخدم هذا المخطوط نموذجًا لأول إصدار مطبوع من كتاب «المجسطي» باليونانية،
والذي نُشِر في بازل في منتصف القرن السادس عشر.
-
(٤)
بحلول عام ١٤٧٥، احتوت على نُسَخ من أطروحة «العناصر» لإقليدس وكتاب «المجسطي»
لبطليموس.
-
(٥)
في عام ١٤٥٠، كان بيساريون قد أتاح أربعة مناصب أستاذية في الرياضيات في جامعة
بولونيا نيابة عن البابا، وأعطى الرجلان تكليفات بترجمة مخطوطات لعلماء رياضيات
كلاسيكيين لم يكُن عملهم معروفًا على نطاق واسع وكانت شهرة وأعمال إقليدس تطغى
عليهم وهم: ديوفانتوس وأبولونيوس وبرقلس وهيرون، وقبلهم جميعًا، أرشميدس. أعار
نيكولاس إحدى تراجم أرشميدس هذه إلى بيساريون، ولم يسترجعها قط، ولا تزال موجودة في
مكتبة سان مارك الوطنية في فينيسيا.
-
(٦)
كان الصينيون قد اخترعوا نسختهم الخاصة من آلة الطباعة في أوائل القرن الثالث
عشر.
-
(٧)
في القرن الخامس عشر، كانت توجد طابعات في ثمانين مكانًا في إيطاليا، وفي أربعة
وستين مكانًا في ألمانيا وفي خمسة وأربعين مكانًا في فرنسا. ليونارداس فيتاوتاس
جيرولايتيس، كتاب «الطباعة والنشر في فينيسيا القرن الخامس عشر» (شيكاجو، جمعية
المكتبات الأمريكية، ١٩٧٦)، ص٦٣.
-
(٨)
كان هذا الكتاب عبارة عن مُفكِّرة تحتوي على بيانات فلكية وتواريخ أعياد وأصوام،
على نحو يُبيِّن الوقت الذي تدخل فيه الشمس دائرة البروج المختلفة، طبعه راتدولت
بالإيطالية واللاتينية.
-
(٩)
يوجد كم هائل من الدراسات عن كل جانب من جوانب ألدوس مانوتيوس ودار ألدين
للطباعة، ولكن لا يوجد سوى دراستَين تُركِّزان على راتدولت.
-
(١٠)
أغلب مجموعته محفوظ في الوقت الحاضر في مكتبة إستنس في مدينة مودينا.
-
(١١)
ففي أوائل عام ٢٠٠٥ اكتشف أحد الباحثين الفرنسيين أطروحة لجالينوس بعنوان «عن
تجنُّب الحزن» في دير في مدينة سالونيك.