الرجل الخامس!

عاد «فولكان» يسأل: حارة السكرية؟!

كان «أحمد» يعرف طريق الحارة جيدًا؛ فهي تمتدُّ من ميدان «الحسين» موغلة في «حي الجمالية»، وتظاهر بالبله، وأشار للرجل أن يتبعه، وسار «أحمد» يعرج على عكازه، بينما «فولكان» يسير في نشاط خلفه، حتى أشرفا على حارة «السكرية» وأشار «أحمد» إليها … وأشار «فولكان» بيده شاكرًا ثم غاص في الحارة، وعلى الفور رفع «أحمد» عصاه، وأنزل ساقه العرجاء، واندفع خلفه مخفيًا نفسه بين الناس … كانت فرصة ثانية للشياطين اﻟ «١٣»، وبعدها لا أحد يضمن أن يعثروا على أثر عصابة «الضفدعة» مرة ثالثة، في القاهرة ذات الثمانية ملايين نسمة!

كان «فولكان» يقرأ أرقام المنازل، ثم يمضي حتى وصل إلى رقم «٣٧»، وكان بجواره حائط أثري قديم قد أُحيط بسور من حديد، فدار حول السور و«أحمد» في أثره، حتى انتهى إلى بوابة حديدية صغيرة، ودفع بها ودخل، وانتظر «أحمد» لحظات ثم دخل خلفه، فوجد نفسه في ساحة قد امتلأت بهياكل السيارات القديمة، وأقفاص الفاكهة الفارغة، وعشرات من الأشياء المهملة …

وأخذ «أحمد» يتحسَّس طريقه؛ خوفًا من مفاجأة غير سارة وهو يسمع خطوات «فولكان» على الأرض الحجرية، حتى توقفت الخطوات. وسمع دقات على باب … واقترب «أحمد» محاذرًا، حتى وقع بصره على «فولكان»، وكم كانت دهشته عندما وجده يخرج مسدسًا ضخمًا من حزامه ثم يثبت على ماسورته «جهازًا كاتمًا للصوت»، ويقف جانبًا!

مرت لحظات «وأحمد» يراقب، وفتح الباب وظهر على عتبته رجل لم يتبين «أحمد» ملامحه جيدًا؛ فقد كان الضوء يأتي من خلفه، ودون كلمة واحدة رفع «فولكان» المسدس، وأطلقه على الرجل، كان الصوت مكتومًا، ولكن «أحمد» أحصى ثلاث رصاصات أصابت الرجل، الذي انهار واقعًا على الباب … وبسرعة كان «فولكان» يغادر المكان!

وذهل «أحمد» لما حدث، وفكر فيما ينبغي عمله، ثم حسم أمره، ومضى خلف «فولكان» الذي عاد من نفس الطريق، ومشى مغادرًا الساحة المزدحمة بالمهملات، ومرَّ على بعد خطواتٍ من «أحمد»، وتمنى «أحمد» أن ينقض عليه ولكنه فضل أن يتبعه، وسرعان ما خرجا من الدار الواسعة، وسار «فولكان» بنشاط، شاقًّا طريقه وسط ميدان «الحسين» المزدحم، هادئًا كأنه لم يقتل رجلًا منذ لحظات، وخلفه كان «أحمد» في ملابس الشحاذين، وقد تناسى عرجه ومشى على قدميه معًا؛ فقد كان في حاجة إلى كل نشاطه ليتبع القاتل …

وصل «فولكان» إلى نهاية الساحة من ناحية «الدراسة» ثم تجاوزها وسار، وكان الزحام قد خفَّ تدريجيًّا … وعندما وصل إلى تلال «الدراسة» القديمة أخذ طريقه يسارًا …

ودهش «أحمد» إلى أين يذهب الرجل في هذه المنطقة لقد كان من المنطقي أن يهرب سريعًا بعد ارتكاب جريمته ولكن «فولكان» كان يمضي سريعًا نحو منطقة المقابر في «باب الوزير»، وسرعان ما كان يشق طريقه بين الأضرحة الساكنة … وهبت ريحٌ باردة حملت إلى عظام «أحمد» إحساسًا عميقًا بالبرد، وإلى أنفه رائحة المقابر القديمة والموت، وأحس «أحمد» بالرعدة تسري في أوصاله، ولكنه لم يتوقف لحظة واحدة وكانت متابعة «فولكان» سهلة رغم الظلام؛ فقد كانت المنطقة خالية إلا من عابر سبيل بين لحظة وأخرى …

غاص «فولكان» داخل المقابر … وكانت دهشة «أحمد» بالغة؛ لأن «فولكان» كان يعرف طريقه جيدًا في هذه المتاهة الواسعة … وبعد نصف ساعة من السير، سمع «أحمد» الأقدام تتوقف، فاقترب بسرعة وشاهد في الظلام الدامس بابًا يُفتح في مقبرةٍ كبيرة وعلى الضوء الواضح، رأى رجلًا طويلًا يلبس الملابس البلدية وعليها معطف أصفر، لحيته نامية ووجهه ينطق بالشر، وتذكر على الفور أوصاف الرجل الذي حمل الرسالة المكتوبة إلى المهندس «ستريت»، وأغلق باب المقبرة، فأسرع «أحمد» بخفة الفهد يدور حولها …

كانت مقبرة فخمة من الرخام، لم يشك «أحمد» أنها مقبرة أحد الباشاوات السابقين، حيث يُبنى المدفن على شكل قصرٍ صغير وأخذ يبحث عن مكانٍ يتسمع منه ما يدور في الداخل … كان في حاجةٍ فقط إلى ثقبٍ صغير، وسرعان ما وجد خيطًا من الضوء يتسرب من جانب المقبرة، فجلس وأخرج بعض الأدوات من ثيابه البالية، كان بينها أحدث جهاز للتصنُّت، لا يزيد على حجم علبة الكبريت، يخرج منه «إيريال» طويل من الصلب القوي، دفعه «أحمد» في الثقب حوالي متر، ثم جلس على الأرض ووضع الجهاز على أذنه، وسرعان ما سمع حديثًا يدور باللغتَيْن العربية أحيانًا، والفرنسية أحيانًا أخرى …

سمع صوتًا خشنًا يقول باللغة العربية: إننا نضمن لكم الوصول إلى شاطئ البحر، بعيدًا عن دوريات الحدود.

وتذكَّر «أحمد» الرسالة الصغيرة، وجملة «الطريق آمن» … وفهم الآن ماذا تعني … واستمر يستمع، وسمع ترجمة للحديث باللغة الفرنسية، وعرف في المترجم شخص «فولكان»، ثم سمع باللغة الفرنسية من يقول: إن رجلنا سيتمكن من الحصول على البضاعة غدًا، وفي فجر الغد سنكون عند منطقة التجربة، وبعدها تبدأ مهمة العبور.

وسمع «أحمد» «فولكان» يترجم إلى العربية، وسمع الرجل القبيح يقول: إن هذا يناسبنا جدًّا، المهم ما هي البضاعة؟

كانت مفاجأة ﻟ «أحمد» أن يعرف أن الرجل القبيح لا يعرف نوعَ البضاعة التي سيقوم بتوصيلها إلى شاطئ البحر … وسمع «فولكان» وهو يردُّ عليه: إنها ليست شيئًا كبيرًا، فلا تشغل بالك بها.

الرجل القبيح: والنقود؟

فولكان: سندفع لكم بسخاء.

الرجل القبيح: وحكاية الأولاد الذين قابلناهم أمس.

فولكان: لا تشغل بالك بهم … وقد تم مسح آخر أثر لنا في «الباطنية»، منذ ساعة!

وفهم «أحمد» معنى «مسح الأثر» … إنه الرجل الذي أطلق عليه «فولكان» الرصاصات الثلاث الصامتة … إن عصابة «الضفدعة» لا تسمح بأي مزاحٍ في عملها إنها تتعامل بالرصاص فقط!

عاد الرجل القبيح يسأل: وكم عدد الرجال؟

فولكان: خمسة.

وتذكر «أحمد» مجموعة التنفيذ المكونة من «كروجر» و«فولكان» و«شوتي» و«ستريت» إنهم أربعة … فمن هو الرجل الخامس؟

وسمعهم بعد ذلك يتحدثون عن الانصراف، فسحب «الإيريال» الرفيع من الشق، وأسرع يُغادر مكانه، بعد أن حفظ بعض التفاصيل عن المكان؛ فقد يحتاج للعودة إليه مرة أخرى.

وصل «أحمد» إلى ساحة «الحسين» مرة أخرى، في نحو الساعة الحادية عشرة ليلًا، وعاد يعرج … وكان مضطرًّا لاستخدام المواصلات العامة؛ فلم يكن من المعقول أن يركب تاكسيًا بهذه الأسمال البالية التي يضعها على جسمه … ولم يصل إلى المقر السري إلا قرب منتصف الليل، وكان مرهقًا وجائعًا، والبرد قد تسلَّل إلى عظامه، ولكنه رغم هذا كان قد أعدَّ تقريرًا في ذهنه، لا بد أن يرسله إلى رقم «صفر» فورًا … لقد كوَّنَ فكرةً معقولةً عن خطة العصابة، بعد المعلومات التي استمع إليها الليلة.

وجد الشياطين الأربعة يجلسون وهم يتسلَّون بلعب «الدومينو»، وعندما شاهدوه ابتسموا جميعًا، ومد «عثمان» يده في جيبه وتظاهر بأنه سيُخرج قرشًا يعطيه له … وقال «أحمد» بعد أن حيَّاهم: إنني أكاد أسقط جوعًا وبردًا، من فضلكم بعض الطعام وكوبًا من الشاي.

وأسرعت «إلهام» و«زبيدة» إلى المطبخ بينما قال «خالد»: لم نصل نحن الأربعة إلى شيءٍ على الإطلاق؛ فلا أثر لعصابة «الضفدعة» في الفنادق الكبرى.

أحمد: لقد توصلت إلى معلوماتٍ مهمة … وأستطيع الآن أن أحدد أين ينزل الرجال الأربعة، إذا كانوا معًا.

خالد: مدهش!

أحمد: في الأغلب أنهم ينزلون في فندق «الكونتننتال» وكان يجب أن نستنتج هذا منذ أمس، إن مجال نشاطهم الحالي هو «حي الحسين» وأقرب فندق من الفنادق الكبيرة إلى «حي الحسين» هو «الكونتننتال»!

خالد: معقول جدًّا …

أحمد: على كل حال، ما حصلت عليه من معلومات يمكن أن يوضح هيكل خطة العصابة، وأرجو أن نُرسل تقريرًا سريعًا إلى رقم «صفر» بهذه المعلومات، التي قد يحتاج إليها رجال الأمن للقبض على العصابة.

وسكت «أحمد» لحظاتٍ ثم قال: هناك شخص واحد يحيرني … إن مجموعة التنفيذ المعروفة في العصابة مكونة من أربعة، ولكن من حديث سمعته يدور بينهم، عرفت أن هناك شخصًا خامسًا … فمن هو؟!

عثمان: لعله شخصٌ انضمَّ إليهم.

خالد: أو شخص سيختطفونه من هنا.

أحمد: هذا قريب مما فكرت فيه، ولعله هو البضاعة المقصودة …

وحضرت «إلهام» و«زبيدة» تحملانِ الطعام والشاي، وجلس «أحمد» يلتهم طعامه ويرشف الشاي الساخن، ويحدِّثهم في نفس الوقت بمغامرته في مقابر «باب الوزير» وبعد أن انتهى من الطعام، قال: ورقة وقلمًا من فضلكِ يا «إلهام» وأرسلي هذا التقرير إلى رقم «صفر»، فإنني أحسُّ أن درجة حرارتي ترتفع، وسآوي إلى فراشي فورًا.

واستعدَّت «إلهام» بالورقة والقلم، فقال «أحمد»: من «ش. ك. س» إلى رقم «صفر». ستقوم عصابة «الضفدعة» بمراقبة تجربةٍ مصغرةٍ للصاروخ في الصحراء الشرقية … اتفقت العصابة مع بعض الأشقياء وتجَّار المخدرات على تهريبهم، بعد الحصول على التصميمات عن طريق الصحراء الشرقية. لتجار المخدرات طرقٌ لا يعرفها أحد، ستستخدم في تهريب ما يطلقون عليه اسم «البضاعة» وهو في الأغلب شخصٌ سيخطفونه من القاهرة … العصابة لجأت إلى العنف وقتلت أحد الأشخاص في حارة تُدعى «السكرية». نتوقع أن نحصل على معلوماتٍ أكثر غدًا … هل انضم إلى مجموعة التنفيذ شخصٌ خامس؟ … يهمنا أن نعرف.

ودون كلمةٍ أخرى قام «أحمد»، فاغتسل ثم ألقى نفسه في الفراش، وذهب في سبات عميق …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤