الفصل الحادي عشر

التمرد

١

في جامعة جنوب المحيط الهادي، حُدِّدَت الفروق الطبقية ضمنيًّا ولكن بشكلٍ فعَّال، وفي ظل الظروف العادية، كان رجل بثروة باني، ومظهره الجيد وأخلاقه الحميدة، لا يرتبط إلا بأعضاء الأخويات ونوادي الفتيات. فإذا تمكَّن صبيٌّ أسود من تطوير فصاحته في النقاش، أو إذا تمتَّع شخصٌ يدرُس تصميم قبَّعات النساء، أو السباكة بخفة الحركة في الوثب من فوق الحواجز؛ فقد يشارك الأول في المناظرات ويشارك الثاني في السباقات، لكن لن تُوجَّه لهما دعوة لحضور حفلات الشاي أو حفلات الرقص، ولن يُنتَخَبا لشغل مناصبَ بارزة في المنظمات الطلابية؛ فمثل هذه الامتيازات مخصَّصة للأنجلوسكسونيين الطوال القامة ذوي الملامح المتناسقة، والشعر المصفَّف للخلف، والسراويل المكوية بعناية، ولا يتكرَّر ارتداؤها أبدًا ليومَين متتاليَين.

لكن باني روس كان مُصرًّا على الانخداع ﺑ «الأفكار الخطيرة» التي أثارت غضب أصدقائه. وبطبيعة الحال، كما كان سيتوقع أي أحد، كان هناك «متطفلون» و«فضوليون»، حريصون على التدخل فيما لا يعنيهم، وعلى استعدادٍ تام للتظاهُر بأنهم يظنون أن بلادنا ينبغي ألَّا تتدخَّل في روسيا، إذا مكَّنهم ذلك الرأي من التعرُّف على واحدٍ من أفراد النخبة الاجتماعية. لذلك وجد باني نفسه يتحدث مع العديد من الأشخاص الغريبي الأطوار. على سبيل المثال، كان هناك بيتر نيجل، الذي كان والده رئيسًا ﻟ «جماعة عقلانية»، والذي بدا أنه تُهيمِن عليه رغبةٌ واحدة في الحياة؛ وهي أن يصرِّح في قاعة الدراسة بأن مشكلة العالم هي الخرافة، وأن البشرية لا يمكن لها أن تتقدَّم على الإطلاق حتى تتوقَّف عن الإيمان بالله. يمكنك أن تتخيل مدى الشعبية التي حظي بها هذا الشاب في إحدى الجامعات، التي طُلب فيها من جميع أعضاء هيئة التدريس أن يكونوا ميثوديِّين مخلصين. كان بيتر يتسم بالمظهر المتوقَّع للشخص الفظ؛ حيث كان له رأسٌ مربعٌ كبير وفمٌ عريض تبرُز منه الأسنان، وشعرٌ أصفرُ كثٌّ يتطاير حول أذنَيه مما تسبب في تساقط قشرة رأسه على ياقة معطفه الذي لم يكن يتماشى مع بنطاله، وكان يُحضِر غداءه إلى الجامعة ملفوفًا برباط!

وكان هناك جريجور نيكولاييف. عندما تعرف جريجور حق المعرفة، ستجد أنه كان لا بأس به، لكن المشكلة كانت أن معرفته كانت صعبة؛ لأن لهجته كانت غريبة، وفي اللحظات الحرجة من حديثه كان ينسى الكلمات الإنجليزية. كان لديه شعرٌ أسودُ قاتم، وعينان سوداوان يعلوهما حاجبان متجهمان، باختصار، كان يمثِّل الصورة النمطية لما أطلَق عليه الطلاب اسم «البلشفي». وبالمصادفة كان والد جريجور ينتمي إلى أحد الأحزاب الثورية التي كان البلاشفة يرسلونها الآن إلى السجن، لكن كيف يمكنك تفسير ذلك لهيئةٍ طلابية ألقَت في سلةِ مهملاتٍ واحدة الاشتراكيين والشيوعيين والنقابيين والفوضويين، والفوضويين الشيوعيين والنقابيين الفوضويين، والثوريين الاشتراكيين والديمقراطيين الاشتراكيين، والشعبويين، والتقدميين، وفارضي الضرائب الموحَّدة، والأعضاء غير الحزبيين، ودعاة السلام، والبراجماتيين، والإيثاريين، والنباتيين، ومناهضي تشريح الكائنات الحية، ومعارضي عقوبة الإعدام.

وكانت هناك أيضًا رايتشل مينزيس، التي كانت تنتمي إلى الشعب الذي اختاره الرب، ولكن لم تختَره الهيئة الطلابية المذكورة سابقًا. كانت رايتشل جميلة المظهر، ولكن بطريقةٍ غريبة وغامضة؛ حيث كانت قصيرة القامة — وهو ما كان يُطلِق عليه أعداء المرأة اسم «غير ممشوقة القوام» — ولم تكن تهتم بارتداء الملابس المُبهرَجة؛ حيث كانت تأتي إلى الجامعة مرتديةً جواربَ قطنيةً سوداء وبلوزة لا تتناسب مع تنورتها. انتشرَت شائعة مفادها أن والدها كان يعمل في مصنع للملابس، وأن شقيقها كان يكوي سراويل الطلاب لدفع تكاليف تعليمه.

وها هو مكتشف حقل نفط روس الابن والوريث الوحيد له، يسمح لنفسه بالوجود في العلن مع هؤلاء الأشخاص، بل يحاول تقديمهم لرفاقه في الأخوية، مبررًا ذلك بقوله إنهم كانوا يؤمنون ﺑ «حرية التعبير». وكأنه لم يكن واضحًا أنهم يؤمنون بها؛ نظرًا لأنهم يمتلكون كل شيء ولا يخافون من خسارة شيء. وبهذا يتحد أفراد الطبقة العاملة من جميع الجامعات.

وجد باني المسكين نفسه عالقًا بين آراءٍ متضاربة. فقد أخبره دونالد بيرنز، رئيس فصل الفرقة الثانية: «اسمع، لا تعرِّفني على أيٍّ من جنياتك اليهوديات.» وبعد ذلك، أخبرَتْه رايتشل مينزيس: «اسمع، لا تعرِّفني على أيٍّ من أصدقائك عارضي الأزياء الرجالية.» اعترض باني على هذَين الطلبَين؛ فقد كان يؤمن بفكرة أن جميع أنواع البشر يجب أن يتعارفوا، لكن رايتشل أخبرَتْه أنها تقدِّر نفسها كثيرًا. «ربما لم تُعامَل بازدراءٍ قَط في حياتك يا سيد روس، لكننا نحن اليهود تعلمنا الدرس مبكرًا في حياتنا؛ فنحن لا نذهب إلى الأماكن غير المرحَّب بنا فيها.»

قال باني: «لكن يا آنسة مينزيس، إذا كنتِ تؤمنين بالأفكار، فعليكِ تعليم الناس …»

قاطعَتْه قائلة: «شكرًا لك، أنا أُومِن بأفكاري، ولكن ليس بما يكفي لتعليم دونالد بيرنز.»

احتَج باني: «ولكن كيف يمكنكِ معرفة ذلك؟ أنت تعلِّمينني، بالرغم من عدم انتمائي إلى الطبقة العاملة.» كان قد علم أن هذه الفتاة كانت عضوةً في الحزب الاشتراكي؛ ولذلك فقد كانت تتمتع ﺑ «وعيٍ طبقي» ووعيٍ يهودي.

أصرَّت رايتشل على أن باني كان شخصًا نادر الوجود، لديه القدرة على الإيمان بما كان يتعارض مع مصالحه الاقتصادية. لكن باني لم يكن يدرك وجود أي شيءٍ استثنائي فيه. فبدلًا من أن يكون قائدًا بارزًا ومؤثِّرًا، كما وجَّهه قدره العظيم، كان يبحث دائمًا عن شخص يمكنه الاعتماد عليه، شخصٍ إيجابي، جدير بثقته. وجد بعضًا من هذه الصفات في هنريتا أشلي، التي كانت تعرف بالضبط ما هو صائب، ووجد المزيد من هذه الصفات في رايتشل مينزيس، التي كانت تتمتع بفهمٍ دقيق للحقيقة، وتعبِّر عنها بحيوية وصراحة وكأنها ومضاتٌ من البرق تُنير سماء جامعة جنوب المحيط الهادي المظلمة.

كانت المشكلة الوحيدة هي التناقُض بين هاتَين السلطتَين؛ فقد بدا الأمر كما لو أن ما هو حقيقي ليس صحيحًا وما هو صحيح ليس حقيقيًّا! وكانت هنريتا تعتبر رايتشل شخصًا لا يُطاق، وكانت في غاية التحفُّظ في حضورها؛ في حين أن فكرة رايتشل عن الإهانة كانت تتمثل في إخبار باني أن هنريتا هي من كان ينتمي إليها حقًّا، وأن خالقه خلقه ليأخذها إلى الكنيسة.

٢

وفي خِضَم هذه الحيرة، وجد باني عزاءه في دعم بيلي جورج، الذي كان أنجلوسكسونيًّا، عريض المَنكبَين، وبالإضافة إلى ذلك كان من طلاب السنة النهائية. وأكَّد له بيلي أنه على حق، واقترح عليه اتخاذ بعض الخطوات لجعل أفكارهما مفهومةً لبقية الهيئة الطلابية. وعرض عليه تنظيم جماعةٍ صغيرة، «جماعة دراسة المسائل الروسية»، أو شيء من هذا القبيل. وعلى باني أن يطلب من السيد إيرفينج تقديم المشورة لهم، وربما الانضمام إليهم؛ فمن الأفضل بكثير أن يحصلوا على دعم أحد المعلمين. لذلك ذهب باني إلى السيد إيرفينج، الذي قال على الفور إنه لا يستطيع إسداء أي نصيحةٍ حول هذا الموضوع؛ لأنه سيُعرِّض منصبه للخطر، وعلى الطلاب اتباعُ تقديرهم الشخصي للأمور. لكن المدرِّس الشاب أخبرهم أنه من الأفضل بالتأكيد عدم استخدام كلمة «الروسية»، واستخدام كلماتٍ غير مثيرة للنزاع مثل «النادي الليبرالي» أو «جماعة مناقشة المسائل الاجتماعية».

نقل باني هذه النصيحة للآخرين، واجتمع بهم في أحد الفصول بعد ساعات الدراسة. وقال بيلي جورج إن السيد إيرفينج يبدو «جبانًا» جدًّا؛ حينئذٍ احتدم غضب رايتشل مينزيس وقالت إنه ليس من حقه التلميح إلى شيء من هذا القبيل؛ فقد كانوا جميعًا على دراية بوضع المعلم، وكان لديه كل الحق في الابتعاد عن المشاكل. وتساءلَت عن سبب انتقاد السيد جورج للآخرين، في الوقت الذي لم يفعل فيه شيئًا علانية.

طالبها جورج أن تُعَرِّفه ما يمكنه فعله، ولم تتردَّد الفتاة في عرض اقتراحاتها. وقالت لماذا لا نبدأ بإصدار صحيفةٍ صغيرة للطلاب، مكوَّنة من أربعِ صفحات، مرةً واحدة في الأسبوع أو حتى مرةً واحدة في الشهر؟ ستكون تكلفتُها زهيدة، وستُحقِّق نجاحًا كبيرًا بالتأكيد؛ فقد كان هناك عددٌ كبير من الطلاب الذين أرادوا قراءة رسالة السيد روس عن سيبيريا! وإذا طبعوا تلك الرسالة، فستحدث ضجة كبيرة في الحرم الجامعي. يمكن أن يحظى السيد جورج بشرف تولي منصب رئيس التحرير، وستُسهِم رايتشل بنصيبها من التكلفة. كانت هناك سخريةٌ واضحة في ذلك، بالنظر إلى كمية الأنابيب الحديدية التي كان من المعروف أن والد بيلي يُسوِّقها في إنجِل سيتي. لكنهم ناقشوا الأمر بجدية، وأخبرهم بيلي أنه لا يستطيع تحمل أي مسئولية؛ فقد يُخرِجه والده من الكلية، ويكلِّفه بالعمل محاسبًا.

حينئذٍ، اتجهت أعين المجموعة تلقائيًّا إلى باني. ماذا كان رأيه؟ تورَّدَت وجنتا باني. لقد أراد أن يشرح أفكاره للآخرين، لكنه فكَّر في القيام بذلك بطريقةٍ لائقة، سرًّا وفي هدوء. فالصحيفة قد تتسبَّب في إحداث ضجة! كان من الواضح أن رايتشل مينزيس لم تكن تمانع في إحداث ضجة، على النقيض من هنريتا التي كانت ستشعُر بالرعب من مجرد التفكير في الأمر. وكان هناك أيضًا الأب، الذي كان سيلعن «التعليم» إلى الأبد بسبب هذا المشروع. لذلك كان على باني أن يرفض، ولم تلُمْه رايتشل مينزيس وأخبرَتْه أنه لا بأس في ذلك؛ فهناك الكثير من الأعذار، وليس عليه أن يخبرها بعذرٍ جيد، لكن عليهم على الأقل ألَّا يُعطوا أنفسهم الحق في انتقاد السيد إيرفينج بسبب افتقاره إلى الشجاعة!

٣

بعد فترةٍ وجيزة، قرأ باني في الصحيفة أن السفينة «بينينجتون» قد وصلَت إلى سان فرانسيسكو، وعلى متنها ألفَا جنديٍّ من سيبيريا. كانت وحدة بول من ضمن القوات المدرَجة على متن السفينة؛ ولذلك اتصل باني هاتفيًّا بروث ونقل لها الأخبار، وطلب منها إطلاعه على أي أخبارٍ جديدة قد تَرِد إلى مسامعها. وبعد يومَين اتصلت به روث، وأخبرَتْه أن بول قد وصل إلى بارادايس. كان يوم جمعة؛ لذلك «فوَّت» باني صفوف الدراسة بعد الظهر، وقفز إلى سيارته. كان الأب قد ذهب إلى نهر لوبوس للاهتمام بمهمة «اصطياد» أدواتٍ عالقة؛ لذا فاته اللقاء الأول.

كان قد مر قرابة عشرين شهرًا على غياب بول، وكان باني مفعمًا بالحماسة. لكنه صُدم عندما رأى بول؛ حيث بدا في حالةٍ مزرية، كان هزيلًا وشاحبًا، لدرجة أن سُترته الكاكي كانت فضفاضةً عليه. صاح باني: «هل أنت مريض؟»

قال بول: «نعم، لكنني أتحسَّن الآن.»

«بول، أخبرني ماذا حدث!»

«حسنًا، لم تكن الحرب نزهة.» وبدا أنه يظُن أن ذلك الرد سوف يُرضي أخته وصديقه بعد عام ونصف من الغياب!

كانوا في الكابينة الواقعة في أرض آل راسكوم؛ حيث كان روث وبول قد توليا مهام العناية بالمنزل لأول مرة. حان وقت العَشاء، وأعدت الفتاةُ مأدبةً متنوعة الأصناف، لكن بول لم يرغب في تناول الكثير من الطعام الآن، حسبما قال، خوفًا من الانغماس في هذا الطعام الجيد. وأثناء جلوسهم على الطاولة، أخبرهما عن مانيلا؛ حيث كانوا قد توقفوا، وعن تعرُّضهم لعاصفةٍ في المحيط الهادي، ولكنه لم يقل كلمة واحدة عن سيبيريا!

بالطبع هذا لم يكن كافيًا لهما. ولذلك بعد تناول الطعام، جعلا بول يجلس على كرسيٍّ بذراعَين، وقال له باني: «اسمع يا بول، لقد كنتُ أحاول فهم ما يحدُث في روسيا. وتسبَّب ذلك الأمر في حدوث مشاجرات مع معظم الأشخاص الذين أعرفهم، واعتمدتُ عليك لمعرفة الحقيقة. لذا من فضلك أخبرنا على الأقل بما حدث لك.»

جلس بول ورأسُه مستلقٍ إلى الخلف. أصبحَت الكآبة لا تغادر وجهه، بالإضافة إلى أنفه البارز وفمه العريض الذي كان يميل إلى التهدُّل من الجانبَين، وبرز هذا التهدُّل أكثر بسبب شعوره بالإرهاق، وبدا وكأنه يضع قناعًا حزينًا. تساءل بصوته البطيء: «ماذا حدث لي؟» وبعد ذلك بدا وكأنه يحاول أن يستجمع قواه لتذكُّر ما حدث له. «سأخبرك بما حدث يا بني، لقد خُطِفت.»

«خُطِفت!» ردَّد الاثنان الكلمة معًا.

«نعم، هذا كل ما في الأمر. لقد ظننتُ أنني التحقت بالجيش لإسقاط القيصر، لكنني خُطِفتُ على يد بعض من مصرفيِّي وول ستريت، وكُلِّفتُ بالعمل في فض الإضرابات.»

لم يكن بإمكان روث وباني سوى الجلوس والتحديق في بول، وانتظار أن يفصح عما يعنيه بهذا الكلام الغريب.

«هل تتذكر إضراب عمال النفط يا باني؟ وهؤلاء الحراس الأقوياء الذين أرسلَهم اتحاد أرباب العمل إلى هنا، ومعهم الكثير من الأسلحة، والملابس الثقيلة الجيدة، ومعاطف المطر، والقبعات المقاومة للماء وكل ما يحتاجونه. حسنًا، هذا ما كنتُ أفعله لمدة عام ونصف؛ قمع الإضرابات من أجل مصرفيِّي وول ستريت. كان الحراس هنا في بارادايس يحصلون على عشرة دولارات في اليوم، وإذا لم يعجبهم ذلك، كان بإمكانهم الاستقالة من عملهم، لكنني كنتُ أحصل على ثلاثين دولارًا في الشهر وفاصوليا، ولو كنتُ قد حاولتُ الاستقالة كانوا سيُطلقون عليَّ النار. هكذا كان المصرفيون يضيِّقون الخناق علينا.»

ساد الصمت مرةً أخرى. كان بول قد أغمض عينَيه، وروى جزءًا من قصته وهو على هذا الوضع، وكأنه كان يسترجع داخل ذهنه الأحداث التي شهدها.

«كان أول ما حدث هو استيلاء الحلفاء على مدينة فلاديفوستوك. فقد كان المضربون يفرضون سيطرتهم على تلك المدينة، وكانوا قد أنشَئوا حكومةً رائعة، وكل شيء كان يسير بنظام وسلاسة. لم يُبدوا قدْرًا كبيرًا من المقاومة؛ وذلك لاندهاشهم الشديد من سلوكنا. أطلقنا النار على بعضٍ من عمال الميناء الذين حاولوا الدفاع عن أحد المباني، وأقام المضربون جنازةً كبيرة ومسيرة، وأحضروا التوابيت الحمراء أمام القنصلية الأمريكية، بالإضافة إلى لافتاتٍ تسألنا عن سبب إطلاقنا النار على شعبهم. كان ذلك في الرابع من يوليو، وكنا نحتفل بثورتنا، فلماذا أطحنا بثورتهم؟ بالطبع لم نتمكَّن من الإجابة عن ذلك السؤال، ولم يعرف أيٌّ منا لماذا فعلنا ذلك، ولكن شيئًا فشيئًا بدأنا نكتشف السبب.»

سكت بول، وانتظر طويلًا حتى ظن باني أنه لن يكمل حديثه. «ماذا كان السبب يا بول؟»

«في الواقع، خارج تلك المدينة مباشرةً، على طول خط السكة الحديدية، كانت هناك حقول، أظن أنها كانت تمتد لمسافة عشرة أو عشرين هكتارًا، تتكدَّس فيها حتى ارتفاع عشرين قدمًا بنادق وقذائف، وقاطرات سككٍ حديدية، وقضبان ومعدات، وشاحنات، وكل ما يمكن أن يخطر ببالك للمساعدة في كسب الحرب. كان بعضها في صناديق، والبعض الآخر يغرق ببطء في المطر دون حتى غطاء من القماش المشمع، وانزلقَت بعض الأشياء الثقيلة في الوحل مسافة قدمين. وصلت قيمة هذه الأشياء إلى مائة مليون دولار، وقد فُرِّغَت من البواخر التي كان من المقرَّر توجُّهها إلى روسيا، ولكن بعد ذلك وقعَت الثورة، وتُركَت هناك. وكان من ضمن مهامنا حراستُها. في البداية، ظننا، بالطبع، أنها تابعة للحكومة، ولكن بعد ذلك تكشَّفَت لنا القصة شيئًا فشيئًا. في الأصل كانت الحكومة البريطانية قد اشترتها لصالح حكومة القيصر، وأخذَت سنداتٍ مقابلها. لاحقًا، عندما دخلنا الحرب، استحوذت شركة مورجان وشركاه على السندات من الحكومة البريطانية، وكانت هذه الإمدادات بمثابة ضمانة مورجان، وقد أطحنا بحكومة فلاديفوستوك لحمايتها له.»

ساد الصمت مرةً أخرى. قال باني بقلق: «بول، هل أنت متأكد حقًّا مما تقول؟»

ضحك بول، ولكن دون أي سعادة. وقال متسائلًا: «متأكد؟ اسمع يا بني. لقد أرسلوا بعثةً مكوَّنة من مائتَين وثمانين رجلًا لإدارة السكك الحديدية، وضمَّت هذه البعثة كل أنواع الخبراء، بمن فيهم رجال مرور، وعمال تلغراف، وعمال كهرباء، ومهندسون. كانوا جميعًا يرتدون الزي العسكري، وكانت أقل رتبة فيهم هي ملازم ثانٍ، بالطبع كنا نظن أنهم جزء من الجيش، مثلنا جميعًا. لكنهم كانوا يحصلون على رواتبَ خيالية، وبحق الرب، لم تكن هذه الرواتب من الجيش، بل كانت شيكاتٍ من أحد بنوك وول ستريت! لقد رأيتُ العشرات من تلك الشيكات. لقد كانت بعثةً خاصة، أُرسلت لإدارة السكك الحديدية لصالح المصرفيين.»

«ولكن لماذا يا بول؟»

«لقمع الإضراب، كما قلتُ لك. فقد كان هذا أكبر إضراب في التاريخ، العمال الروس ضد مُلَّاك العقارات والمصرفيين، وكان علينا أن نقمع العمال، ونساند ملاك العقارات والمصرفيين! انتشرت في كل مكانٍ مجموعاتٌ من اللاجئين، مكوَّنة من ضباطٍ سابقين في جيش القيصر، ودوقات كبار وعشيقاتهم، وأصحاب أراضٍ وعائلاتهم، وعقدت تلك المجموعات الاجتماعات حتى أعلنت عن تشكيل حكومة لها، وكانت مهمتنا هي توفير الإمدادات لها بسرعة، وكانت تطبع النقود الورقية، وتستأجر بعض المرتزقة، و«تجند» مجموعة من الفلاحين لتكوين جيش، وكان علينا نقل هؤلاء الجنود بالقطار؛ ليطيحوا بحكومة سوفييتية أخرى، ويذبحوا بضعة مئات أو آلاف من العمال. لقد كانت هذه وظيفتي طوال السنة والنصف الماضية؛ هل ما زلت تتساءل عما إذا كنتُ مريضًا أم لا؟»

قالت روث بصوت يملؤه الرعب: «بول، هل اضطررت إلى قتل الناس؟».

«لا، لا أظن أنني قتلت أحدًا. كنت نجارًا، وكانت معاركي الوحيدة مع اليابانيين، الذين كان من المفترض أن يكونوا حلفاء لنا. كما تريان، كان اليابانيون هناك للاستيلاء على البلد؛ لذلك لم يرغبوا في نجاح أيٍّ من الروس «البيض» أو «الحمر». وكان أول ما فعلوه هو تزوير أموال الحكومة «البيضاء»؛ حيث زيفوا مليارات الروبلات، واشتروا كل شيء — البنوك والفنادق والمتاجر والعقارات — وجعلوا من أنفسهم رأسماليين، وحطموا الحكومة «البيضاء» بأموالهم المزيفة. كانوا مستائين من وجودنا هناك، ومن حقيقة أننا كنا نحاول بجدٍّ مساعدة «البيض»؛ ولذا كانوا يتدخَّلون في مهامنا، ووصل الأمر في أوقاتٍ إلى اصطفاف قواتنا والتهديد بإطلاق النار خلال خمس دقائق إذا لم يتنحوا عن طريقنا. لقد كانوا دائمًا يضايقون رجالنا، وأُطلق النار عليَّ ثلاث مرات في الظلام، واخترقت رصاصة قبعتي وأخرى قميصي.»

جلست روث بيدَين مضمومتَين ووجه شاحب. كان بإمكانها في تلك اللحظة أن تتخيَّل تلك الرصاصات وهي تخترق ملابس بول! وبالتأكيد لم يساعد هذا في تخلِّيها عن كراهيتها للحرب!

قال بول: «كره الكثير من رفاقنا اليابانيين، لكنني لم أفعل. وكان الشيء الوحيد الذي تعلمته من هذا الأمر هو الفلسفة التالية. كانت الطبقات الحاكمة في اليابان تستولي على نصف قارة، لكن الجنود المساكين جميعهم كانوا يحصلون على رواتب أقل من راتبي. لم يكن لديهم فكرة عن سبب وجودهم هناك؛ فقد كانوا أيضًا مختطَفين، مثلي. سبق لبعضهم الذهاب إلى أمريكا؛ ولذا تمكَّنت من التحدث معهم، ولم نواجه أي مشكلةٍ في التفاهم. وانطبق الأمر كذلك على التشيكوسلوفاكيين والألمان، وكل جنود الدول الأخرى الذين التقيت بهم. ما أريد قوله يا باني أنه لو كان من الممكن إجراء نقاشات مع الجنود العاديين، لما قامت أي حرب. لكن هذه النقاشات تعتبر خيانة، وإذا حاولت الانخراط فيها فسيطلقون النار عليك.»

٤

تحدث بول وباني معًا في تلك الليلة، وأكملا حديثهما يومَي السبت والأحد؛ حيث شرح له بول أبعاد الثورة الروسية. قال بول إن هناك طريقةً سهلة يمكن أن يستوعب بها باني الموضوع، إذا كان هناك أي شيء يحيره، فكل ما عليه فعلُه هو أن يتذكر إضراب عمال النفط. «اسأل نفسك كيف كان من الممكن أن يكون الوضع في بارادايس، حينئذٍ ستعرف كل شيء عن روسيا وسيبيريا، وكذلك واشنطن ونيويورك وإنجِل سيتي. فأعضاء اتحاد أرباب العمل، الذين قاوموا إضرابنا، هم بالضبط من نوعية الرجال الذين أرسلوا جيشنا إلى سيبيريا، وغالبًا هم نفس الأفراد. قرأتُ في الصحيفة أمسِ كيف حصلَت مجموعة من المنقبين عن النفط في إنجِل سيتي على بعض حقوق امتيازٍ في سخالين. أتذكَّر اسمًا واحدًا، فيرنون روسكو. إنه واحد من كبار المنقبين، أليس كذلك؟»

قال بول هذا بجدية، لكن باني وروث تبادلا الابتسام. لقد كان بول بعيدًا لفترةٍ طويلة، لدرجة أنه نسي تمامًا كيف تُدار الأمور في مجال النفط!

استطرد بول قائلًا: «لم يتغيَّر شيء؛ فأرباب العمل كما هم، وكذلك المضربون. هل تتذكر ذلك اليهودي الروسي القصير ماندل، عامل الحفر الذي كان يشارك في الإضراب؟ كان يعزف على آلة البالالايكا، ويُغَني لنا أغاني عن روسيا، لكننا لم نكن نسمح له بإلقاء الخطب؛ لأنه كان يساند «الجيش الأحمر». شاء القدَر أن ألتقي به في مانيلا، أثناء خروجي من هناك. كان مسافرًا على متن باخرة، في طريقه إلى روسيا، واكتشفوا أنه بلشفي، وألقَوه على الشاطئ وأخذوا كل ما كان لديه، حتى البالالايكا. أقرضتُه خمسة دولارات، وبعد ستة أشهر ظهر في إيركوتسك في أحد أكواخ جمعية الشبان المسيحيين. كانت هناك بالالايكا ملقاةً على رف، فقال: «يا إلهي، هذه ملكي! كيف وصلَت إلى هنا؟» قالوا له إن جنديًّا قد أحضرها، لكنه لم يعرف كيفية العزف بها. وأخبروه: «يمكنكَ الحصول عليها إذا كنتَ تستطيع العزف بها»، فعزف عليها بمهارة، وغنَّى لنا أغنية «مراكبي نهر الفولجا» (فولجا بوتمان)، ثم النشيد الوطني، ولكن بالطبع لم يكن أحدٌ يعرفه. وبعد بضعة أيام صدرَت أوامر باعتقاله، لكنني ساعدتُه على الهرب. بعد أشهر، قابلناه مصادفةً في الريف، ليس بعيدًا عن أومسك، كان يعمل مفوضًا سوفييتيًّا، لكن أتباع كولتشاك أسروه ودفنوه حيًّا دون تغطية أنفه ليتمكَّن من التنفس. عندما وجدناه كان النمل قد أكل معظم عينَيه، لكنه كان لا يزال على قيد الحياة، والتجاعيد تعلو جبهته.»

أخبر بول باني بهذا الأمر عندما كانا بمفردهما، حينئذٍ تجمَّد باني في مكانه، عاجزًا عن الكلام من الرعب. قال بول: «نعم؛ هذه هي نوعية الأمور التي كان علينا أن نشهدَها ونعلم أننا مسئولون عنها. يمكنني أن أخبرك بأشياءَ أسوأ بكثير؛ فقد ساعدتُ في دفن مئات الجثث من الأشخاص، رجال ونساء وأطفال، وحتى رضَّع، ممن قُتلوا بلا رحمة، بعيدًا عن المعارك. لقد رأيتُ ضابطًا من «الجيش الأبيض» يُطلِق النار على رءوس النساء، واحدةً تلو الأخرى، برصاصنا الذي جلَبه رجال السكك الحديدية إلى هناك، أعني رجال السكك الحديدية الذين أحضرهم المصرفيون. لقد أصيب الكثير من رفاقنا بالجنون بسبب ذلك. فمن بين الألفَين الذين جاءوا على متن السفينة التي نقلَتنا، أشك في حفاظ عشرة بالمائة منهم على كامل قواهم العقلية. وقد أبلغتُ جرَّاحنا بذلك، ووافقَني الرأي.»

٥

كان كل هذا مختلفًا تمامًا عما تعلَّمه باني؛ ولذلك كان من الصعب عليه تعديل أفكاره حسبه. كان يطلق العنان لنفسه ويفكِّر في الأمر مليًّا، ثم يعود بمجموعةٍ أخرى من الأسئلة. «إذن يا بول، أنت تقصد أن البلاشفة ليسوا أناسًا سيئين على الإطلاق!»

أجاب بول: «فقط طبِّق قاعدة «تذكَّر إضراب بارادايس»! لقد كانوا عمالًا، مثل أي عمالٍ مضربين آخرين. وقد جاء كثيرون منهم من أمريكا، وتلقَّوا تعليمهم هنا. ولقد اعتدتُ الاجتماع بهم وإجراء محادثاتٍ طويلةٍ معهم، واكتشفتُ أنهم يتمتعون بشخصيات وخلفياتٍ متنوعة. وكان لديهم أفكارٌ حديثة، ويحاولون انتشال الروس من جهلهم وخرافاتهم. فهم يؤمنون بالتعليم، ولم أرَ قَط أشخاصًا يهتمون بالتعليم مثلهم؛ ففي كل مكان، مهما كانوا يفعلون، كانوا دائمًا يعظون، ويُلقون المحاضرات، ويطبعون المنشورات، عجبًا يا بني، لقد رأيتُ صحفًا مطبوعة على قصاصاتٍ قديمة من الورق البني الذي يستخدمه الجزار في تغليف اللحوم، أو الأغلفة التي كان يتخلَّص منها جيشنا. لقد تعلَّمتُ اللغة الروسية جيدًا، وكانت الأشياء التي يطبعونها تشبه ما كان يطبَعه المضربون في بارادايس، ولكن بالطبع هؤلاء الأشخاص قطعوا شوطًا أطول في صراعهم مع الرؤساء؛ فهم يرَون الأمور بشكلٍ أوضحَ مما نراها به.»

كان باني يُحدِّق فيه، وعلى وجهه شيء من الخوف. «بول! هل تتفق مع البلاشفة؟»

ضحك بول، ضحكة محبطة. «اذهب إلى سان فرانسيسكو وتحدث مع الرجال القادمين على متن تلك السفينة! لقد كان هذا الجيش مواليًا للبلاشفة، بدءًا من الجنود حتى الضباط. وأعتقد أن هذا هو سببُ إعادتنا إلى الوطن. هل علمتَ بشأن التمرد الذي حدث في أرخانجيلسك؟»

«لقد سمعتُ شيئًا عن …»

«دعني أخبرك يا باني، لقد كنتُ هناك، وأعلم ما حدث. البلاشفة هم الشعب الوحيد في ذلك البلد الذي يتمتع بأي قدْرٍ من الإيمان والتضافُر، وسيتولَّون إدارة البلد أيضًا، تذكَّر كلامي، سيخرج اليابانيون كما فعَلنا. لا يمكنكَ التغلُّب على الأشخاص المستعدين للتضحية بأرواحهم من أجل قضيتهم، حتى آخر رجل وآخر امرأة.»

قال باني بخجل: «إذن ليس صحيحًا ما قيل لنا، أعني عن تأميم النساء؟»

قال بول: «يا إلهي! أهذا هو الهُراء الذي كنت تُصدِّقه؟»

«حسنًا، أنَّى لنا معرفة ما نُصدِّقه؟»

ضحك بول. وقال: «دَعْني أفكِّر في الأمر؛ لقد التقيتُ ببعض النساء اللاتي أمَّمهُن البلاشفة، بوصفهنَّ معلماتٍ في المدارس. وعلَّمْنَ الرجال في جيوشهم القراءة والكتابة، وجعلْنَ كل رجل يتعهد بتعليم عشرةٍ آخرين ما تعلَّمه. ورأيتُ حوالَي عشرين من هؤلاء النساء في عربةٍ لنقل الماشية على خط السكة الحديدية العابر لسيبيريا، دون بطانيةٍ واحدة، ولا حتى دلو لاستخدامه كمرحاض، لا شيء سوى قطعٍ من الخشب يستعملونها كوسائد. وكان بينهن العديد من الحالات المصابة بالكوليرا الآسيوية، وظلِلْنَ على هذا الحال لمدة عشرة أو اثنَي عشر يومًا؛ لقد كُن أسرى حرب، كما تفهم، ينتظرْنَ حتى وصولهن إلى إيركوتسك؛ حيث كن سيُعدَمْنَ رميًا بالرصاص دون محاكمة. ومن ناحيةٍ أخرى، دعني أقُل لك الحقيقة، يا باني؛ لقد قضيتُ ثمانية عشر شهرًا في سيبيريا، ولم أشهد أيَّ بلشفيٍّ يرتكب أي أعمالٍ وحشية، ولم أقابل أي رجلٍ في جيشنا شَهِد ذلك. لا أقول إنه لم تكن هناك أي أعمالٍ وحشية؛ كل ما أقوله هو أنني التقيتُ برجالٍ جابوا روسيا طولًا وعرضًا، سواء من جنودنا أو من المواطنين الأصليين، وكانت الأعمال الوحشية البلشفية الوحيدة التي شَهِدها أي شخصٍ هي مهمتهم الأساسية المتمثلة في تعليم العمال أن لهم الحق في حكم العالم. ويُعزَى ذلك إلى حقيقةٍ تتعلق بالثورة الروسية، التي امتدت من فلاديفوستوك حتى أوديسا وأرخانجيلسك؛ فحيثما كان «الحمر» يرتكبون أي جريمة قتل أو إعدام، كان «البيض» يرتكبون عشر جرائم، وربما مائة جريمة. لكنك لن تسمع أبدًا عن الأعمال الوحشية التي كان يرتكبها «البيض»؛ لأن الصحف لا تنشُرها؛ فهي مشغولة جدًّا بسرد كيف قتل لينين تروتسكي، وكيف ألقى تروتسكي بلينين في السجن.»

٦

كان هذا اللقاء مع بول الحدث الأكثر إثارةً في حياة باني. فقد جعله يعيد تقييم كل مبادئه؛ فالأشياء التي كان يعتبرها سيئة أصبحَت فجأةً بطولية، في حين أن الأشياء التي كان يعتبرها جديرةً بالاحترام أصبحَت مملة فجأة. شعَر باني، الذي كان يُواجِه العالم الصناعي الحديث بمظالمه المتعددة، بأنه تائهٌ في غابةٍ متشابكة الأشجار. ولكن في تلك اللحظة بدا كما لو أنه استقل منطادًا، ورأى طريق الخروج من تلك الغابة الكثيفة يتضح له. أصبح كل شيء الآن بسيطًا وواضحًا مثل الخريطة. كان على العمال السيطرة على قطاعات الصناعة، وإدارتها لأنفسهم، بدلًا من سادَتِهم. وهكذا بإجراءٍ واحد، تُحل مشكلة الظلم الاجتماعي!

لقد سمع باني عن هذه الفكرة من قبلُ، وبدت له خياليةً وغير معقولة. ولكن ها هو بول يخبره أن هذه الفكرة قيد التنفيذ الآن! فقد أحكم مائة مليون شخص، يشغلون سدس مساحة الكرة الأرضية، قبضتَهم على قطاعات الصناعة، وتولَّوا إدارتها، ويمكن لهذا الأمر أن يُكلَّل بالنجاح لو أن منظمات العالم الجشعة تراجعَت وتركتهم وشأنهم!

ركب بول في سيارة باني ليُريَه الأخير الحقل كله. وعاينَا معمل التكرير الجديد، الذي يُعتبَر تحفةً فنيةً رائعة. ارتفع أمامهما مبنًى عظيم، مصنوع بالكامل من كومة من أوعيةِ خبزٍ ضخمة متداخلة، وتشُق طريقها نحو السماء، وكأن الملائكة كانت تصنع قطعًا من حلوى الكراميل للعالم أجمع، وأطعمةً لذيذة بنكهةٍ جديدة، وروائح ذكية قوية تنتشر فوق التلال لأميال مما تسبَّب في تخويف طيور السُّمَانى وإبعادها!

حان وقت الشفق، وكان البخار الأبيض المتصاعد من هذه الأوعية المعدنية يشوبه لونٌ أرجوانيٌّ باهت عندما اندمج مع السماء. أُضيئَت الأضواء الكهربائية البيضاء والصفراء والحمراء، حتى بدا المكان وكأنه جزءٌ من متنزه جزيرة كوني. وكان هذا التشابه يتزايد كلما ابتعدَت بالسيارة، ووصلت إلى مبنًى قصير يمتد على مسافةٍ طويلة، يختبئ فيه أربعة وأربعون هولنديًّا ينفثون دخان أربعة وأربعين غليونًا، ويفعلون كل ذلك في انسجامٍ تام، مثل الأوركسترا، كان ذلك هو أكثر مشهدٍ هزلي يمكنك تخيله؛ أربعة وأربعون أنبوبًا تنفث العوادم على نحوٍ متزامن وبوتيرةٍ واحدة!

عاود باني شعوره بالإحراج فيما يتعلق بأراضي بارادايس؛ فحقه في امتلاك كل هذه المساحات الشاسعة من الأراضي لم يكن واضحًا، وكان من المحتَّم أن يشعر بول بالغضب، بعدما يدرك كيف خُدعت عائلته. ولكن بعد ذلك، تكشفَت لباني ومضاتٌ سريعة من الوحي، واكتشَف أن هذه المشاعر القديمة صارت في طي النسيان. فبول لن يغضب أبدًا على إرثه الضائع، ولن يأخذ في الاعتبار ادعاءاتِ عائلة واتكينز، مثلما هو الحال مع ادعاءاتِ عائلة روس! فأراضي بارادايس كانت تخص عمال بارادايس، وكان معمل التكرير الجديد الرائع عبارة عن خوخةٍ ناضجة، معلقة على شجرة في انتظار أن يقطفها أحد! لم يكن ينقص الرجال سوى أن يوضح لهم أحدٌ ذلك. ولو لم يكن بول ضعيفًا ومنهكًا، لكان من الممكن أن يوضِّح لهم تلك الأمور في تلك الليلة، وكان بإمكانهم الاستيلاء على المعمل، وجعله جاهزًا للعمل تحت الإدارة الجديدة بحلول الصباح! تطبيقًا لشعار «كل السلطة للسوفييت!»

٧

عاد باني إلى الجامعة مشحونًا بهذه الأفكار الحماسية الجديدة؛ فتارة كان يرتجف من الإثارة، وتارة يخاف من إدراك ما كان يفكر فيه. حذَّره إحساسُه الداخلي من أن فكرة نزع ملكية الصناعات في جنوب كاليفورنيا لن تحظى بإعجاب زملائه في الدراسة؛ ولذلك اكتفى بنقل الأخبار السارة، وإخبارهم أن الثورة بروسيا لم تكن هياجًا وحشيًّا أعمى، بل كانت ميلادًا لنظامٍ اجتماعيٍّ جديد. استقبل بيتر نيجل كلام باني بفمٍ مفتوح عن آخره، بينما وافقَه جريجور نيكولاييف الرأي، لكنه تساءل عن سبب الزج بابن عمه في السجن، وقالت رايتشل مينزيس إنهم زجُّوا بآلافٍ من الاشتراكيين في السجن، واقترح بيلي جورج، قائلًا: «دعونا نجتمع بمجموعة من الزملاء وندَع بول يأتي ويتحدث معهم.»

انتشرَت الشائعات بسرعةٍ سحرية في جميع أنحاء الجامعة، وأكملَت خيالاتُ أصدقاء باني الخصبة كل تلك التفاصيل التي لم يبُح بها. وتداول الجميع أن باني روس كان يعرف عاملًا بلشفيًّا حتى النخاع، جعل باني بلشفيًّا قلبًا وقالبًا، وأصبح «المليونير الأحمر» هو لقبه المستقبلي. احتشَد الفتيان والفتيات حوله ليطرحوا عليه الأسئلة وليتجادلوا معه، وغالبًا ما كان يتخلل النقاشات بعضُ المشادات الكلامية الغاضبة، ومع ذلك كان الأمر مثيرًا للاهتمام، وكانوا يعيدون الكَرَّة للحصول على مزيد من المعلومات. تحوَّل باني إلى مركز للدعاية السوفييتية؛ لأنه عندما كان يعجز عن الرد على حُجَجهم، لم يكن بوسعه سوى الذهاب إلى بول للحصول على مزيد من الحقائق، ثم يعود ويلقيها على رءوس خصومه. مكث معه أعضاء الأخوية حتى ساعاتٍ متأخرة من الليل، يتجادلون بشأن تحدِّيه لكل ما كانوا يعتبرونه حسنًا.

مع الراحة والأكل المنزلي، استعاد بول صحته بقَدرٍ كبير، وبعد أسبوعَين ذهب إلى إنجِل سيتي للقاء صديق له. انضم إليه باني وخاض مغامرةً أخرى بمقابلة هاري سيجر. كان هذا الرجل، الذي يكبر بول بعشر سنوات، رئيسًا لمؤسسةٍ تعليميةٍ صغيرةٍ متخصصة في مجال الأعمال، ولكنه أثناء الحرب ترك تلك المسئولية لشريكٍ له وتوجَّه إلى «العمل مع جمعية الشبان المسيحيين». كان قد أُرسِل إلى سيبيريا لمساعدة عمال السكك الحديدية، البالغ عددهم مائتَين وثمانين عاملًا، وكانوا يتلقَّون أجورهم من المصرفيين. لقد سافر ذهابًا وإيابًا على طول الخط، ورأى كل ما يمكن رؤيتُه، والآن كان «يتحدى كل القيود»، ويكشف عن حقيقة الوضع، على الرغم من احتجاجات سلطات «جمعية الشبان المسيحيين»، والجيش، ووزارة الخارجية، ورابطة التجار وأصحاب المصانع، وكل مَن يستطيع الضغط على رئيس مؤسسةٍ تعليميةٍ صغيرةٍ متخصصة في مجال الأعمال في إنجِل سيتي.

في غضون ذلك، كان الأب مشغولًا جدًّا في العمل؛ بسبب بعض عمليات التنقيب عن النفط التي كانوا يخطِّطون لتنفيذها في أرض السيد باندي. لكن باني أصر على ضرورة مقابلته لهاري سيجر، واستدرج الاثنين لتناول الغداء، وكذلك بول، وقبل تناول الحَسَاء، كانوا قد أثاروا استياء الأب لدرجة أنه لم يكمل طعامه. بالطبع كان هلِعًا من قصتهما، ولكن لم تكن هناك فائدةٌ من توقُّع أن يعمل عقله بنفس الطريقة التي كان يعمل بها عقل باني. ولم يتمكَّن الأب من فك كل التشابكات في العالم، ولم يشعر بالرغبة في المحاولة. ما أثار قلقه هو وجود اليابانيين في سيبيريا، وأن دبلوماسيِّينا لم يكونوا على درايةٍ بوجود نفط هناك، والأهم من ذلك كله أن ابنه كان واقعًا تحت تأثير أفكارٍ جامحة وخطيرة.

كان هذا المدعو سيجر رجلًا غربيًّا ضخمًا يبلغ طوله ست أقدام، وسيمًا وكأنه من الفايكنج، وما زاد من جاذبيته هو تحوُّل شعره إلى اللون الرمادي قبل الأوان بسبب كدِّه في العمل؛ لا يمكنك إنكار الحقائق التي يرويها الرجل، وفي الوقت ذاته لا يمكنك أن تظن أنه كان يكذب، لكن لم يكن هناك أيُّ فائدة من التجوُّل في البلاد بعد طردكَ من قاعدتك العسكرية؛ لإثارة حالة من الاضطراب العام، ومهاجمة الحكومة لارتكابها خطأً فادحًا أثناء الفوضى التي كانت تسود وقت الحرب، دون معرفة كيفية تصحيح هذه الأخطاء.

أخذ باني والده رغمًا عنه إلى اجتماع للاشتراكيين، كان من المقرَّر أن يتحدث فيه هاري سيجر. أُقيم الاجتماع في قاعةٍ كبيرة، اكتظت بألفَين أو ثلاثة آلاف شخص، وظن الأب أنه لم يَرَ هذا العدد الكبير من الأشخاص الخطرين في حياته كلها من قبلُ؛ أناس فظيعين بملامحَ غريبةٍ متجهمة وشريرة، مثقفين ذوي مظهرٍ متوتر، وشَعرٍ يغطي ياقات ملابسهم، ونساء ذوات شَعرٍ قصير ونظاراتٍ كبيرة، وعمال عابسين ومتبلِّدي الحس، أو ذوي وجوهٍ حادة تبدو عليها المرارة! وكان هذا الرجل سيجر يثير جنونهم بكلامه! فقد تحدث عن «قطار الموت» الذي رآه على خط السكة الحديدية العابر لسيبيريا، ينقل أكثر من ألفَي رجل وامرأة محشورين في عربات نقل الماشية، أسرى عند «البيض»، الذين لم يعرفوا ماذا يفعلون بهم، لكنهم انطلقوا بالقطار، وتنقلوا بين مسارات القطارات لأسابيع، بينما كان الضحايا يموتون من الجوع والعطش والمرض. وكانت القوات الأمريكية تقف متفرجة، وتُطعِم هؤلاء القتلة، وتُمدهم بالمال، وتحميهم بالسلاح! ولا يزال هذا الأمر مستمرًّا! ففي تلك اللحظة، كانت القوات البولندية تغزو روسيا، مرتدية الزي الأمريكي، وتقتل العمال الروس بالذخيرة الأمريكية! فما رأي الشعب الأمريكي فيما يحدث؟

أطلق الشعب الأمريكي صرخةً مدوية، جعلَت جيه أرنولد روس يشعُر بقشعريرة تسري في عموده الفقري. نظر حوله إلى هذا المحيط البشري الذي تتلاطم أمواجه بسبب هبوب عاصفة؛ فقد كان الحاضرون يلوِّحون بأيديهم، ويضمُّون قبضات أيديهم، ويُومِئون برءوسهم لأعلى ولأسفل بحماس، وكان يعي ما يعنيه ذلك؛ فلا يمكن لأحدٍ أن يخدعه. وعلى الفور بدأ الحشد في الهتاف باسم لينين، ولكنه لم يكن يهتفُ لما فعله لينين الروسي، بل لما كان ينوي لينين الأمريكي أن يفعله. وكان شعار «كفُّوا أيديكم عن روسيا!» مجرد تمويه، فما كانوا يقصدونه حقًّا هو «استولوا على روس كونسوليديتد!»

وبعد ذلك، لمح الأب ابنه بطرف عينه. يبدو أن باني لم يشعر بذرةٍ واحدةٍ من خوف والده! بل كان وجهه يتألَّق من الإثارة مثل بقية الغوغاء. وكان يصرخ مطالبًا: «كفُّوا أيديكم عن روسيا!» وإما أنه لم يكن يعرف ما الذي كان ينوي هؤلاء الغوغاء فعله بشركة روس كونسوليديتد، أو الأسوأ من ذلك أنه لم يكن مهتمًّا!

٨

حضرَت مجموعةٌ صغيرة من طلاب الجامعة المساندين ﻟ «الحمر» اجتماع سيجر هذا، وفي اليوم التالي كانوا متحمِّسين لما سمعوه. ورفَض معظم أعضاء أخوية باني الذهاب، وبدءوا ينتقدون مناقشةً لم يسمعوها! تأجَّجَت مشاعر الغضب لدى باني عندما استمع لهم. كانت آراؤهم حول تأميم النساء، والأرقام المزيفة المتعلقة بملايين الضحايا من البلاشفة، مجرَّد هُراء! وكان من العار أن تسمح جامعة بانتشار مثل هذه الأكاذيب على أنها معلوماتٌ مؤكَّدة، ولا يُبذل أي جهد لدحضها. شارك باني هذه الفكرة مع بيتر نيجل، الذي عاد إلى منزله وتحدَّث مع والده حول هذا الموضوع، ثم عاد معلنًا أنه على استعداد للعمل محررًا لصحيفةٍ طلابية لعرض الحقيقة.

عقد المتآمرون اجتماعًا آخر، وسرعان ما حدَّدوا تكلفة الاشتراك بثلاثين دولارًا، وصوَّتوا على نَشْر صحيفة أسبوعية تحمل اسم «ذا إنفيستيجاتور»، تتكوَّن من أربع صفحات، وتحتوي على جميع أشكال الحقيقة. واتفقوا على أنَّ أفضل من يناقش المسألة الروسية هو هاري سيجر؛ لأنه كان عاملًا في «جمعية الشبان المسيحيين» ويتمتع بسُمعةٍ طيبة؛ لذلك طُلب من رايتشل مينزيس أن تكتب مقابلةً مكوَّنة من ألفَي كلمة مع السيد سيجر. كان على متمردٍ شابٍّ آخر أن يجمع الحقائق والشائعات المتعلقة بالمبالغ المدفوعة سرًّا من صندوق الخريجين؛ لجلب الرياضيين الواعدين إلى جامعة جنوب المحيط الهادي. كُلِّف باني، باعتباره شخصيةً اجتماعية، بموضوع النخبوية في الكلية؛ وذلك بسبب رفض انضمام طالبٍ هندوسي صاحب أداءٍ دراسيٍّ متميز إلى «اللجنة الأدبية».

ثم أطلق بيتر نيجل العِنان لهوايته المفضَّلة في شكل قصيدة تسخر من الإله بشكلٍ غير مبالغ فيه. كان هناك بعض التساؤلات حول الحكمة من ضم موضوعٍ ديني، لكن بيتر أكَّد على صلاحياته كمحرر، وسواء أكان محررًا أم غير ذلك؛ فقد أكد تأييده للمقولة الروسية «الدين أفيون الشعوب». وقد أيَّده بيلي جورج في ذلك، وأصَر على ضرورة أن تُغَطي الصحيفة الجديدة جميع مجالات الفكر الحديث.

كُتبَت مقالات «ذا إنفيستيجاتور» وحُررت، ووُضعَت في ألواح الطباعة ولُصقَت على «نموذج الطباعة»، ثم قُطعَت ولُصقَت بشكلٍ مختلف. وأخيرًا طُبعَت، وأصبحَت بين أيديهم الصفحات المطبوعة حديثًا، الناعمة الرطبة، وكأنها جرادة خرجَت حديثًا من شرنقتها. ستُصبِح جافةً في اليوم التالي، وحتى ذلك الحين، عليهم عدم البوح بشيء.

كيف ستُوزَّع الصحف؟ دار نقاشٌ كثير حول هذا الموضوع. اقترح باني فكرةً من أفكاره النبيلة وهي أن تُوزَّع مجانًا. لكن رايتشل جلبَت رسالةً من والدها، الخياط، الذي كان أيضًا وكيلًا للأعمال الأدبية في الحزب الاشتراكي المحلي بمدينة إنجِل سيتي، مفادُها أنه يجب بيع الصحف، وإلا فلن تحظى باحترام الناس. قال الأب مينزيس، ببصيرةٍ يهوديةٍ سليمة: «الناس يقرءون ما يدفعون مقابله مبلغًا جيدًا من المال»، وأضافت ابنته بحماسةٍ اشتراكيةٍ ملائمة: «إذا كنا نؤمن حقًّا بقضيتنا، فلن نمانع في التعرُّض للقليل من السخرية.» لقد كانت دعوةً للتضحية بالنفس، واستجابوا لها واحدًا تلو الآخر، ولكن كان يشوب هذه الموافقة بعضُ الهواجس.

لذا، في تمام الساعة الثامنة والنصف من صباح اليوم التالي، شَهِد الحرم الجامعي أمام مبنى الاجتماعات مشهدًا لم يسبق أن أثار مشهدٌ مثلُه الهيئة الطلابية في جامعة جنوب المحيط الهادي، منذ الأيام الأولى لتلك الكلية الدينية الميثودية. لقد تحوَّل مكتشف حقل نفط روس الابن والوريث الوحيد له إلى بائع صحف! ووقف على أحد المقاعد حاملًا بين ذراعَيه مجموعةً من الصحف وصاح بمرح: «ذا إنفيستيجاتور! العدد الأول من صحيفة «ذا إنفيستيجاتور»! النسخة بخمسة سنتات!»

هل اشتراها أحد؟ يا له من سؤال! احتشد حول باني ثلاثة صفوف، ولم يتمكن من إعطائهم الباقي بالسرعة الكافية، ومع انتشار الإثارة، زاد الحشد إلى ستة صفوف، ثم عشرة صفوف، وتحول الوضع إلى تجمهر! ومع ملاحظة الازدحام، جاء رجال ونساء يركضون من جميع أنحاء الحرم الجامعي. وكانوا يتساءلون: هل هناك حادث؟ قتال؟ ما الأمر؟ وشكَّل الأشخاص الذين حصَلوا على نسخهم وخرجوا من بين الحشود بؤرًا فرعية للاضطراب؛ حيث حاول الآخرون اختلاس النظر من فوق أكتافهم، وطرح الأسئلة.

استمر هذا الوضع لمدة عشر دقائق فقط، حتى خرج من مبنى الإدارة عميد الطلاب، السيد ريجنالد تي سكويرج، الحاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة؛ كان مهيبًا وبدينًا، يضع نظارةً ذهبية على أنفه وتتهدل من رقبته طيَّاتٌ من الدهون، ويشبه تمامًا أي شخص يمكن أن تقابله في مكتبِ عقاراتٍ كبير أو بنك في المدينة. بهدوء وبراعة اخترق الحشد، وبهدوء وبراعة أمسك بذراع بائع الصحف المليونير، واقتاده إلى مكتبه، وهو لا يزال ممسكًا بين ذراعَيه بمجموعة من الصحف. أمره قائلًا: «انتظر هنا»، ثم خرج مرةً أخرى وعاد ومعه بيتر نيجل، وخرج للمرة الثالثة، وكانت فريسته جريجور نيكولاييف؛ ومن ورائه جاء نواب العمداء المعيَّنون خصوصًا لهذا الغرض، بصحبة المجرمين الآخرين.

لم يستطع أحدٌ معرفة عدد النسخ التي بيعت، ولم يُكشف عن عدد النسخ غير المباعة المكدَّسة في إحدى زاويا مكتب العميد. ولكن وُزِّع ما يكفي من النسخ لتأجيج الحرم الجامعي. وكان كل ما سمعه المرء في ذلك اليوم هو «هل قرأتَها؟»، «هل حصلتَ على نسخة؟». وقفز سعر «ذا إنفيستيجاتور» إلى دولار واحد، وقبل حلول الليل بِيع بعضُها مقابل ضعف أو ثلاثة أمثال هذا السعر.

كان أحد الأسباب وراء ذلك هو وصول نسخة إلى صحيفة إنجِل سيتي الأكثر شهرة، «إيفينينج بوستر»، التي كانت تُصدِر خمس طبعاتٍ في اليوم مطبوعة باللون الأخضر. وظهر على كامل الصفحة الأولى من الطبعة الثانية، التي توفَّرَت في الشوارع في وقت الظهيرة، «العنوان الرئيسي البارز»:

وكر للجيش الأحمر في الجامعة!

الدعاية البلشفية في جامعة جنوب المحيط الهادي.

تلا ذلك خبرٌ من عمودَين، امتد حتى الصفحة الرابعة عشرة، به تقريرٌ صارخ عن محتويات صحيفة «ذا إنفيستيجاتور»، بما في ذلك الحقائق الأكثر إثارةً للدهشة حول توظيف الرياضيين في الجامعة، والنص الكامل للقصيدة الساخرة عن الإله، ولكن للأسف، لم يُذكر سوى مجرد تلميحٍ مختصر جدًّا عما قاله هاري سيجر عن سيبيريا. وفي وقتٍ لاحق من اليوم ظهرَت الصحف المنافسة «إيفينينج بوستر» و«إيفينينج رورر» و«إيفينينج هاولر»، وبالرغم من انفراد «إيفينينج بوستر» بنشر طبعةٍ كاملة قبل منافسيها، عوَّضَت الصحف الأخرى عن ذلك بذكر كميةٍ كبيرة من التفاصيل الجديدة، جُمع بعضها عبر الهاتف، وأُلِّف الباقي في مكاتب التحرير. وكان عنوان الخبر في صحيفة «إيفينينج رورر»:

اكتشاف مؤامرة للجيش الأحمر داخل الكلية

واستطردَت في ذكر كيف كانت الشرطة تُلاحِق عملاء روسيين، استغلوا طلاب جامعة جنوب المحيط الهادي لنشر دعايتهم في الصحف. أما صحيفة «إيفينينج هاولر»، التي كان ولعُها الأكبر هو «الأخبار التي تجذب اهتمام الناس»، فقد ركَّزَت على زعيم المؤامرة، وجاء عنوان خبرها كما يلي:

مليونير أحمر في الكلية!

ابن أحد أقطاب النفط يدعم السوفييت!

وقد حقَّقَت سبقًا على منافسيها بالحصول على صورة لباني، والتي حصلَت عليها عن طريق إرسال رجل إلى منزل آل روس، وإبلاغ العمة إيما بأن باني قد حصل للتوِّ على جائزة لتحقيقه أفضل أداءٍ دراسي منذ عشر سنوات. كانت السيدة حسنةَ النية متحمِّسةً للغاية، لدرجة أنها أرسلَت كبير الخدم إلى المتجر على ناصية الشارع ثلاث مرات، لترى ما إذا كانت صحيفة «إيفينينج هاولر» التي نشرَت خبر تلك الجائزة قد وصلَت!

٩

في ظل الظروف العادية، كان من الممكن أن تستمر هذه الإثارة الصحفية لمدة اثنتَين وثلاثين ساعة. وكانت صحف بعد ظهر اليوم التالي ستنقل حقيقة أن سلطات الجامعة قد حظرَت «ذا إنفيستيجاتور»، وفي اليوم التالي كانت عناوينُ الصحف ستصبح «طلاق نجمة أفلام من بطل» أو «هروب زوجة رجل أعمالٍ كبير مع شرطي».

لكن القدَر كان قد أعد أزمةً مدهشة ﻟ «داعمي الجيش الأحمر» في جامعة جنوب المحيط الهادي. ففي صباح اليوم التالي لنشر صحيفتهم، تصادف أن تعرَّضَت عربةٌ محملة بالمواد المتفجرة، كانت تشُق طريقها عَبْر وول ستريت دون الاكتراث بقوانين البلدية، لتصادُمٍ شديد وانفجرَت. وقع الحادث أمام المكاتب المصرفية لشركة مورجان وشركاه، وأدى إلى مقتل نحو عشرة أشخاص. وبعد دقائقَ قليلةٍ من وقوع الحادث، استدعى المصرفيون أشهر محقِّقي أمريكا لحل اللغز، وكان هذا المحقق رجل أعمالٍ فطنًا، استوعب أنه إذا أعلن أنه كان حادثًا عاديًّا فلن يحصل على شيء، بينما إذا أعلن أنه مؤامرةٌ بلشفية فسيحصل على عدة مئات الآلاف من الدولارات؛ ولذا لم يستغرق سوى ثلاثِ دقائقَ للنظر حوله، ثم أعلن أن الأمر كان مؤامرة.

وعلى الفور، انطلق من كل مكانٍ حشدٌ من الجواسيس والمخبرين للعمل على هذا الحادث، مدركين أنهم إذا تمكَّنوا من العثور على دليل أو تلفيقه، فسيُحقِّقون شهرةً ومالًا. واجتاحت البلد والبلدان الأخرى موجةٌ شبيهة بموجة مطاردة الساحرات، ولمدة سنتَين أو ثلاث سنوات بعد ذلك، أُعلن عن اكتشافاتٍ جديدة، وكُشفَت «أسرار» جديدة، وكان المساكين في الزنازين البولندية والرومانية يتعرَّضون لأقسى أنواع التعذيب، من خلع لأذرعهم من مفاصلها وإخصائهم، بينما ينتظر قرَّاءُ الصحف المتلهِّفون في نيويورك وشيكاغو وإنجِل سيتي بفارغ الصبر؛ الإثارةَ الموعودة.

أما في صحف إنجِل سيتي «إيفينينج بوستر» و«إيفينينج رورر» و«إيفينينج هاولر»، فكان الوضع الذي يواجهها كما يلي: إذا تمكَّنت من ربط المؤامرة البلشفية في جامعة جنوب المحيط الهادي بانفجار القنبلة في وول ستريت، فستحصُل على مبيعاتٍ إضافية تصل إلى عدة مئاتٍ من الدولارات، بينما إذا أخفقت في إثبات هذه الصلة، فسيستفيد بهذه الزيادة منافسٌ أذكى. ولما كان الأمر كذلك، استغرق الأمر من صحيفة «إيفينينج هاولر» حوالَي ساعةٍ واحدة لتتذكَّر أن هاري سيجر قد ظهر في «ذا إنفيستيجاتور»، ولتتأكَّد من عملاء رابطة الدفاع الأمريكية أن هذا المدعُو سيجر قد أدان بشدة، في اجتماعٍ جماهيري عُقِد مؤخرًا، شركةَ مورجان وشركاه، وتوقَّع لهم مصيرًا رهيبًا. ولذلك، في طبعتها الثالثة، التي كانت في الشوارع حوالي الساعة الواحدة ظهرًا، أعلنَت صحيفة «إيفينينج هاولر» للعالم الخبر التالي:

قنبلة تنبَّأ بها معاونو الجيش الأحمر

الشرطة تبحث عن العميل السوفييتي بيننا

اعترف كاتب العناوين الرئيسية بصحيفة «إيفينينج هاولر» مبتسمًا أن هذا الفعل كان ينطوي على مخاطرةٍ كبيرة، لكنه كان على دراية بعمله، وبالفعل قبل انتهاء اليوم، جاء أحد المحاربين القدامى إلى مكتب التحرير ليؤكِّد الخبر. فقبل يومَين كان قد استقل مركبةً عامة مع هاري سيجر، وتبادلا الحديث، وسمعَه يقول: «تذكَّر كلامي وتابِع الصحف؛ ففي غضون ثلاثة أيام ستقرأ أن آل مورجان قد دفعوا ثمن جرائمهم في هذه الحرب.» وجدير بالذكر إضافة أن الجندي المصاب باضطرابٍ عصبي كان يؤمن بما يقول؛ إذ تصادَف أن تطرَّق الرجلان في حديثهما إلى الغزو البولندي لروسيا، الذي كان آنذاك في أوجِه، وقال سيجر: «تذكَّر كلامي وتابِع الصحف، في غضون ثلاثة أيام ستقرأ أن البولنديين قد تقهقَروا وتخلَّوا عن موقعهم الحالي.»

قبل هذه الواقعة، كان باب مكتب مؤسسة سيجر المتخصصة في مجال الأعمال قد تضرَّر بشكلٍ كبير؛ حيث استخدم المحققون وغيرهم من الوطنيين الأزاميل لاقتحام المكان ليلًا، ولكن في الليلة التي أعقبَت «اكتشاف القنبلة» استخدموا فأسًا، وعندما وصل سيجر في الصباح وجد أن جميع أدراج المكاتب في المكان، ليس فقط أدراجه الخاصة، بل أدراج الطلاب أيضًا، قد أُفرغَت محتوياتُها على الأرض، وداست عليها أحذية الوطنيين ذات المسامير في نعالها. وقد استولَوا كذلك على ملاحظات سيجر لخطبه، بالإضافة إلى تدريبات الكتابة على الآلة الكاتبة الخاصة بطلابه، التي كانت تُعتبَر أدلةً قوية لإدانته؛ فسيجر لم يجعل طلابه يكتبون «الثعلب البني السريع يقفز فوق الكلب الكسول»، لا يا سيدي، لقد أعطاهم دعايةً ثورية من شأنها أن تثير شكوك أي وطني، ومن ذلك على سبيل المثال: «لقد خُلق جميع الناس أحرارًا ومتساوِين»، أو ما يحمل رسائلَ متهورة مثل: «إما الحرية وإما الموت!»

١٠

لم يعتقد الكثيرون في جامعة جنوب المحيط الهادي جديًّا أن «الطلاب الداعمين للجيش الأحمر» مسئولون بأي شكلٍ عن انفجار قنبلة وول ستريت، أو حتى كانوا على دراية بحدوثه. لكنهم كانوا يعلمون أن هؤلاء الحمقى السذَّج قد تعرَّضوا للتضليل، على يد رجالٍ أشرار من المحتمل جدًّا أن يكونوا قد شاركوا في المؤامرة، أو كانوا فاسدين بما يكفي لتكون لهم صلة بالموضوع. وكانوا يعلمون أيضًا أن هؤلاء الحمقى قد تسبَّبوا في الإساءة إلى شعبية الجامعة. ولذلك تعرَّض هؤلاء الحمقى للمضايقات والتهديد من قِبل الجميع، واستُدعوا إلى مكتب العميد واحدًا تلو الآخر، وهناك حقَّق معهم واستجوبَهم، فضلًا عن الرئيس كوبر والعميد سكويرج، العديدُ من السادة الصارمين الذين يمثِّلون المدعي العام للمنطقة، ووكيل نيابة المدينة والمخابرات الفيدرالية، والصحف الوطنية وجمعيات الدفاع، وإدارة استعلامات خاصة بسفيرٍ سابق من حكومةٍ روسية لم تعُد موجودة.

ثار باني روس عندما أدرك حدوث ذلك. ولكونه ابن رجلٍ ثري، فقد اعتاد أن يحصل على حقوقه، وأكثر. ولذلك كان ردُّه على أول مستجوبيه هو أن سأل بحدة: «من أنت وما دخلك بهذا الأمر؟»

قال دين سكويرج: «حسنًا يا روس، إذا كان هناك رجالٌ أشرار يهدِّدون أمن بلادنا، فأنت بالتأكيد لا ترغب في حمايتهم.»

ردَّ باني قائلًا: «الأمر يعتمد على ما تعنيه بكلمة أشرار. فإذا كنتَ تقصد الرجال الذين يحاولون قول الحقيقة، فأودُّ حمايتهم بكل ما في وسعي.»

«كل ما نريد معرفته هو ما تعرفه عن رجل يُدعى بول واتكينز.»

هكذا كان الوضع؛ إما أن يخضع باني للاستجواب على يد المحقِّقين، وإلا فسيظن الجميع أنه كان يُخفي بعض الأسرار الغامضة بشأن بول. ولذلك قال: «بول واتكينز صديقي المفضَّل. أعرفه منذ سبع أو ثماني سنوات. إنه أكثر رجل يتمتع بسلوكٍ قويم عرفتُه على الإطلاق. لقد عاد إلى الوطن مريضًا، بعدما قضى عامًا ونصفًا في الجيش في سيبيريا. كان بإمكانه مطالبة الحكومة بدفع تعويضٍ له لكنه عزيز النفس. كل ما في الأمر أنه أخبرني بما رآه بأم عينَيه، وأنا أصدِّق كل كلمة مما أخبرني به. وسوف أنقل كلامه لأشخاصٍ آخرين، داخل الجامعة وخارجها، ولن يستطيع أحدٌ أن يمنعني من فعل ذلك.»

وهكذا انتهى الأمر، وأُفرج عن باني في الوقت الحاضر. وقرَّروا أن يتعاملوا مع المتآمرين الأقل ثراءً، بدءًا من بيتر نيجل، الذي كان يتحمَّل الجزء الأكبر من الإدانة؛ لأن اسمه ظهر على الصحيفة بوصفه محررًا. أُمر بيتر على الفور بأن يتراجع عن سوء أدبه مع الرب، لكنه أقسم أنه لن يفعل ذلك؛ لذلك نشرَت صحيفة «إيفينينج هاولر» خبرًا من عمودَين بعنوان:

فصل أحد طلاب الجيش الأحمر من الجامعة

ابتسم بيتر وقال لبقية أفراد المجموعة ألا يقلقوا؛ فهو ينوي العمل في مجال الأنابيب، وسينتقم من المجتمع، وعندما يجني بعض المال سينشر صحيفةً خاصة به، ويسخر فيها من الرب كل أسبوع.

ثم جاء دور رايتشل مينزيس. كان باني قد حذَّرها من العملاء السريين، ووعدَته بأن تتحدث معهم بحدة، لكنهم استخدموا معها أسلوبًا أفقدها رباطة جأشها. فقد سألوها عن دور والدها في هذه المؤامرة. وأخبروها أنهم تأكَّدوا من أن الأب مينزيس وُلد في بولندا، وبموجب قوانين الترحيل الجديدة، بإمكانهم إلغاء أوراق تجنيسك، دون النظر إلى ما تؤمن به أو ما فعلته؛ حيث سيلقون القبض عليك ويرحِّلونك في سفينة، تاركين عائلتك وراءك لتجوع. لم يكن من حقك اللجوء إلى القضاء، ولا اللجوء إلى أي أحد. علاوةً على ذلك، إذا رُحِّل رجلٌ داعم للجيش الأحمر إلى بولندا في هذه الأيام، فلن يُحاكم ولن يُطرح عليه أي أسئلة، فقط سيقف أمام الحائط ويُعدَم رميًا بالرصاص.

وهكذا انفجرَت رايتشل في البكاء أمام هؤلاء الغرباء، وأعلنَت أن والدها كان اشتراكيًّا وليس شيوعيًّا، كما لو أن ذلك سيعني شيئًا لأي وطني! ألم يكن الاشتراكيون يعارضون الحرب منذ البداية؟ ألم يكن المدعي العام في واقع الأمر يتآمر للترشُّح لمنصب الرئيس في المؤتمر الديمقراطي القادم، وكان يستند في مطالبته بهذا الامتياز إلى حملته الشجاعة للقضاء على خطر الجيش الأحمر؟

اتصلت رايتشل هاتفيًّا بباني، فقفز في سيارته وذهب لزيارة الرئيس ألونزو تي كوبر، الحاصل على دكتوراه في علم اللاهوت والفلسفة والقانون، في المساء في المسكن الخاص بذلك الشخص الجليل، مخالفًا آداب السلوك المعمول بها في الجامعة. وبدأ حديثَه بالإعلان عن قراره الخاص، الذي يتمثل في استعداده للموافقة على عدم القيام بمزيد من «الدعاية» العامة أثناء فترة دراسته في الجامعة، لكنه أراد أن يضيف أنه إذا سمحَت السلطات بترحيل السيد مينزيس عقابًا على كتابة ابنته لمقالةٍ نقدية عن محاضرة، فهذا يعني أن باني روس سيشن الحرب عليهم، مستخدمًا بعضًا من أموال والده للكشف عن أمورٍ مهمة، قبل أن يغادر جامعة جنوب المحيط الهادي.

احمرَّ الوجه المستدير للدكتور المبجل حتى جذور شعره الأبيض الثلجي، وهو يستمع إلى هذا الابتزاز الصريح. وقال: «أيها الشاب، يبدو أنك تُغفِل حقيقة أن سلطات الجامعة لا علاقة لها بقرارات حكومة الولايات المتحدة.»

أجاب الشاب: «دكتور كوبر، تعلمتُ من والدي أن أذهب إلى مقر القيادة عندما أريد إنجاز الأمور. أعلم أنك إذا أخبرتَ هؤلاء الحمقى في الدفاع أنك تريد تسوية هذه المسألة، فسيمتثلون لطلبك. وأودُّ أن أضيف أنه على الرغم من أنني لم أقابل السيد مينزيس مطلقًا، فأنا أعرف ابنته، وقد قدَّمَت لنا أفكاره عدة مرات، وهو يؤمن بالديمقراطية وتثقيف الناس، وكانت كل نصيحة من النصائح التي أرسلَها لنا تتماشى مع هذَين المبدأَين. وهو ينتمي إلى مجموعة الاشتراكيين اليمينيين، ويُعارِض حركة البلاشفة. وبالتأكيد أنت تعرف ما يكفي عن الوضع لتُدرِك أن هذا ليس نوع الأشخاص الذين من المفترض أن نُرحِّلَهم.»

تبيَّن أن الدكتور كوبر لم يكن يعرف الكثير حقًّا، لكنه كان على استعداد للتعلم. لقد كان الأمر هزليًّا إلى حدٍّ ما؛ ففي ظل السخط الذي كان يتعيَّن عليه أن يشعر به رسميًّا، كان لدى السيد العجوز فضولٌ غير منطقي بشأن هذه الأفكار الجديدة الغريبة، التي أغرت طالب الفرقة الثانية المليونير المميَّز. وبدأ باني يخبره عن بول واتكينز، وعن هاري سيجر، وعن خلفياتهما وما شهداه في سيبيريا ورأيهما في هذا الشأن، ورأي باني في كل ذلك. سأل الدكتور أسئلةً ساذجة وطفولية، لكنه حاول أن يفهم، وأعطاه باني محاضرةً كاملة استمرَّت ساعتَين عن البلشفية مقابل الاشتراكية. في النهاية، ربَّت على ظهر طالب الفرقة الثانية المليونير المميَّز وتركه يرحل، وأكَّد له أن الأب مينزيس لن يُرحَّل ما دام يُحسِن التصرف، وحذَّره تحذيرًا رصينًا مفاده أنه في حين أن العقول الناضجة، مثل عقول الدكتور كوبر، كانت مجهَّزةً للتعامل مع هذه الأفكار الجديدة الخطيرة، لا يمكن الوثوق في عقول الطلاب غير الناضجة!

١١

كان من المقرَّر أن يتقابل باني مع هنريتا أشلي. لم يكن الأمر شاقًّا كما خشي باني؛ لأنها أخفت حزنها تحت عباءة الكرامة. وأخبرَتْه: «أنا آسفة يا أرنولد، لكنني بدأتُ أخشى من أن هناك شيئًا بداخلك يستمتع بهذه السمعة السيئة.» حاول باني أن يكون متواضعًا ويقبل هذا التوبيخ، لكنه لم يستطع؛ فقد كان يشعُر بالملل من أفكار هنريتا، وعندما تشعُر بالملل، يصعب عليك الحفاظ على تخيلاتك الرومانسية عن فتاة.

وبعد ذلك حان وقتُ التعامل مع الأهل! وأوَّلهم العمة إيما التي كانت تبكي في ذعر وتشوُّشٍ شديدَين. فباني لم يحصل على تلك الجائزة! وقد ثبت في ذهن العمة إيما بطريقةٍ ما فكرة وجود جائزة، وأن باني كان من الممكن أن يحصل عليها لولا الجيش الأحمر. فقد كان العملاء البلاشفة يشكِّلون خطرًا فظيعًا وصل حتى بيتها! لقد سمعَت العمة إيما قصصًا مروِّعة من المحاضرين في نادي السيدات الذي ترتاده، لكنها لم تتخيل قطُّ أن مبعوثي الشيطان هؤلاء قد يُغْوون ابن صهرها العزيز! قال ابن صهرها: «انتبهي يا عمتي! قد تكونين التالية!»

ثم بيرتي. تلك الفتاة الجامحة! فقد دُعيَت إلى حفلة بمنزل آل أثرتون ستيوارت الموقرين، لكنها أصبحَت تخجل من الوجود بين الأشخاص المحترمين. كان هذا ما يحدث في كل مرة، فما إن تحقق انتصارًا اجتماعيًّا، حتى كان باني يأتي ويحطِّم ما حقَّقَته. لقد كان الأمر الأكثر إثارة للاشمئزاز على الإطلاق، وكان يُظهِر أنه لا يتمتع بذوقٍ راقٍ. كانت بيرتي وباني يُحب أحدهما الآخر، وكان أحدهما يُطلِق على الآخر أسماءً بشعة في صراحةٍ أخويةٍ حقيقية.

أخيرًا جاء دور الأب، الداعم المثالي، الذي لم يكن يتفوَّه بكلمةٍ واحدة ولا يطرح سؤالًا، وعندما بدأ باني في شرح الوضع، قال: «لا بأس يا بني، أعرف كيف حدث ذلك.» وكان بالفعل محقًّا في ذلك؛ فقد كان يعرف بول وهاري سيجر، وكان على دراية بطريقة تفكير ابنه. وكان يعلم طبيعة الحياة المأساوية؛ حيث يجب على كل جيل أن يتعلم من أخطائه.

سرعان ما تلاشت الضجة بشكلٍ مفاجئ. وفي غضون أيامٍ قليلة، كان زملاء باني «يسخرون» منه، وتحوَّل الأمر كله إلى مزحة. ولم يكن هناك سوى عاقبةٍ وخيمةٍ واحدة، وهي تلقي السيد دانييل ويبستر إيرفينج رسالة من الرئيس كوبر، يُخبره فيها مسبقًا، من باب اللياقة، بأن عقده مع جامعة جنوب المحيط الهادي لن يُجدَّد للعام المقبل. أراها المدرس لباني وهو يبتسم ابتسامةً جافة، وكان باني غاضبًا وأراد ابتزاز الدكتور المبجَّل مرةً ثانية. لكن السيد إيرفينج أخبره أن ينسى الأمر؛ فهناك طرقٌ كثيرة جدًّا لجعل حياة معلمٍ غيرِ مرغوب فيه بائسة. أما هو فسيُقدِّم أوراق اعتماده في وكالات التوظيف، ويُرسِل الكثير من الرسائل، وسينتقل إلى مكانٍ جديد. وأضاف قائلًا: «هذا على افتراض أنني سأتمكن من الحصول على وظيفةٍ جديدة. فلديهم تنظيمٌ محكَم للغاية، وقد أجد نفسي مدرجًا في القائمة السوداء للأبد.»

«برأيك، كيف تمكَّنوا من الوصول إليك يا سيد إيرفينج؟»

قال الآخر: «كان لا بد من حدوث ذلك. فلديهم جواسيسُ كثيرون.»

«لكننا كنا حذرين للغاية! ولم نذكُر اسمك قطُّ، إلا في مجموعتنا الصغيرة!»

«من المحتمل أن يكون لديهم جاسوسٌ بينكم.»

«أتقصد طالبًا؟»

«بالطبع.» وابتسم السيد إيرفينج لعدم تصديق باني، ومد يده إلى مكتبه وسحب ورقةً منسوخة. وقال: «لقد سلَّمني هذه صديقٌ لي في العمل.»

لقد كانت إحدى النشرات الأسبوعية الخاصة ﺑ «رابطة تحسين أمريكا»، وهي منظمةٌ دعائية لرجال الأعمال في إنجِل سيتي. وكانت توضِّح كيف كان لديهم عملاءُ في الكليات والمدارس الثانوية، لتدريب الطلاب على مراقبة معلميهم وزملائهم الطلاب، والإبلاغ عن أي علاماتٍ تشير إلى خطر وجود الجيش الأحمر. وتفاخرَت الرابطة بتمويلها الذي سيصل إلى مائة وستين ألف دولار سنويًّا على مدى السنوات الخمس المقبلة. تلقَّى الشاب المثالي ضربةً جديدة على رأسه بسبب اصطدامه بالواقع الأليم! جلس باني يفكِّر في أعضاء المجموعة الصغيرة. «مَن يا ترى؟»

قال السيد إيرفينج: «لا بد أن يكون شخصًا يساند الجيش الأحمر بشدة. فهكذا تسير الأمور؛ حيث يبحثُ الرجل عن شيءٍ ما للإبلاغ عنه، وعندما لا يجد شيئًا، يميل إلى إثارة المشاكل. لذلك دائمًا ما يصبح الجاسوس محرضًا. يمكنك اكتشافُه من خلال حقيقة أنه يتحدث كثيرًا ولا يفعل شيئًا؛ فهو لا يستطيع تحمل مسئولية اعتباره قائدًا.»

صاح باني: «يا إلهي! لقد وعدَنا بمساعدتنا في بيع تلك الصحف، لكنه لم يأتِ!»

«من؟»

«بيلي جورج. فهو لم يرضَ قطُّ عن مجهوداتنا لمساندة الجيش الأحمر! وكان السبب وراء ظهور تلك القصيدة الحمقاء لبيتر نيجل في الصحيفة. والآن نأى بنفسه عنا، ولم يُذكر اسمُه في الفضيحة.»

ابتسم السيد إيرفينج. «حسنًا يا روس، لقد شهدتَ بعينَيك أفعال الجيش الأبيض المرعبة! وستجد أن هذا سيساعدك على فهم تاريخ العالم. ولحسن الحظ، أنت غني؛ ولذلك لم يكن الأمر سوى مجرَّد مزحةٍ بالنسبة لك. لكن لا تنسَ أنك لو كنت يهوديًّا روسيًّا فقيرًا تعيش في الأحياء الفقيرة، لكنتَ الآن في السجن، بكفالةٍ قدرها عشرة آلاف دولار، ومحكومًا عليك بعشرة أو عشرين عامًا في سجن الدولة. ولو كنتَ تعيش في بولندا أو فنلندا أو رومانيا، لكنتَ أنت وكل أفراد مجموعتك الصغيرة مدفونين في خندقٍ موحل منذ أسبوع!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤