حرب السيارات الملغومة!

تقع العاصمة البرازيلية «ريودي جانيرو» على شاطئ المحيط الأطلنطي … وهي تعتبر من أجمل عواصم أمريكا الجنوبية … بل ومن أجمل عواصم العالم … وبفضل موقعها الجغرافي شمال مدار «الجدي» قليلًا … وبسبب وقوعها أيضًا على شاطئ المحيط الأطلنطي، فقد تميزَت في ذات الوقت بمناخ جيد؛ لذلك اعتبرها البعض من أجمل مصايف العالم.

ومنذ وقت قريب، كانت نصف العاصمة «البرازيلية» تتضمن الكثيرَ من الغابات الضخمة التي كان يستحيل على البعض مجرد اختراقها، بسبب كثافة أشجارها، التي ترتفع بعضها إلى ارتفاعٍ يَصِل إلى ثلاثين مترًا، وتتشابك أغصانُها في شبكة جهنمية تمنع حتى أشعة الشمس من اختراقها … ولكن يد التعمير امتدَّت إلى قلب الغابات لتجتثَّ الأشجار من جذورها، وتحويل تربتِها الطبيعية إلى طرق من الأسفلت وأعمدة خرسانية … ولتُضيف عبئًا على رئة الأرض، بحلول الأسمنت والدخان مكان الأشجار والأوكسجين …

وبامتداد أحياء «ريودي جانيرو» كانت المباني الحديثة تتناثر بامتداد البصر … بعضها يَصِل إلى ثلاثين أو أربعين طابقًا … وبعضها الآخر كان مجردَ فيلَّات صغيرة من طابق واحد … ولكن الحي الدبلوماسي في قلب العاصمة كان أجمل ما فيها … فهو حيُّ السفارات، الذي يقطنه كلُّ العاملين في السفارات الأجنبية، حيث تتوزع القصور الضخمة والفيلَّات الهادئة الأنيقة في كلِّ أنحاء الحي …

ولذلك لم يكن غريبًا بأي حال من الأحوال ظهور سيارة فاخرة من طراز «رولز رويس»، التي لا يقتنيها سوى العظماء وأصحاب الملايين … بل إنَّ مرورها الهادئ في قلب الحي كان شيئًا طبيعيًّا.

كان منظر السيارة يُوحي أنَّ صاحبها هو واحد من الدبلوماسيِّين الكبار في الحي … بالرغم من أنَّ السيارة كانت لا تحمل في مقدمتها علَمًا يدل على أنَّها تابعة لإحدى السفارات الأجنبية، كما أنَّ أرقامها المدونة في لوحتَيها الخلفية والأمامية، لم يكن بها ما يُشير إلى أنَّ راكبها دبلوماسي. وكان معتادًا أيضًا أن تألف العينُ مشهدَ الستائر السوداء السميكة المسدلة من الداخل على نوافذ السيارة، بحيث تُخفي ركابَ السيارة عن الأنظار؛ فأغلب الدبلوماسيِّين كانوا يفضِّلون مراجعةَ أوراقهم الهامة بعيدًا عن العيون الفضولية …

شقَّت «الرولز رويس» طريقَها إلى داخل الحي … ثم انحرفَت يسارًا إلى منطقة هادئة، وتوقَّفَت على مسافة أمتار قليلة من رصيف إحدى السفارات …

وألقى سائق «الرولز رويس» نظرةً مقطبة إلى علَم الدولة التابعة لها تلك السفارة … كان العلَمُ بألوانه المميزة يُشير إلى الدولة العربية صاحبة السفارة الكبيرة.

وراقب حارسُ الأمن الواقف أمام أبواب السفارة السيارة الفاخرة، وقد بدَت عليه بعضُ الدهشة، فلم يكن معتادًا بالنسبة له رؤية ذلك النوع من السيارات، ولا حتى وقوفها قريبًا من أبواب السفارة إلى ذلك الحد …

اقترب الحارس من سائق السيارة، وقال له بالإسبانية: سيدي … ممنوع الانتظار في هذا المكان.

ولكن سائق السيارة هزَّ كتفَيه دلالة على أنَّه لا يفهم ما يقوله الحارس، وأنَّه لا يُجيد الإسبانية … فأعاد عليه الحارس نفس العبارة بلغة إنجليزية متعثرة. ولكن سائق «الرولز رويس» هزَّ كتفيَه دلالة عن عدم فهمه …

كان السائقُ ذا ملامح أوروبية، وخمَّن الحارس أنَّه ربما يكون فرنسيًّا أو ألمانيًّا … وأخرج السائق من جيبه سيجارة فاخرة مدَّها إلى الحارس في وُدٍّ، وهو يُشير له بأنَّ وقوف السيارة لن يطولَ كثيرًا، لأنَّه في انتظار شخصية هامة ستخرج بعد قليل من السفارة.

أومأ الحارس برأسه موافقًا … وتناول السيجارة واستدار ليعود إلى مكانه أمام باب السفارة … وعندما تلفَّت ثانية نحو السيارة أدهشه اختفاءُ سائقها المفاجئ والذي كان واقفًا مكانه منذ لحظة.

وهزَّ الحارسُ كتفَيه دلالة على الحيرة … ثم أشعل سيجارته …

ولكن الوقت لم يُتِح له أبدًا تدخينها.

ففي اللحظة التالية، انفجرَت سيارة «الرولز رويس» في صوت رهيب سَمِعه حتى القاطنون على مسافة عشرة كيلومترات.

وفي غمضة عين، كان مبنى السفارة قد تحوَّل إلى كوم من الأتربة والأحجار، وقد صار مقبرةً لكلِّ مَن فيه …

•••

والآن ننتقل إلى «نيودلهي» … عاصمة شبه الجزيرة الهندية، وعاصمة الشرق الساحرة … كمدينة فريدة، اكتملَت لها كلُّ عناصر السحر والغموض … سحر الشرق وغموضه … في «نيودلهي» تتجمَّع كلُّ نقائض العالم … القبح والجمال … الفقر والغنى … الديمقراطية والديكتاتورية … عبادة الله وعبادة الأوثان والأبقار. مدينة بحاجة إلى ألف عام من الاكتشاف … ثم بحاجة إلى اكتشاف آخر …

من شدة الزحام يُخيَّل للإنسان أنَّ تلك المدينة هي الأولى في العالم من ناحية الكثافة السكانية، ولكنها ليست كذلك.

ومن شدة مظاهر الفقر … الأعداد الكثيرة من المتسولين والمتشردين وقاطني الشوارع، يُخيَّل للإنسان أنَّها الأولى في العالم في عددِ الوفيات وتدنِّي مستوى المعيشة … ولكنَّها أيضًا ليست كذلك. من شدة مظاهر الغنى والقصور الفاخرة وأمراء المهراجا بتيجانهم ومجوهراتهم يُخيَّل للإنسان أنَّها أشدُ مدن العالم غنًى وثروة … ولكنها بكل تأكيد ليست كذلك.

مدينة غريبة … محيرة … هي «نيودلهي».

وكلُّ مدن الشرق فإنَّها تموج بالأحياء ممن يسكنون أعشاشًا ضيقة لا تكاد تدخلها الشمس. وفي نفس الوقت تحفل بأرقى الأحياء الفاخرة التي يصير ممنوعًا حتى الاقتراب منها … حيث يعتبر ذلك إزعاجًا لحرمة المكان.

ولكن المشهد الذي كان يجري في قلب الحي الراقي في «نيودلهي»، كان مألوفًا بكل تأكيد … فقد اعتادَت سيارات نقل الخضروات والفاكهة التجولَ بين تلك الأحياء لتنقل إلى سكانها حاجياتهم منها … حيث لا يفضلون الذهاب إلى الأسواق الشعبية العديدة لشراء ما يحتاجون؛ ولهذا لم يكن غريبًا بأي حال اقتراب تلك الشاحنة الصغيرة البطيئة المعبَّأة بكلِّ أنواع الخضروات والفاكهة، والتي يقودها سائقٌ بدَا من لحيته الكبيرة وعمامته أنَّه هنديٌّ أصيل … بالرغم من لون عينَيه الزرقاوَين العجيبتَين.

اقتربَت السيارة من أكثر مناطق الحي الراقي هدوءًا … منطقة السفارات الأجنبية وكانت تُصدر أقل قدرًا من الضجيج.

تهادَت السيارة مقللة من سرعتها حتى توقَّفَت بجوار سور إحدى هذه السفارات …

وكان علَمُ السفارة المرفرف فوق ساريتها العليا يوضح الدولة التي تنتمي لها تلك السفارة وكانت دولة عربية بكل تأكيد …

أوقف السائق سيارته، فدَنَا منه حارسُ السفارة الهندي، فأشار له السارق بأنَّه سيحمل بعضَ أقفاص الفاكهة والخضار إلى داخل السفارة …

أومأ الحارس برأسه موافقًا، وعاد إلى موقعه في كشك الحراسة أمام باب السفارة … وعندما التفتَ نحو الشاحنة الصغيرة أدهشه اختفاءُ السائق المفاجئ …

وكأنَّ السائق قد تبخَّر في الهواء من مكانه … وقطَّب الحارس حاجبَيه، وقد تذكَّر شيئًا آخر غريبًا … عيني السائق الزرقاوين … وجهله باللغة الهندية …

واتسعَت عينَا الحارس ذعرًا عندما اهتدى عقلُه إلى الحقيقة المفاجئة، ولكن الوقت لم يتسع له ليفعل أيَّ شيء على الإطلاق … ففي اللحظة التالية، دوَّى انفجار رهيب، وتحوَّل مبنى السفارة إلى تلٍّ من الحجارة والأتربة.

•••

ثم في بيروت «عروس المدائن العربية» و«باريس الشرق» …

مدينة السحر والجمال وجبال الأرز والروابي الخضراء ورقصة الدبكة.

فخر العواصم العربية لسنين طويلة … مدينة الأحلام … ألف ليلة وليلة المعاصرة … مدينة الحرية … مدينة الحرب الأهلية وعاصمتها … والدمار والقتل ورصاص القنص … والأطفال المشوهين.

صارت «بيروت» مدينةً تجمع كلَّ المتناقضات أيضًا … شوارعها تسكنها العمارات الفاخرة التي أُقيمَت على عجل … وبجوارها تتهالك عماراتٌ أخرى سكنَت فيها قذائف الموت ووخزتها رصاصات القناصة وتلطخَت جدرانها بدماء الضحايا … العاصمة التي صارَت الأولى في عدد أطفالها من مشوهي الحرب … بلا جريمة ارتكبوها أو ذنب اقترفوه … عادَت الحياة إلى «بيروت» وتنفَّسَت رئتُها مرة أخرى بالأوكسجين بدلًا من البارود … عمرت الأسواق والطرقات وأرصفة الشوارع …

دقَّت أجراس المدارس والكنائس وعلَا صوتُ المؤذن ثانية «الله أكبر» … «الله أكبر» …

عادَت الطيور الشريدة إلى أعشاشها الآمنة في «بيروت» … وعاد الهدوء والأمن يسود في الأحياء الراقية في الروشة الحمراء وغيرها … وعادَت الخدمات من جديد تُعيد تواصل ما انقطع … وكان أمرًا طبيعيًّا ظهور سيارات صغيرة مقفلة تحمل على هياكلها أسماء شركات خدمات عديدة … للكهرباء والتنظيف والمياه وغيرها …

ولذلك بدَا منظر سيارة إصلاح التليفونات فريدًا … بذلك الرسم الكاريكاتوري فوق هيكلها … وألوانها الزاهية … اقتربَت السيارة من هدفها أخيرًا … وتوقَّفَت على مسافةٍ أمام أبواب إحدى السفارات، التي كان يقف على حراستها عددٌ من رجال الأمن والقناصة … كان رجال الأمن يحملون المدافع الرشاشة في أيديهم … وعيونهم تدور في محاجرها في يقظةٍ وتنبُّهٍ … وذلك الشعار الذي يحملونه فوق أكتافهم يوضح هوية الدولة التي ينتمون إليها … دولة عربية بكل تأكيد … وأسرع اثنان من الحراس إلى سائق سيارة الهاتف، فأبرز لهما بطاقةَ هويته دون أن ينطق بحرف واحد …

وقال أحد الحراس بعد أن تفحَّص البطاقة: إذن أسرع بإصلاحِ خطوطِ الهاتف المعطلة منذ الصباح … فهناك شخصيةٌ هامة ستزور السفارة بعد قليل …

أومأ سائق سيارة الهاتف برأسه موافقًا … وحمَل أدواتِ الإصلاح من سيارته واتجه داخلًا إلى قلب السفارة … وقادَه أحدُ موظفي السفارة إلى مكان خطوط الهاتف المعطلة … وكان الموظف على حيرة بسبب تعطُّل الخطوط المفاجئة … ولو كان قد بحث جيدًا لاكتشف أنَّ يدًا قد قامَت بقصِّ الخطوط من الخارج … يد خبيرة …

وكان للسائق يدٌ خبيرة أيضًا … ففي غفلةٍ وبحركةٍ بارعة هوَى بشيء ثقيل فوق رأس الموظف الذي ترنَّح ثم تهاوَى على الأرض دون حَراك …

وتحرَّك سائق سيارة الهاتف نحو سور السفارة الخلفي، وقفز منه دون أن يلاحظَه أحد، وسار مبتعدًا بسرعة … وقبل أن تمرَّ نصف دقيقة دوَّى الانفجار الضخم الذي هزَّ نصفَ بيروت وأعاد إلى ذاكرتها ذكرى حزينة مؤلمة …

وتحوَّلَت السفارة إلى كوم من الأحجار والتراب في غمضة عين …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤