الفصل الخامس عشر

العطلة

١

طوال فصلَي الصيف والخريف، تحمل الأب والسيد روسكو مسئوليةً كبيرة، وهي المساعدة في تغيير تفكير الشعب الأمريكي. فقد كانت الحملة الرئاسية على قدم وساق، وكان على رجال النفط، الذين تجرَّءوا واختاروا مرشحًا، إنهاءُ المهمة الآن بإقناع الناخبين بأنه رجل دولة عظيم ونبيل. كذلك كان عليهم دفعُ جزءٍ من النفقات، قد يصل إلى خمسين مليون دولار، كما وصَل إلى مسامعِ باني من الأحاديث التي دارَت في بارادايس وفي الدير. كان هذا المبلغ أكبر بكثيرٍ مما كان سيُسجَّل رسميًّا؛ حيث كانت الأموالُ تمُر عَبْر وكالاتٍ محليةٍ وغيرِ رسمية. وكانت هذه الأموالُ تأتي من المؤسسات الكبيرة التي تتمتَّع بالحماية، والشركات، والبنوك؛ أي كل من كان لديه مصالحُ مع الحكومة، أو من كان عُرضةً لضغط السياسيين، وقد عُرِفت هذه العملية باسم «استنزاف الأغنياء». وبطبيعةِ الحالِ جذَب رجالُ النفط، بوصفِهم أصحابَ النصيبِ الأكبرِ من هذه الأموال، انتباهَ جميعِ لجانِ الحملات، على مستوى المقاطعة والولاية والدولة. وتلقَّى الأب والسيد روسكو زياراتٍ من جيك كوفي، ومن كبار رجالات الدولة، واستمَعا إلى قصصٍ تقشَعرُّ لها الأبدانُ حول مخاطرِ الوضع.

كان من الضروري إقناعُ الشعبِ الأمريكيِّ بأن الإدارةَ الديمقراطيةَ على مدارِ السنواتِ الثماني الماضية كانت مسرفةً وفاسدة، وجاهلةً وحمقاء، وكان ذلك أمرًا يسهُل تنفيذه. ومع ذلك كان من الضروري أيضًا إقناعُه بأنه من المرجَّح أن تكون إدارة السيناتور هاردينج أفضل، لكن لم يكن من السهل تحقيقُ ذلك الأمر. وبطبيعة الحال، أراد رؤساء لجان الحملات الانتخابية أن يجعلوا الأمر يبدو صعبًا قَدْر الإمكان، فكلما زادت الأموال التي مرَّت بين أيديهم، زاد حجمُ المبلَغ الذي سيستولون عليه. ومع قرب انتهاء الحملة الانتخابية، شعَر باني بالرضا عندما سمع والده يسبُّ بشكلٍ شنيع، ويتمنَّى لو أنه أخذ بنصيحةِ ابنِه وتركَ مصائر بلاده لصاحب مصنع الصابون الذي دفع الملايين للجنرال وود!

كان سيناتور ولاية أوهايو شخصًا ضخمًا مهيبًا ذا ملامحَ جادة، وأدار ما أطلقَت عليه الصحف اسم «حملة الشرفة الأمامية». والسبب وراء هذه التسمية أنه لم يتكبَّد عناء السفر في القطارات ومقابلة الناس، بل استقبل في منزله وفودًا من «تجار التبن والأعلاف في دولوث»، أو «متعهِّدي دفن الموتى في أوساواتومي». كانوا يجلسون على مقاعد التخييم في حديقته، وكان رجلُ الدولة ينضَم إليهم ويقرأ خطابًا مهيبًا، كتَبه السكرتير الذي اختاره فيرنون روسكو، وأُعطي لجميع المؤسساتِ الصحفيةِ في اليوم السابق، حتى يتسنَّى توزيعُه عَبْر التلغراف ونشرُه في خمسين مليونَ صفحةٍ أولى في وقتٍ واحد. إنه جهازٌ دعائيٌّ هائل، وعلى الرجال الذين يديرونه نسيانُ فكرة النوم لساعاتٍ طويلة. لكن نوم المرشَّح المهيب لم يتأثَّر على الإطلاق؛ فقد كان دائمًا منتعشًا وهادئًا ومطمئنًّا، وقد كان على هذا النحو طَوالَ حياته المهنية؛ لأن رجال الأعمال القادرين الذين تولَّوا أمره ودفَعوا له المال، لم يفشلوا قطُّ في إخباره بما يجب عليه فعله.

كان باني يعيش في برجٍ عاجي، وينظر بازدراء إلى شئون البشر المثيرين للشفقة. سمح له الأب والسيد روسكو بسماع كل شيء، متأكدَين من أن المنطق السليم سينتصر في النهاية، وأنه سيَقبَل وجهة نظرهما. فقد كانا يملكان فلسفةً تحميهما وكأنها درعٌ ضد كل التردُّدات والشكوك. فلا بد من إدارة شئون البلاد على يد أصحاب المال والذكاء والخبرة، وبما أن الغالبية العظمى من الشعب لم يكن لديها الوعيُ الكافي لمنح السلطة طواعية، كان لا بد من خداع جماهير الشعب. وينطوي ذلك على تأليف «الشعارات» وترسيخها في رءوسهم عن طريقِ تكرارِها ملايين المرات، بل مليارات المرات. كانت تلك مهارةً يتقنها الخبراء، وكان أصحابُ المال يدفعون لهم مقابلها، على الرغم من أن ثمنَها كان باهظًا للغاية!

انتهت الحملة الهائلة، وتبيَّن تعرُّض ١٦٫١٤٠٫٥٨٥ أمريكيًّا للخداع بنجاح. وكان عدد الأصوات التي حصدَها السيناتور هاردينج يزيد عن أصواتِ المرشَّحِ الديمقراطي بسبعة ملايين صوت، وهي أكبر أغلبيةٍ حصَل عليها مرشَّح في التاريخ الأمريكي على الإطلاق. ولذلك انطلقَت الحشود تصيح في الشوارع، وفي النوادي والمطاعم الفاخرة حيث يحتفل الأغنياء، وكان الجميع يحتفلون بشرب الخمر حتى الثمالة. نعم، حتى فيرنون روسكو ثمل؛ لأن آنابيل كانت ثملةً جدًّا لدرجة أنها لم تتمكَّن من إيقافه، وتحدَّت فِي تريسي طبيبها، ونسي الأب قراراتِه، وحتى باني شرب ما يكفي لجعله يخشى على مثاليته. فالإنسان حيوانٌ اجتماعي، ومن الصعب ألَّا تحذوَ حَذو جميع من حولك!

٢

أتى عيدُ الميلاد المجيد، وتردَّدَت صيحاتُ طيورِ السُّمَانى في تلال بارادايس. لم يكن هناك الكثير منها بجوار المنزل، ولكن كان هناك الكثير من الأراضي المجاورة حيث كان بإمكان أمير النفط وأبيه الملك إطلاق النار. وبمجرَّد أن تبتعدَ عن أبراج الحفر، ورائحة معمل التكرير، ستجدُ الريف الجميل ذاته، بالسماء الصافية وغروب الشمس الذهبي نفسَيهما؛ حيث يمكنك تنقيةُ دمكَ من سموم المشروبات الكحولية غير المشروعة، وتطهير روحك من الذكريات المحرجة. وأثناء التجوُّل عَبْر هذه التلال الصخرية، واستنشاق هذا الهواء السحري، كان من المستحيل تصوُّر أن البشر لن يتعلموا يومًا ما كيف يكونون سعداء!

تزامنَت هذه الزيارة مع حدثٍ تاريخيٍّ عظيم وضع بارادايس على خريطة كاليفورنيا. كان إيلاي واتكينز، نبي الرب، قد انتهى من سداد ثمن الأرض التي كان سيُقام عليها مَقْدِسه في إنجِل سيتي، واحتفَل بهذا الحدَث بالعودة إلى أماكن طفولته؛ حيث المعبد الصغير المبني من الخشب الذي نزل فيه الوحيُ الثالثُ للبشرية، وهناك أُقيم عرضٌ جديدٌ مثير للاهتمام من اختراعه، اسمه «ماراثون الكتاب المقدس». كما ترى، كان إيلاي قد قرأ في الصحف عن سباقات الماراثون، وعلى الرغم من أنه لم يكن يعرف معنى الكلمة، فإنها كانت تبدو مؤثِّرة، وكان مُولعًا بالكلمات الغريبة. لذلك أعلن تلاميذ الكنيسة الرسولية الأولى ببارادايس أن «ماراثون الكتاب المقدس» كان عبارةً عن قراءة كلام الرب المقدَّس دون توقُّف؛ حيث سيقرءون بالتتابُع، وستتواجد ليلًا ونهارًا مجموعةٌ صغيرةٌ في الكنيسة، وسيتولى المهمةَ المقدَّسةَ صوتٌ تلو الآخر، بغَض النظر عن الآبار «التي تضُخُّ النفط» خارج الباب مباشرةً.

كان هذا الأمر مذهلًا حقًّا. فلم يكن يقتصر على إثارة حماسة أتباعهم وجلب حشودٍ من الناس إلى المدينة، بل استحوذ على اهتمام الصحف، التي سارعَت إلى إرسال المراسلين لتغطية الحدث. حدث العديد من المعجزات الجديدة، وعُلِّق العديد من العكازات، وفي خِضَم هذه الإثارة، أعطى الرب علامةً جديدةً لرحمته، وأعلن إيلاي، وهو يعظ الحشود في الخارج، باسم الرب أنه إذا اكتملَت القراءة، فإن القدرة الإلهية المطلقة ستتكفَّل بتوفير بقية المبلغ، وسيُقام مَقدِس مدينة إنجِل سيتي في غضون عام. بعد ذلك، بالطبع، لم يكن يمكن لأي شيءٍ أن يُوقف «الماراثون»، وأُنجِز هذا الحدَث التاريخي في غضون أربعةِ أيام وخمسِ ساعات وسبعَ عشرةَ دقيقةً واثنتَين وأربعين ثانيةً وثلاثة أرباع الثانية؛ المجد للرب، هللويا، سبِّحوا الرب!

رأى باني الآلاف وهم يصرخون، ورءوسهم مكشوفة ووجوههم مرفوعة ومسلَّط عليها ضوءٌ كاشف؛ فإيلاي الآن كان يملك المال، وكان يستخدمه في إحداث هذه التأثيرات المذهلة. وقفَت «فرقته الموسيقية المتألقة» على منصةٍ حيث كانت الأضواء الكهربائية مُسلطةً على الآلات الموسيقية، وكان النبي يعظ، ثم يلوِّح بيده، فيعزف الموسيقيون بأبواقهم لحنًا إنجيليًّا قديمًا، وكانت الحشود تردِّد من ورائهم وكأنها جوقةٌ عظيمة، وكانت تتمايل وتضربُ الأرض بأقدامها، حتى انتقلَت أرواحها إلى المجد، وسالت الدموع على خدودها.

حضر العديد من زوجات عمال النفط، وكُنَّ يتوسلن ويصلين ويحاولن إقناع أزواجهن بالحضور. فلم يكن هناك الكثير الذي يمكن أن يفعله المرء في مكان منعزل مثل بارادايس، وكان أحد أفلام الدرجة الثالثة هو الشكل الوحيد للتسلية، لكن ها هي الأضواء الساطعة والأبواق الفضية وحالات النشوة السماوية؛ كل هذا مجانًا، بالإضافة إلى فرصة الفوز بدخول ملكوت السموات! لا عجب أن العديد من الرجال «وقعوا في هذا الفخ»، لكن بول ومجموعته الصغيرة من المتمردين أصروا على أن أصحاب العمل كانوا قد وظفوا إيلاي ليأتي إلى هناك في هذا الوقت الحرج، بينما كان النضال من أجل إنقاذ الاتحاد وشيكًا. كان باني يعتقد أن هذه الفكرة مبالغٌ فيها، لكنه تذكر بعد ذلك خمسمائة الدولار التي أعطاها والده لإيلاي! وتذكر أيضًا ملاحظةً قالها فيرنون روسكو في الدير: «يمكنهم الاستمتاع بهذه الوعود السماوية الواهية، ما داموا يتركونني أحصل على النفط.» صاحت آنابيل بخوفٍ قائلةً: «اصمت، يا فيرن! إن ما تقوله شيء فظيع!» وذلك لأن آنابيل كانت تعرف أن القوى السماوية غير متسامحة ولها تقلبات عنيفة.

وكان أعضاء «الاتحاد العالمي للعمال الصناعيين» أيضًا يحاولون إثارة روح الإحياء في أعضائهم، واستخدام قوة الأغاني. لكن الغناء في «الأدغال» كان ضعيفًا حقًّا، مقارنة بالدوي القوي لأبواق إيلاي الفضية، وصيحات تهليل ضيوفه. وبالتأكيد لم يكن أصحاب الآبار يدعمون أعضاء «الاتحاد العالمي للعمال الصناعيين»! فقد أرسلوا مأمور الشرطة وعشرين من نوابه، يحملون بنادق محشوةً بالرصاص، وداهموا مكان تخييم المتمردين، ووضعوا أحد عشر منهم في شاحنة وحبسوهم في سجن المقاطعة. ظل الوضع هكذا، وسمع باني الحكاية المأساوية لإيدي بيات، أحد أصدقاء بول، الذي ذهب إلى سان إليدو لمعرفة مبلغ الكفالة، لكنه حُبِس للاشتباه في كونه عضوًا في المنظمة الخارجة عن القانون. علمًا بأنه لم يكن عضوًا في المنظمة، لكن كيف يمكنه إثبات ذلك؟

أرادت روث، التي أخبرت باني بالأمر، أن تعرف ما إذا كان الأب سيدفع له الكفالة لإخراجه. وسألت باني ما إذا كان يتذكر ذلك الشابَّ الهادئَ جدًّا، ذا الشعر الداكن والمظهر الحازم. أجابها باني بأنه يتذكَّره. حسنًا، لقد كان جديرًا بالثقة مثل عامل الملابس اليهودي، وكان الطعام الذي يقدمونه في ذلك المكان الرهيب مليئًا بالديدان، ولم يكن لدى الفتيان حتى بطانية لتدفئتهم. كان مخططًا نقلُهم جميعًا بالقطار إلى سان كوينتين، وكان بول يعرف أحدَ «السجناء السياسيين» الذين خرجوا للتوِّ من هناك، وأخبرَه بأفظع القصص، انهمرَت الدموعُ من عينَي روث عندما روت كيف جعلوا الرجال يعملون في مصنع الخيش، وملأت المادة البنية رئاتهم، مما سبَّب لهم السعال، وكان ذلك بمثابة حكم بالإعدام. وعندما لم يتمكَّنوا من تحمُّل العمل، تعرَّضوا للضرب والإلقاء في «الحبس الانفرادي»؛ فقط تخيَّل حجم المعاناة التي اضطُر هؤلاء الرفاق الذين تعرفُهم وتهتَم لأمورهم إلى تحمُّلها!

كان باني يعرف مأمور مقاطعة سان إليدو، وكذلك المدعي العام للمنطقة، وكان يعلم أن الأب هو من عيَّن هذَين المسئولَين، ويمكنه إصدار أوامر لهما. ولكن هل سيعترض الأب جهودهما لحماية شركات النفط؟ هل سيعارض رغبات جميع المديرين والمديرين التنفيذيين والمشرفين الآخرين في شركة روس كونسوليديتد؟ لا، بالتأكيد لن يفعل! كل ما استطاع باني فِعْله هو إعطاء روث بضعَ مئاتٍ من الدولارات، لتتمكَّن من جلبِ طعامٍ للسجناء. وعاد لاستكمال دراسته في الجامعة، لكن في قرارة نفسه كانت هناك «فجوة» يجرُّه إليها ضميرُه محتجًّا ومقاوِمًا بلا جدوى، فيَرْميه فيها، ويُغلِق خلفه بابًا من حديدٍ له صليلٌ مرعب. نعم، حتى عندما كان باني في الغرفة ذاتِ اللونِ الأبيضِ الثلجي مع نباتات اللبلاب التي تزين النافذة، وحتى عندما كان يضُم بين ذراعَيه جسد حبيبتِه المتشوِّق، حتى في ذلك الوقت كان باب السجن يُصدِر صليلًا، ليجد نفسه في إحدى زنزانات سجن المقاطعة مع «سجناء الحرب الطبقية»!

٣

بموجب الترتيبات التي حافظَت على السلام في قطاع النفط خلال الحرب، كان على «مجلس النفط» الحكومي الاستماع إلى تظلُّمات العمال، وإصدار قراراتٍ عادلة. لكن الحرب بدأَت تتلاشى الآن في ذاكرة الرجال، وكان أصحاب آبار النفط يشعرون بالقلق في ظل هذه السيطرة «الخارجية». أليس من الحقوق الأساسية لكل أمريكي إدارة أعماله بطريقتِه الخاصة؟ ألم يكن من الواضح أن الأجورَ في زمن الحرب كانت مرتفعة، وأن من المستحَب الآن «تقليلَها»؟ ومن ثَمَّ رفَض بعضٌ من أصحاب الآبار الانصياع لأوامر «مجلس النفط»، وأُجريَت مناقشاتٌ طويلة، ولجأ البعض إلى المحاكم، وفي هذه الأثناء كان العمال يحتجُّون ويهدِّدون، وكان الجميع يرى أن هناك أزمةً وشيكة.

في الأيام الخوالي، كان جيه أرنولد روس واحدًا من رجال الأعمال الصغار، ولم يكن بوسع باني فعل شيءٍ سوى انتظار الأحداث. لكنه أصبح الآن أحد أقطاب المجال، وكان يشهَد عملية إعداد المصائر. توصَّل اتحاد أرباب العمل في قطاع النفط، من خلال لجنته التنفيذية، التي كان فيرنون روسكو عضوًا فيها، إلى قرارٍ بتنحية مجلس النفط الفيدرالي جانبًا، وتجاهُل اتحادات العمال، والإعلان عن جدولٍ جديدٍ للأجور في القطاع. حصل الأب على نسخةٍ من هذا الجدول، وكان متوسط الأجور به يقلُّ عن المعدل الحالي بحوالي ١٠ بالمائة.

كان ذلك يعني صراعًا مريرًا، وكان باني قلقًا جدًّا لدرجة أنه، دون أن يقول أي شيء لوالده، لجأ إلى السيد روسكو. ونظرًا لأن هذه مسألةٌ تجارية، اقتضَت آدابُ اللباقة زيارتَه في مكتبه؛ لذلك اتصل باني بالسكرتير وطلب موعدًا بالطريقة المعتادة.

جلس الرجلُ العظيمُ إلى مكتبه المسطَّح المصنوع من خشب الماهوجني، الخالي من الأوراق حسبما اقتضَت الخرافةُ السائدة. بدا الأمر كما لو أن قائدَ قطاعِ النفطِ ليس لديه ما يفعلُه سوى الابتسام لصبيٍّ جامعي، والثرثرة عن عشيقة الصبي وعن عشيقته. ولكن بعد ذلك علَّق باني قائلًا: «سيد روسكو، جئتُ لمقابلتك لأنني أريد أن أتحدث معك بشأن جدول الأجور الجديد.» وفي لمح البصر، اختفت الابتسامة من وجه قطب النفط، وبرز فكَّاه، وإن كنتَ تعتقد أنه شخصٌ لطيفٌ ومِهزار، فهذا هو الوقت المناسب لتصحيح اعتقادك، ومعك باني وجميع المتمردين الآخرين على النظام الأمريكي.

بدأ باني يتحدث عما يشعُر به الرجال، والمشكلة التي كانت على وشكِ الحدوث، لكن السيد روسكو أوقفَه. «اسمَعني يا جيم الابن، ووفِّر كلامك. أعرف كل ما يقوله الرجال، وكل ما تُعلِّمهم إياه مجموعةُ البلاشفة. فأنا أحصل على تقريرٍ سريٍّ كل أسبوع. وأعرف بشأن صديقك توم أكستون وبول واتكينز وإيدي بيات وبود ستونر وجيك دوجان، ويمكنني أن أخبرك بكل ما تعرفه، والكثير من الأشياء التي ستُفاجئك.»

ذهل باني، كما كان السيد روسكو يهدف. وتابع الأخير قائلًا: «يا جيم الابن، أنت فتًى ذكي، وسوف تتغلَّب على هذا الهُراء، وأودُّ أن أساعدَك في فعل ذلك، وربما أجنبك قدْرًا كبيرًا من المعاناة، وكذلك أجنِّب والدك، ذلك الرجل المحبوب الذي يحظى بقدْرٍ كبيرٍ من الاحترام. لقد جئتُ إلى هذا العالم قبلكَ بثلاثين أو أربعين سنة، وتعلَّمتُ الكثير من الأمور التي لا تعرفها، لكنك ستعيها يومًا ما. لقد جاء والدُكَ وبقيَّتُنا إلى هنا لأننا نعرفُ كيفيةَ إدارة قطاع النفط، وهذا شيءٌ حقيقيٌّ حقًّا، وليس مجرَّد كلام. لكن بعض الرفاق الآخرين يريدون عزلنا، ويعتقدون أن كل ما عليهم فعله هو إلقاءُ خطاباتٍ على عمال النفط، وتحريضُهم على القيام بأعمال شغب، لكن دعني أخبرك أيها الفتى أن الأمر يتطلَّب أكثر من ذلك بكثير!»

«حسنًا يا سيد روسكو، لكن هذا ليس الهدف …»

قاطعه قائلًا: «اعذرني، ولكنه كذلك. فلنُوقِف هذا الهُراء، ولتكن صادقًا مع نفسك وتعترف بأنك كنتَ تستمع إلى مناقشات هؤلاء البلاشفة. هل ينوون الاستيلاء على قطاع النفط مني ومن والدك، أم لا؟»

«حسنًا، ربما يظنُّون أنه في نهاية المطاف …»

قاطعه قائلًا: «نعم، بالضبط. وعلى حد علمي، فإن الوقت المناسب لوقف هذا الأمر هو الآن. ودَعْني أخبرك أنه إذا تصوَّر أيٌّ من هؤلاء السفلة أنهم سيعيشون على أجوري بينما يستعدُّون لسرقتي، فهم مخطئون، وإذا وجدوا أنفسهم في مصنع الخيش في سان كوينتين، فلن أستخدم أموالي لدفع كفالاتهم وإخراجهم!»

كلُّ ما قيل كان دقيقًا وفي محله، وكان فيرنون روسكو ينظر إلى عينَي باني مباشرة وهو يتحدث. تابع قائلًا: «يا جيم الابن، أعرف كل العبارات المثالية الجميلة التي يخبرك بها هؤلاء الرفاق. كل هذا جميل ولطيف ومن أجل مصلحة الإنسانية، لكنهم يعلمون أن هذا كله طُعْمٌ للحمقى، وإذا كان بوسعك أن تَسمَعَهم وهم يضحكون عليك من وراء ظهرك، فسوف تُدرِك كيف أنهم يستغلونك. ما أريد قولَه لك هو أنه من الأفضل أن تقف على الجانب الخاص بك من السياج قبل أن يبدأ إطلاق النار.»

«هل سيكونُ هناك إطلاقُ نارٍ يا سيد روسكو؟»

«الأمر منوط بأصدقائك البلاشفة. لقد حصَلنا على ما نريد، والآن يريدون أخذه منا.»

«لقد كنا بحاجة إلى عمالِ النفطِ أثناء الحرب يا سيد روسكو، وقد قطعنا لهم الوعود …»

«اعذرني أيها الفتى، نحن لم نقطع أيَّ وعودٍ على الإطلاق! لقد قطعَها نيابةً عنا أستاذٌ جامعيٌّ لعينٌ متذمرٌ كئيبُ الوجه، وقد انتهينا من هذا الهُراء إلى الأبد! فلدينا رجلُ أعمالٍ مرشَّح لمنصب الرئيس، وسنُدير هذا البلد على أسسٍ تجارية. ودعني أخبرك شيئًا، لقد سئمتُ بشدة من الاضطرار إلى رشوة القيادات العماليين، ويُمكِنني التفكير في طرقٍ أرخصَ لإدارة الأمور.»

أصاب باني الذهول. «هل هذا صحيحٌ حقًّا يا سيد روسكو؟ هل تمكَّنتَ من رشوة مسئولي عمال النفط؟»

اعتدَل فيرن في جلسته وراء المكتب، ووَجَّه إصبعَه الكبيرة إلى وجه باني. وقال: «اسمَع ما أقولُه لك، يا فتى: يمكنني شراءُ أيِّ مسئول، مثلما يمكنني شراءُ أيِّ سياسي، أو أي شخصٍ آخرَ يمكن لمجموعة من المغفَّلين انتخابُه لتولي منصبٍ ما. وأعلمُ ما تفكِّر فيه بشأني، فبالطبع تقول إنني راعي بقرٍ مُسِن، ليست لديه أي مُثُلٍ عليا، ولدَيه برميلٌ من المال ويحسب أنه يستطيعُ استخدامَه في تنفيذ أي شيءٍ يريده. لكن هذا ليس المقصود يا بني، بل لأنني أتمتَّع بالذكاء الكافي لكسبِ المال، واستخدامِه. فالمال لا يمثِّل سلطةً إلا عند استخدامه، والسبب الذي يُمكِّنني من شراء السلطة هو أن الرجال يعرفون أنني أستطيعُ استخدامَها، وإلا فلن يبيعوها لي. هل تفهم قصدي؟»

«ولكن ماذا ستفعل بهذه السلطة يا سيد روسكو؟»

«سأبحث عن النفط وأستخرجه من الأرض، وأكرِّره وأبيعه لمن يملك سعره. وستظل هذه وظيفتي ما دام العالم يحتاج إلى النفط، وعندما يتمكَّن الناسُ من العيش بدون نفط، سأفعل شيئًا آخر. وإذا أراد أيُّ شخصٍ أن يشارك في تلك المهنة، فليَسِر على خطاي، وليكدَّ ويعرق، ويلتزم بقوانين اللعبة.»

«لكن يا سيد روسكو هذه النصيحة لا تناسب جميع العمال. فلا يمكن لأي شخص أن يُدير بئر نفط.»

«أنت محقٌّ في ذلك أيها الفتى؛ فلا يستطيع تولِّي ذلك الأمر إلا من يتمتَّع بالذكاء. وعلى الباقين أن يعملوا، وإذا عملوا لحسابي، فسوف يحصلون على أجورٍ عادلةٍ منتظمةٍ كل ليلة سبت، بغَض النظر عن الجهود التي أبذلها في التخطيط والقلق بشأن المشاكل المحتمَلة. لكن عندما يأتي شخصٌ فصيح اللسان، ويتدخَّل بيني وبين رجالي، ويقول إنني لا أستطيع التعامل معهم إلا عن طريق دفعِ عمولةٍ له، حينئذٍ سأُرسِله إلى مصنع الخيش!»

٤

كان الشيء الوحيد الذي علق في رأس باني بعد هذه المقابلة هو مناشدة فيرنون روسكو الأخيرة. فقد قال له: «ألا ترى أيها الصبي أن والدك رجلٌ مريض؟ فهو لن يبقى معك لسنواتٍ عديدةٍ أخرى، ويومًا ما، عندما يفوت الأوان، سوف تستيقظ وتُدرِك ما فعلتَه به. فهذا الرجل العجوز كان شغلُه الشاغلُ هو جعل حياتك أسهل، يمكنك أن تقول إذا أردتَ إنه لم ينبغِ له فعلُ ذلك، ولكن هذا ما عاش من أجله. والآن، أنت تجعل جهدَه طَوال حياته هباءً! نعم، هذا ما تفعله، فلتواجه الأمر. أنت ترى أن كل ما فعله لم يكن ذا جدوى، وأن كل أفعاله ملتويةٌ وقذرة، وأن الأشخاص الوحيدين الذين لديهم أي مُثُل أو حقوق مشروعة هم مجموعةٌ من الأشخاص الفاشلين، الذين يكرهون نجاحَه لمعرفتهم أنه أحسَن صنعًا، وأنهم يعجزون عن تحقيق ما يضاهيه. وإذا كنتَ تظُن أن والدك لا يشعُر بذلك، وإذا كنتَ لا تعرفُ أن ذلك يحزنُ قلبه، فإذن دعني أخبرك أن عليك إدراكَ الأمرِ قبل فوات الأوان. إذا كنتَ تريد احتقارَ مال أبيك، فحبًّا للرب انتظر حتى يموت، ويصبح المال ملكك.»

ولذلك عندما خرج باني من المكتب، لم يكن يفكِّر في مشاكل عمال النفط. وبدأ يتساءل: هل صحيحٌ أن حالة الأب الصحية سيئةٌ للغاية؟ ألَا تُوجَد طريقةٌ ما يمكن بها جعلُه يتوقف عن العمل الجاد؟ هل كان من الضروري أن يكون حاضرًا ليشهد كل بئرٍ جديدةٍ تحفرها شركة روس كونسوليديتد، سواء كان في نهر لوبوس أو بارادايس أو بيتش سيتي؟ وماذا سيحدث للأب عندما يصل هذا النضال العمالي إلى ذروته؟

في أوائل الربيع، عقَد قادة الاتحاد مؤتمرًا، ووجهوا إخطارًا لمجلس النفط بأن تحدي أصحاب الآبار لسلطة الحكومة أمرٌ لا يُطاق، فإما أن يؤكِّد المجلسُ سلطته، وإلا فإن العمال سيتولَّون زمام الأمور. لم يحرِّك المجلس ساكنًا، وعندما وجَّه مسئولو الاتحاد رسائل إلى لجنة أصحاب الآبار، لم تُؤخذ بعين الاعتبار. وأصبح لا مفَر من الإضراب، وكلما طال تأجيله، ازداد الأمر سوءًا بالنسبة للرجال.

ثم حدث شيءٌ غريب. جاءت فِي تريسي إلى باني، كانت قد انتهت للتو من تصوير فيلمٍ آخر، لكن لم تكن هناك دعايةٌ هذه المرة، فقد أملت شروطها على شمولسكي، وأخبرَتْه أنها لن تكون لها أي علاقةٍ مرةً أخرى بروسيا، أو بالإضرابات، أو أي شيءٍ قد يجرح مشاعر حبيبها أمير النفط. هذه المرة أعلنَت اللوحات الإعلانية عن فيولا تريسي في «فيلمٍ كوميديٍّ طويل عن مواقفَ وطرائف بالجامعة، بعنوان «عيون مغرية» (كوم-هيذر آيز).» تألَّقَت فِي في دور الفتاة اللعوب التي كانت تُغازِل طلاب الجامعة، وتحطِّم قلوب جميع نجوم فريق كرة القدم في آنٍ واحد، وأحبطَت بالمصادفة مؤامرةَ مجموعةٍ من وكلاء المراهنات، الذين راهنوا بمليون دولار على نتيجة المباراة الكبيرة، وسَعَوا إلى تدمير الفريق عن طريق اختطافِ تميمةِ حظِّه ومحبوبته. لم يكن باني يشعُر بأي تعاطُف مع وكلاء المراهنات أو الخاطفين؛ ومن ثَمَّ لم يكن هناك بأسٌ من مشاهدته لهذا الفيلم وهو في مرحلة الإعداد، بل إنه أمدَّهم ببعض التفاصيل والمعلومات المستمدَّة من تجاربه الشخصية مع مواقف وطرائف الجامعة.

كان من المقرر أن يُقام «العرض الأول» لفيلم «عيون مغرية» (كوم-هيذر آيز) في نيويورك، وكان يتعيَّن على النجمة السينمائية الحضور. ولذا اقترحَت قائلة: «باني، لماذا لا تأتي معي وتستمتع قليلًا؟»

لم يكن باني قد ذهب إلى الشرق من قبل، وكانت الفكرة مغرية. فقد كانت لديه إجازة عيد الفصح التي تمتدُّ لأسبوعَين، وإذا فاتَته بعض الصفوف في الكلية، فبإمكانه تعويضها. ولذلك أخبرها أنه سيفكر في الأمر، وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، كان في الدير وتحدثت آنابيل معه بصراحة قائلة: «لماذا لا تذهب مع فِي وتصطحب الأب معك؟ إنه يحتاج إلى التغيير بشدة.»

تأمل ملامحها البريئة، وعلا وجهه ابتسامة. «ما الأمر يا آنابيل، هل تحاولين أنتِ وفيرن إبعادنا عن الإضراب؟»

فأجابَت: «إذا كان أصدقاؤك يهتمون لأمرك حقًّا، فسوف يتمنَّون لك السعادة.» وعندما قال إن الهروب يُعَد جبنًا، ردَّت عليه ردًّا صادمًا. «هل من الضروري زيارة المسلَخ إذا كنا سنتناول لحم الضأن المشوي على العَشاء؟»

أجاب: «أنتِ فيلسوفةٌ اجتماعيةٌ، يا آنابيل.» وأخبرَتْه أن الناس يذهبون إلى الجامعات ليتعلَّموا مصطلحاتٍ طويلةً تعبِّر عن المنطق السليم!

كان من الواضحِ أن المؤامرةَ كان مخططًا لها بحنكة؛ لأنه عندما عاد باني إلى البيت، سأله الأب: «هل أخبرك فيرن بما يريدني أن أفعله؟»

«لا يا أبي، ما الأمر؟»

«هناك مؤتمر في نيويورك يجب على شخصٍ ما أن يحضُره، وأراد أن يعرفَ ما إذا كان بإمكاني الذهاب. وكنتُ أتساءلُ عما إذا كان أخذُ إجازةٍ قصيرةٍ من الجامعة سيؤثِّر في دراستك.»

دخل باني في أخذٍ وردٍّ مع نفسه. ما الذي يُمكِن تحقيقُه بالبقاء؟ في الإضراب الأول، تمكَّن من إبقاء العمال في منازلهم، لكنه لا يستطيع فعلَ ذلك الآن؛ لأن فيرن كان هو المسئول، ولن يتزحزحَ عن موقفِه قيدَ أَنْمَلة. ويبدو أن تشبيه آنابيل للحم الضأن كان يتناسب تمامًا مع وضعِ اتحادِ عمالِ النفط. فقد تستغرق عمليةُ الذبحِ أسابيع، أو حتى أشهُر، لكنها ستتم في النهاية، وفي غضونِ ذلك لن يفعل باني شيئًا سوى تعذيبِ والدِه المسكين.

وبعد ذلك استُدعِيَت بيرتي للمشاركة في المؤامرة. فقد أرادَتْه بيرتي أن يرحل. وكان من المقرَّر أن تزور آل وودبريدج رايلي العصريين، وبعد ذلك ستكونُ على متنِ يختِ ثيلما نورمان، ولم تكن تريد أن يتورَّط شقيقها في إضراب النفط، وربما تُنشَر فضيحتُه مجددًا في الصحف! ألن يفكِّر في الأب لمرةٍ واحدة، ويجعله يأخذ قسطًا من الراحة؟ وسئم باني من الجدال، ووافَق على السفر.

٥

أثارت الرحلة المقترحة مشكلةً غريبة. كيف يسافر المرءُ مع عشيقتِه إلى «أرض فخر الحجاج»؟ وتذكَّر باني بشكلٍ مبهم أنه سمع عن طردِ أشخاصٍ من الفنادق؛ بسبب عدمِ وجودِ وثائقِ زواج. هل سيتعيَّن عليه هو وفِي أن يلتقيا سرًّا؟ سألها عن ذلك، مفترضًا أن خبرتَها ستُمكِّنها من الإجابة عن السؤال، وبالفعل أجابَتْه. في القطارات، كان بإمكانك حجزُ مقصورة، دون أن يُطرح عليك أيُّ أسئلة. أما الفنادق، فما عليك إلا الذهابُ إلى أرقى الفنادق، وإخبارُهم بهُويتك، وحينئذٍ لن يمانعوا في توفير جناحَين متجاورَين، لهما بابٌ متصل. وطلبَت منه فِي أن ينظر إلى فيرن وآنابيل؛ فعندما كان يناسبُهما الوضع، كانا يعلنان عن علاقتِهما عند الإقامة في أرقى فنادق إنجِل سيتي، ولم يكن هناك أيُّ اعتراضٍ من الإدارة أو الصحف. وقد تصادَف أن أقامت السيدة روسكو في الفندقِ ذاتِه أكثرَ من مرة، وكانت الصحفُ تنشُر إنجازاتها في صفحة المجتمع، وإنجازاتِ آنابيل في صفحة الترفيه، حتى لا يحدُث أيُّ صدامٍ بينهما.

في واقع الأمر لم تعُد أرضُ فخر الحجاج موجودة، وحلَّت محلَّها أرضُ مجد المليونيرات. وعندما كانت إحدى نجمات السينما تتجه شرقًا، مع عشيقها أو من دونه، كانت دائمًا تُغادِر في وضح النهار، وكان مسئولُ الدعاية الخاصُّ بها يحرص على أن تنشُر الصحف الزمان والمكان. وكانت النتيجة احتشادَ آلافٍ من مطلقي الهتافات، ووجودَ رجال الشرطة لردعهم، وارتفاعَ أصوات الكاميرات، ووجودَ العديد من باقاتِ الزهور؛ حتى يعرف جميع ركاب القطار أن هناك نجمةً بصحبتهم على متن القطار. كانت الحشود تنتظر في كل محطة، تُطالِب بإلقاء نظرةٍ سريعةٍ على نجمتها المفضَّلة، وإذا كان هناك أميرُ نفطٍ يسافر بصحبتها في المقصورة ذاتها، فذلك لا يُعتبَر فضيحة، بل قصة حب.

وعندما وصلا إلى نيويورك، كان هناك حشدٌ آخر، استحضَره فريقُ الدعاية الكفُؤ الخاص بشركة شمولسكي سوبربا. وفي الفندق كان في انتظارهما مزيدٌ من الأشخاص ومزيدٌ من باقات الزهور، وعشراتُ المراسلين الذين يطالبون بإجراء المقابلات. وهنا يأتي السؤال التالي: هل، مع كل تلك الإعلاناتِ المجانيةِ للفندق، سيهتَم أيُّ موظفٍ فضوليٍّ أو مسئول أمنٍ بالفندق بمسألة ما إذا كان الباب الواصل بين الجناحَين قد ظل مغلقًا أم لا؟ وهل سيحدُث ذلك في ظل وجود شخصيةٍ تتمتع بسلطةٍ مذهلة، مثل جيه أرنولد روس الذي يُسافِر معهما ويُبدِي موافقتَه على الوضع؟ فقد كان وجهُ الأب يُضاهِي دزينةً من وثائقِ الزواجِ في أي فندقٍ في البلاد!

أما الأب، فكان مستمتعًا بكل شيءٍ طَوالَ هذه الرحلة؛ فقد شعر بنشوة غير مباشرة، حالت دون معاناته من «آثار الشرب» في صباحِ اليومِ التالي. وقد أصَر على دفعِ جميعِ الفواتير، وكان بصحبته سكرتيره الخاص؛ ولذا حدث كلُّ شيء بسهولة، مثل حجز تذاكر القطار، والأجنحة الفندقية، وسيارات الأجرة، والزهور، والحلوى، وتذاكر السينما، كل ما كان عليك فعلُه هو أن تتمنَّى أمنية، وعلى الفور كانت تتحقَّق. هل هناك ما يمكن إضافته إلى هذا النعيم الدنيوي؟ كانت فِي ترغب في تناول وجبةٍ مشبعةٍ بين الحين والآخر؛ وأن تقضيَ الصباح في السرير، بدلًا من الاضطرار إلى الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية ﻟ «تقليل وزنها»!

شاهدوا العرضَ الأول لفيلم «عيون مغرية» (كوم-هيذر آيز). في حال أنك لم تلتحق قَط بالجامعة في أمريكا، ولا تفهم طرقَ حديثنا المفعمة بالحيوية، دعني أوضِّح أنه قد لوحظ تمتُّع عيون «فتيات الجامعة» في بعض الأحيان بصفةٍ معيَّنة تثير داخل أي ذكرٍ الرغبةَ في الاقتراب منهن، وقد تكون هذه الصفة ناجمةً عن موهبةٍ طبيعيةٍ أو مكتسبةٍ من خلال الممارسة. عنوانٌ لذيذ كما ترى، وفيلم لذيذ، ينقل ملايينَ من الأشخاص الذين يشعُرون بالتعب والملل إلى عالم إنفاقِ الأموالِ المجيدِ الذي يعيش فيه فِي وباني. فالميكانيكي الذي كان يُحكِم ربط الصامولة رقم ٨٤٧ في أحدِ مصانعِ السياراتِ طَوالَ اليوم، وربة المنزل التي كانت تغسل حفَّاضات الأطفال وتشتري بضائعَ رديئةً من أحد المتاجر التي تبيع كل المنتجات بخمسة وعشرة سنتات، كانا في نفس وضع الأب؛ حيث كانا يستمتعان بنشوةٍ غير مباشرة، حالت دون معاناتهما من «آثار الشرب» في صباح اليوم التالي!

كانت أجواءُ العرض الأول في نيويورك تُضاهي أجواء إنجِل سيتي؛ حيث كانت الحشودُ كبيرةً والهتافاتُ حماسية. وأثناء جلوس فِي وباني في السرير بملابسهما الحريرية، قرآ ما كتبَتْه الصحفُ عن انتصارهما، والأشخاص الذين حضَروا العرض الأول والملابس التي ارتدوها، وفي غضون ذلك كان الخدَم بملابسهم السوداء يقدِّمون لهما وجبةَ الإفطارِ بطريقةٍ آليةٍ هادئةٍ على صَوانٍ فضية. ثُم، أثناء تصفُّح الجريدة، قرأ باني خبرًا قادمًا من إنجِل سيتي مفادُه أن عشرةَ آلافٍ من عمال النفط قد أضربوا عن العمل، مما أدى إلى توقُّف الإنتاج. وأعلن أصحابُ الآبار أنهم لم يعودوا على استعدادٍ للاعترافِ بمجلس النفط، وأصدروا جدولَ أجورٍ جديدًا كان على العمال إما القبول به وإما الرحيل. وأضافَت الصحف أن ثمَّة مخاوفَ من حدوثِ مشاكل؛ لأنه كان معروفًا أن المحرِّضين المتطرِّفين كانوا يمارسون أنشطتَهم بين الرجال منذ فترة.

٦

كان باني في عطلة، وكان عليه الاستمتاع بوقته، ولو لم يفعل ذلك، لأفسَد على رفيقَيه مُتعتَهما. ولذلك كان عليه أن يبتسمَ ويرافقَهما إلى دار العرض، وبعد ذلك يرسل الأب إلى المنزل في سيارة أجرة، ويذهب مع فِي إلى حفلِ عَشاء مع بعض العاملين في مجال السينما، ويتحدث معهم عن إنتاجاتهم وأرباحهم، ويشاهدهم وهم يسرفون في الشراب، ويعلم أنهم سيتحدثون لمدة ساعة عن الحظر والمهربين، بمجرد أن يرفض هو وفِي الشرب. وسيستفسرون عما إذا كانا «يقلعان عن الشرب». وقد يفترضون أنهما كانا خائفَين من شرب هذا المشروب الكحولي. حينئذٍ سيخبرونهما عن مدى تميُّز هذا المشروب؛ فقد كان من مشروبات كوسكي الكحولية الأصلية، أو أيًّا ما كان موجودًا في نيويورك.

ثم في الصباح، كان الثنائي يذهب إلى «صالة الألعاب الرياضية»، ويتدربان على الحركات الخطيرة معًا، حتى أصبحا لاعبَي جمباز في غاية الكفاءة، وكانت فِي تقول إنه إذا أفلس الأب يومًا ما، وأتعبَتها الشهرة وكان عليها تركُ مجال الأفلام، فبإمكانهما كسبُ عدةِ مئاتٍ من الدولارات أسبوعيًّا من خلال الاشتراك في «استعراضات السيرك الكبيرة». كانا يتناولان الغداء، وبعد ذلك قد يحضُران عرضًا بعد الظهر، أو قد يزورهما شخصٌ ما، أو مراسلون أو كتَّابٌ متخصصون، أو ربما تذهب فِي للتسوق، وتُصِر بشدة على اصطحاب حبيبها باني معها؛ لأنه كان يتمتع بذوقٍ رائع، فهي تحب أن تحظى ملابسها برضاه. التقى باني بشبابٍ أثرياء آخرين في نفس وضعه، وعلم أن تلك التصريحات كانت تمهيدًا لأن تطلب المرأة من الرجل أن تُرسَل الفاتورة إليه. ولكن فِي لم تكن «مستغِلَّة»؛ فعندما كانت تدعو أحدًا، كانت تدفع الحساب.

ما أرادَتْه هو حبيبها باني. كانت تعشقُه، وأرادت أن تكون معه في كل لحظة، وأن تتباهى به أمام العالم أجمع، بما في ذلك الصحف. لقد امتدَّت علاقتُهما لفترةٍ طويلةٍ تكفي ليعرفَها باني حق المعرفة، ويُدرِك عيوب هذه العلاقة ومزاياها. ولم يزعجه أنها كانت شهوانية؛ لأنه كان صغيرًا، وكانت رغبتُه تُضاهِي رغبتها. كانت فنونُ العشق التي تعلَّمها من يونيس هويت قد دُمجَت مع تلك التي تعلمَتْها فِي من عُشَّاقها الكثيرين، وكانا يشعُران ببهجةٍ غامرة؛ فقد كان من المستحيل مقاومةُ الغريزة التي كانت تجمعهما معًا.

لكن فكريًّا كانا مختلفَين للغاية. فقد كانت فِي تستمع إلى أي شيءٍ يريد التحدث عنه، لكن مدى ضآلة اهتمامها بالأشياء الجادة كان ينكشف بطريقةٍ هَزْلية، من خلال تغيير موضوع المحادثة فجأة. فقد كان لها حياتُها الخاصة، حياةٌ مفعمةٌ بالسرعة والإثارة والاستعراض. ربما كانت تستهزئ بعالم السينما وأعماله، لكنها مع ذلك كانت تنتمي إلى ذلك العالم، وكان التصفيق والاهتمام كالهواء الذي تتنفَّسه. فطوالَ الوقتِ كانت الأضواءُ مسلَّطةً عليها، وهي تلعب دور الممثِّلة المحترِفة المفضَّلة لدى العالم، وكانت دائمًا مشرقةً ومنتعشةً وشابةً وجميلةً ومليئةً بالحيوية. ولذلك كان التفَكُّر موضعَ شك، ستارًا يمكن أن يستخدمه الأعداء الخطرون للتسلُّل إلى عقلك. قالت لباني: «ما الأمر يا عزيزي باني؟ أعتقد أنك تفكِّر في ذلك الإضراب الشنيع!»

كان الجلوسُ وقراءةُ كتابٍ أمرًا لا تعرفه على الإطلاق هذه الممثِّلة المفضَّلة للعالم. بالطبع كان بإمكانها قراءةُ صحيفة، أو مجلة؛ فهي موجودة في الجوار؛ ولذلك كان المرء يلتقطها ويُلقي نظرةً عليها، لكنه دائمًا ما يكون على استعدادٍ للتوقف عن القراءة والنظر إلى فستانٍ جديد، أو الاستماع إلى قليلٍ من القيل والقال. لكن لم يَبدُ من الأدب على الإطلاق أن تنغمسَ في القراءة وألَّا تريد أن يقاطعك أحد. أما عن قضاء فترة ما بعد الظهر أو المساء بأكملها في قراءة كتاب، فببساطة لم تسمع فِي قط عن شيءٍ من هذا القبيل. وعلى الرغم من أنها لم تُفصِح عن هذا الأمر، استطاع باني أن يفهَم أن الكتاب شيءٌ رخيصُ الثمن، يمكن لأي شخصٍ أن يحصُل على واحدٍ ويجلس في الزاوية، لكن قلة هم الذين يمكِنهم الحصول على مقصورةٍ خاصةٍ في دار العرض، مُقدمة من الإدارة؛ فالجلوسُ هناك يعطيك أهميةً لا تقلُّ عن أهمية العرض ذاته.

التقى باني بأحد الرفاق الشباب الذين درَّسوا في كلية العمال التابعة لدان إيرفينج في نيويورك، وتحدَّثا عما كان يحدُث في الحركة العمالية في جميع أنحاء العالم. كان باني يودُّ مقابلتَه مرةً أخرى، والذهاب إلى الاجتماعات؛ فقد كان هناك الكثير من الأشياء المثيرة في هذه المدينة العظيمة التي تُعتبَر مركزَ الحركةِ الراديكالية، كما كانت مركزَ كلِّ شيءٍ آخر. لكن فِي علمَت بهذا الأمر، وشرعَت في إنقاذه، تمامًا كما لو كان يريد تدخين الأفيون أو شرب الأفسنتين! كانت تشغَل وقته بالمقابلات التي تحدِّدها، وتسأله بقلق: «أين سيذهب فتاي المتجوِّل الليلة؟» عرف باني بالطبع أنها كانت تفعل ذلك من أجل خلاصِ روحه، وبلا شكٍّ بناءً على طلبٍ مباشرٍ من الأب، ولكن مع ذلك كان الأمر مزعجًا.

كان لديه أحد المعارف الآخرين الذي لم تعترض فِي على زيارته؛ وهو والدتُه. فقد أرسلَت له رسالةً تُخبره فيها أنها قد تزوَّجَت مرةً أخرى منذ فترة، وكان زوجها ثريًّا، ولديها الآن منزلٌ جميل. ذهب باني لرؤيتها، وكان عليه أن يبذل قصارى جهده حتى لا يظهَر ذعرُه من تغيُّر مظهرها. لقد كانت مثالًا مروعًا لما يحدُث للمرأة عندما تستسلم لرغبتها في تناول وجبةٍ مشبعة! فقد ازداد وزن الأم حتى أصبحَت مستديرةً مثل كرة من الزبدة، وناعمةً جدًّا لدرجة أنها كان من الصعب أن تتحمل يومًا حارًّا مثل هذا. هناك مقولةٌ تقول: «أربعينية، سمينة، جميلة»، وكان الجراحون يضيفون: «وذات مرارةٍ متضرِّرة»، لكن باني لم يكن يعرف تلك المقولة، وكذلك الأم. تأنَّقَت كملكة تكريمًا لزيارته، وكان لديها كلب بودل، قالت فِي إنها اختارت هذا النوع من الكلاب ليتناسب مع قوامها. كان زوجها تاجر مجوهرات، ويبدو أنه كان يحتفظ بمجوهراته مع زوجته بدلًا من وضعِها في خزنة. وأصرَّت على إعطاء باني خاتمًا من الألماس، وعندما أخبرها عن الإضراب، أعطته خاتمًا آخر ليبيعه من أجل صندوق إغاثة المضربين. وأخبرَتْه الأم أنها تعلم مدى قسوة رجال النفط!

٧

كان الأب يتولَّى أمر المهمة التي أتَت به إلى الساحل الشرقي. لم يقُل الكثير عنها، وكان ذلك غير معتاد؛ لذلك عرف باني أنها كانت شيئًا مريبًا. وبعد فترةٍ وجيزة، تمكَّن من الحصول على معلومات من والده؛ كان الأمر له علاقة بعقود إيجارِ قوات البحرية الاحتياطية التي كانوا يخطِّطون للحصول عليها. وبعد تولِّي هاردينج الرئاسة، عين بارني بروكواي نائبًا عامًّا له، وفقًا للخطة، وعين رفيق فيرنون روسكو وزيرًا للداخلية. كان هذا الرفيق هو السيناتور كريسبي، وهو عضو قديم في الحزب خدم روسكو وأورايلي عندما كانا منشغلَين بإقالة حكومةٍ مكسيكيةٍ وتعيين أخرى، وكان يهدِّد المكسيكيين بالتدخُّل الأمريكي، وكان كريسبي هذا، بصفته سيناتور من تكساس، قد دعا إلى الحرب، وكاد يتسبَّب في حدوثها. قال الأب إنه لا يستطيع أن يترك النساء وشأنهن؛ ولذلك كان بحاجةٍ إلى المال طوال الوقت وكان مستعدًّا لتولِّي أي وظيفةٍ جديدة.

الآن كان عليه أن يمنح رجال النفط مجموعةً كاملةً من عقود الإيجار القَيِّمة دون مقابل تقريبًا، ولكنه طلب مزيدًا من المال، كما فعل الكثير من الرفاق. وكانت تلك هي مشكلة التعامل مع السياسيين؛ فإذا اشتريتَ ذممَهم قبل الانتخابات، فعليك أن تُعيد شراءها بعد الانتخابات؛ فهم لا «يثبتون على موقفهم»، مثل رجال الأعمال. لقد أتى الأب إلى هنا من أجل استشارة محامٍ يعتبره فيرن الأعظم في البلاد، وتأسيس شركةٍ صغيرةٍ بغرضِ دعمِ مسئولين حكوميين ماديًّا بشكلٍ قانوني. بالطبع لم يُعبِّر الأب عن الأمر بتلك الصراحة، لكن باني أصَر على أن هذا ما كان يعنيه، وسأله عن كيفية تنفيذ ذلك. أجاب الأب أن المحامي الجيد حقًّا يمكنه فعل أي شيء. فقد كان من المقرَّر أن تكون هذه الشركة كندية؛ حتى لا تُضطَر إلى الانصياع لقوانين الولايات المتحدة، وفي النهاية سيحصُل حمَلة الأسهم بتلك الشركة على عقود الإيجار الخاصة بهم. لكن المشكلة كانت أنه لا يمكن لأحدٍ أن يكون متأكدًا من قيمة عقود الإيجار، وكان بيت أورايلي وفريد أوربان يُحاولان جَعْل الأب وفيرن يدفعان حصةً كبيرةً جدًّا من المال. جُنَّ جنونُ فيرن وأخبرهما أن هذا هُراء، وأراد من الأب أن ينتظر لبعض الوقت في نيويورك، وأن يُخادعَهما. وهنا سأل الأب باني عما إذا كان بإمكانه عدمُ حضورِ ما تبقَّى من فصله الدراسي، وربما أَخْذ دروسٍ خصوصية، واجتياز الامتحانات في الخريف.

قال باني إنه غيرُ مهتم بالجامعة، لكن ما يقلقه هو تورُّط الأب في هذه الشركة الكندية. أكد له الأب أن الأمر على ما يُرام؛ فلديه أفضل محامٍ في البلاد. لكن باني قال: «هل أنت متأكدٌ من أن فيرن لا يخدعك؟» صُدم الأب من كلامه، فكيف يمكن لباني أن يفكِّر في شيءٍ كهذا؛ إذ كان فيرن أفضلَ صديقٍ حظي به الأب في العمل على الإطلاق، وقد كان شخصًا أمينًا. «لكن يا أبي، لعبة النفط ليست مكانًا للأمناء. ولماذا لا يدفع فيرن الرشوة بنفسه؟ لماذا لم يأتِ إلى نيويورك؟»

«لكن يا بُني، يتولى فيرن مسئولية التعامل مع الإضراب؛ ولذلك لم يكن بإمكانه السفَر الآن. لقد أزال ذلك الحِملَ عن كاهلي، ويجب أن تكون سعيدًا بذلك.» أضاف الأب ملاحظةً ساذجة تُفيد أن رجال النفط لم يسمحوا له بالتعامل مع العمال لأنه كان «ليِّن العريكة». بدَت هذه العبارة مألوفةً لباني.

اتضح أن فِي والأب كانا يتعاونان لتنفيذ هذه الخطة. فقد أرادت فِي أيضًا الحصول على إجازة؛ ولذلك قرَّرا السفر إلى كندا لإكمال عمل الأب، وبعد ذلك مكَثا في أحد المعسكرات، وبدلًا من إجراء التدريبات المُتعِبة في «صالة الألعاب الرياضية»، كانت هي وباني يتجوَّلان في الغابات ويسبحان في إحدى البحيرات الجميلة. ولذلك أرسل الأب برقيةً إلى رئيس الجامعة، ألونزو تي كوبر، الحاصل على دكتوراه في علم اللاهوت والفلسفة والقانون، موضحًا أن الأعمال المُلحَّة أجبرت ابنَه على البقاء في الساحل الشرقي، وسأله عما إذا كان من الممكن تأجيلُ امتحاناتِ باني للخريف. أرسل الدكتور كوبر برقيةً تفيد بأنه من دواعي سرور الإدارة تلبيةُ هذا الطلب.

وبعد ذلك، في صباح اليوم التالي لتسوية كل شيء، وصلَت برقية لباني، ففتَحَها وقرأ التوقيع. كانت روث واتكينز هي مَن أرسلَتها. تصفَّح البرقية بسرعة، وأدرَكَ فحواها، كان قد قُبِضَ على بول وإيدي بيات وبود ستونر وجيك دوجان وأربعةٍ آخرين من مجموعتهم؛ حيث وُجهَت إليهم تهمة «الاشتباه في تورُّطهم في نشاطٍ نقابيٍّ إجرامي»، وزُجَّ بهم في سجن مقاطعة سان إليدو مع إمكانية خروجهم بكفالةٍ قدرُها عشرةُ آلاف دولار لبول وسبعة آلاف وخمسمائة لكل واحدٍ من الآخرين. وقالت روث في البرقية: «إنهم لم يفعلوا شيئًا، والجميع يعرف ذلك، وهذه مجرَّد خطةٍ لحبسهم أثناء الإضراب. إن السجن مكانٌ فظيع، وصحة بول لن تتحمَّله؛ لذا أناشدكَ من أجل صداقتنا القديمة أن تدفعَ الكفالةَ المطلوبةَ للجميع، وبالتأكيد ليس هناك حاجةٌ إلى التأكيد على أن أيَّ أموالٍ ستُصرَف على هؤلاء الشباب لن تضيع هباء.»

٨

في البداية، كان لدى باني شكٌّ موجِع في أن والده كان على علمٍ بهذا الاعتقال، أو على الأقل أنه كان قيد النظر، قبل محاولتِه الأخيرة لإبعاد باني عن كاليفورنيا. لكنه استوعب أن ذلك كان كافيًا لإدراك أن فيرنون روسكو، الذي كان ينوي القضاء على «عش البلشفية» في كابينة آل راسكوم، قد وضع خطَطًا لإبعاد كلٍّ من الأب وباني. على أية حال، لن ينجح المخطَّط؛ لأن باني لن يسمح بأن يُعامَل صديقُه بهذه الطريقةِ الفظة!

تصادَف أن الأب كان بالخارج، وأطلَع باني فِي على البرقية، وتحدَّث معها بشأنها. أرادت أن تعرف ما الذي ينوي فعله، فأجاب أنه سيتعيَّن على الأب دفعُ كفالةِ بول، على الأقل.

قالت: «لكن يا باني، أنت تعلَم أنه لا يستطيع فِعْل ذلك؛ فهو لن يخالف فيرن فيما يتعلق بالإضراب.»

«هذا ببساطة ما عليه فعلُه يا فِي! وسأشعُر بخذلانٍ شديد إن تركتُ رجلًا مثل بول محبوسًا في ذلك الجُب القذر.»

«ولكن لنفترِض أن الأب رفضَ فعلَ ذلك يا باني؟»

«إذن لا بد أن أعود، هذا كل ما في الأمر.»

«ماذا يمكنك أن تفعل عندما تعود إلى هناك؟»

«سأبحثُ عن شخصٍ يتمتع بالنزاهة والقليل من المال أيضًا.»

«ليس من السهل العثورُ على هذا المزيج يا عزيزي، أعرف ذلك لأنني حاولتُ بنفسي. وهذا سيجعل الأب غيرَ سعيدٍ على الإطلاق، فضلًا عن إفساد إجازتنا. لقد سمعتُ للتو عن أجمل مكان على الإطلاق؛ إنه معسكر اشتراه شمولسكي في أونتاريو، ولم يذهب إليه من قبلُ بسبب انشغاله الشديد. يا إلهي، لقد تصوَّرتُ أننا سنقضي وقتًا رائعًا يا باني.»

لفَّت ذراعَيها حوله، لكنه لم يكُن يشعر بوجودها؛ فقد كانت روحُه معذبةً بشدة لمجرد التفكير في أن بول كان في السجن. بينما هو، باني، يهرُب من المتاعب، ويتسكَّع ويتظاهر بأنه في «عطلة»! لقد كان يحسب أنه يفهم المُعضِلة الاجتماعية، وأن لديه مُثلًا عليا، أو على الأقل فكرة بسيطة عن اللطف والعدل! تحرَّر من ذراعَي فِي، وبدأ يسير جيئةً وذهابًا، وهو يشعر بغضبٍ شديد، أولًا من نفسه لكونه خائنًا، وثانيًا من المحتالين القذِرين الذين يُديرون حكومة مقاطعة سان إليدو، ويسرقون الأموال التي كان من المفترض أن تكون مخصَّصة للحفاظ على نظافة السجن وإطعام السجناء. كان باني يضُم يدَيه معًا في حزنٍ شديد، وشاهدَته فِي وهي مذهولة؛ فقد كان ذلك جانبًا جديدًا من شخصية حبيبها باني، الذي اعتقدَت أنه في غاية اللطف والرقة والدفء!

قالت فجأة: «اسمع يا عزيزي! توقَّف لحظة وتحدَّث معي بهدوء. كما تعلم، أنا لا أعرف الكثير عن هذه الأشياء.»

«ما الذي تريدين معرفتَه؟»

«كيف يمكنك التأكد من أن بول لم ينتهك أي قانون؟»

«لأنني أعرفه. وأعرف كل أفكاره. لقد تناقشتُ معه في كل شيء يخُص هذا الإضراب، وكيفية إدارته، وأهمية توحيد صفوف العمال، وضرورة إخضاعِ كل شيءٍ آخرَ لذلك الأمر. وهذا ما كان يفعلُه، ولهذا السبب ألقاه فيرن في السجن».

«هل أنت متأكدٌ تمامًا من أن فيرن فعل ذلك؟»

«بالطبع، هو وبقية لجنة أصحاب آبار النفط. فهؤلاء المسئولون في سان إليدو ما هم إلا خدَمٌ لرجال النفط! وقبل أن يأتي فيرن إلى هناك، كان الأب يُدير تلك المقاطعة؛ لقد رأيتُه بعيني يدفَع المال، أكثر من مرة.»

«ألا تظُن أنه قد يكون لديهم أدلةٌ على تواطؤ بول في أعمال عنف؟»

«لا أعرف ما الأدلة التي لديهم. لقد أخبرني فيرن أن لديه جواسيسَ ضمن تلك المجموعة، ولا أعرف ما الأدلة التي ربما قد زرَعها هؤلاء الجواسيس، وحتى فيرن نفسه لا يعرف شيئًا بشأن هذا الأمر. وهذا واحدٌ من الأمور اللعينة التي لها علاقة بهذا الموضوع. الأمر الآخر هو، كما هو واضح، تهمة «الاشتباه في التورُّط في نشاطٍ نقابيٍّ إجرامي»! فما يُسمُّونه ﺑ «النشاط النقابي الإجرامي» يعني أنكِ تَدْعين إلى إسقاط الحكومة، أو تغيير النظام الاجتماعي بالقوة، لكنهم، كما لاحظتِ، لا يعتقلونك بسبب ذلك، بل يعتقلونك ﻟ «الاشتباه» في تورُّطك في ذلك! بعبارةٍ أخرى، إذا دافعتِ عن إحدى الأفكار التي قد يعتبرُها شرطيٌّ جاهلٌ أو مسئولٌ محتالٌ خطيرة، حينئذٍ يُلقون بكِ في السجن، وتظلين هناك؛ فالمحاكم مزدحمة، وبإمكانهم إبقاؤك هناك لمدة عامٍ دون محاكمة أو أي فرصةٍ على الإطلاق.»

«بالتأكيد لا يمكنهم فعلُ ذلك يا باني!»

«هذا بالضبط ما يفعلونه. وأعرف رفاقًا تعرَّضوا لذلك. فهم يتعمَّدون تحديد كفالةٍ باهظة؛ حتى لا يتمكَّن العمال من دفعها. ويحسبون أنهم سيفعلون ذلك ببول واتكينز، أفضلِ صديقٍ حظيتُ به على الإطلاق وأكثر شخصٍ مستقيمٍ عرفتُه في حياتي، بحق الرب، لقد ذهب إلى سيبيريا وخدَم في تلك الحرب، وخرج منها مريضًا، لقد كان هذا الصبي قبل ذلك قويًّا مثل ثمرة جوز، رجلًا ريفيًّا، بسيطًا مستقيمًا، صالحًا. وهكذا تُكافِئه بلاده مقابل خدماته، يا إلهي، أودُّ أن أراهم يدفعونني للقتال من أجل بلدٍ كهذا!»

مسَح باني بسرعةٍ دمعةً فرَّت من عينه، واستأنف سيره جيئةً وذهابًا، وتعثَّر في أحد المقاعد. وضعَت فِي ذراعَيها حوله وهمسَت قائلة: «اسمعني يا عزيزي، أعرف بعض الأشخاص الذين يملكون المال، وقد أتمكَّن من مساعدتك. دع لي الأمر لبضع ساعات، ولا تقُل أي شيء للأب؛ فما فائدة إزعاجه دون هدف؟ إذا تمكَّنتُ من تدبُّر الأمر، فسيكون قادرًا على إخبار فيرن بأنه لا يعرف شيئًا عن هذا الموضوع، وسيكون ذلك أفضلَ بكثيرٍ من جميع النواحي.»

خرجَت فِي، وبعد بضع ساعاتٍ عادت. وأرسَل باني لروث برقيةً يُخبِرها أنه هو ووالده لم يستطيعا فعل أيِّ شيء، لكن أحد الأصدقاء اهتم بالأمر، وقد أُودِع المالُ لدى شركة أمريكان بوندينج لسندات الكفالة، وسيتولَّى مكتبُها في إنجِل سيتي مسئوليةَ إطلاقِ سراح بول. سألها باني: «كيف فعلتِ ذلك؟» فأجابت: «كلما قلَّت معرفتك بالأمر كان أفضل. أعرف شخصًا يمتلكُ بعض العقارات في إنجِل سيتي، ويحصُل على دخلٍ منتظم منها، ولديه أصحابُ عملٍ حريصون على إبقائه سعيدًا وراضيًا.» أخبَرها باني أنه ينبغي عليه ردُّ هذا المبلغ فلا بد أن الأمر كان مكلفًا، فقالت فِي: «نعم، لقد كلَّفني الكثير، وسوف تُسدِّده لي حبًّا ومودَّة، ويمكنك البدء الآن.» واندفعَت إلى ذراعيه، فأغرقَها بالقبلات، وبدا الأمر كما لو كانت هناك فرقةٌ موسيقيةٌ تعزف بحماسٍ في قلبَيْهما. إنه لأمرٌ مقلقٌ للغاية أن يكون لديك فرقةٌ موسيقيةٌ كاملةٌ بداخلك!

٩

خرج بول من السجن، وكان من المفترض أن يَسعَد باني بهذا الخبر. لكن كان هناك سبعةُ رفاقٍ آخرين، وكان باني يعرفهم جميعًا، لكن إطلاق سراحهم كان سيُكلِّف اثنين وخمسين ألفًا وخمسمائة دولار، ومن المؤكَّد أن ذلك كان سيدفع بالمثالية إلى حدودٍ متطرفةٍ غير معقولة. لذا، سمح باني لفِي بأخذه هو والأب إلى ذلك «المعسكر» الذي يُطِل على بحيرة ويحمل اسمًا هنديًّا طويلًا، وهناك سبَحا، وركبا الزوارق، واصطادا الأسماك، وتجوَّلا في الغابات، والتقَطا صورًا لحيوان الموظ وهو في الماء؛ كان لديهما مرشدون هنود، وكان كل شيء رومانسيًّا، وفي الوقت ذاته كان هناك مياهٌ ساخنةٌ وباردةٌ في غرف نومهما، فضلًا عن التدفئة بالبخار إذا أرادا ذلك؛ فقد توفَّرَت هناك جميعُ سُبل الراحة التي كانت موجودةً ببرودواي وشارع فورتي سكند.

في هذا المكان أُتيحت لهما فرصة قضاء وقتٍ كافٍ معًا؛ فلم تُلهِهِما أي واجباتٍ اجتماعيةٍ أو زوَّار؛ ولذا لم يكن عليهما الاهتمام بمظهرهما وارتداء الملابس المناسبة، وكانا معًا طوال النهار والليل. ما اكتشَفه باني هو أنهما كانا يشعُران بسعادةٍ غامرةٍ ما داما كانا يمارسان أنشطةً جسدية، مثل: الذهاب إلى أماكنَ أخرى بالزوارق، واستخدام أساليبِ صيدٍ جديدة، وتصوير الحياة البرية، والتجديف في المنحدرات المائية السريعة، وتعلُّم كيفية إقامة المعسكرات، وإشعال النار مثل الهنود، وغير ذلك من الأنشطة. لكن بمجرد انتهاء وقت اللعب، كانا يشعُران بفجوةٍ كبيرةٍ بينهما. فعندما كان باني يريد القراءة، لم يكن لدى فِي فكرة عن كيفية شغل وقتها.

كانت هناك سفينةٌ بخاريةٌ صغيرةٌ تمُر مرةً واحدةً يوميًّا على البحيرة لتوصيل المؤن والبريد. تضمَّن هذا البريد صحفًا من إنجِل سيتي، وأيضًا نشرةَ إضرابِ عمال النفط، التي كانت تأتي مرةً واحدةً في الأسبوع، والتي كان باني قد اتخذ قرارًا غيرَ حكيم بالاشتراك فيها. فما الفائدة من الابتعاد عن المشاكل مسافة ثلاثة آلاف ميل، ثم طلب إرسالها إليك عَبْر البريد؟ شرع في قراءة المَشَاهد التي كان يعرفها جيدًا وتخيلها، والتي كانت تشمل الاجتماعات، وأعمال الإغاثة، وجمع الأموال، والصراعات مع الحراس، والاعتقالات، ومعاناة الرجال في السجن، وضرب المعتصمين، ووقاحة مأمور الشرطة والمسئولين الآخرين، وتضليل الصحف، كان الأمر تمامًا كما لو كان باني في بارادايس. كان بول أحد أعضاء اللجنة التنفيذية، وقد أصبح اليد اليمنى لتوم أكستون، وقد اقتُبِسَت خطاباتُه، ونُقِلَت تجاربه في سجن مقاطعة سان إليدو؛ أصاب باني اضطرابٌ شديدٌ بعدما أنهى قراءة تلك الصحيفة الصغيرة، واستمرَّت هذه الحالة طوال اليوم. بالطبع اكتشفَت فِي الأمر، وشرعَت في إقناعه بالتوقُّف عن قراءة هذه الصحيفة. وأكَّدَت له أنه قد أدى دوره بالفعل بإخراج قائد الإضراب من السجن. وذَكَّرَته بوعده لها بمكافأتها بالحب والمودَّة طوال الصيف.

كان باني يدخُل في صراعٍ مع روحه في اللحظات التي كان يتمكَّن فيها من الجلوس بمفرده. كان يقول لنفسه إن الهدف من ذلك هو مساعدة والده، وهو عذرٌ أكثر احترامًا من الترفيه عن عشيقته! لكنه تساءل: هل كانت مطالب والده منطقية؟ هل يحق لأي شخصٍ أن يحل محل بقية البشرية؟ إذا كان من واجب الشباب أن يُضحُّوا بأنفسهم من أجل الكبار، فكيف سيتقدَّم العالم؟ مع مرور الوقت، وتزايُد حدة الصراع في حقول النفط، فضلًا عن معاناة العمال، توصَّل باني إلى قرارٍ واضحٍ بأن هروبه كان تصرفًا جبانًا.

حاول شرح وجهة نظره لفِي، لكنه كان كمن اصطدم بجدار صخر. فالأمر بالنسبة لها لم يكن قابلًا للنقاش العقلاني، بل كان مسألةً غريزية. فقد كانت تعشق أموالها، وقد تضوَّرَت جوعًا من أجل الحصول عليها، وباعت نفسها، جسدًا وعقلًا، من أجلها، وكانت عازمةً على الحفاظ عليها. ما كان باني يطلق عليه اسم «الحركة الراديكالية» كان يعني لها أن آخرين يريدون الاستيلاء على أموالها. لقد اكتشف فيها عيبًا غريبًا وقاسيًا؛ فقد كانت تُنفِق المال ببذخ، على الحرير والفراء والمجوهرات، وعلى السيارات والحفلات، لكن كل هذه الأموال كانت من أجل مهنتها، وكانت جزءًا من مصاريف الدعاية لها. ولكن، من ناحيةٍ أخرى، عندما لم يكن هناك عروضٌ ولا جمهور، كانت تكره إنفاق المال؛ فقد سمعَها وهي تتجادل مع عاملة غسيل الملابس حول المبلغ الذي ستدفعه مقابل كيِّ ملابسِها الداخلية، وقمصانِ النوم الشفافة التي كانت تُغوي روحَه بها.

كان عليه تقبُّل فكرة أنه لن ينجح أبدًا في جَعْل الممثلة المفضَّلة لدى العالم «راديكالية». فقد كانت تستمع إليه؛ لأنها تحبه، وتحب صوته حتى وهو يتفوه بالترَّهات، وكانت تتظاهر بموافقته، ولكن طَوالَ الوقت كان الأمر كما لو كانت تنتظر شفاءه من الحصبة، أو كما لو كان مدمنًا للخمر وتُحاوِل جعله يُقلِع عن الشرب. لقد اعتذرَت لرايتشل، وأخرجَت بول من السجن، ولكن فقط لإرضائه، ففي الواقع كانت تكره هذَين الشخصَين. علاوةً على ذلك، كانت تكره روث كراهيةً قاسيةً لا تعرف الصفح؛ فبالنسبة لها هي فتاةٌ وقحةٌ مخادعة، تتظاهر بأنها عذراءُ ريفيةٌ بسيطةٌ من أجل الفوز بأمير النفط! فمن وجهةِ نظر فِي لم تكن هناك نساءٌ بسيطات، وقليلٌ منهن كُن عذارى.

ولم تتوقف روث قطُّ عن كونها مصدَر إزعاجٍ لهما. ففي خِضَم أحدِ أسعدِ الأوقاتِ بينهما، أرسلَت إلى باني برقيةً أخرى تفيد بأن شقيقَها قد زُج به في السجن مرةً أخرى، وكانت تُهمتُه هذه المرة ازدراءَ المحكمة. رأى باني أن من الضروري استقلالَ أحد القوارب والتوجُّه إلى أقرب مكتب تلغراف وإرسال برقية إلى السيد دوليفر المحامي؛ للتحقيق في هذا الأمر وإبلاغه بالمستجدات. وكان الرد أنه لا يمكن فعل أي شيء؛ فقد تجاهَل بول وآخرون من قادة الإضراب أمرًا قضائيًّا يمنعُهم من فعل عدة أمور، ولم تكن هناك كفالةٌ ولا استئناف، ولا أوامرُ قضائيةٌ بالمثول أمام القضاء ولا أوامرُ مضادَّة، وكان على بول أن يقضيَ عقوبةً مدتها ثلاثة أشهر.

كان باني يشعُر بالمرارة والتمرُّد ضد القضاة الذين أصدروا الأوامر القضائية، وكانت فِي تخشى التحدُّث معه؛ لأنه بدا واضحًا لها أنه يتعيَّن على شخصٍ ما السيطرة على المُضرِبين. وبالطبع خيَّمَت بعد ذلك الكآبة على إجازتهما؛ فقد كان باني يفكِّر في صديقه المحبوس في سجن المقاطعة. وأرسل لروث خمسمائة دولارٍ لرعاية جميع السجناء، ولكن بعد ذلك وصلَته رسالة تفيد بأن السجناء رفَضوا المال؛ ولذلك وضَعَته روث في صندوقِ إغاثةِ المُضرِبين. فقد كان أمرًا فظيعًا أن ترى أطفالًا ليس لديهم ما يكفي من الطعام، وأن يستغلَّ أصحابُ النفوذ سلطتَهم في تجويع الأطفال! وبهذا لم تكن روث «البسيطة» تقصد التلميح بأي شكلٍ من الأشكال إلى الأب!

١٠

كان على باني أن يدرُس استعدادًا لامتحانات الخريف، وبدا ذلك كمشكلةٍ لفِي لأنها لم تكن تعلَم كيف ستشغل وقتها. لكن القدَر قدَّم حَلًّا؛ فقد أرسل الأب برقيةً إلى جامعة هارفارد، التي أرسلَت مدرسًا شابًّا يعطي دروسًا خصوصية، وكان هذا المدرس هو الحل. كان طويل القامة، ذا عينَين جميلتَين لونُهما أزرقُ فاتح، وشاربٍ ذهبيٍّ مجعَّد قليلًا، ويغطي جسدَه كلَّه شعرٌ ذهبيٌّ ناعم وكأنه طفلٌ صغير، وكان يضع على أنفه نظارةً ذهبية، ويتحدَّث بصوتٍ هادئٍ ومثقَّف جدًّا؛ فقد كان واحدًا من أصحاب العقول الماهرة الذين يُمكِنهم أن يُدَرِّسوا لك أيَّ مادةٍ إذا منحتَهم أسبوعًا للتحضير!

ونظرًا لانحداره من عائلةٍ عريقةٍ في فيلادلفيا، وتدرُّبه في أكثر مراكز العجرفة الفكرية غطرسة، فربما حسبتَ أنه سينظر بازدراء إلى سائقِ بغالٍ سابقٍ وابنِه، فضلًا عن ممثلةٍ نشأَت في عربةِ بائعِ أدويةٍ مسجَّلة، ولم تقرأ كتابًا كاملًا في حياتها. ولكن في واقع الأمر، فقد انهار السيد أبلتون لورانس الشاب بكل بساطة أمام الوضع الذي وجد نفسه فيه في مخيم أونتاريو هذا؛ فقد كانت هذه هي التجربة الأكثر رومانسيةً وإثارةً التي مرَّ بها مدرسٌ شابٌّ منذ بدأَت جامعة هارفارد. فهو لم يستطع إبعاد عينَيه عن ابنةِ بائعِ الأدويةِ المسجَّلة، وعندما كانت تقتربُ منه، كان يفقد التركيز تمامًا كما لو كان إعصارًا أطاش عقلَه.

وبالطبع بدأَت فِي تستغل عينَيها السوداوَين المتلألئتَين، وكانت تجرِّب على ضحيتها الجديد كل تلك الحركات المثيرة التي علَّمها إياها تومي بالي، وكان باني في وضع يسمح له بدراستِهما بموضوعية باعتباره مُشاهدًا. كانت فِي تنتظر أن يُحدِّد السيد لورانس لباني عملَه الصباحي، ثم تذهب هي والمعلم في نزهة في الغابة، وأثناء جلوس باني لدراسة كتبه، كان عقلُه يتساءل عما كان يحدُث، وما كان عليه أن يتوقَّعه من امرأةٍ كان لديها الكثير من العشَّاق.

لكنها لم تتركه طويلًا في هذا الشك. وقالت: «عزيزي باني، هل أنتَ قلقٌ بشأن علاقتي بآبي؟» فالإعصار الذي أطاش عقل المدرس أطاح بهيبته، وأصبح السيد أبلتون لورانس «آبي»، وفي بعض الأحيان «أبل صوص» (التي تعني هريس التفاح).

أجاب باني: «لن أشعُر بالقلقِ إلا إذا طلبتِ مني ذلك.»

«يا لك من لطيف! يجب أن تفهم أنني ممثلة، هذه هي الطريقة التي أكسبُ بها رزقي، وببساطةٍ يجب أن أعرف كل شيء عن الحب، لكن كيف يُمكِنني أن أتعلَّم دون ممارسة؟»

«حسنًا، لا بأس يا عزيزتي …»

«بعضُ الرجال الذين يجلبونهم في هوليوود ليسوا سوى مجرَّد حمقَى، لدرجةٍ تجعلُك تشعُر بالاشمئزاز، وسرعانَ ما تجدُ نفسكَ بين أحضانِ دميةٍ بمتجرٍ للملابس. لذلك يجب أن أخبرهم كيف يتصرفون، ويجب أن أعرف كيف يتصرف الرجل النبيل الحقيقي؛ أنت تعرف ما أعنيه، أصحاب الثقافة العالية والمتكبرون. أوه، يا باني، إنه ألطفُ رجلٍ رأيتُه على الإطلاق؛ فهو يجثو على ركبتَيه، وتترقرقُ الدموعُ في عينَيه، وكما تعلم، يُمكِنه إلقاء الشعر عن ظهر قلب، أنا لم أرَ أي شيءٍ مثل ذلك من قبلُ، وكأنه ممثلٌ شيكسبيريٌّ قديم. إنها حقًّا فرصةٌ عظيمةٌ لي، لتنمية ذوقي وصَقْله.»

«حسنًا يا عزيزتي، ولكن أليس الأمر صعبًا عليه قليلًا؟»

«أوه، على الإطلاق؛ فهذا لن يؤذيَه، بل سيجعلُه يؤلف القصائد الشعرية، وهذا ما يفعله بالفعل، وربما يصبح مشهورًا يومًا ما، حينئذٍ سأحصُل على دعايةٍ عظيمة! لا تقلَق بشأنه يا باني، ولا تقلَق بشأني؛ فلا أحد في العالم يناسبني سوى باني، والباقون كلهم مجرَّد مزحة.» ولفَّت ذراعَيها حوله. «أعرف معنى الغَيرة يا عزيزي، ولن أسبِّب لك هذه التعاسة مقابل أي شيءٍ في العالم. إذا كنتَ تمانع حقًّا، يمكنك أن تطلب من أبل صوص العجوز أن يحزم أغراضَه ويرحل، ولن أغضبَ من ذلك.»

ضحك باني. «لا يمكنني فعلُ ذلك؛ فعليَّ أن أتلقَّى دروسًا.»

كذلك أخبرَت فِي الأب بالوضع، خشيةَ أن يحزن على باني. وعندما سمع الأب عن الركوع على الركبتَين والدموع، ضحك. فهكذا سيستفيد «باني» من عقل المعلم، وستستفيد «فِي» من قلبه، وسيعود إلى دياره خاليَ الوفاض. أشاد الأب بهذه الصفقة الجيدة. فكما تتذكَّر، كان يعمل لدى الأب في بارادايس كيميائيٌّ نابغة، وكان يدفع له ستة آلاف دولار سنويًّا، ويكسب من ورائه الملايين!

١١

حدَث تطوُّرٌ آخر في مسألة منع شعور فِي بالملل. فقد أرسل لها شمولسكي «سيناريو» الفيلم الجديد الذي كان من المقرَّر أن تبدأ العمل عليه في الخريف. وفجأة تبيَّن أن الممثلة المفضَّلة لدى العالم تعرف القراءة! ظلت منكبةً على السيناريو لمدة ساعةٍ كاملة، ثم قفزَت واستعدَّت لبدء البروفات، وكانت حماستُها في هذه اللحظة لا تُقارَن بكل الأعاصير التي اجتاحت مقاطعة أونتاريو. أفسحوا الطريق أمام «أميرة الباتشولي»!

كان السيناريو لكوميديا موسيقية شهيرة من المقرَّر تحويلُها إلى فيلم. وكانت «الباتشولي» إحدى ممالك البلقان الصغيرة، على الرغم من أن أجواءها كانت تبدو مثل فيينا المشهورة بموسيقى الفالس لشتراوس. كانت القصة تدور حول مهندسٍ أمريكيٍّ شاب جاء لبناء خطِّ سكةٍ حديد، ووجد نفسَه متهمًا خطأً بالتآمر، وبعد قليل يُنقِذ الأميرةَ الجميلةَ من جماعة ثورية؛ لم يكن أعضاء الجماعة من البلاشفة، بل كانوا متآمرين من الطبقة الأرستقراطية، وبذلك لن تتأذى مشاعرُ باني. بالطبع هرَّبها البطل، وتزوَّجها من أجل الحب فقط، ثم أصبح أميرَ المملكة؛ حيث اشتراها له المصرفيون الذين كانوا يموِّلون خطَّ السكة الحديد.

وهكذا صارت فِي تتقمَّص دور الأميرة طَوال الوقت. وكان من المدهش مشاهدتها وهي تعمل؛ حيث أدرك باني فجأةً أن نجاحها لم يتمحور فقط حول المال والجنس. فقد انقضَّت على الدور مثل نمرة، وعندما بدأَت في العمل، اختفى بقية العالم من الوجود، إلا بالقَدْر الذي احتاجت إليه الشخصية. «والآن أيها الأب، أنت ستلعب دور الملك؛ تعال إلى هنا، لا، لا، يا إلهي، الملوك لا يسيرون بهذه السرعة! سأركع عند قدمَيك، وأتوسَّل من أجل حياته، وأقول: «الرحمة يا سيدي»، وما إلى ذلك!»

إحدى خصائص تمثيل الأفلام أنه لا يهمُّ ما تقوله، ما دمت تقول شيئًا ما؛ لذلك كانت فِي تبكي وتُدندِن بلهجات الحب العاطفية إما لباني أو آبل، وتصرُخ في رعبٍ رهيبٍ قائلةً شيئًا ما لجلاد يرفع بلطته، دون أن تلتزم بالحوار المكتوب. وإذا لم يقُم الشخص الآخر بذلك بشكلٍ صحيح خلال المشهد، فقد تحل كلماتُ التوبيخ والأوامر محلَّ الكلمات في إحدى أغاني الحب: «توقف، الآن، أيها الأحمق، أنا أعشقُك، يا عزيزي»، أو ربما قد يكون الأمر كالتالي: «أبعِد يدَيك عني، أيها الوحشُ الكريه، لا تتركني، أيها الأحمق، أمسِكني! هذا أفضل، ليس عليكَ أن تكونَ مهذبًا عندما تكون قاتلًا.»

لو أراد باني أن يتدرب على الانفعالات الحادة، والصراخ والصياح وتمزيق شعره، لكان قد لجأ إلى الغابة؛ حيث لا يستطيع سماعَه سوى السناجب. لكن فِي كانت غير مبالية تمامًا بوجود بشرٍ آخرين. وهذا شيءٌ يتعلمه المرء عند العمل في صناعة الأفلام؛ إذ سيكون هناك مصوِّرون ومغيِّرو مشاهد وعمال ديكور ونجارون يعملون في موقع التصوير المجاور، وبعض الزوَّار الذين تمكَّنوا من الاقتحام على الرغم من التعليمات الصارمة، وما عليكَ إلا أن تواصلَ عملك. في المرة الأولى التي رفَع فيها الجلادُ فأسَه وبدأَت فِي بالصراخ، جاء المرشدون الهنود مسرعين في حالة من الذعر، لكنها لم تتوقف حتى لتضحك، واستمرَّت في تمثيل المشهد، بينما كان الجميع يقفون مُحدِّقين بأفواهٍ فاغرة. عند عودتها هي وعشيقَيها من السباحة، كانت تدعوهما فجأةً إلى أداء بروفةٍ لموكبٍ ملكي؛ فبإمكانها أن تكون أميرةً أيضًا وهي ترتدي ملابسَ السباحةِ الكاشفة، وأوراق الصنَوبَر المدبَّبة تُغَطي الأرض تحت قدمَيها العاريتَين.

لم يقابل السيد أبلتون لورانس أيَّ أميراتٍ من قبل، لكنه قرأ الكثير من التاريخ والشعر وكان لديه قدرٌ كبير من المعلومات؛ ولذا كان ينتقد طريقتَها في المشي، وإيماءاتها، وتصرفاتِها، وردَّ فعلِها تجاه محاولاتِ تودُّد مهندسٍ أمريكيٍّ شابٍّ وسيم. وكانت تقول له: «فقط تخيَّل أنكَ تُحبني يا آبي»، وهكذا صقلَت عواطفُه من مهاراته التمثيلية، وأطلق العِنان لروحه، أمام باني والأب وسكرتير الأب والهنود! وأكَّدَت له قائلة: «أنت أفضلُ بكثيرٍ من باني في ذلك. أعتقد أنه اعتاد عليَّ، الأمرُ سيئٌ كما لو كنا متزوجَين.»

مر الوقت بسرور. وشعرَت فِي بأنها قد استوعبت تمامًا مفهوم آبي عن الملكية، ولم تعُد مُضطرةً لطرح الأسئلة، ولا للتوقُّف والتفكير، بل عَرفَت على الفور ما يجب عليها فعله، ومن ذلك الوقت، كانت كُل تفاعُلاتها مع مجتمع هوليوود تحمل لمحةً من أميرة الباتشولي كما تصوَّرَها مدرسُ جامعة هارفارد. لقد نفد صبرُها الآن، وأرادت التوجُّه إلى مواقع التصوير، وسماعَ صوتِ تومي بالي وهو يصيح قائلًا: «كاميرا!». أما باني فقد أصبَح عقلُه محملًا بالإجابات على جميع أسئلة الامتحانات المحتمَلة، وكان جاهزًا للعودة ومشاركتِها مع أساتذته. وكان الأب قد ذهب إلى تورونتو، ووقَّع على آخر الأوراق اللازمة لشركته الكندية، وكان يتلقَّى برقياتٍ من فيرن كل يوم تقريبًا؛ أخبَره فيها أن المضربين قد تعلَّموا الدرس، بعد أن صمَدوا لمدة أربعة أشهرٍ تقريبًا، وأرسل لهم مجلس النفط الفيدرالي خطابًا، ينصحُهم فيه بالعودة إلى العمل كأفراد، ووعدَهم بعدم التحيُّز ضد العمال التابعين للاتحاد.

ثم في أحد الأيام، أحضرَت السفينة البخارية برقيةً موقَّعةً من آنابيل، وموجَّهة إلى باني، مكتوبًا فيها: «لحم الضأن جاهز، عُد إلى الديار لتناول العشاء.» وأوضح أن هذا يعني انتهاء الإضراب، وهكذا حزم سكان المخيَّم أمتعتَهم، وعاد السيد أبلتون لورانس إلى جامعة هارفارد الحبيبة والحزنُ يعتصر قلبه، وأخذ معه في حقيبتِه حزمةً من القصائد الشعرية الخالدة، بينما استمتع كلٌّ من فِي تريسي والأب وباني والسكرتير بوقتهم في المقصوراتِ الفاخرة، في أحد قطارات السكك الحديدية الكندية الباسيفيكية المتجه غربًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤