الفصل الثاني عشر

يخت «السيرانة»

١

أتى فصل الربيع مجددًا، وكان باني ينهي عامه الثاني في جامعة جنوب المحيط الهادي. لكن سحر المؤسسة العظيمة كان الآن قد تلاشى، ولم يعُد باني يُقدِّرها كما كان يفعل سابقًا. وبدأ يدرك أن المواد الدراسية مملة، وأنها تُعلِّمك الكثير من الحقائق القليلة الأهمية، ولا تُشجِّع على التفكير الجديد والمبتكَر. كان الشيء الوحيد الذي حصل عليه هو اقتراحات لبعض الكتب القيِّمة التي نوى أن يقرأها، ولكنه وجد أنه من الأفضل فعل ذلك في الديار. وبدأ يفكِّر فيما إذا كان سيعود للجامعة في العام المقبل أم لا.

بدا أن الأمور كانت أكثر استرخاءً في بارادايس. فقد عاد بول للعمل رئيسًا للنجَّارين في الشركة، واستعاد جزءًا من عافيته، وبدأ يجني مالًا وفيرًا، وذلك لزيادة الطلب على عمال البناء؛ إذ توجَّهَت البلاد إلى تعويضِ ما خسرَتْه من منشآتٍ في فترة الحرب. كانت روث سعيدة مجددًا، وبالرغم من إعجاب ثلاثة على الأقل من عمال النفط بها، لم تكن تفكِّر في أحدٍ سوى أخيها الرائع. عاود بول الدراسة، ولكنه لم يعُد يهتم بكتب علم الأحياء؛ فقد كان ينفق كل أمواله على المجلات والكتيبات والكتب التي تتناول موضوع نضال العمال. وكان يعمل في الشركة عددٌ لا بأس به من الجنود العائدين من الحرب، وكان بعضهم يُفكِّر فيما حدَث في الحرب تمامًا مثل بول؛ ولذلك كانوا يجتمعون بانتظامٍ مرتَين في الأسبوع، ويقرءون بصوتٍ عالٍ فصلًا من أحد الكتب ويناقشونه.

وهكذا تحوَّلَت كابينة آل راسكوم إلى ما اعتادت صحف إنجِل سيتي وَصْفَه ﺑ «الوكر البلشفي». وبالرغم من اختلاف هؤلاء العمال في نهج تفكيرهم، فقد كانوا متحدين في اعتقادهم بأن أصحاب رأس المال والعمال على طرفَي نقيض ولا يجمع بينهم سوى النضال. ولم يتردَّدوا في البوح بذلك؛ حيث كانوا يبدءون النقاش أثناء العمل، أو أثناء تناول مجموعة من الرجال طعام الغداء، حتى تتردَّد أصداء أصواتهم في كل مكان. كان يعمل في الحقل أيضًا «أعضاء اتحاد العمال الصناعيين في العالم»؛ حيث كان من الممكن العثور على منشوراتهم في استراحات العمال. لا بد أن الأب كان على علمٍ بهذا الأمر، لكنه لم يفعل شيئًا حياله؛ فقد كان رجاله دائمًا يتمتَّعون بحرية التعبير عما يحلو لهم، وكان مستعدًّا لتحمُّل المخاطر الناجمة عن ذلك. وبالفعل، لم يكن بإمكانه فعل أي شيءٍ آخر، في الوقت الذي كان يعلم كل رجل في المكان أن مكتشف الحقل ووريثه الوحيد كان من «أكثر داعمي الجيش الأحمر» في المجموعة!

منذ الحرب، أصدرَت الحكومة مرسومًا للاعتراف باتحاد عمال النفط والتعامل معه. ولكن الآن بدأَت قبضة الحكومة الأمريكية في التراخي، وكان الرئيس المحب للمثالية شبه عاجزٍ في واشنطن، وفي إنجِل سيتي كان الحشد المعاضد ﻟ «الجماعة المناهضة لفكرة الاتحادات» يستعد لاستعادة الأيام الخوالي. على الأقل كانت هذه هي الشائعة التي انتشرَت بين مسئولي الاتحاد، الذين كانوا يفكِّرون في كيفية التصدي لتحركات أصحاب الأعمال. انتهَت اتفاقات الأجور قرب نهاية العام، وسيطر هذا الموضوع على جميع نقاشات عُمال النفط، سواء العُمال «المساندون للجيش الأحمر» في كابينة بول، أو العمال العاديُّون. وكان يلُوح فوق رأس باني شبَح احتمالٍ كان ينظر إليه بقَدْرٍ كبيرٍ من الهلع والخوف، وهو احتمال وقوع إضرابٍ آخر.

لم يتخلَّ الأب قطُّ عن رغبته في أن يهتمَّ ابنُه بالشركة وأنشطتها المتنامية. وكان باني، الذي كان مدركًا دائمًا لرابطة الحب هذه، يدرُس تقارير الإنتاج الشهرية، وقوائم التكاليف والأسعار، ويُعايِن الآبار قيد الحفر، ويُشارِك في مشاوراتٍ طويلة مع رؤساء العُمال. قبل بضع سنواتٍ فقط، كانت آبار النفط بالنسبة له الشيء الأكثر إثارةً للاهتمام في العالم، لكن القدَر القاسي أفقد آبار النفط متعتَها وجعلها تشبه بعضها! فبالنسبة له أصبح الأمر مقتصرًا على أن البئر رقم ١٤٢ حقَّقَت ستمائة ألف دولار، في حين حقَّقَت البئر رقم ١٤٣ أربعمائة وخمسين ألف دولار فقط. وكذلك لم يحدث هذا الاختلاف في الأرباح فارقًا؛ فكل ما كان بإمكانك فعلُه بالمائة والخمسين ألفًا الإضافية هو حفرُ بئرٍ أخرى.

كان لدى الأب إجابةٌ واحدةٌ مخزَّنة داخل عقله: «يحتاج العالم إلى النفط.» حينئذٍ ستنظر إلى العالم، وسترى حشودًا هائلة من الناس يقودون سياراتهم إلى أماكن لم يكونوا فيها أفضل حالًا من أوطانهم! لكنك إذا أخبرتَ الأب بذلك، فسينزعج لأن هذا يتعدَّى نطاق تفكيره. بدا الأب لباني وكأنه حصانٌ عجوزٌ مربوط في طاحونة، يستمر في السير طوال النهار، ويكمل السير ليلًا في أحلامه. إذا أبعدتَه عن الطاحونة، فسوف يموت؛ لأنه لم يعُد لديه سببٌ يعيش من أجله.

تعلَّم باني أن يحتفظ لنفسه بشكوكه الخائنة، ونظريات «الصراع الطبقي» التي تعلمها من بول وزملائه، وشائعات الإضراب التي قرأ عنها في جريدة عمال النفط. وبدلًا من ذلك، كان يصطحب الأب لصيد الأسماك، وكانا يتظاهران بأنهما يشعُران بالسعادة التي كانا يشعران بها فيما مضى في حضن الطبيعة الأم، على الرغم من أن الحقيقة المُرة كانت زيادة وزن الأب وتصلُّب مفاصله، لدرجة أنه لم يعُد يستمتع بتسلق الصخور.

٢

قضى باني إجازة عيد الفصح في بارادايس، وتصادف حدوث ذلك مع زيارة فيرنون روسكو للمنطقة. كان قد سبق له زيارة المكان، ولكن حدث ذلك في فترة غياب باني، وكانوا يعقدون اجتماعاتٍ قصيرة في المكتب، وسط ضغوط العمل. كان لدى باني انطباعٌ عام عن وجه فيرنون الكبير وجسده الضخم وصوته الجَهْوري. قال الأب إن «فيرن» كان يتمتع أيضًا بقلبٍ كبير؛ كان دليل باني الوحيد على ذلك هو أن السيد روسكو قد ربَّت على ظهره، ودعاه «جيم الابن» بحماسٍ كبير.

ها قد وصل إلى بارادايس، وتصادف أن هبَّت مع وصوله ريحٌ صحراوية، تسبَّبَت في صنع مزيجٍ غريب. عادةً ما كانت حرارة النهار محتملةً في بارادايس، ولطالما كانت الليالي باردةً ومنعشة، ولكن كانت تهبُّ رياحٌ آتية من الصحراء ثلاث مرات أو أربعًا في السنة، ويصبح الطقس كما لو أن يدًا حارقةً تلتف حول حلقك. «درجة الحرارة مائة وأربعة عشر فهرنهايت في الظل، وليس هناك أي ظل»، هكذا عبَّر عُمال النفط عن الوضع، وهم يواصلون العمل في الشمس، ويتجرَّعون كمياتٍ كبيرة من ماء الشعير. أسوأ ما في الأمر هو أن الرياح الساخنة كانت تهبُّ طَوال الليل؛ ولذلك كانت المنازل، التي كانت تسخن مثل الأفران، تظل محتفظة بهذه الحرارة لمدة ثلاثة أو أربعة أيام.

غادر «قطب النفط»، كما أطلقَت الصحف على فيرنون روسكو، إنجِل سيتي بعد العشاء، ووصل إلى الكابينة قبل منتصف الليل بقليل. كان الأب وباني ينتظرانه، جالسَين في الشرفة، وعندما رآهما، بدأ يتحدث قبل حتى أن يتوقف محرك سيارته. «مرحبا يا جيم! مرحبًا يا جيم الابن! يا إلهي، ما هذا الطقس! بحق السماء، لم أشعر قَط بمثل هذه الحرارة. هل سيكون الوضع هكذا غدًا؟ يا للهول، أعتقد أنني سأستدير وأهرب!»

خرج من السيارة، وتوجَّه إليهما؛ كان وجهُه مستديرًا مثل القمر الذي كان يسطع فوق رأسه نصف الأصلع. كان قد خلع معطفَه وقميصَه، وكان يرتدي قميصًا داخليًّا من الحرير الوردي، وبالطبع، لم يكن هناك عَرقٌ لأنك عندما تقود سيارتك في حرارة الصحراء هذه تظل جافًّا طوال الوقت، قد تتوقف عند محطة وقود وتقف تحت خرطوم ماء، لكن في غضون بضع دقائق ستجفِّف الرياح كل شيء ما عدا مكان جلوسك.

قال الأب: «مرحبًا يا فيرن»، وقال باني: «كيف حالك يا سيد روسكو؟» كان باني حريصًا على جذب يده بعد مصافحة رجل الأعمال قبل أن يقبض رجل الأعمال على يده؛ لأنه كان سيسحق عظامه بقبضته القوية. كان يعمل في السابق راعي بقر في أوكلاهوما، وقيل إنه أمسك بسارق خيول مكسيكي بيدَيه وثناه إلى الخلف حتى انكسر عموده الفقري. كان لا يزال يتمتع بهذه القوة، على الرغم من طيات الدهون.

قال ردًّا على سؤال باني المهذَّب: «أشعُر بحرٍّ شديد. هل تعتقد يا جيم أنه من الأفضل أن أبقى؟»

قال الأب: «عليك أن تبقى. فأنا لن أستمر في تطوير أرض باندي حتى تُلقيَ نظرة على الحقل. لا تقلق، سنُوفر لك سبل الراحة.»

«هل وصلَت الجعة الخاصة بي؟ مرحبًا، يا كونو» وجَّه هذه التحية للياباني الذي كان يقف مبتسمًا ابتسامةً عريضة عند مدخل المنزل. «أحضر لي بعضًا من الجعة الخاصة بي! أحضر لي دلوًا، أو ربما برميلًا. يا إلهي، أحضرتُ بعضًا منها في سيارتي؛ فأنا لن أجازف بنفادها. هل سمعتَ ما حدث لبيت أورايلي؟ حاول الأحمق عبور الحدود ومعه صندوق من الويسكي في سيارته، لقد أخبرني أن ربع الجالون كلفه مائة دولار قبل أن ينجح في المرور! بحق السماء، كيف تتحمَّل هذا الطقس؟»

«حسنًا، السبب الأول هو أنني أشرب عصير الليمون بدلًا من الجعة.» كان هذا أحد التغييرات التي فرضَها باني على والده، وكان الأب فخورًا جدًّا به.

قال فيرن: «إذن لا تُحضِر لي جعة! سأشربها في حوض الاستحمام. هل هناك أي نساء في الجوار؟» خلع السيد روسكو حذاءه وسرواله، وجلس تحت مروحةٍ كهربائية. وقال: «المروحة اللعينة تنفث هواءً ساخنًا!» ثم نظر إلى باني. وقال: «حسنًا، ها هو ولدنا البلشفي! أين تحتفظ بالعلم الأحمر؟»

كاد باني يبلغ سن الحادية والعشرين الرائعة في غضون شهر أو شهرَين، وكان قد سمع كل النكات المختلفة الممكنة عن «البلاشفة». لكنه كان المضيف، وكان عليه أن يبتسم. قال: «أرى أنك تقرأ الصحف.»

«بالتأكيد يا صغيري؛ فأخبارك وصلَت إلى الصفحة الأولى! ولقد ساعدَني ذلك كثيرًا في بعض المفاوضات. تعالَ إلى المكتب وسأقدمك إلى مفوِّضٍ سوفييتيٍّ متخفٍّ؛ فهم يحاولون أن يبيعوا لي حق امتياز في جبال الأورال. لكنني لا أعلم أين يقع هذا بحق الجحيم. ولكن يبدو أن هناك بالفعل مكانًا كهذا، إلا إذا كانوا قد زوَّروا بعض الأطالس. فقد بدأ الرجل يتحدث عن أن جميع البشر إخوة، فقلتُ له بالتأكيد، أنا على دراية بهذا الموضوع. فالعضو الأصغر في شركتنا يعمل في هذا المجال. انظر إلى هذا، وأريتُه الصحيفة، ولقَّبني منذ ذلك الحين بلقب «توفاريش» (كلمة روسية تعني الرفيق)!»

٣

ذهب التوفاريش روسكو للنوم على فراشٍ صغير قابل للطي في الفِناء بجوار النافورة، مرتديًا منامة من الحرير الأخضر النيلي، وفي الخامسة صباحًا أيقظوه، ليُرافق الأب والجيولوجي والمهندس، للموافقة على خطط أرض باندي. عند عودته كانت أشعة الشمس ساطعة؛ ولذا كان ينفُخ ويتذمر، ويصرُخ طالبًا الجعة بدلًا من الإفطار، ويتساءل كيف سيتمكن من الحصول على المزيد منها عندما تنفَد. لقد أقنعوه بعدم عبور الصحراء حتى تغرب الشمس؛ ولذلك مكث هو والأب وباني في غرفة المعيشة، وأغلقوا جميع الأبواب والنوافذ، للحد من شدة الحرارة قَدْر استطاعتهم.

كانت الشمس تركِّز أشعتها على سطح ذلك المنزل وجدرانه، وكان الرجل العظيم ينهض وينظر إلى مقياس الحرارة كل عشر دقائق، ويطلق مجموعة من مصطلحات سائقي البغال. بحلول منتصف الصباح ثار هياجه، وأصَر على وجود طريقةٍ ما لتبريد درجة حرارة المنزل. واقترح أن يُحضِروا خرطومًا ويغرقوا هذه الغرفة بالماء! لكن باني، الذي درس الفيزياء، قال إن ذلك لن يؤدي إلا إلى تحويل المُناخ من مناخٍ صحراوي إلى مُناخٍ عالي الرطوبة، يشبه مُناخ منطقة نهر الكونغو. حينئذٍ اقترح السيد روسكو وضع الخرطوم على الشرفة والسقف، واستدعى باني الصبي البستاني، وسرعان ما بدأَت ستة رشاشات مياه في رش الماء في كل مكان، كأنما كانت هناك عاصفةٌ مطرية منتظمة تضرب أبواب غرفة المعيشة ونوافذها.

لكن ذلك لم يكن كافيًا؛ ولذا توجَّه الأب إلى الهاتف واتصل برئيس العمال في متجر الصفائح المعدنية، وسأله عما إذا كان بإمكانه تصميم ثلاجة وأجابه الرجل بأنه يستطيع، طلب منه الأب ترك كل شيءٍ آخر وبناء واحدة، وسيدفع للرجال دولارًا إضافيًّا إذا انتهوا من العمل خلال ساعة. وهكذا جاء أربعة رفاقٍ بشاحنة عليها صندوقٌ معدنيٌّ كبير بجدرانٍ مزدوجة من الأرض حتى السقف، وفتحوا فتحة في الأرض لأنبوب التهوية، وأحضَروا حوالَي نصف طن من الجليد المتشقق من مصنع الثلج، بالإضافة إلى بضعة أكياس من الملح، وفي دقائقَ قليلة أظهر مقياس الحرارة أن درجة حرارة الرياح الخارجة من الجزء السفلي من هذا الصندوق هي صفر. اقترب الرجل العظيم منه، وبعد قليل بدأ يتنهَّد في رضًا، وبعد نصف ساعة عطس بصوتٍ عالٍ، ودوَّت أصوات ضحكاتهم. بعد ذلك، شعَر بالنعاس؛ بسبب كل ما شربه من الجعة، ونام في حجرة الجلوس، بينما خرج الأب ليراقب عملية الحفر. بعدئذٍ تناولوا الغَداء، وحصل السيد روسكو على قيلولةٍ أخرى، شعَر بعدها بأنه بخير، وتحدَّث كثيرًا، وتعلَّم باني المزيد عن العالم الذي كان يعيش فيه. قال «قطب النفط»: «جيم، أريد مائتي ألف دولار من أموالك.»

قال الأب، بودٍّ: «أين بندقيتك؟».

«سوف تسترد المبلغ أضعافًا مضاعفة. فأنا وبيت أورايلي وفريد أوربان نجمع بعض التبرُّعات. لا يمكننا أن نُخبر سوى عددٍ محدود من الأشخاص.»

«ماذا هناك يا فيرن؟»

«حسنًا، نحن نستعد لمؤتمر الحزب الجمهوري، ولا نريد أستاذًا جامعيًّا لعينًا متذمرًا كئيب الوجه! نريد رجلًا بشوش الوجه، مثلي ومثلك، يا جيم! سأذهب إلى شيكاجو وأختاره.»

«هل تفكِّر في شخصٍ بعينه؟»

«أنا أتفاوض مع رجل من ولاية أوهايو، يُدعى بارني بروكواي، يتولى شئون الحزب هناك. يريد منا أن ندعم السيناتور هاردينج؛ فهو رجلٌ كبيرٌ ذو حضورٍ رائع، ويجيد إلقاء الخطب وما إلى ذلك، ويمكن الوثوق به، وقد كان حاكمًا هناك، ويفعل ما يُطلب منه. يعتقد بروكواي أن بإمكانه دعمه بمليونَين أو ثلاثة ملايين، ويعدُنا بمنصب وزير الداخلية.»

قال الأب: «حسنًا»، دون أن يُضطَر إلى السؤال عما يعنيه ذلك.

«كنت أراقب قطعة أرضٍ رائعة طوال السنوات العشر الماضية. حفرَت بها إكسلسيور بيت بئرَين اختباريتَين، ثم غطَّتْهما وتكتَّمت على الأمر، ذُكر ذلك في تقريرٍ حكومي، لكنها أخفَته ولم يعُد من الممكن الحصول على نسخةٍ منه من أي مكان، لكنَّني حصلتُ على واحدةٍ سُرقَت من أجلي. هناك حوالَي أربعين ألف فدان تحتوي جميعها على نفط.»

«ولكن كيف يمكنك أخذها من إكسلسيور؟»

«لقد استولت الحكومة على كامل قطعة الأرض، التي من المفترض أن تكون احتياطيًّا نفطيًّا للبحرية. ولكن كيف ستستفيد منها البحرية، دون أي تطوُّرات؟ يعتقد الحمقى أن بإمكانك حفر الآبار وبناء خطوط الأنابيب وصهاريج التخزين، أثناء تصويت الكونجرس على إعلان الحرب. دعنا نستولِ على الأرض ونستخرج النفط، ونَبِع للبحرية كل ما تريد.»

توافَق هذا الاقتراح مع طريقة الأب في إتمام الأعمال؛ لذلك لم يكن هناك داعٍ لمناقشته. ولذلك قال ضاحكًا: «من الأفضل أن تبتعد عن المخاطر يا فيرن، وأن تؤمِّن منصب المدعي العام إلى جانب منصب وزير الداخلية.»

قال الآخر دون أن يلاحظ الضحكة: «لقد فكَّرتُ في ذلك الأمر. سيكون بارني بروكواي هو المدعي العام نفسه. هذا جزء من صفقته مع هاردينج.»

عندئذٍ، تذكَّر السيد روسكو فجأة أن باني كان يجلس بجوار النافذة، ومن المفترض أنه كان يقرأ كتابًا. «أعتقد أن ولدنا البلشفي سيفهم أن هذا الموضوع ليس محل نقاش في الخطابات العامة.»

أجاب الأب على الفور: «إن باني على دراية بشئوني منذ أن كان طفلًا صغيرًا. حسنًا يا فيرن، سأرسل لك شيكًا عندما تكون مستعدًّا.»

٤

غربَت الشمس، وحان وقت رحيل السيد روسكو. ولكنه تناول العشاء أولًا، وعندما انتهى من تناول الآيس كريم والقهوة، أبعَد طبقَه، وأزال فوطة المائدة المُعلَّقة في رقبته، واستند إلى كرسيه وهو يتنهَّد تنهيدةَ رضًا، وبينما كان يُخرِج سيجاره من ورق القصدير الذهبي، ثبَّت عينَيه الثاقبتَين على باني الجالس على الطرف الآخر من الطاولة، وقال: «يا جيم الابن، سأخبرك ما خطبك.»

قال جيم الابن بتقبُّل: «حسنًا.»

«أنت فتًى لطيف، ولكنك جاد للغاية. أنت تأخذ الحياة بجديةٍ بالغة، تمامًا مثل والدك. عليك أن تحصُل على القليل من المرح، أنا أعرف ما تحتاج إليه. هل تُواعِد فتاةً أيها الفتى؟»

قال باني وهو يشعر بقليل من الخجل: «ليس في الوقت الحاضر.»

«هذا ما اعتقَدتُه. أنت بحاجة إلى فتاة، لتُخرجكَ مما أنت فيه وتسعدك. لكن انتبه، أنا لا أقصد واحدةً من هؤلاء الفتيات المُحبَّات للجاز، ابحث عن فتاةٍ لديها بعض المنطق، مثل آنابيل. هل تعرف آنابيل إيمز؟»

«لم أقابلها قَط. لكنني رأيتُها بالطبع.»

«هل رأيتَها في فيلم «مدام تي-زي»؟ يا إلهي، هذا ما أسميه فيلمًا سينمائيًّا، بالمناسبة هذا هو الفيلم الوحيد الذي استطعتُ أن أجني منه أرباحًا! تلك الفتاة تعتني بي وكأنها أمي، أراهنك أنها لو كانت هنا، لما شربتُ كل تلك الجِعَة! تعالَ إلى منزلي في أي وقت، وستعثُر لك آنابيل على فتاة؛ فهناك الكثيراتُ منهن اللاتي يتمتعْنَ بالحيوية أيضًا، ودائمًا ما تلعب دور إله الحب بين الفتيان والفتيات، وتشعر بسعادة غامرة عندما تكون سببًا في تطوُّر العلاقة بين اثنَين، وكأنهما زوجٌ من طيور الحب في قفصٍ واحد. لماذا لا تأتي معي الآن؟»

قال باني: «يجب أن أذهب إلى الكلية بعد غد.»

«حسنًا، تعالَ في أي وقت، وأحضِر أباك معك. فهو أيضًا يحتاج إلى امرأة، لقد أخبرتُه بذلك عشرات المرات. هل واعدتَ أحدًا بعدُ يا جيم؟ يا إلهي، انظر إليه وهو يَحمَر خجلًا، وكأنه عزباء عجوزٌ ترتدي سروالًا! يمكنني أن أخبر الفتى بأشياءَ عنك من شأنها أن تجعل وجنتَيك حمراوَين وكأنهما مخضَّبتان بحمرة التجميل، أوه يا لك من محتالٍ عجوز!» ووكز الرجل العظيم، الذي كان ينهض من كرسيه وهو يتحدث بحماس، الأب بضعَ وكزاتٍ على ظهره، وانفجر في الضحك بصوتٍ عالٍ.

كانت أشياء كهذه هي التي تجعلك تعلم أن فيرنون روسكو يتمتع ﺑ «قلبٍ كبير». يبدو أنه كان معجبًا بباني حقًّا، وكان قلقًا بشأن تعلُّمه كيفية الاستمتاع بالحياة. قال وهو يستقل سيارته الليموزين الكبيرة: «تعالَ لزيارتي في أي وقتٍ أيها الفتى. لا تنسَ، أعني ما أقوله. سأريك كيف يكون المنزل الريفي، وأنت اجعل والدك يحصُل على واحد أيضًا.» وعدَه باني بأنه سيأتي، وبدأ المحرك يصدر خرخرة، وانطلقَت السيارة في ضوء القمر، وتلاشى الصوتُ الضاحك المدوِّي بين التلال. «إلى اللقاء أيها الفتى!»

٥

عاد باني إلى المنزل، وتبع الأب إلى مكتبه وأغلق الباب. «أبي، هل ستدفع هذا المبلغ حقًّا للسيد روسكو؟»

«عجبًا، بالتأكيد يا بني، عليَّ أن أفعلَ ذلك، ولم لا؟» بدا الأب مندهشًا حقًّا، كما كان يفعل دائمًا في هذه المواقف. كان من الصعب التأكُّد من مدى مصداقية أدائه؛ لأنه كان ماكرًا كالشيطان، ولم يكن يتردد في استخدام مهاراته في التمثيل مع من يُحبهم.

«هل تقترح يا أبي شراء رئاسة الولايات المتحدة؟»

«حسنًا يا بني، يمكنك التعبير عن الأمر بهذه الطريقة …»

«ولكن هذه هي حقيقة الأمر يا أبي!»

«حسنًا، هذه إحدى الطرائق لوصف الموقف. الطريقة الأخرى هي أننا نحمي أنفسنا من المنافسين الذين يريدون إيقاف أعمالنا. وإذا لم نهتَم بالسياسة، فسوف نستيقظ بعد الانتخابات ونكتشفُ أننا قد انتهينا. هناك مجموعةٌ من كبار الرفاق في الشرق دفعوا بضعة ملايين من الدولارات لدعم الجنرال ليونارد وود. ماذا عنك، هل تدعمه؟»

أدرك باني أن هذا سؤالٌ بلاغي، ولم يُجب عليه. «إنها لعبةٌ قذرة يا أبي!»

«أعلم، لكنها اللعبة الوحيدة الموجودة. بالطبع، يمكنني الابتعاد عن كل هذا، فأنا لديَّ ما يكفي للعيش، لكنني لا أشعُر برغبة في أن أصبح بلا جدوى، يا بني.»

«ألا يمكننا أن نُدير أعمالنا الخاصة يا أبي؟» ربما تتذكَّر أن باني قد طرح هذا السؤال من قبلُ.

«لا يُوجَد شيء من هذا القبيل يا بني؛ فبإمكانهم تضييقُ الخناق عليك طَوال الوقت. سيُعيقون تعاملكَ مع معامل التكرير والأسواق والبنوك؛ أنا لا أخبركَ كثيرًا عن تلك المشاكل، ولكن لم يعُد هناك مكانٌ في دنيا الأعمال للتجار الصغار بعد الآن. قد تحسبني تاجرًا كبيرًا لأنني أملك عشرين مليونًا، وقد أحسب فيرن تاجرًا كبيرًا لأنه يملك خمسين مليونًا، ولكن هناك شركة إكسلسيور بيت التي تملك ثلاثين أو أربعين شركة، تعمل جميعها كشركة واحدة؛ أي ما يقرب من مليار دولار في مواجهتك. وهناك شركة فيكتور التي تملك ثلاثمائة أو أربعمائة مليونٍ أخرى، وجميع البنوك وموارد شركات التأمين التي تدعمها؛ فما فُرص نجاحنا نحن المستقلين؟ انظر إلى الانخفاض الحالي في أسعار البنزين، تُخبرك الصحف أن هناك وفرة، لكن هذا كله هُراء، فما السبب وراء هذه الوفرة سوى إغراق الخمس شركات الكبرى للأسواق للقضاء على التجار الصغار؟ يا إلهي، إنها تمحوهم من الوجود!»

«ولكن كيف يمكن للمسئولين العموميين منع ذلك؟»

«هناك آلاف الأشياء التي تطرأ يا بني، وعلينا أن نُوجِّه أول لكمةٍ مباشرة عند سماع صوت جرس الجولة! فكيف باعتقادك نتمكن من حفر خطوط الأنابيب؟ وكيف نحصل على المرافق؟ لقد شهدتَ بنفسك الوضع في بارادايس، هل كنا سنُحقق أيًّا من هذه التطورات لو لم أدفع لجيك كوفي؟ كيف برأيك سيكون وضعنا حاليًّا أنا وفيرن، لو لم نجلس معه ونراجع القائمة، ونتأكد من أن الرفاق الذين يُدرِجهم بالقائمة مناسبون لنا؟ والوضع الآن لا يختلف كثيرًا عن ذي قبل. فالفرق الوحيد هو أننا أصبحنا أكبر، وأصبح اللعب على المستوى الوطني، هذا كل شيء. فإذا تمكَّنا أنا وفيرن وبيت أورايلي وفريد أوربان من الحصول على الأراضي التي نضع أعيننا عليها، فسيصير هناك ست شركاتٍ كبرى في مجال النفط وربما سبعٌ أو ثمانٍ، وتذكَّر كلامي يا بني؛ فنحن نفعل ما فعلَه الرفاق الآخرون منذ اليوم الذي بدأ فيه استخدام النفط، قبل خمسين عامًا.»

كانا يسيران على طريقٍ قديمٍ مألوف، وكان باني يعرف المناظر الطبيعية به عن ظهر قلب.

«من الجيد جدًّا أن يمضي المرء في دراسته، ويكتشف كيف ينبغي للعالم أن يكون، لكن الأمور لا تسير بهذه الطريقة يا بني. لا بد أن يكون هناك نفط، ونحن الذين نعرف كيفية استخراجه من الأرض علينا فعلُ ذلك. أنت تستمع إلى هؤلاء الاشتراكيين والبلاشفة، لكن تخيَّل لو أن الحكومة بدأت في شراء الأراضي التي تحتوي على النفط وتطويرها، سيكون هناك استغلالٌ للنفوذ يتجاوز ثروة أمريكا بأكملها. أنا أعمل في هذا المجال؛ حيث يمكنني مشاهدة ما يحدث، وأعلم أنه عندما تتولى الحكومة أي شيء، فهذا يعني دفنه على عمق عشرة آلاف ميل في الأرض. أنت تتحدث عن القوانين، ولكن هناك قوانين اقتصادية أيضًا، ولا تستطيع الحكومة أن تقف ضدها، تمامًا مثل أي شخصٍ آخر. فعندما ترتكب الحكومة حماقات، يجد الناس طريقةً للالتفاف حولها، ولا يختلف رجال الأعمال الذين يفعلون ذلك عن غيرهم من الناس؛ ولذلك يجب ألا يتلقَّوا قدْرًا أكبر من اللوم. فهذا هو عصر النفط، وعندما تُحاوِل إيقاف إنتاج النفط، يبدو الأمر كما لو كنتَ تُحاوِل بناء سد على شلالات نياجرا.»

كانت هذه لحظةً حاسمة في حياتهما. فبعد سنوات، سيتذكرها باني، ويفكِّر، لماذا لم يأخذ موقفًا؟ كان من الممكن أن يجعل والده يعدل عن قراره لو كان حازمًا بما يكفي! لو قال له: «يا أبي، أنا أرفض شراء الرئاسة، وإذا شاركتَ السيد روسكو في هذه الصفقة، فعليك أن تعلم أنني سأتخلى عن ميراثي، ولن أقبل بسنتٍ واحد من أموالك اعتبارًا من هذا اليوم فصاعدًا. سأرحل وأحصُل على وظيفة لنفسي، ويمكنك أن تترك أموالك لبيرتي إن أردتَ ذلك.» لكنه لو كان قال ذلك، لكان الأب قد انهار، وكان من الممكن أن تتحطم نفسيته، ولربما تأذَّى السيد روسكو لو لم يساعده الأب في ترشيح السيناتور هاردينج.

والسؤال هنا: لماذا لم يفعل باني ذلك؟ لم يكن ذلك جبنًا؛ فهو لم يكن يعرف ما يكفي عن الحياة حتى الآن ليخاف منها. لم يكسب قَط دولارًا واحدًا في حياته، ومع ذلك كانت لديه قناعةٌ راسخة بأنه يستطيع «الحصول على وظيفة»، وتوفير سبل الراحة والرفاهية التي اعتادها. لكن المشكلة كانت أنه لم يكن يستطيع أن يجرح الناس. كان هذا ما قصدَه بول عندما قال إن باني كان «ليِّن العريكة». فقد كان يقتنع بسهولة بوجهة نظر الآخرين. لقد استوعب بوضوحٍ شديد سبب رغبة الأب والسيد روسكو في شراء مؤتمر الحزب الجمهوري، وبعد ساعاتٍ قليلة، ذهب إلى كابينة آل راسكوم، وجلس مع بول و«بد» ستونر و«جيك» دوجان وبقية «المجموعة البلشفية»، واستوعَب بوضوحٍ شديد لماذا أرادوا من عمال النفط أن ينظِّموا ويثقِّفوا أنفسهم، ويستَولوا على آبار النفط من الأب والسيد روسكو!

٦

عاد باني إلى جامعة جنوب المحيط الهادي، وبينما كان يُنهي عامه الدراسي، عُقد مؤتمر الحزب الجمهوري في شيكاغو، وحضر ألف مندوب والعديد من المناوبين، والعديد من مراسلي الصحف والكتَّاب المميَّزين، لإخبار العالم عن هذا الحدث التاريخي العظيم. استمع الحضور إلى الخطابات «الافتتاحية» المثيرة للإعجاب، ودخَّنوا كمياتٍ هائلةً من التبغ، وشربوا كمياتٍ كبيرةً من المشروبات الكحولية غير المشروعة، وفي هذه الأثناء، في إحدى غرف فندق بلاكستون، اجتمع ستةٌ من أرباب الأعمال الذين سيطروا على الأصوات لعقد صفقاتهم. ضمن ملايين الكلمات التي سرت عَبْر الأسلاك فيما يتعلق بالمؤتمر، لم يُذكَر اسم فيرنون روسكو مطلقًا، لكنه كان يمكث في جناحٍ خاص بجوار تلك الغرفة في الفندق؛ حيث كان يُقدِّم عروضًا مغرية، ويدفع شيكاتٍ مضمونة للرجال المناسبين، وبعد الوصول إلى طريقٍ مسدود وإجراء ثماني جولاتٍ من الاقتراع، بدأ دعم الجنرال ليونارد وود في الانهيار فجأة، وسط إثارةٍ شديدة في قاعة المؤتمر، وفي الجولة التاسعة، أصبح وارن جماليل هاردينج من ولاية أوهايو حامل لواء الحزب الجمهوري.

انتهى العام الدراسي، وتوجه جريجور نيكولاييف إلى سان فرانسيسكو ليعمل على متن إحدى سفن «أسطول التعليب» التي كانت تتجه إلى ألاسكا لصيد سمك السلمون وتعبئته. وانضمَّت رايتشل مينزيس وشقيقها إلى ثلاثةِ طلابٍ يهود آخرين، كانوا قد أحضروا سيارةَ فورد متهالكةً للعمل في قطف الفاكهة، وتنقلوا من مكان إلى آخر، وناموا تحت النجوم، وجمَعوا المشمش والخوخ والبرقوق والعنب لتعليبها وتجفيفها. كان باني هو الوحيد من المجموعة الصغيرة الداعمة ﻟ «البلاشفة» الذي لم يُضطَر إلى العمل طوال الصيف، وكان هو الوحيد الذي لم يعرف كيف يشغَل وقته.

في الأيام الخوالي، عندما كان هو والأب يحفران الآبار واحدةً واحدة، كان باني ينضم للعمال ويساعد في أي شيءٍ يمكن القيام به؛ كان مجرد «طفل» في ذلك الوقت، وأحب الرجالُ مشاركته. ولكنه الآن بلغ سن الرشد، ومن المفترض أن يتصرف بنضج، وكانت الشركة أيضًا قد أصبحَت كبيرة، وصارت مثل آلةٍ ضخمة لكل ترسٍ فيها دورٌ محدَّد، ولا يجوز التدخل فيه. لم يتمكَّن باني حتى من العناية بالنباتات، وإلا فسيكون بهذا يتعدَّى على وظيفة البستاني! ولذلك عزم على قراءة بعض كتب بول، لكنه لم يسمع قطُّ عن أي شخصٍ يدرُس لثماني ساعات يوميًّا، ولم يتمكَّن من تولي وظيفة بول لجزء من الوقت؛ لأنه لم يكن نجارًا جيدًا بما فيه الكفاية!

كان عالَمًا يعمل فيه أشخاصٌ طوال الوقت، بينما يلهو آخرون طوال الوقت. كان العمل طوال الوقت أمرًا مملًّا، ولم يكن أحدٌ ليقوم به إلا إذا كان مضطرًّا، وكان اللهو طوال الوقت أمرًا مملًّا بالقَدْر ذاته، ولم يكن في حديث الأشخاص الذين يلهون طَوال الوقت أيُّ شيءٍ أراد باني الاستماع إليه. فقد كانوا يتحدثون عن لهوهم بجدية كما لو كان عملًا؛ حيث كانوا يناقشون بطولات التنس، وبطولات الجولف، ومباريات البولو، وكل أنواع الطرق المعقَّدة لضرب كرةٍ صغيرة في ملعب! كان هذا أمرًا لا بأس به عندما تحتاج إلى ممارسة الرياضة والترفيه عن نفسك؛ أن تخرج وتضرب كرةً صغيرة، ولكن ليس أن تجعل منه عملًا حياتيًّا، وتُكرِّس كل وقتك وفكرك له، وتتفانى فيه، وتقرأ وتكتب كتبًا عنه، وتُناقِشه لساعاتٍ متواصلة، نظر باني إلى هؤلاء الرجال والنساء الناضجين، الذين كانوا يرتدون «ملابسَ رياضية» متقَنة الصنع، وبدا له أنهم يمارسون نوعًا من التنويم المغناطيسي؛ ليجعلوا أنفسهم يعتقدون أنهم يستمتعون حقًّا بحياتهم.

٧

حاولَت بيرتي مجددًا سحب شقيقها إلى عالم اللهو هذا، الذي كان ينتمي إليه بالنظر إلى حقه في الميراث ومواهبه الطبيعية. أنهت بيرتي علاقتها بإلدون بورديك. فقد كان «فاشلًا»، كما أخبرت باني، وكان يريد دائمًا أن تكون له طريقتُه الخاصة. كانت هناك علاقةٌ غراميةٌ أخرى، لكن باني لاحظ أن هذه العلاقة كانت ميئوسًا منها للغاية، بما أن أخته كشفَت عن مشاعرها حتى له. كان الابن الوحيد للراحل أوجست نورمان، مؤسس شركة أوكسيدنتال ستيل؛ كان اسم الفتى تشارلي، وقالت بيرتي عنه إنه جامحٌ بعضَ الشيء، لكنه كان رائعًا وفاحشَ الثراء. لم يكن لديه مَن يعتني به سوى أمٍّ بلهاءَ إلى حدٍّ ما؛ حيث كانت تحاول أن تكون شابة، وترتدي ملابس الشابات الصغيرات، وتُجري عملياتٍ جراحيةً على وجهها لحمايته من «الترهُّل». كان لديهما يختٌ رائعٌ جدًّا في الميناء، واقترحا على بيرتي إحضار شقيقها، فلماذا لا يذهب ويساعدها بمنتهى السهولة بمظهره الجميل وميزاته الأخرى؟

ارتأى باني أن أخته مفتونة بتشارلي، لدرجة أنها كانت تعتمد على مهاراته الاجتماعية المتذبذبة! ومع ذلك وافق على مرافقتها، وبينما كانا يقودان سيارتهما إلى الميناء، أعطَته بيرتي تعليماتٍ صارمة، وحذَّرَته من التحدث عن أفكاره البلشفية الرهيبة، وإذا ذكروا فضيحتَه في جامعة جنوب المحيط الهادي، فعليه أن يسخَر من الأمر. لقد تعلَّم باني بالفعل أن هذا ما يجب عليه فعله، واتبع نصيحتها، واكتشف أن الأمر سهلٌ للغاية؛ لأن تشارلي نورمان كان واحدًا من هؤلاء الشباب اللامعين الذين كانوا يعلقون بفكاهة على كل ما تقول، وإذا لم يتمكَّن من ذلك، فسيتلاعب لفظيًّا بكلامك.

ها هو قصر «السيرانة» العائم، المطلي بالكامل باللون الأبيض والنحاسي اللامع، والمزوَّد بأثاث من خشب الماهوجني المنحوت يدويًّا، والمفروش بحرير عليه رسوماتٌ يدوية. كان البحَّارة المتألقون، والصبيان الفلبينيون الذين كانوا يتحركون في كل اتجاه بصوانٍ مليئة بالأكواب، متأنقين بما يكفي لحضور عرضٍ مسرحي. وكان الضيوف يستقلُّون زورقًا بخاريًّا، وبعد ذلك عدة سيارات، ويُنقلون إلى ملعب الجولف، ومن هناك إلى نادٍ ريفي لتناول طعام الغداء، كانوا يرقصون لمدة ساعة أو ساعتَين، ثم يُنقلون بسرعة إلى شاطئ للسباحة، ثم إلى ملعب تنس، وبعد ذلك يعودون إلى يخت «السيرانة» ليرتدوا ملابسهم لتناول العشاء، الذي كان يُقدَّم بنفس الفخامة التي قد تتوقعها في مأدبة سفير. كان سطح القصر مزينًا بمصابيحَ كهربائيةٍ متعددة الألوان، وكانت هناك فرقةٌ موسيقية وكان الأصدقاء يستقلُّون الزوارق، ويرقصون حتى الفجر، بينما ترتطم الأمواج بلطف على جوانبها، وكانت الأضواء المتداخلة على طول الشاطئ تقلِّل من شدة سطوع النجوم.

تحدَّث هؤلاء الأشخاص عن مظهر جميع معارفهم وسماتهم الخاصة ومغامراتهم، وكان من الصعب متابعةُ حديثهم إلا إذا كنتَ واحدًا من مجموعتهم، حتى إنهم كانوا يردِّدون كلماتٍ عاميةً خاصة بهم، وكان الأمر يزداد مرحًا بالنسبة لهم كلما قلَّت احتمالية فَهْم شخصٍ غريب لهذه الكلمات. تحدَّثوا عن الملابس، وأحدث «صيحة». وتحدَّثوا عن مُهربي الكحول ومَن يمكن الاعتماد عليه. وفي بقية الوقت تحدَّثوا عن ضرب الكرات الصغيرة عَبْر الملعب، والنتائج التي سجَّلوها في ذلك اليوم والأيام السابقة، والقُدرات النسبية لمختلف الخبراء في هذا المجال. هل سيحتفظ بطل التنس بلقبه لعامٍ آخر؟ كيف كان أداء لاعبي الجولف الأمريكيين في إنجلترا؟ هل سيأتي فريق البولو من فيلادلفيا، وهل سيفوز بالكأس؟ كانت هناك جوائزُ جميلةٌ مطلية بالفضة والذهب وبها نقوشٌ محفورة، مما ساعد على إيهامك بأن ضرب الكرات الصغيرة حول الملعب له أهميةٌ كبيرة!

٨

جلس باني على سطح هذا القصر العائم يقرأ عن المجاعة في نهر الفولجا. لقد فسدَت المحاصيل في مناطقَ شاسعة، وكان الفلاحون يتضوَّرون جوعًا ببطء، ويأكلون العشب والجذور، ويأكلون أطفالَهم الموتى، ويُهاجِرون في جحافل، وتنتشر جُثَثُهم على طول الطريق. أعلن محرِّرو الصحف أن ذلك كان الدليل النهائي على عدم جدوى الشيوعية، ولم ينتهز تشارلي نورمان الفرصة «ليسخر» من باني، ولم يكن ذلك إلا لأنه لم يقرأ صحيفةً قَط.

كان باني قد تحدث مع هاري سيجر، وتلقى وجهةَ نظرٍ مختلفة عن المجاعات في روسيا. لقد كان سببها الجفاف وليس الشيوعية، وكانت هذه مشكلةً أزلية منذ فجر التاريخ، ولم يُؤخَذ حدوثها قط كدليل على عدم جدوى حكم القيصر. كانت الظروف سيئةً الآن بسبب انهيار خطوط السكك الحديدية. لكن الأشخاص الذين ألقَوا باللوم على الشيوعية تغافَلوا عن حقيقة أن خطوط السكك الحديدية كانت قد انهارت قبل الثورة، وأنه في ظل الحكم السوفييتي كان عليهم أن يتحمَّلوا وطأة ثلاث سنوات من الحرب الأهلية، والغزو الخارجي على ستٍّ وعشرين جبهة. وكانت الصحف التي حرَّضَت على هذه الحملات، وأشادت بإنفاق مئات الملايين من الأموال الأمريكية للترويج لها، تلوم الآن البلاشفة لأنهم لم يكونوا مستعدين للتعامل مع المجاعة!

يمكنك أن تستوعب أن شابًّا يحمل مثل هذه الأفكار في ذهنه لن يندمج مطلقًا مع هذه المجموعة المحبة للهو. لقد بذل قُصارى جهده ليكون مثل الآخرين، لكنهم اكتشفوا أنه كان مختلفًا، وعلى الفور جلست والدة تشارلي بجانبه. قالت له: «باني»؛ حيث كان يناديك هذا الحشد بأسماءٍ مستعارة مثل باني أو بيرتي أو عزيزي أو جميلتي، بمجرد أن تشاركهم في لعب مباراة جولف وتشرب من قنينة خمر أحدهم، «باني، أنت تذهب إلى الجامعة، أليس كذلك؟ وأنا متأكدة من أنك تدرس كثيرًا.»

«ليس كثيرًا، على ما أخشى.»

«أتمنى أن تخبرني كيف أجعل تشارلي يهتم بدراسته. لا أستطيع أن أجعله يفعل أي شيءٍ آخر بخلاف اللهو والتودُّد إلى الفتيات.»

أراد باني أن يقول: «حاولي قطع مصروفه»، لكنه أدرك أن ذلك سيكون واحدًا من تلك الأشياء «الفظيعة» التي كانت بيرتي تُوبِّخه عليها دائمًا. ولذا قال بأسلوب رجلٍ دبلوماسي أو سياسي: «إنها مشكلةٌ كبيرة.»

قالت والدة تشارلي: «الشباب مشكلةٌ كبيرة بالنسبة لي. فهم يريدون الانطلاق طَوال اليوم، ويُصرُّون على جرِّك معهم، وقد أصبح الأمر فوق احتمالي.» حينئذٍ شعر باني بالأسف على والدة تشارلي؛ إذ كان قد افترض أنها تشارك في هذه «الأفعال الصبيانية» لاستمتاعها بها. بالنظر إليها، كانت تبدو مثل البحَّارة، لديها جسمٌ ممتلئ لكن متناسق، وترتدي ملابسَ بيضاءَ وزرقاءَ ناصعة، ولها شعرٌ بنيٌّ ناعم كان النسيم يُبعثِره أمام عينَيها الزرقاوَين اللامعتَين. كان باني يختلس نظرةً خاطفة بين الحين والآخر، ورأى أن العمليات الجراحية التي أجرِيَت على وجهها كانت ناجحة؛ لأنه لم يَرَ أي أثَر لها.

قالت الأم التي كانت ترتدي زي البحارة: «لقد كرَّستُ حياتي كلها لذلك الصبي، وهو لا يُقَدِّر ذلك على الإطلاق. فكلما زاد عطاؤك للناس، اعتبروا ذلك أمرًا طبيعيًّا. أظن أنني سأتمرَّد على هذا الوضع بعد ظهر هذا اليوم! هل ستدعمُني؟»

لذلك عندما بدءوا التجهيز للذهاب إلى ملعب الجولف، أعلن تشارلي بصوتٍ عالٍ لتسمعه المجموعة بأكملها: «أمي الحبيبة لن تذهب معنا؛ فهي معجبةٌ بباني!» ضحكوا جميعًا بمرح، ونزلوا السلم، مرتاحين سرًّا للتخلُّص من واحدة من كبار السن، الذين أصَرُّوا على «مرافقتهم»، ومحاولة التظاهر بأنهم ينتمون إلى المجموعة، في الوقت الذي كان من الواضح تمامًا أنهم لا ينتمون للمجموعة، ولا يستطيعون مجاراة أفعالهم.

٩

جلس باني والسيدة نورمان على سطح يخت «السيرانة»، على كرسيَّين كبيرَين من القماش تحت مظلةٍ قماشيةٍ مخططة، واحتسَيا عصائر الفاكهة وتحدَّثا حول أشياءَ كثيرة. أرادت أن تعرف عن حياته وعائلته، خمَّن باني، بعد أن عرف القليل عن طرق «الأمهات»، أنها كانت تتحقَّق خلفيةَ بيرتي باعتبارها زوجةَ ابنٍ محتملة؛ لذلك ذكَر كل الأشياء اللطيفة التي استطاع تذكُّرها. وعلى افتراضِ أنها ستهتَم ولو قليلًا بالأمور العملية، فقد تحدَّث عن أرض آل روس، وكيف اكتشَفها هو والأب، وكيف استمَر النفط في التدفق من الآبار. قالت السيدة نورمان: «أوه، المال، المال، دائمًا المال! كلٌّ منا لديه الكثير، ولا نعرف كيف نشتري به السعادة!»

واسترسَلَت في حديثها، وأخبرته أنها كانت ثيوصوفية، وأن هناك مهاتما عظيمًا قادمًا، وأننا جميعًا سنتعلم كيف نعيش في عالمٍ نجميٍّ مختلف. كانت قد لاحظَت أنه عندما كان باني يقف أمام خلفيةٍ مظلمة في الليل، كانت تُحيط به هالةٌ ذهبية في غاية الوضوح، وسألَتْه عما إذا كان أحدٌ قد ذكَر له ذلك من قبلُ. وأخبرَتْه أن هذا يعني أنه كان يتمتَّع بطبيعةٍ روحية، وأنه في سبيله لتحقيق أهدافٍ سامية.

ثم بدأَت تسأله عن أفكاره، على ما يبدو، لم تكن قد سمعَت شيئًا عن «فضيحته» في الجامعة؛ ولذلك أعطاها مجرد تلميحٍ عن اقتناعه بوجود خطأٍ ما في نظامنا الاجتماعي، وفي توزيع الثروة في العالم. أجابت الأم التي كانت ترتدي زيَّ البحارة وهي تتكئ على وسائدها الحريرية: «أوه، لكن هذه كلها أمورٌ مادية! ويبدو لي أننا بالفعل وقَعنا في شَرَك الأشياء المادية، وتكمُن سعادتنا في تعلم كيفية الارتقاء فوقَها.»

كان هذا سؤالًا كبيرًا، وتهرَّب باني من الإجابة عليه، وبدأَت السيدة نورمان تتحدث عن نفسها. كانت حياتُها غير سعيدة على الإطلاق. فقد تزوَّجَت عندما كانت صغيرةً جدًّا، أصغر من أن تدرك ما عليها فعلُه باستثناء طاعة والدَيها. كان زوجها رجلًا سيئًا، يعاملها بقسوة، وكانت له عشيقات. ولذلك كرَّسَت حياتَها لابنها، ولكن في النهاية خابت آمالها؛ فكلما زاد عطاؤك للناس، زاد جشعُهم للمزيد. كان تشارلي دائمًا في علاقة حب، لكنه كان يفتقر إلى معرفة المفهوم الحقيقي للحب؛ فهو لم يكن قادرًا على حُب غيره. وهنا سألَت باني عن رأيه في الحب.

كان هذا سؤالًا كبيرًا آخر، وآثر باني التهرُّب من الإجابة عليه أيضًا. وقال إنه لم يكوِّن رأيًا محددًا بهذا الشأن؛ فقد كان يلاحظ أن الناس غير سعداء في الحب؛ ولذلك كان ينتظر، محاولًا معرفة المزيد عنه. لذلك شرعَت السيدة نورمان في إخباره بالمزيد. إن حُلم الحب، الحب النبيل الحقيقي حقًّا، لم يمُت قَط في روح الرجال أو النساء؛ قد يسخرون من هذا الكلام، ويقولون إنهم لا يؤمنون به، لكنهم دائمًا غيرُ سعداء، وينتظرون ويأملون سرًّا في العثور على الحب؛ لأنه أعظم شيء في العالم. لقد سعدَت السيدة نورمان عندما عرفَت أنه من بين هذا الجيل الصاخب المزعج كان هناك شابٌّ ما زال يقدِّر الحب.

عاد الجيل الصاخب المزعج إلى يخت «السيرانة» وقطَع هذه المحادثة الحميمة. نزلَت «والدة تشارلي الحبيبة» إلى الأسفل، وبعد ذلك ظهرَت مجددًا في قاعة الطعام، المزيَّنة برسومات واتو لحوريات ورعاة، وسيدات القرن السابعَ عشرَ المستلقيات أثناء استماعهن لنغمات العُود الجذَّابة. تخلَّت المضيفة عن ملابس البحَّارة، وأصبحَت سيدةً عظيمةً رائعة الجمال؛ حيث كانت ترتدي ثوبًا من الساتان الأزرق الفاتح اللامع، يكشف عن نهدَين وكتفَين في بياض الثلج، وكان شعرها يتلألأ ببريقٍ ذهبي، ويلتفُّ حول رقبتها عقدٌ مزدوج من اللؤلؤ. لقد كان تحولًا مذهلًا، ومن المفترض أن باني كان على دراية بتلك الأمور بسبب مشاهدتِه لما كانت تفعله العمة إيما، لكن ذهنه كان مشغولًا بأمورٍ أخرى.

جعلَت السيدة نورمان الشابَّ المنقِّب عن النفط يجلس إلى جوارها على الطاولة، وعندما بدأَت حفلة الرقص، سألَته عما إذا كان يريد أن يرقص معها؛ فقد تجاهل هؤلاء الشباب المُروِّعون مضيفتهم بلا خجل. رقصا معًا، واكتشف باني أنها راقصةٌ جيدة، أُعجبَت برقصه وأخبرَتْه أنه راقصٌ رائع، وطلبَت منه أن يرقص معها رقصةً أخرى. وافق باني على طلبها؛ فلم تكن هناك أي فتاةٍ أخرى يريد الرقص معها. كانت تضع عطرًا هادئًا يصعُب تمييزه، وربما كان قد علم بذلك أيضًا من العمة إيما، لكنه كان يؤمن بفكرةٍ غامضة مفادها أن النساء عادةً ما كانت تفوح منهن هذه الرائحة، وكان هذا أمرًا جميلًا جدًّا. كان معظم صدر أرملة صاحب شركة الصلب مكشوفًا، وكان ظهرها عاريًا حتى موضع يد باني.

سخر منهما تشارلي، وضحكَت عليهما بقية المجموعة. لكن في صباح اليوم التالي، عندما قاما بنزهةٍ طويلة على سطح القصر، أدرك باني أن هؤلاء الشباب يعتادون أيَّ شيءٍ في أقلَّ من أربع وعشرين ساعة، وبعد ذلك يصبح مملًّا لهم. ولذلك كان يجلس مع السيدة نورمان، ويقود السيارة برفقتها، ويرقُص معها، ويلعب الجولف، كل ذلك في الوقت الذي كان فيه تشارلي يفعل كل هذه الأشياء مع بيرتي، وكان ذلك يناسب على الأقل ثلاثةً منهم تمامًا.

١٠

ثم في إحدى الأمسيات، أراد باني قراءة شيء في إحدى المجلات، وقرب منتصف الليل انسلَّ إلى حجرته الخاصة، وجلس على فراشه المطلي بالذهب، المفروش بوسائدَ من الحرير الوردي المطرز يدويًّا، وكان يتدلى عند رأسه مصباحٌ مطلي بالذهب، أو ربما كان مصنوعًا من الذهب الخالص، وعلى الفَور انغمس في القراءة التي أخذَتْه بعيدًا؛ إلى روسيا ليرى ضحايا المجاعة يموتون على قارعة الطريق، أو ربما إلى المجر؛ حيث كانوا يخمدون الثورة الاشتراكية باستخدام خطةٍ بسيطة تتمثل في ذبح كل من يؤمن بها، وكما هو الحال دائمًا، كانوا يستخدمون طلقات الرشاشات المصنوعة في مصانع الصلب الأمريكية، التي حصَلوا عليها بقرضٍ أمريكي. كان باني منغمسًا جدًّا في هذه الأحداث التعيسة التي تحدُث بعيدًا، لدرجة أنه لم يسمع باب حجرته يُفتح بهدوءٍ شديد، ويُقفل بلطفٍ شديد من الداخل بالمفتاح. كان أول ما لاحظه هو الرائحة الذكية اللطيفة التي يصعُب تحديدها، وحدق في الخيال الواقف بجانب سريره، مرتديًا كيمونو أرجوانيًّا مزينًا بزهور الخطمي الحمراء الضخمة. بدا الخيال مرتعبًا، وكان يضُم يدَيه أمامه، وهمس بصوتٍ بالكاد استطاع باني سماعه: «باني، هل يمكنني التحدث معك قليلًا؟»

بالطبع كان على باني الموافقة، وجثا الخيال على ركبتَيه بجوار السرير، ولمسَت إحدى يديه الناعمتين بلطفٍ يد باني، وقال الصوت الناعم بارتجاف: «باني، أنا وحيدة جدًّا وغير سعيدة على الإطلاق! لا أعرف ما إذا كان بإمكانك فهم ما يعنيه أن تكون امرأة وحيدة للغاية، لكنك أول رجلٍ شعرتُ أنني أثق به منذ فترةٍ طويلة جدًّا. أعلم أنه لا ينبغي لي أن آتي بهذه الطريقة، لكنني وددتُ إخبارك بهذا؛ فلماذا لا ينبغي للرجال والنساء أن يكونوا صريحين فيما بينهم؟»

لم يكن باني يعرف أي سببٍ يمنعهم من ذلك؛ ولذلك وافق على التحدث بصراحة. وكان جوهر هذه الصراحة هو أن حُلم الحب قد تحرَّك مرةً أخرى في نفس امرأةٍ كانت في حَيرةٍ من أمرها بشأن الحياة. وعليه ألَّا يحسبها ضحلة الفكر أو تافهة؛ فقد كانت صادقةً في مشاعرها وهي لم تفعل شيئًا كهذا من قبلُ، حينئذٍ انهمرَت الدموع من عينَيها، ورجَته ألَّا يَحتقرَها؛ فقد أرادت أن تكون سعيدة، وكان من النادر العثورُ على شخصٍ تحبه حقًّا. «أخبرني يا باني، هل تحب أي امرأةٍ أخرى؟»

ربما كان من الألطف أن يخبرها أنه على علاقة بامرأةٍ أخرى، لكن هذه كانت مغامرته الأولى من هذا النوع؛ ولذلك أخبرها الحقيقة، وكان الأمر مثل سطوع الشمس بعد سقوط المطر في شهر أبريل؛ حيث أشرقَت ابتسامتُها وسط دموعها. ارتعش صوتها قليلًا، وهي تهمس قائلة: «كم أنا سخيفة، تبدو المرأة قبيحة للغاية وهي تبكي، دعني أطفئ النور.» وبالفعل، سحبَت السلسلة الذهبية الصغيرة، ولم تعُد قبيحةً على الإطلاق، ولم يبقَ منها سوى رائحتها الطيبة فحسب، وتشبَّثَت يداها بيدَيه، وهمسَت: «باني، هل تعتقد أن بإمكانك أن تحبني ولو قليلًا؟»

كان عليه أن يقول الحقيقة، بطريقة أو بأخرى. بدأ كلامه قائلًا: «سيدة نورمان …»، لكنها قاطعَتْه وقالت: «ثيلما.» تمتَم قائلًا: «ثيلما، لم يخطر …»

«أعلم يا باني أنني أكبر سنًّا منك، ولكن انظر إلى هؤلاء الفتيات المراهقات، وإلى تفكيرهن الضحل! وصدقني، أنا أهتم بك حقًّا، وسأفعل أي شيء من أجلك، وسأعطيك أي شيءٍ تريده.»

تعلَّم باني شيئًا من هذه الواقعة. كان يعلم أن عليه فقط أن يمُد ذراعَيه ويضُمَّها إليه، كان يعرف ما يجب عليه فعله؛ فقد علَّمَته يونيس هويت كيف يُحب المرأة. كان بإمكانه أن يدفعها إلى الشعور بالنشوة، ومن تلك الساعة فصاعدًا ستصير عبدةً له، وكان بإمكانه الاستيلاء على كل ممتلكاتها، وربما إساءة معاملتها، واستخدام مالها لإمتاع نساءٍ أخريات، ومع ذلك كانت ستظل عبدةً له. كان بإمكانه الآن فهم الأشياء التي كانت تحدث أمام عينَيه، في هذا العالم الذي كان جنةً للمخاطرين. فقد كان هناك رجال لن يشاركوا باني في ترفُّعه عن الرفاهية والسلطة، بل إنهم لن يتوانَوا في إغواء القدَر ذاته لو كان سيدة، مستغلين جاذبيتهم ومكاناتهم الاجتماعية، وكان هؤلاء الرجال يُعرفون بأسماء كثيرة مثل: «سحالي الفنادق» حيث كانوا يتردَّدون كثيرًا على المناسبات الاجتماعية، و«ثعابين قاعات الاستقبال» حيث كانوا يتحدَّثون بلسانٍ معسول، و«القطط الأليفة» وذلك بسبب تعاملهم مع النساء بأسلوبٍ ساحر، و«إخوة روميو» المعروف عنهم سلوكُهم الرومانسي، و«الشيوخ» الذين كانوا يجذبون النساء بثرواتهم. لقد كدَح أوجست نورمان العجوز سنينَ عديدةً لبناء مصنعِ صلبٍ كبير، وقصرٍ عائم في المحيط، وقصرٍ أكبر منه بعشر مرات على الشاطئ، وها هي كل هذه الكنوز مدموجة بطريقةٍ سحرية في جسدٍ أنثوي واحد، انزلق الكيمونو، ولم يكن هناك سوى قميصِ نومٍ رقيق للغاية وكأنه شفَّاف، ورائحةٍ طيبةٍ هادئة، وذراعَين ناعمَين يلاطفانه، وشفتَين تمنحانه قُبلاتٍ مثيرة. همس الصوت: «باني، سأتزوجك إذا أردتَ ذلك. سأعطيكَ كل ما تطلبه.»

لقد تعلم باني من يونيس أنه عندما تكون مستعدًّا للحب، يمكن أن تكون الشفاه مغرية، لكنه تعلم الآن من السيدة، لا بل من ثيلما، أنه عندما لا تكون مهتمًّا، تُصبِح منفرة. ناشدها قائلًا: «أتعرفين يا ثيلما، أنا لا أحتاج إلى أي شيء.»

«أعلم ذلك، يا لفظاظتي! لكنني أحاول بطريقتي المتخبِّطة أن أجعلكَ تفهم أنني مهتمةٌ بك، وأرجو ألَّا تسيء الظن بي!»

بدأ يتحكَّم في زمام المحادثة، وأوضح لها أنه لن يسيء الظن بها أبدًا، لكنه لم يحبَّها؛ فهي بالنسبة له مجرَّد صديقة. استرخَت قبضتها تدريجيًّا، وانهارت بجوار الفراش بشكلٍ يُرثى له، وأخذَت تبكي لأنه بالتأكيد سيكرهها، ولن يرغب في رؤيتها مرة أخرى أبدًا. أكَّد لها أن الأمر لم يكن كذلك؛ فهي لم تفعل ما يخزي، ولم يكن هناك سببٌ للخصام لأنه لم يكن هناك حبٌّ من الأساس. كانت بائسةً بدرجةٍ مزرية، حتى إنه شعر بالأسف عليها، ومدَّ يدَه لتهدئتها، لكنه رأى على الفَور أن هذا لن يُجديَ نفعًا، فأمسكَت بيده وقبَّلَتها، وبدأ تعاطُفه معها يجذبه إليها. في القرن الثامن عشر، أعلن أحد الشعراء الإنجليز عن اكتشافٍ مفاده أن الشفقة قد تثير الحب في الروح.

يجب على المرء أن يُمحِّص هذه الأمور مقدمًا، وأن يكون لديه معيارٌ للسلوك. كان باني قد اتخذ قرارًا بأنه في المرة القادمة التي يحتضن فيها امرأة، ستكون واحدةً يُحبها حقًّا، وأخبره صوت عقله الرزين الواضح بأنه لا يُحب والدة تشارلي نورمان، والأمر لن يتعدى علاقةَ حبٍّ سرية، ولن يكون أيٌّ منهما سعيدًا لفترةٍ طويلة. ولذلك أخبرها بلطفٍ أنه من الأفضل لها أن تذهب، وببطءٍ وحزن التقطَت الكيمونو من الأرض، ونهضَت واقفةً. وقالت: «باني، عقول الناس بغيضة. إذا علموا بما حدث، فسيُحوِّلونه لأمرٍ فظيع.»

أجاب: «لا تفكِّري في الأمر. فأنا لن أخبر أحدًا.»

سمع الباب يُفتح ويُغلق بهدوء، وأشعل الضوء وأوصد الباب، وتعهَّد لنفسه بأنه لن ينسى أبدًا فعل هذا الإجراء في أي حفلةٍ منزلية! ذرَع الحجرة جيئةً وذهابًا لفترة من الوقت وهو يفكِّر في هذه التجربة المثيرة للقلق. أخبَر نفسه، بتواضعٍ لائق، أن السبب فيما حدث لم يكن لأنه كان جذابًا بشكل لا يُقاوم، ولكن في هذه الحضارة الوثنية الجديدة، كانت النساء تذهَل بشدة عندما يواجهن شابًّا عفيفًا؛ فقد كان ذلك يبدو لهن وكأنه شيءٌ هائل، خارق للطبيعة البشرية.

في صباح اليوم التالي، تورَّد وجه الأم التي كانت ترتدي زي البحارة خجلًا لأول مرة منذ سنواتٍ عديدة، عندما قابلَت أدونيس الشاب على سطح اليخت. لكنها سرعان ما تجاوزَت الأمر، وتحدَّثا عن الثيوصوفية، من الناحية الروحانية كما فعَلا سابقًا، وكانا صديقَين حميمَين مثاليَّين، دعاها ثيلما، ولم يسخر تشارلي من ذلك. لكن في طريق عودته إلى المنزل، أرادَت بيرتي أن تعرف كل شيء عن الأمر، هل ضاجعَته السيدة نورمان، ولأي مدًى تطوَّرَت علاقتهما؟ وعندما تورَّد وجه باني خجلًا، ضحكَت منه، واستفزَّتْها سخافتُه وعدمُ رغبتِه في الإفصاح. وخلصَت إلى وجود علاقةٍ غراميةٍ بينهما. كان لا بأس بذلك؛ فقد كانت هناك علاقاتٌ أخرى في يخت «السيرانة»، وكانت الأضواء خافتةً في الردهة المركزية؛ حتى لا يتعرَّف أحدٌ عليك أثناء تنقُّلك سرًّا من حجرة لأخرى. أضافت بيرتي بحكمة: «لكن لا تتخيَّل أنها ستتزوجك يومًا ما. فهي تتحدث كثيرًا عن الهُراء الخاص بتناسُخ الأرواح، لكنها تتمسَّك بسنداتِ شركة أوكسيدنتال ستيل من أجل حياتها الحالية!»

١١

بعد أيامٍ قليلة، شهدَت شركة أوكسيدنتال ستيل تراجعًا شنيعًا في السوق، وكانت بيرتي تشعر بالقلق؛ حيث كانت تهتم لأمر الشركة. سألت الأب، فأجابها أن الأمر كان «مجرد تلاعُبٍ مفتعل في السوق». لكن على الفور تراجعَ الكثيرُ من الأسهم الأخرى، بما في ذلك شركة روس كونسوليديتد، وحينئذٍ قال الأب إن هناك حمقَى يُخاطرون ويرفعون أسعار الأسهم؛ ومن ثَمَّ كان يتعيَّن أن تنخفض هذه الأسهم وتعود إلى أسعارها الحقيقية. لكن المشكلة استمرَّت في الانتشار في جميع أنحاء البلاد، وكانت هناك تقاريرُ عن مواجهة شركاتٍ كبيرة، وحتى بنوك، لمشاكلَ عسيرة. انتشر الذعر، وأجرى الأب و«فيرن» مشاوراتٍ قلقة، وأوقفا جميع أعمال التطوير، وسرَّحا عدة مئاتٍ من العمال «توخيًا للحذَر» على حد تعبير الأب. وأضاف الأب أنه كان هناك الكثير من المال في البنوك، لكنه لم يكن متاحًا إلا لكبار التجار فقط، وكان «فيرن» غاضبًا من مدير البنك، مارك أيزنبرج، الذي كان قد «تخلى عنه». لقد كانت «الشركات الخمس الكبرى» تمارس حيلَها القديمة لمحاولة استبعاد التجار المستقلين. فهي لن تتوانى عن وضع شركة روس كونسوليديتد في موقفٍ صعب، وشرائها مقابل خمسة أو عشرة ملايين!

تحدَّث باني مع السيد إيرفينج، الذي أخبره أن نظام الاحتياطي الفيدرالي هو المسئول عن كل ما يحدث؛ فهو أداةٌ تابعة لبنوك وول ستريت الكبرى، ومن المفترض أن يكون هيئةً حكومية، ولكنه في الحقيقة مجرد لجنة من أصحاب البنوك الذين كانوا يملكون سلطة طباعة عددٍ غير محدود من النقود الورقية الجديدة في أوقات الأزمات. وتُسلَّم هذه الأموال إلى البنوك الكبرى التي تُقرِضها بدورها للشركات الصناعية الكبرى، التي كانت تحتفظ بأوراقها المالية ويجب عليها حمايتها. لذلك كلما انتشَر الذعر، كان التجار الكبار ينجُون، بينما يعاني التجار الصغار من خسائرَ فادحة.

في هذه الحالة، كان المزارعون هم أكثر من «انخفضَت» أسعار منتجاتهم. فقد كانوا يفتقرون إلى النظام والحماية، وقد اضطُروا إلى بيع محاصيلهم في السوق بأسعارٍ أقلَّ بكثيرٍ من قيمتها الفعلية، وكانت الأسعار تنهار، ونتيجةً لذلك كان من المؤكَّد أن يواجه ملايين المزارعين الإفلاس قبل انتهاء هذا العام. على الجانب الآخر لم تنخفض أسعار السلع المصنَّعة بالقَدْر ذاته؛ وذلك لأن الصناديق الاستثمارية الكبرى، التي تدعمها بنوك وول ستريت، استطاعت الاحتفاظ بأسهمها. نقَل باني هذا التفسير إلى والده، الذي نقله إلى السيد روسكو، الذي أقر بصحته؛ فقد كان يعرف مجموعة الشركات التي كانت تسرق من بنك الاحتياطي الفيدرالي هنا في الساحل، وتشتري كل ما هو متاح، لكنه أكَّد أنها لن تحصُل على ممتلكات روسكو-روس، وتمنى أن تذهب جميعُها إلى الجحيم.

شَحَّ المال، ولم تتمكَّن بيرتي من شراء سيارةٍ جديدة، على الرغم من الضرر الذي لحق بسيارتها في حادث تصادم، وكان الأب يتحدث عن الاقتصاد أثناء تناول الوجبات، حتى بدأَت العمة إيما في استخدام ما تبقَّى من لحمِ أمسِ لإعداد مزيجٍ من الخضراوات واللحم المشوي! انتشَر العَوَز في كل مكان، وعلا القلقُ وجوه الناس، وبدأَت الصحف تُلمح إلى حدوث إفلاس وبطالة، وبالرغم من محاولاتها لإخفاء ذلك، كان مفهومًا ضمنيًّا بين السطور.

ثم حدث شيءٌ غريب. في إحدى الأمسيات الصيفية، توقفَت سيارة ليموزين كبيرة يقودها سائقٌ أمام منزل آل روس، وخرج منها شخصٌ تبدو عليه الأبهة، يرتدي ملابسَ بيضاءَ كالثلج؛ شابٌّ طويل القامة ذو شعرٍ أصفر ووجهٍ مهيب، يا إلهي، إنه إيلاي واتكينز! صافَح الجميع بطريقةٍ تشبه طريقة رؤساء الأساقفة، ثم طلب عقد اجتماعٍ خاص مع الأب. اصطحبه الأب إلى حجرة مكتبه، وبعد نصف ساعةٍ خرج إيلاي مبتسمًا، وودَّعَهم بانحناءة، لم يقل الأب شيئًا حتى أصبح وحده مع باني، ثم انفرجت أساريره وضحك ضحكةً مكتومة، وقال إن إيلاي، ويا للعجب، قد دخل إلى مجال العقارات. لقد عثَر على مربعٍ سكني في ضواحي المدينة بحجم الكنيسة التي أمره مَلاك الرب ببنائها، أو بالأحرى عثَر على بعضٍ من مقسِّمي العقارات الذين لديهم علاقاتٌ قويةٌ مع مجلس المشرفين بالمدينة، وحصل على إذن لبناء مربعٍ سكني بهذا الحجم غير المسبوق. وبذلك تحقَّقَت كلمة الرب، وكان من المقرَّر البدء في بناء الكنيسة الذهبية. ولكن لسببٍ غير معروف، لم يُحذِّر الرب إيلاي من حدوث الأزمة؛ ولذلك وقع في «ورطة»، تمامًا مثل أي رجلِ أعمالٍ عاديٍّ غير متدين، وقد تأخر قرابة شهر في سداد قسط أرضه التي يبلغ ثمنها مائة وخمسة وسبعين ألف دولار. فقد قلَّت تبرعاتُ اجتماعاتِ إحياء الروح الدينية، وقد أوضح الرب أنه أراد أن يستخدم إيلاي طريقةً أخرى لجمع الأموال.

«ماذا أراد منك يا أبي؟»

«أخبره الرب أنني سأتحمل دفع رهنٍ جديد على الأرض. لكنني أخبرتُه أن الرب لم يكشف عن المصدر الذي سأحصل منه على النقود. فأعطيتُه خمسمائة لمساعدته.»

«يا إلهي يا أبي! ظننتُ أننا كنا نقتصد في نفقاتنا!»

«حسنًا، أشار إيلاي إلى أنه لولا مباركته لتلك البئر الأولى في أرض بارادايس، لما حصلنا على كل هذا النفط. كما ترى، من الكفر أن أنكر ذلك.»

«لكن يا أبي، أنت لا تؤمن بالهُراء الذي يقوله إيلاي واتكينز!»

«هذا صحيح، ولكن هذا الرجل لديه عددٌ هائل من التابعين، وقد نحتاج إليه يومًا ما، من يدري؟ فإذا أُجريَت انتخاباتٌ قريبة، هنا أو في بارادايس، فقد نسترد أموالنا أضعافًا مضاعفة عن طريق جَعْل إيلاي يؤيد قائمة مرشَّحينا.»

١٢

فكَّر باني مليًّا في هذا الأمر، ثم استجمع شجاعتَه، وعاد إلى والده. «اسمع يا أبي! إذا كان بإمكانك دفع خمسمائة مقابل مزحة مع إيلاي واتكينز، فأنا أريد خمسمائة مقابل شيءٍ جدي.»

بدا القلق على الأب على الفور. كان عليه ألَّا يُخبر باني عن هذا المال! «ما الأمر يا بني؟»

«لقد ذهبتُ لرؤية السيد إيرفينج، يا أبي، وهو في ورطة، ولا يستطيع الحصول على وظيفة في أي مكان. لقد أدرجوه في القائمة السوداء. فكما تعلم، عليه أن يذكُر أنه كان يعمل في جامعة جنوب المحيط الهادي خلال العامَين الماضيَين، حينئذٍ يُرسِلون خطابًا للجامعة للاستفسار عنه، وهو مقتنعٌ بأن شخصًا ما في الجامعة يخبرهم أنه مساندٌ للجيش الأحمر.»

قال الأب: «هذا أمرٌ متوقَّع. لكنه ليس خطأك.»

«كلا، إنه كذلك يا أبي! فأنا مَن جعلته يتحدث معي. ظننتُ أنني أستطيع الحفاظ على هذا السر، لكن كان هناك جاسوسٌ بيننا.»

«حسنًا يا بني، هل يحاول اقتراض المال منك؟»

«لا، لقد عرضتُ عليه مبلغًا بسيطًا، لكنه لم يقبل. لكنني أعلم أنه يحتاج إليه، وقد تحدَّثتُ عن ذلك الأمر مع هاري سيجر ومع بيتر نيجل؛ فهما يعرفان بعض العمال في المدينة، ويعتقدان أن هناك إمكانيةً لبدء كليةٍ عمالية هنا. ونتفق جميعًا على أن السيد إيرفينج هو الرجل المثالي لإدارتها.»

قال الأب: «كلية للعمال؟ هذه أول مرة أسمع عن شيءٍ مثل هذا.»

«إنها مخصَّصة لتعليم العمال الشباب.»

«ولكن لماذا لا يذهبون إلى المدارس العادية المجانية؟»

«إنهم لا يُعلِّمونهم هناك أي شيءٍ عن العمال. أو على الأقل لا يعلمونهم أي شيءٍ صحيح. لذا سيؤسِّس العمال أماكن يمكن فيها إعداد الشباب الأذكياء للقيام بدورهم في النضال العمالي.»

فكَّر الأب في الموضوع. وقال: «أنت تقصد يا بني أنه مكانٌ حيث تقوم مجموعة من داعمي الجيش الأحمر بتعليم الاشتراكية وأشياءَ من هذا القبيل.»

«لا، هذا ليس قولًا منصِفًا يا أبي، نحن لا نقترح تدريس أي معتقدات. نريد أن نعلمهم كيفية التمتع بعقليةٍ متفتحة؛ لطالما كانت هذه رؤية السيد إيرفينج. فهو يريد أن يفكِّر العمال بأنفسهم».

لكن هذا النوع من الحديث لم يخدع الأب ولو للحظة. ولذلك قال: «سوف يتحوَّلون جميعًا إلى جيشٍ أحمر قبل أن ينجحوا في تحقيق ذلك. واسمع يا بني، أنا لا أمانع أن تعطي خمسمائة للسيد إيرفينج، ولكن من الصعب عليَّ تقبُّل فكرة أنني قضيتُ حياتي في كسب المال الذي تريد استخدامه لتعليم الشباب أنني لا أستحق هذا المال!»

ضحك باني، كانت تلك هي أفضل طريقة لتناول الأمر. لكنه فكَّر في الأمر مرارًا وتكرارًا مع مرور السنين، وأدرك كيف كان ذلك الرجل العجوز الداهية ينظر إلى المستقبل ويستوعب الحياة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤