في حلقة البهلوان!

ابتسم الشياطين لأنهم سينفذون خطة «م. ف. د» التي سبق أن طبَّقوها في ثعالب الخليج، وهي مغامرتهم الأولى … فتوزيع الأدوار يعني أن كلًّا منهم سوف ينزل في فندقٍ من الفنادق الخمسة، ويهتمُّ بمراقبة نزلائه؛ فمثل هذه العصابة الدولية لن تنزل في فنادق الدرجة الثانية.

قالت «إلهام»: إنني أفضل فندق «ميريديان»، لموقعه الفريد على النيل …

عثمان: «ميناهاوس» هو فندقي المفضل بجوار الأهرام.

زبيدة: «هيلتون» لأكون قريبة من «إلهام»!

خالد: «شبرد» وسأكون قريبًا من «إلهام» و«زبيدة» معًا!

أحمد: لم يبقَ لي إلا أن أختار «شيراتون».

عثمان: هل تفضِّل أن نقوم بالمراقبة كنزلاء … أم جارسونات؟

أحمد: الوقت ضيقٌ لترتيب عملٍ لكلٍّ منا هناك … وعندما علمت أنكم ستحضرون قمت بالاتصال بجهةٍ ما من أعوان رقم «صفر» فوعدوني بتدبير أماكن بمجرد طلبها!

وقام «أحمد» إلى التليفون وأدار رقمًا، ثم تحدث لحظات ووضع السماعة، وعاد إلى الاجتماع قائلًا: من الغد صباحًا سيتم الحجز!

زبيدة: من المهم أن نعرف أين سينزل الخبراء الفرنسيون، فمن المؤكد أن العصابة ستحوم حولهم حيث ينزلون!

أحمد: معكِ حق … وقيل لي إنهم سينزلون في فندق «ميناهاوس» …

صاح «عثمان»: «ميناهاوس!» … معنى هذا أنني سأكون في عرين الأسد.

ابتسم «أحمد» قائلًا: ليس ضروريًّا أن يحدث هذا؛ فالعصابة ليست من السذاجة بحيث تُقيم في نفس الفندق؛ حيث ستكون هناك رقابةٌ قوية من أجهزة الأمن. إن نزول جميع أفراد العصابة في «ميناهاوس» مجرد احتمالٍ لا يمكن إهماله، ولكنني أرجح أنهم سينزلون متفرقين في فنادق مختلفة، حتى لا يلفتوا إليهم الأنظار!

إلهام: نحن بلا عملٍ الليلة، فما هي خطتكم لقضاء السهرة؟

قال «خالد» مبتسمًا: ما رأيكم في تطبيق الخطة «ك. س. ر»؟

التفت إليه الشياطين، وقالت «زبيدة»: ليس عندنا خطة بهذه الأحرف!

خالد: إنها خطةٌ جديدة وضعتها الآن … وحرف الكاف يعني كباب، وس: سهرة، ور: راقصة!

زبيدة: العشاء كباب ثم سهرة راقصة! هذه فكرة م يعني ممتازة!

وضحك الجميع وأسرعوا يُغيِّرون ملابسهم، عدا «أحمد» الذي ظلَّ في مكانه، وعندما عادوا إليه صاحَت «إلهام»: ألن تأتيَ معنا؟

أحمد: سأبقى للمراقبة، وانتظار التعليمات.

إلهام: إذن نبقى جميعًا.

أحمد: ليس هذا من قواعد العمل!

عثمان: على كل حال لن نتأخر.

وغادر الأربعة المقر السري إلى ميدان «السد العالي» في الدقي، ثم ركبوا سيارة عادية وانطلقوا إلى «حي الحسين»، لتناول وجبة عشاء من الكباب والكفتة …

كان حي الحسين الشعبي، مزدحمًا كالعادة في مثل هذه الساعة من الليل، خاصةً وقد اقترب شهر رمضان المبارك، وكان من الصعب على الأربعة إيجاد مكان في أحد المطاعم المشهورة بتقديم وجبة الكباب، وهكذا أخذوا يطوفون على الأقدام بين المقاهي الصغيرة المنتشرة في كل مكان، وبين الصفوف المتزاحمة من البشر، لاحظت «إلهام» زيادة نسبة الأجانب في الحي الوطني العريق، حيث يحضرون للاستمتاع بالجو الشعبي وأكل الأطعمة الشعبية، وكانت هذه الملاحظة بدايةً لشيءٍ مفاجئ يتَّصل بعملهم … فقد كان أحد الحواة يقوم بألعابه البهلوانية، يأكل النار، ويضع الثعابين حول رقبته، ثم يطلب من القرد أن يقوم بعدة حركاتٍ مثل نوم الولد الصغير، وعجين الفلاحة … وغيرها من الحركات التي تُضحك الناس الذين وقفوا حوله في حلقةٍ يتفرَّجون، وبينهم بعض الأجانب يستمتعون بمشاهدة البهلوان …

وعلى الفور لاحظ «خالد» بين المشاهدين الأجانب رجلًا قصير القامة، شديد الأناقة يضع يدَيْه في جيبَي بنطلونه … كانت أوصافه تنطبق على المهندس «ستريت» عضو العصابة، وسرعان ما تأكَّد شك «خالد»، عندما رأى الرجل يبلل شفتَيْه بلسانه بين لحظة وأخرى … ولم يعد هناك شك أن اللقاء بالعصابة تمَّ بأسرع مما توقعوا، ودون الحاجة إلى تنفيذ خطة المراقبة في الفنادق الكبرى!

دون أن يتحدث «خالد» إلى الشياطين الثلاثة، اكتفى بالنظر إليهم نظرة يفهمها الشياطين، ثم حوَّل نظره إلى «ستريت» الذي كان مستغرقًا في مشاهدة الحاوي وحركات القرد، وبعد أن نظر الشياطين الثلاثة إلى «ستريت»، عادوا يتبادلون النظرات معًا، وكانت نظراتهم تعني أن الرجل الواقف أمامهم ضمن المتفرجين ليس إلا «ستريت» عضو عصابة «الضفدعة»!

وفكرت «إلهام»: أليس من الممكن أن يكون الرجل يشبهه فقط؟ … ليس من المستبعد أن يكون هناك شخصان في العالم قصيرا القامة، شديدا الأناقة، يبلِّلان شفاههما بين لحظة وأخرى! … نعم كان هذا ممكنًا، ولكن المهم الآن أن هذا الرجل موضع شبهتهم، ولن يتركوه حتى يعرفوا حقيقته …

ومضى الحاوي في ألعابه، وتفرَّق الشياطين حسب ما تدرَّبوا عليه في شكل شبكةٍ أحاطت ﺑ «ستريت» حتى لا يفلت، ولاحظت «زبيدة» رجلًا طويل القامة، يلبس الملابس الوطنية وعليها معطف أصفر، يقترب من «ستريت» كان وجه الرجل ينطق بالشر، غزير الشارب، نامي اللحية يضع على رأسه عمامةً قذرةً ويُمسك عصا من الخيزران …

ركزت «زبيدة» أنظارها على الرجل الذي اندسَّ بين المتفرجين وأخذ يقترب من «ستريت» حتى وقف خلفه، وراقبت وجه «ستريت» وقد بدأ عليه الانفعال، ثم انصرف الرجل، ولم تشك «زبيدة» لحظة واحدة أن الرجل قد دسَّ في يد «ستريت» شيئًا ما، وبعد دقيقة واحدة من انصراف الرجل، ترك «ستريت» دائرة المتفرجين ومشى، ولاحظت «إلهام» أن رجلًا آخر قد انصرف في نفس الوقت وتبع «ستريت» من بعيد …

وسألت «إلهام» نفسها: هل الرجل من المخابرات المحلية؟ أم من جهة أخرى؟

وتحرك الشياطين الأربعة في شكل دائرةٍ واسعة، تُحيط بالمهندس «ستريت» دون أن يشعر، ومشى «ستريت» في اتجاه شارع الموسكي، ثم انحرف يسارًا ودخل إلى مقهى «الفيشاوي»، ثم جلس وطلب «شيشة» و«شايًا أخضر»، وأخذ ينظر حوله …

كان الشياطين الأربعة يُراقبون «ستريت» من بعيدٍ وكانت «إلهام» بالذات، تراقب الرجل الذي تحرَّك بعد أن غادر «ستريت» حلقة المتفرجين، ووضع «ستريت» يده في جيبه، ونظر حوله عدة مرات، ثم أخرج يده ونظر في كفه، وكان واضحًا أن فيها ورقةً صغيرة جدًّا … وألقى «ستريت» نظرةً سريعة على ما في يده، ثم أطبق يده وأخذ يضغط على ما فيها بشدة، ثم فركها بين أصابعه، وقذفها بعيدًا، وتحرك الشخص الذي كان يراقب «ستريت» … وأدركت «إلهام» أنه سيحاول التقاط الورقة الصغيرة التي قذفها «ستريت» … وأشارَت إلى «عثمان»، وأسرعت إلى مكان الورقة التي سقطت تحت أحد المقاعد البعيدة عن «ستريت».

كان المراقب قد وصل إلى مكان الورقة، وانحنى متظاهرًا بأنه يربط حذاءه ليلتقط الورقة وفي هذه اللحظة أحسَّ بشخصٍ يسقط فوقه وتدحرج الاثنان على الأرض … ولم يكن هذا الشخص سوى «عثمان»، الذي أشارت له «إلهام» ليتصرف في إبعاد الرجل عن الورقة، وفي الوقت الذي تدحرج فيه الرجل و«عثمان» على الأرض، أسرعَتْ «إلهام» بالتقاط الورقة، وسرعان ما كان الرجل يصيح في غيظ: ماذا تفعل؟

قال «عثمان» وهو يقف: آسف يا سيدي … كنت سائرًا فلم أرَك وأنت أمامي منحنٍ على الأرض.

صاح الرجل: ابتعد عنِّي وإلا سحقت وجهك!

قال «عثمان»: إنني آسف مرة أخرى يا سيدي، أرجو ألا تغضب!

وانحنى الرجل يبحث عن الورقة فلم يجدها، وسأله أحد الجالسين: عمَّ تبحث يا سيدي؟

رد الرجل بضيق: ورقة سقطت مني الآن …

قال الرجل: لقد التقطَتْها هذه الفتاة!

وأشار إلى «إلهام» التي أسرعَت تتوارى في الزحام وأسرع الرجل خلفها وتبعه «عثمان» الذي لاحظ أن «ستريت» قام مسرعًا واختفى، وأن «خالد» و«زبيدة» قد تبعاه …

أخذت «إلهام» تسرع في خطوها دون أن تجري، حتى لا تلفت إليها الأنظار، وكان الرجل يتبعها بخطًى سريعة أيضًا دون أن يجري … وكان واضحًا أنه هو الآخر لا يريد لفت الأنظار إليه. وخلفهما كان «عثمان» يسير بنفس السرعة …

لم تكن «إلهام» اللبنانية تعرف القاهرة جيدًا، فأخذَت تسير على غير هدى، ووجدَت نفسها خلف مسجد الحسين في حارةٍ ضيقة، وقد ازدحمت تمامًا بالمارة. وأصبح السير متعذرًا لشدة الزحام، ولم تجد أمامها إلا أن تنحرف مرة أخرى في حارة أكثر ضيقًا، ووجدت نفسها تسير في حارةٍ شديدة الضيق كأنها سرداب، مظلمة إلا من أضواءٍ خفيفة تخرج من نوافذ المنازل الصغيرة المتلاصقة … وانحرف خلفها الرجل ثم انحرف خلفهما «عثمان».

وفجأةً … أحس «عثمان» بلطمةٍ قويةٍ توجه إلى بطنه ثم لكمة هائلة على فكه، لقد انتظره الرجل، وسقط «عثمان» على الأرض، وألقى الرجل نفسه عليه، وأمسك برقبته وهو يقول من بين أسنانه: إنك وهذه الفتاة تعملان معًا!

أحسَّ «عثمان» بالدم يندفع إلى رأسه وبالإغماء يزحف عليه، وسمع صوت الرجل يقول: أريد الورقة وإلا قتلتك!

وفي الظلام … أمام عينَي «عثمان» الغائمتين … نصل خنجر لامع يهبط تدريجيًّا إلى رقبته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤