الفصل الثامن عشر

الهروب

١

مرَّ صيف ١٩٢٣ على باني ممتعًا. فقد كان أحد المحررين في صحيفةٍ صغيرة، يعبِّر عن أفكاره بحرية، وينشرها أسبوعيًّا، ويوزِّعها، دون أن ينتزعها عميد الجامعة سكويرج من بين يدَيه، أو تقتحم الشرطة أو الوطنيون مكتبه! وكان يُرسِل الصحيفة بالبريد إلى جميع معارفه، ويشعر بالسعادة من فكرة أن هناك مَن يقرأ الصحيفة ويصحِّح تحيُّزاته! وكان باني قد وضع زملاءه في الدراسة على القائمة البريدية لصحيفة «الطالب الشاب»، التي من المُقرَّر أن يبيعها «اتحاد الشباب الاشتراكيين» في الحرم الجامعي في فصل الخريف، مع ما في ذلك من احتمالية إثارة المشكلات، فإنه سيحصُل على دعاية بالمجان!

تحسَّنَت صحة الأب شيئًا فشيئًا. كان يقرأ الصحيفة أسبوعيًّا، ويؤدي دور المراقب المُحِب. ولم يكن هناك داعٍ لذلك؛ لأن رايتشل، إحدى أعضاء الحزب الاشتراكي المتشدِّدين، لم تكن تسمح بإهدار أيِّ مساحة من الصحيفة على اليساريين. وكلما أمسك أحد المتطرفين بباني، وحاول إقناعه بضرورة حصول كلا الطرفَين على منصة للتعبير، سألَتْه لِمَ لا يفتتحون صحيفةً خاصةً بهم؟ وهكذا كان هناك مَن «يترأس» باني كالعادة، بل كانت مَن تترأسه امرأة! وهذا سيئ مِثل الزواج تقريبًا!

كان هناك مصدرٌ آخر من مصادر الراحة وهو عدم شجار فِي معه. ولا بد أن اقتراحه المجنون بالرحيل والتعرُّض للقتل في مجال الصناعات الثقيلة قد أصابها بصدمةٍ كبيرة فرَضيَت بالتضحية، وأن تحصُل على نصف وقته، فيما تحظى رايتشل وصحيفة «الطالب الشاب» بالنصف الآخر. وانشغلَت فِي بالعمل على فيلمها الجديد «الأريكة الذهبية» (ذا جولدن كاوتش) الذي يحكي قصة أمريكيٍّ مرفَّه يسقط في شِراك أميرٍ مزيَّف في إحدى دول البلقان. ولأداء هذا الدور، تعاقَد فريق العمل مع أميرٍ رومانيٍّ حقيقي، يمتاز بأساليبه الساحرة واستعداده لتكريس نفسه لفِي على مدار الساعة، عند انشغال باني بالشابة اليهودية الاشتراكية.

كما تلقَّوا رسائلَ سارَّةً من بيرتي التي كانت قد نُقِلَت للعيش في الجنة. وتحدَّثَت في رسائلها عن جمال باريس وعن انشغالها بالمناسبات الهامة! فقد تناولَت الغداء مع الأمير ذاك والدوقة تلك. وحثَّت الأب وباني على زيارتها؛ إذ يستطيع باني عقد احتفالٍ فاخر هناك بمناسبة زواجه. ضحك الأب ضحكةً خافتة من مجرد التفكير في ذهابه إلى باريس ومحاولة التحدُّث بالفرنسية!

ولم يتوقَّف المبتزُّون عن محاولاتهم بالتأكيد، لكن الأب كان منذ مرضه قد ترك فيرن يتعامل مع هذه المتاعب. كان الكونجرس في عطلة؛ ما يعني أنه ستكون هناك راحةٌ مؤقتة؛ فبوسع الشيوعيين الأعضاء في مجلس الشيوخ التنديد بعقود إيجار النفط في ولاياتهم، دون أن تشعُر الصحف بالحاجة لطباعة أقوالهم. كان هناك معتقدٌ غريب عند الصحف — ومن بينها الصحف ذات المصداقية — بضرورة نشر جميع النقاشات الدائرة في الكونجرس. وبمثل هذه المعتقدات ساءت سُمعة السياسة عند رجال الأعمال.

كانت عملياتُ حفرِ أرضِ ساني سايد جاريةً على قدم وساق. وتدفق النفط من اثنتَي عشرة بئرًا، ولبَّى الآمال المنعقدة عليه. في بعض الأحيان، كان الأب يُضطَر إلى الذهاب إلى مكتبه، لكن في معظم الأحيان كان المديرون التنفيذيون البارعون الشباب يأتون إلى بيته، ويجلسون في غرفة مكتبه، ويتلقَّون تعليماته. يا لهم من شبابٍ أَكْفاء، يمتازون بحُسْن المظهر، ويُكرِّسون قُدراتهم لإخراج النفط من الأرض! لا تتخطَّفهم وجهاتُ النظر المختلفة، ولا تستولي عليهم النغمات الموسيقية، ولا يشعرون بالتردُّد، ولا يعانون من الأمور غير اليقينية، ولا يشكُّون أبدًا في أن غاية حياة الرجل هي إخراجُ النفط من الأرض! بهذه الطريقة تصرَّفوا بالمنطق، وأتقنوا مجال اختصاصهم، وارتقَوا في مكانتهم الاجتماعية، وازدادت رواتبهم، وعند رحيل أحدهم، كان الأب يحزن على فراقه حُزنَ الوالد على ولده. لماذا لم يصبح باني مثل الشاب سيمونز أو الشاب هيمان أو الشاب بويلينج؟

٢

كان الطبيب قد قال إنه يُحظَر على الأب التفكير في العمل أكثر من ساعتَين في اليوم، فكان باني يغريه بالسير على مَهلٍ، وقد يسمعان في أثناء تنزُّههما خُطب إيلاي التي كانت تنجح دائمًا في تشتيت انتباهه وإثارة ضحكه. كان الأب يجد سعادةً عابثة في مشاهدة الاكتساح المجيد للوَحْي الثالث؛ لأن فيه دليلًا دامغًا على حُمق الجماهير، ما يجعل من الصواب اختلاس احتياطياتهم البحرية! كما اشترك الأب في صحيفةٍ صغيرة، يُصدِرها أحد العارضين المتدينين المنافسين في البلدة، تتهم إيلاي بالكذب، وتكشف حِيَله.

أصابت الغَيرة الكنائس التقليدية من الوحي الجديد الذي تطفَّل عليهم بوقاحةٍ شديدة. كان إيلاي مُدعيًا ودجَّالًا، وأعلن منافسه الديني توم بوبر أنه زيَّف الكثير من أساليب علاجه المزعومة، واستأجر أشخاصًا ليقفوا على أقدامهم، ويَحْكوا للحاضرين عن شفاء أطرافهم من العرَج وأعضائهم من السرطان. كما أن أتباع إيلاي رفضوا التخلي عن عادتهم في التدحرج على الأرض والتكلم بألسنة، فبنى عددًا من الغرف العازلة للصوت في المعبد لمباشرة هذه الطقوس. وسُميَت هذه الغرف ﺑ «غرف الإقامة»؛ لأنك تذهب إلى هناك ﻟ «الإقامة مع المسيح»، وكلما بدأَت الطقوس، رأيتَ مئات الرجال والنساء يتدحرجون على الأرض، ويجذب بعضهم بعضًا بخشونة، ويمزِّقون ثيابهم، وشاهدتَ نساءً يقذفْنَ برءوسهنَّ للوراء، أو يقفزْنَ لبضع أقدام في القفزة الواحدة في أرجاء المكان، مثل دجاجاتٍ مذبوحة. وكانت هذه الحفلات الجامحة تنتهي بكتلةٍ من البشر متكدِّسة، تتلوَّى وتنثني، وسط رائحةِ عرقٍ ثقيلة مثيرة للغثيان.

أخذ القس بوبر على عاتقه نشر هذه المشاهد في صحيفته، وكان يجعل بائعي الصحف يبيعونها أمام المعبد، فيتعرَّضون للهجوم والضرب، وتفشل قوات الشرطة في القبض على المعتدين، ولو حدث وقبضَت عليهم فإنها تُطلِق سراحهم. فهل يخشى السياسيون في إنجِل سيتي من سطوة هذا النبي المزيف؟ كان توم بوبر يسأل هذا السؤال بحروفٍ كبيرة، ويضحك الأب ضحكةً خافتة، مثل استعماريٍّ غربي يعود إلى بيته، وإذا بزوجته تتصارع مع دب يدًا بيدٍ، فيضع بندقيتَه على السياج، ويتخذ مجلسه ويصيح: «أمسكيه يا امرأة! اقبِض عليها أيها الدب!»

كانت هناك تهمةٌ أخرى، وهي أن النبي الجديد مغرمٌ بصحبة الفتيات الجميلات. وهي تهمةٌ قاسية لأن إيلاي كان ينتقد السِّفاح والزنا بقوة، مثل أي نبيٍّ عبراني من أنبياء الوحي الأول. ضحك الأب ضحكةً خفيفة عندما سمع بهذه التهمة، وراح يفكِّر في الأمر، وفي يوم من الأيام، في أثناء تنزههما بالسيارة نزهةً طويلة، توقف هو وباني عند شاطئٍ غير مطروق، ليبحثا عن مكانٍ يسبح فيه باني. بعد ذلك، وجدا فندقًا رخيصًا مطلًّا على الماء، وفور أن خرجا من بابه التقيا بإيلاي واتكينز بصحبة امرأةٍ شابةٍ جميلة! أسرعَت الشابة بالرحيل، وتبادل إيلاي التحية معه ومع باني، ثم استأذن بالانصراف. وقف الأب برهة، ينظر إلى الاثنَين وهما يبتعدان عن الفندق، هاتفًا: «يا إلهي!»

بعد ذلك استدار الأب، ودخل إلى الفندق، وسأل الرجل الجالس في مكتب الاستقبال بنبرةٍ عادية: «لقد قابلتُ الرجل المهذَّب من قبلُ، لكنني نسيتُ اسمه؛ أقصد الرجل الذي خرج للتو.»

أجاب: «إنه السيد تي سي براون من سانتا يِنِز.»

سأل: «هل يقيم هُنا؟»

أجاب: «لقد سجَّل مغادرتَه للتو.»

ألقى الأب نظرةً سريعة على سجل النزلاء، ووجد «تي سي براون وزوجته، ولاية سانتا ينز» مكتوبة بحروفٍ واضحة. ميَّز الأب خط إيلاي واتكينز السيئ الذي كان على الكثير من رسائل العمل القابعة في منزله! وكان هذا كل ما استطاع فعلَه حتى لا ينفجر ضاحكًا. وتخيَّل إنْ أخبر توم بوبر بمحتوياتِ سجل النزلاء، فسيُدمِّر سمعة الوحي الثالث تمامًا!

٣

مات الرئيس هاردينج، وأرسل دان إيرفينج الخبر من واشنطن. كان السيد المسن مترددًا في قبول المال من رجال الأعمال في مجال النفط، فنسَّق له بارني بروكواي و«المُصلح» الأوضاع، من خلال «إنشاء حساب» في بورصة وول ستريت، وهي طريقةٌ يستخدمها رجال الأعمال لتسهيل حياة السياسيين. ومن حين لآخر كان الرجلان يجلبان للعجوز حزمةً من السندات الحرة، التي كانا قد «فازا» بها من أجله. عثرَت أرملتُه على هذه السندات التي تُقدَّر بمئات آلاف الدولارات، في صندوقِ إيداعٍ آمن، وصارت مقتنعةً بأنه كان قد خبَّأها من أجل امرأةٍ أخرى، فاحتدم غضبُها وأخذَت تحكي الأمر لأصدقائها، وسُرَّ بذلك مروِّجو الإشاعات في واشنطن أيَّما سرور.

بعد ذلك أتى رئيسٌ جديد، وهو رجلٌ ضئيل الجسم اشتُهر بأسطورة إنهائه لإضراب الشرطة في بوسطن، مع أنه في الحقيقة كان مختبئًا في غرفته في الفندق، عينه متورِّمة، من لكمةٍ عاجلَه بها عمدة المدينة. كان حُلم حياته — كما قال بنفسه — هو إدارة متجر، وفي هذا إشارةٌ إلى مَحدوديةِ قُدرات عقله. لم يستطع هذا الرئيس التعليق على الفضيحة فلقَّبَته الصحف ﺑ «الرجل القوي الصامت».

لم ينشُر باني الكثير من هذه المعلومات؛ لأن رايتشل كانت ترفض نشر الإشاعات. لكنه نشَر بعض الحقائق السرية حول مهنية الأنشطة الرياضية في الكليات، وعندما عُرضَت الصحيفة للبيع في حرم الجامعة، احتشد الطلاب الرياضيون حول «اتحاد الشباب الاشتراكيين». لكن الجميع قَرءوا الصحيفة ومن بينهم المحتشدون، وكانت هذه من أمتع اللحظات في حياة باني.

في شهر ديسمبر، اجتمع الكونجرس الجديد، وانكَشَف اللثام عن وضعٍ مثير للقلق؛ فقد سيطر «المتمردون» على ميزان القوة في مجلس الشيوخ، وكانت أولى تحركاتهم هي التعاون مع الديمقراطيين وطلب إجراء تحقيق في قضية عقود إيجار النفط. نزلت الأنباء على الأب وفيرن مثل الصاعقة؛ إذ كان جواسيسهما في واشنطن قد عَجزوا عن توقُّع هذه الكارثة، واضطُر فيرن إلى القفز في سيارته الخاصة والسفر إلى واشنطن على عَجل؛ ليرى ما قد تؤدي إليه رشاوى اللحظة الأخيرة من حلول. لكنها على ما يبدو لم تُسفِر عن الكثير؛ إذ شرعَت اللجنة باستدعاء الشهود إلى المنصة و«استجوابهم»؛ وهي كلمةٌ صحفية مُفزعة ذات صلةٍ بعمليات الاستجواب النمطية، لكنها لم تكن عمليةَ استجوابٍ نمطية بل عنيفة، وتردَّدَت أصداؤها في الصفحات الأولى من الصحف.

كان الوضع ملتهبًا ولا سبيل للتستر على الفضيحة. لم يبدُ المشهد عراكًا سياسيًّا عاديًّا، وإنما فيلمًا دراميًّا مليئًا بالدماء والصراخ. ولم يكن السكرتير كريسبي ذكيًّا بما يكفي لوضع أمواله التي اكتسَبها من النفط في سنداتٍ حرة، وإخفائها في صندوقِ ودائعَ آمن، بل تصرف بحماقةٍ شديدة، ودفع رهنًا عقاريًّا كبيرًا على مزرعته في تكساس، واشترى العديد من الأغراض على مرأًى من الجميع، وفوق ذلك نقل خبر حصوله على ثمانية وستين ألف دولار من فيرنون روسكو لكبير عُماله الذي أذاعه بين عُمال المزرعة الآخرين. استدعى أعضاء مجلس الشيوخ كبير العُمال المضطرب إلى منصة الشهود، فاضطُر إلى القول إنه أساء فهم الأمر؛ فهو لم يقل «ثمانية وستين ألف دولار» وإنما «ست أو ثماني بقرات». ومن السهل ارتكاب مثل هذا الخطأ كما هو واضح!

لكن ظهر فيما بعدُ أن السكرتير كريسبي أودع في حسابه البنكي مائة ألف دولار في يومٍ واحد؛ فمن أين له بهذا المال؟ تقدَّم ناشرٌ صحفيٌّ كبير في واشنطن، وأعلن عن إقراضه لصديقه العزيز هذا المبلغ الصغير، بلا أي سببٍ وجيه. بعد ذلك، ذهب الناشر الكبير إلى فلوريدا لقضاء الشتاء، ولم يكن في حالةٍ صحيةٍ جيدة تسمح بإزعاجه بأي شكل من الأشكال. لكن اللجنة العنيدة أرسلَت أحد أعضائها إلى فلوريدا، ووضعَت الناشر على منصة الشهود، وجعلَته يعترف بأن ما قاله مجرد قصةٍ ودية من بنات خياله.

مِن أين حصل الرجل على مائة ألف دولار؟ كان النمَّامون، مثل دان إيرفينج الذي كان يركُض إلى اللجنة بالإشاعات المتداولة في واشنطن، يعملون على قدمٍ وساق. بهذه الطريقة أمسكَت اللجنة بأورايلي «بيت الصغير»، و«استجوبَتْه»، وجعلَته يعترف بنقل هذا المبلغ التافه، المُقدر بمائة ألف دولار، إلى السكرتير كريسبي في حقيبةٍ سوداءَ صغيرة، وغير ذلك من الادعاءات التي نسمعها في الأفلام! بعد ذلك، أمسكَت اللجنة ﺑ «بيت الكبير»، وزعم أنه أقرض السكرتير هذا المال، ولديه كمبيالةٌ تُثبِت صحة كلامه، لكنه لا يتذكَّر أين وضعَها. في النهاية قدَّم قصاصةً ورقية عليها توقيع السكرتير، زعم أنها مقطوعةٌ من الكمبيالة، لكنه لا يستطيع الجزم بما حدث لبقيتها؛ فهو لا يأبه كثيرًا بأمور الكمبيالات، وظنَّ أنه أعطاها لزوجته التي أضاعت الورقة كاملة، باستثناء قصاصة التوقيع. وهكذا انكشفَت التفاصيل المخزية عن قادة المجتمع الراقي في واشنطن وإنجِل سيتي! نشرَت الصحف هذه التفاصيل، على الرغم من اضطراب الناشرين من بذاءتها.

٤

كان الأب يتلقَّى بصورةٍ يومية برقياتٍ طويلةً من فيرن، لا تُرسَل إليه مباشرة بالتأكيد، بل إلى السيدة بولينج، زوجة المدير التنفيذي الشاب الأمين، وذُيلَت ﺑ «إيه. إتش. دوري»، وهي اختصارٌ مازح لعبارة الأب المفضَّلة، «أول هانكي دوري» (أي: كل شيء على ما يُرام). لم تكن البرقيات من النوعية التي سيختارها الطبيب لتهدئة أعصاب مريضه، بل كانت مثيرةً للقلق، حتى تمنَّى الأب كثيرًا لو أنه استمع إلى تحذيرات ابنه المثالي، وابتعد عن هذا الفساد الفوضوي! لكن لم يؤنِّبه باني بالطبع؛ كان يكتفي بقراءة الأخبار والانتظار والتساؤل عن موعد سقوط الصاعقة فوق رءوسهم.

انتهت آنابيل من فيلمها الجديد «قلب الأم»، الذي كان سيُعرَض في حفلٍ كبير جدًّا، يصحبها فيه باني، وكان الأب سيصحب العمة إيما، ويصير كل شيء على ما يُرام، في هذه الليلة على الأقل. أتى باني إلى البيت بعدما دقَّق في الإصدار القادم للصحيفة، ووجد عمَّتَه في انتظاره في الردهة، ويداها ترتعشان وأسنانها تصطَك من فَرْط الإثارة. قالت: «أوه، باني! انظر إلى الكارثة التي حلَّت علينا! إنهم يحاولون اعتقال أبيك!»

سأل: «اعتقاله؟»

ردَّت: «إنهم يبحثون عنه، ويقفون أمام المنزل مباشرةً! اهرب خفيةً، حتى لا يلاحقوك — أوه، أنا في غاية الخوف — أوه، خُذ حذرك، أرجوك، أرجوك! لا تسمح لهم باعتقال أبيك!»

تمكَّن باني من أن يعرف ما يدور حوله، ووجد القصة ميلودرامية، كما نقلَتها كلمات عمته بالضبط. كان المدير التنفيذي الأمين الشاب بولينج قد أتى إلى المنزل منذ بضع دقائق، ليرى باني وينقل له رسالةً شديدة الأهمية من الأب، فترك له رسالةً تنص على التالي: قُد سيارتك، وتأكَّد من عدم ملاحقتك؛ إذ سيحاول البعض اقتفاء أثرك من أجل العثور على الأب. فور أن تُفلِت من قبضة المطاردين، اترك سيارتك المُسجَّلة باسمك، بعد ذلك اذهب إلى معرض سياراتٍ لا يعرفك فيه أحد، واشترِ سيارةً مُغلقة باسمٍ مستعار، لا بد أن تكون السيارة مُستعملة؛ لأنكما قد تُضطَران إلى القيادة بسرعةٍ فائقة. بعد أن تتأكد مرةً أخرى من عدم تعرُّضك للملاحقة، اتجه إلى بلدة سان بسكوال في الضواحي، وسينضم إليك الأب عند منعطفٍ محدَّد. وأعطى السيد بولينج العمة إيما خمسة آلاف دولار نقدية، ثم انصرف على أمل أن يتبعه الرجال الذين يراقبون المنزل.

تفوَّه باني ببضع كلماتٍ لتهدئة العجوز المسكينة. أخبرها أنهم لا يريدون الزجَّ بالأب في السجن، وإنما إحضاره إلى منصة الشهود كما حدث مع «بيت» الصغير والكبير. حزم باني قليلًا من ملابسه في حقيبةِ سَفرٍ قديمة، لا تحمل اسمًا أو أحرفًا أولى، وأسرع إلى سيارته. بالطبع كانت هناك سيارةٌ أخرى في الشارع، وعندما أدار محرك سيارته دار محرك السيارة الأخرى. أخذ باني عددًا من الانعطافات، لكن السيارة واصلَت ملاحقته بعناد. ثم خطر له الخناق المروري في مركز المدينة، وهو أسوأ ما يكون في هذه الساعة، بين الساعة الخامسة والسادسة مساءً. ودائمًا ما يُوجد هناك اثنان أو ثلاثة ضباط مرور عند المنعطفات المكتظة بالسيارات لتسيير حركة المرور؛ لذا فإنه يمكنه ببعض المناورات وضعُ عددٍ من السيارات بينه وبين مُطارِده، ثم يتحيَّن الفرصة لعبور التقاطُع عند رنين الجرس فيُجبِر مُطارِده على الانتظار.

نفَّذ باني حيلتَه وتملَّص من السيارة الأخرى، بعد ذلك ترك سيارته الخاصة في مرأبٍ عام، واشترى سيارةً أخرى مغلقة ذات مقعدَين، تحمل اسم «أليكس إتش جونز». استخدم باني فاتورة الشراء التي حصَل عليها من البائع رخصةً مؤقتة، بعدما دفع ألفًا وثمانمائة دولار نقدًا ثمنًا للسيارة، ثم قادها مبتعدًا عن المكان. في غضون نصف ساعة، وصل إلى بلدة سان بسكوال، ومَرَّ بالمنعطف المحدَّد. مرَّ به مرتَين، وفي المرة الثانية خرج الأب من أحد الفنادق، فأبطأ باني سرعة السيارة حتى توقَّف عنده، وانطلقا معًا! كان أول ما قاله الأب: «هل يتبعك أحد؟» وأجاب باني: «لا أظن، ولكن لنتأكَّد من ذلك.» فأخذ باني عدة منعطفات، وواصل الأب المراقبة من النافذة الخلفية. قال الأب في نهاية المطاف: «الأمور على ما يُرام»، فسأل باني: «أين سنذهب؟» وأجاب الأب: «كندا»، فاتخذ باني، الذي كان على أُهْبة الاستعداد، الشارع العريض الشمالي المؤدي إلى خارج بلدة سان باسكال.

تولَّى باني قيادة السيارة، فيما أخبره الأب بالمستجدَّات. بادئ ذي بدء، كان فيرن قد تسلَّل إلى أوروبا؛ أخبره الأب أن باخرتَه ستُبحر اليوم على أي حال، وكان يأمُل ألَّا يُلقى القبضُ عليه. كان «إيه إتش دوري» قد أرسل برقيةً إلى السيدة بولينج، ينصح فيها بضرورة مقابلة السيد بارادايس، وهو الاسم الكودي للأب، لأصدقائهما في مدينة فانكوفر بشكلٍ عاجل، ولا بد من رحيله الليلةَ حتى لا يفوتَه الموعد. كان هذا التلميح كافيًا للأب؛ فقد وصلَت إليه معلوماتٌ مؤسفة أمس، تعمَّد إخفاءها عن باني، عن سماع محقِّقي لجنة الكونجرس بالتعاون الكندي، وعن تخطيطهم لاستدعاء جميع المنظِّمين للمثول أمام القضاء. ولا بد أن مذكراتِ الإحضار أُصدرَت في ذاك اليوم، وأُرسلَت إلى إنجِل سيتي بالبريد، مُلحقًا بها تعليماتٍ للموظفين القانونيين التابعين للولايات المتحدة بضرورة إحضار الشهود في الحال. وقد نجح الأب والشاب بولينج في الخروج من المكتب من خلال مخرج الحرائق وما إلى ذلك من التفاصيل الدرامية! وها هما، أليكس إتش جونز وبول كيه جونز، يقودان السيارة في طريقٍ سريعٍ مُوحل، لا يجرؤان على الاستراحة في أحد الفنادق؛ خشيةَ أن ينقضَّ عليهما الموظفون القانونيون في بَهْو الفندق، ولا يجرؤان على عبور المدن الكبيرة؛ مخافةَ أن تراهما من النافذة عينا العم سام (كناية عن الحكومة الأمريكية الفيدرالية) الغاضب اللتَان لا يخفى عليهما أيُّ شيء!

٥

وصلا إلى مدينة فانكوفر وسط عاصفةٍ ثلجيةٍ غزيرة، فتوقفا عن استخدام أسمائهما المستعارة غير المريحة، ونزلا في أفضلِ فنادقِ المدينة. وبالطبع هُرِع المراسلون إلى الفندق مباشرة، ونفى الأب بوقاره الرصين أنباء هرَبهما من تحقيق مجلس الشيوخ؛ لأنهما رجلا أعمالٍ قَدِما إلى كولومبيا البريطانية بغرض الاستثمار. وزعم أن الفضيحة في واشنطن مجرد لعبةٍ سياسيةٍ رخيصةٍ سخيفة؛ لأن عقود الإيجار ذاتُ نفعٍ كبير للحكومة، بالإضافة إلى فائدتها العظيمة لكندا. سأل المراسلون بحماسةٍ ما إذا كان السيد روس وابنه قد خطَّطا للتنقيب عن النفط في كولومبيا البريطانية، وأجاب الأب أنه ليست لديهما معلوماتٌ بعدُ.

شعَر الأب والابن بالراحة من الناحية الجسدية، لا من الناحية العقلية، في مدينةٍ نائية، باردة الطقس، غير مثيرة للاهتمام. لكن غلَب على ظنهما بقاء الأب في المنفى لفترةٍ طويلة، فسينعقد الكونجرس الجديد لمدة نصف عام، وسيتأكد مثيرو المتاعب من بقاء فضيحة النفط قضيةَ رأيٍ عام، ليتسنَّى لهم استخدامها سلاحًا في الانتخابات الرئاسية القادمة في الخريف. أرسل الأب البرقيات إلى مكتبه والرسائل اللاسلكية إلى فيرن على متن الباخرة، وسرعان ما حصل على ردٍّ منه يطالبه بلقائه في لندن على وجه السرعة.

كان الأب مضطرًّا إلى الذهاب، لكن ماذا عن باني؟ فحبيبتُه تنتظره بأرض الوطن، وكذا أعماله في الصحيفة؛ لذا قد يعود إلى إنجِل سيتي. لكنه تخلى عن الفكرة لعدم صوابها؛ لأنه من غير الممكن أن يعبُر الأب القارة والمحيط في الشتاء بمفرده. لا بد أن يذهب معه، ويمكنهما الذهاب إلى باريس وقضاء بعض الوقت مع بيرتي ولقاء أصدقائها الدبلوماسيين، بعد مناقشة الأمور مع فيرن تفصيلًا. بعد ذلك، قد يعود باني إلى إنجِل سيتي بمفرده، إذا اقتضَت الضرورة ذلك، لكنهما سيُقرِّران ذلك في وقتٍ لاحق.

كان الأب في غاية السعادة بهذا القرار. فليس لديه أحدٌ آخر سوى باني. ولا بد أنه كان يشعر في قرارة نفسه بالحرج الشديد منه، لكنه اضطُر لمواصلة ادِّعائه أنه رجلُ أعمالٍ محترم يتعرَّض للمضايقة من أعدائه السياسيين العديمي الضمير. كان يتحدث عن المسألة لفترةٍ قصيرة مع باني، وبالساعات الطويلة مع الآخرين، وفي هذه الثرثرة المفاجئة حول شئونه دلالةٌ مُحزنة على ضعفه.

كتب باني رسائلَ طويلة لفِي، يشرح فيها الموقف ويُقسِم على حبه لها، وكتب رسائلَ أخرى لرايتشل، يمنحُها فيها حقَّ إدارة الصحيفة، ويرتِّب حصولها على ألف دولار شهريًّا. وكتب الأب رسائلَ طويلة لمديريه التنفيذيين الأكْفاء الذين كان لهم دورٌ بالغ الأهمية في هذه المرحلة! ومن المفترض أن يتواصلوا معه ومع فيرن، وأن يرسل عملاء فيرن في واشنطن «آخر المستجدات» حول التحقيق. نسَّق باني حصولَه على خطاب دان إيرفينج الأسبوعي، وغير ذلك من الصحف الراديكالية التي كان حريصًا على قراءتها، وهكذا يكون الأب والابن في وضعٍ يُخوِّل لهما مواصلة جدالهما في أوروبا!

أمضيا أربعة أيام في قطارٍ يمُر عَبْر سهول كندا المغطَّاة بالثلوج. كان الجو قارس البرودة بالخارج، لكن عربة المراقبة الخلفية؛ حيث جلس عشرون أو أكثر قليلًا من رجال الأعمال الأمريكيين والكنديين، كانت مريحةً ودافئة. في غضون بضعِ ساعاتٍ قليلة، أدرك المسافرون وجودَ العظيم جي أرنولد روس بينهم، ومنذ ذلك الحين حَظِي الأب باهتمام الجميع، وقَصَّ عليهم ما جابَهه من متاعب. تعجَّب باني من الوعي الطبقي الذي أظهَره هؤلاء الرجال على نحوٍ تلقائيٍّ عاجل؛ فقد دعموا الأب في موقفه، وعلموا أن هذه الفضيحة من عمل المزعجين السياسيين الخبثاء، وأن عقود الإيجار كانت تعود بالنفع على الصالح العام. فرجال الأعمال الأذكياء يحقِّقون دائمًا مدخراتٍ تفوق الأرباح التي يُحصِّلونها بمراحلَ كثيرة.

وصلا إلى مدينة مونتريال، ووجدا باخرةً فاخرة في انتظارهما، ومئاتٍ من العبيد بالأجرة من مختلف الأصناف على استعدادٍ لخدمتهما في مقابل بضع مئاتٍ من براميل النفط المسروقة. صَعِدا على متن الباخرة وتحرَّكَت بهما في نهر سانت لورانس، ثم توقَّفَت في مقاطعة كيبيك؛ حيث وجد باني مجموعةً من الصحف، وعلم بخبر مداهمة العملاء الفيدراليين لاجتماعٍ سري لحزب العمال واعتقال جميع المفوَّضين. تسبَّب الحدث في ضجَّةٍ كبيرة، وأتت الصحفُ الكندية على ذِكْر جميع تفاصيله؛ إذ كانت تعاني من نفس المشكلة! ذكَرَت الرواية الكندية أسماء المجرمين الذين وقَعوا في قبضة الشرطة والتي كان من بينها بول واتكينز!

٦

وقف مال النفط عاجزًا أمام الطريق الشتوي البارد العاصف المؤدي إلى إنجلترا. وأثبت الأب عدم تحمُّله للسفر بحرًا، وكان في حالةٍ بائسة، عندما وصل إلى الفندق الذي ينزل به فيرنون روسكو في لندن. لكن فيرن أعاد إليه حيويته؛ فقد نَشِطَت روحُه فور أن ربَّت على ظهره، وسمع دويَّ صوته في ردهة الفندق. قال فيرن: «انظروا إلى صديقي العزيز! أرى أن الشيوعيين قد نالوا من ثقته!»

لم ينَلْ أحد من ثقة فيرن بالتأكيد، كان في أَوْج سعادته! رأى أن التحقيق لا طائل من ورائه؛ إذ هو أشبه بحيلةٍ يؤديها المهرِّجون في السيرك لتسلية الفلاحين. وآمن أن هذه الضجة ستخمُد، وستُصبِح طي النسيان في غضون بضعة شهور؛ واستشهد بتاماني هول، قائد العشيرة، الذي تعرَّض لعملية الابتزاز نفسها، وقال: «عُمر ذاكرة هذه المدينة تسعة أيام؛ فلو استطعتَ الصمود لتسعة أيام فحسب، فقد نجوت.» حاول طمأنة شريكه، وربَّت على ظهره مرةً أخرى، وأكَّد له أنهما سيَستَخرجان النفط من ساني سايد، ويتدفَّق المال إلى حساباتهما البنكية التي هي ملكٌ لهما ولا أحد سواهما، وسيُنفقانه كما يحلو لهما. وفوق ذلك سيقلبان الطاولة على أعضاء مجلس الشيوخ الشيوعيين الحمقى؛ فما على الأب سوى الانتظار لبضعة أيام، وسيرى بعض الأخبار تحتل الصفحات الأولى للصحف حتى في إنجلترا!

حظيَ جيم الابن بنصيبه من التشجيع. وحضَّ فيرن الشاب البلشفي على أخذ والده المسن في جولة في الأنحاء، ومرافقته إلى بعض معالم لندن السياحية، ألم يتعرف عليها في كتب التاريخ، حيث قُطعَت الرءوس منذ خمسمائة عام مضت، وغير ذلك من المعالم المثيرة للبهجة؟ وبعد أن ينال الرجل المسن قسطًا من الراحة، سيُريه فيرن بعضَ العروض النفطية المثيرة. لم يكن فيرن قد أهدَر الوقت؛ فلم يكن ذلك من شيمه! كان قد وضع خمسة ملايين دولار في مشروع، هدفُه إعادة فتحِ حقلِ نفطٍ كبير في رومانيا كان قد تعرَّض للإحراق في أثناء الغزو الألماني، وهي صفقةٌ أكبر من ساني سايد بكثير؛ حيث سيحصُل منها على خمسين بالمائة مع جميع الصلاحيات، وعزَم على جلب معدَّاتٍ أمريكية كاملة ليُريَ أولئك الغجر، أو أيًّا كانت ماهيتهم، مشروع النفط كما يجب أن يكون. كما أنه في خِضَم نزاعٍ مع بعض رجال النفط البريطانيين، حول آبار النفط في فارس (إيران حاليًّا)، وتعاون مع وزارة الخارجية الأمريكية في إيقاظ جون بول (كناية عن بريطانيا) من حُلمٍ طويلٍ جميل.

شهد باني ذلك الوضع المتناقض في بريطانيا. كان فيرنون روسكو هاربًا من لجنة تحقيقٍ عقدَها مجلس الشيوخ بشأن عقود النفط، وفي الوقت نفسه ذا تأثيرٍ كبير على سياسة الخارجية الأمريكية في مجال النفط، حتى إن السفراء في الخارج ووزير الخارجية في الداخل يؤدُّون دور مساعديه. كان هناك رجالُ أعمال آخرون بالتأكيد؛ فلدى إكسلسيور بيت وفيكتور وباقي الشركات الخمس مئاتُ العملاء بالخارج، لكن حس المبادرة عند فيرن، والكلمة العليا التي حَظِي بها في واشنطن، أجبرَت الآخرين على الإذعان لقيادته. قد يكون الرئيس هاردينج مات، لكن لا تزال روحُه باقية، وقد اشتراها فيرن وحاشيتُه ودفعوا ثمنها.

دخل الزعيم الأمريكي مجتمع رجال الأعمال البريطانيين ببراعة ورشاقة، مثل أحد العجول المخصية الطويلة القرون القادمة من السهول الجنوبية الغربية. ولم يكن في نيته التصرف بأخلاقيات المجتمع الراقي؛ لأنه راعي بقر من أوكلاهوما، وإذا لم يُعجِب ذلك «أولئك الذين يلبسون أغطيةً على الكاحل وعدسةً واحدة» كما أحب أن يُسمِّي «كبار زعماء النفط في بريطانيا العظمى»، فسينطحُهم بقرونه! حضر باني مأدبة طعام، دُعي إليها مجموعةٌ من المتنافسين، ولاحظ أن فيرن أصبح أكثر صخبًا وسوقيَّةً مما كان عليه على مائدته في الموناستري. وشكَّ في أن لديه دافعًا خفيًّا وراء هذا الأمر؛ فقد أثارت أساليبه الغربية الجامحة الخوف في قلوب هؤلاء الأجانب، وهذه هي الحالة النفسية المناسبة للدخول في المفاوضات! كان هؤلاء في حاجةٍ ماسَّة لقواتنا البحرية منذ بضعِ سنوات وحصَلوا عليها بالمجان، لكن لن يحدث هذا مرةً أخرى، وفيرن هو الرجل المناسب لإيصال هذه الرسالة. في المرة القادمة، بمشيئة الرب، سيُدلي كبار النفط برأيهم في مسألة البوارج البحرية ومسألة الدولارات.

حدَث تغيرٌ جديد في الدبلوماسية الأمريكية منذ الحرب. فقد تولَّت وزارة الخارجية مسئولية إدارة الاستثمارات الخارجية التي ينفِّذها المصرفيون، وراحت توجِّهُها حيث شاءت وتَصرِفُها عما أرادت. ولم يجد المصرفيون مفرًّا سوى الإذعان؛ إذ لا أحد يدري متى سيحتاج إلى مساعدة القوات البحرية، من أجل جمع أرباحه. وتُرجمَت هذه السياسة عمليًّا في صورة حفنة من المقاتلين، مثل فيرنون روسكو، يذهبون إلى رجال الأعمال الأجانب ويطلبون السماح بالدخول في مشاريع، والحصول على حصةٍ في مشاريعَ أخرى، مع تهديدهم بعدم الحصول على القرض القادم من وول ستريت في حال الرفض. ويُعرف هذا الإجراء بين رعاة الماشية ﺑ «التطفُّل»؛ فبعد أن يختبر البريطانيون «التطفُّل»، يدركون ما أدركه الآخرون في أرض الوطن، مَن هم السادة الحقيقيون لأمريكا!

٧

لم يهتَم الأب أدنى اهتمامٍ بالأماكن التي جرى فيها قطع الرءوس منذ خمسمائة عام مضت، وحاول باني زيارتَها ووجد أنها لا تثير اهتمامه هو أيضًا. ما أراده باني هو مقابلة الرجال الذين يواجهون خطر قطع رءوسهم في هذه الآونة. كانت هناك حركةٌ عماليةٌ كبيرة في إنجلترا، ذات نظامٍ تعليميٍّ متطور للعمال، يدعمه القادة القدامى، كما حَظِيَت بمجموعة من المتمردين الشباب الذين يهاجمونها بسبب افتقارها لرؤيةٍ ثوريةٍ واضحة. كانت صحيفة «الطالب الشاب» تتبادل النقاشات مع صحيفة «العامة»، وذهب باني للقاء أولئك المتمردين، وسرعان ما انخرط في الصراع البريطاني؛ حيث حضر لقاءً رائعًا في قاعة ألبيرت هول، وقابل أعضاء حزب العمال في البرلمان، وغيرهم من الأشخاص المثيرين للاهتمام.

نشرَت بضعُ صحفٍ لقاءاتها مع أمير النفط الشاب الذي تبنَّى مبادئ «الراديكالية» بحسب وصف الأمريكيين. فنجم عن ذلك أن أرسلَت بيرتي خطابًا مفعمًا بالألم. لقد كانت تتوسَّل إليهما لزيارة باريس ولقاء معالي القوم، لكن ها هو باني، على بُعد ستة آلاف ميل من الوطن، يثير المتاعب كعادته! ألا يمكنه التوقُّف بحق السماء، والتفكير في عاقبة أفعاله على أقاربه؟ كاد إلدون يحصُل على ترقية حتى أتى صهره وأفسَدها عليه! أظهرَت بيرتي موقفَها الأخلاقيَّ القوي على الورق من خلال هدوئها وصبرها على أخيها، وهي تشرح له الفرق بين أوروبا وكاليفورنيا. بيَّنَت له أن الأوروبيين يأخذون تهديد الشيوعية على محمل الجد، وأنه سرعان ما سيجد باني نفسه منبوذًا تمامًا. وكيف سيثق المسئولون الأعلى مقامًا بإلدون في المسائل الحسَّاسة المتعلقة بسياسة الدولة، إذا ما علموا أن أعضاء عائلته يتعاطفون مع مجرمي موسكو القَتَلة؟

ردَّ باني بأنه في غاية الأسف حقًّا، ونصحَها وزوجَها بالتبرؤ منه وقطع صلتهما به؛ إذ لا نية له في الابتعاد عن الحركات العمالية والاشتراكية في البلاد التي يزورها. وبعد أن أفرغ ما في صدره، جلس ليكتب تقريرًا لصحيفة «الطالب الشاب»، عما شَهِده من مظاهر الشيوعية، وعن الشيوعيين الذين التقى بهم حتى ذلك الحين.

توافدَت الإصدارات الجديدة للصحيفة على باني، وقرأها في استحسانٍ من أعلى الزاوية اليسرى للصفحة الأولى حتى أسفل الزاوية اليمنى من الصفحة الرابعة. ودفَعه تواضُعه إلى الاعتراف ببراعة رايتشل مينزيس في التحرير، وأنها ستتفوَّق عليه كثيرًا. كانت قد بدأَت سلسلةً من المقالات بعنوان «العدل والطالب» تناقش فيها مشكلات الأجيال الصاعدة. كانت تفهم هذه المشكلات على نحوٍ جيد، وتعرضها بأسلوبٍ لبقٍ قوي الحجة، دون أن تفقد هدوءها كعادة الشيوعيين الشباب! وقد أثار أسلوبها إعجاب الأب، وأثنى على مهارتها؛ إذا رأيتها لم يخطُر ببالك براعتها، لكن اليهود أذكياءُ دائمًا.

كما توافدَت خدمة صحافة العمال، مع خطاب دان إيرفينج من واشنطن، وغير ذلك من الأخبار عن فضيحة النفط. وسرعان ما أدرك باني ما كان يعنيه فيرن عندما تنبَّأ بانهيار التحقيق. فقد وجَّه مكتب المدَّعي العام تركيزَه إلى أعضاء مجلس الشيوخ المتمردين. وانشغَل بارني بروكواي بالدفاع عن نفسه وعن «عصابة أوهايو»، بعدما وجد نفسَه في ورطةٍ كبيرة. ففي وقتٍ سابق داهم عملاء المخابرات مكاتبَ أعضاء مجلس الشيوخ المسئولين عن التحقيق وفتَّشوا أوراقهم، كانوا يُحاوِلون جمع الفضائح عنهم، من خلال إرسال النساء ﻟ «إغوائهم»، ونصب «المكايد» لهم في ولايتهم، مستخدمين في ذلك كلَّ الحِيَل التي طبَّقوها على الشيوعيين والاتحاد العالمي للعمال الصناعيين في السابق. وسرعان ما وجَّهوا الاتهام إلى أحد أعضاء مجلس الشيوخ، واستعادت كبرى الصحف رُشدَها، وأزالت جرائم رجال الأعمال من صفحاتها الأولى، ووضعَت مكانها جرائم الشيوعيين، كما تنبَّأ فيرن من قبلُ.

كانت تُوجد الآن مجموعةٌ من «الزعماء» في المنفى؛ إذ كان هناك فريد أوربان، وجون جروبي، وجميع مَن شاركوا في تشكيل التعاون الكندي، ووزَّعوا رشاوى قَدْرها مليونا دولار في واشنطن. تناول الأب وباني الغداء مع هذه المجموعة بصفةٍ منتظمة، وتبادلا معها البرقيات السرية، وبدَت ردودُ أفعال أفرادها غريبة. فقد سخروا من جدية الوضع وأخذوا يحيُّون بعضهم بعضًا ﺑ «مرحبًا أيها السجين!»، لكن تحت هذا القناع كان القلق ينهَش أعماقهم. فمن بين التطورات الأخيرة، كان الرئيس الجديد يُحضِّر للتخلي عن أعضاء المجموعة استعدادًا لانتخابات الخريف القادم. هذا الرئيس، الذي يُلقب بالكاليفورني الحذِر، لم يتلطخ اسمُه بفضائح النفط — أوه لا! أوه لا! استهجَن رجال النفط هذا الزعم؛ فقد جلس الرجل الضئيل في مجلس الوزراء في أثناء الإقرار على عقود الإيجار، وكان من أصدقائهم المقرَّبين. وكانت المرة الأولى التي يستمتع فيها أتباع فيرن بهذه الفضائح، عندما بدأَت لجنة مجلس الشيوخ التحقيق في مجموعةٍ من البرقيات التي تُظهِر تورُّط الرجل الطاهر بفضيحة النفط بشدة كغيره من السياسيين الآخرين؛ فقد كان يُرسِل رسائلَ سرية، يحاول فيها تجنُّب الفضيحة تارة، ويُحاوِل إنقاذ هذا وذاك تارةً أخرى. ولكن ها هو يستعد لطرد عُملائهم من الوزارة، فيا له من شخصٍ كريه! لهذا دائمًا ما كان فيرن يُلقِّب رئيس القضاء في دولته ﺑ «الضفدع الصغير»!

٨

لم تتحسَّن صحة الأب بسرعةٍ كما كانوا يأملون. فعلى ما يبدو لم يكن مُناخ لندن البارد الرطب صالحًا له؛ لذلك صَحِبه باني إلى باريس. أذعنَت بيرتي وقابلَتْهما عند المحطة، بل خاطر زوجها بمهنته الدبلوماسية وقابلَهما ودامت الأجواء مهذبةً وودودةً لعدة ساعات. بعد ذلك دبَّ الخلاف بين الأخ وأخته؛ فقد أرادت بيرتي ألَّا يستعلم باني عن الحركة الاشتراكية في فرنسا، على الأقل، وردَّ الأخير بأنه قطع وعدًا لرايتشل بكتابة مقالةٍ عنها. ففي باريس تُوجد صحيفة «الشباب»، وهي على قائمة الصحيفة البريدية، كما أنه من المقرَّر عَقْد لقاءٍ للاشتراكيين سيحضُره هذا الأسبوع تحديدًا. قالت بيرتي إن الأمر قد حُسم، وإنه لن يقابل الأمير فلانًا والدوقة علانة، وكان باني في غاية الجهل فلم يدرك أهمية ما كان يفوِّته.

كانت باريس رطبةً وباردةً هي الأخرى، وعانى الأب من السُّعال، فاكتفى بالجلوس في ردهة الفندق، في بؤسٍ يفطر القلب. وكان يسمح للآخرين بأخذه في نزهة بالسيارة، ويتأمل المباني العامة، في استحسان لرقي المدينة وجمالها؛ فقد لاحظ أن مواطنيها قد انشغلوا بتطويرها لفترةٍ طويلة، فيما لم يكن لديهم وقتٌ كافٍ للقيام بعملٍ مماثلٍ في الوطن. لكن لم يكن خافيًا عدم اكتراث الأب بالمدينة؛ فهو لم يحب أولئك الغرباء بثرثرتهم، ورأى الرجال متبجِّحين والنساء فاجرات، وكره محاولاتِ الباعة لغشِّه بالأموال المزيَّفة، ولم تُعجِبه الإضافات التي تحول دون التلذُّذ بمذاق الطعام الأصلي، مما أثار استغرابه من رغبة الأمريكيين في القدوم إلى أوروبا.

تقرَّر أخذ الأب إلى الريفيرا حتى فصل الربيع. وأقام في بيتٍ كبير يُطِل على البحر المتوسط، تخترقه أشعة الشمس التي افتقدَها كثيرًا، فكان شبيهًا بصورةٍ طفيفة ببيتهم في كاليفورنيا. وأتت بيرتي للزيارة، ثم العمة إيما لتولي شئون المنزل، فعمَّ نوعًا ما الدفءُ في البيت. انسجمَت العمة إيما وبيرتي بشكلٍ جيد؛ لأن العجوز نجحَت دائمًا في مدح الأشياء المناسبة، فتجدها تصفُ المباني بأنها جميلة وأنيقة وراقية ورائعة، واللوحات بأنها تشبه الحقيقة تمامًا، والأزياء بأنها في غاية العصرية! كما يمكنُها مقابلة الأمير فلان والدوقة علانة، ولن تضُرَّ بمهنة زوج ابنة أخيها الدبلوماسية!

وجلب باني لنفسه مدرسًا خاصًّا، وسرعان ما تخلص من الفرنسية، التي تعلَّمها في السابق في جنوب المحيط الأطلسي. وبالطبع استعان بمدرسٍ اشتراكي، كان شابًّا غريبَ الأطوار رثَّ الثياب، يبدو عليه أثَر الجوع كأنه لم يتناول وجبةَ طعامٍ دسمة منذ سنواتٍ كثيرة، بالإضافة إلى بلاغته في الشعر بحسب ما قيل. تردَّد اشتراكيون آخرون على المنزل، إلى جانب حفنةٍ من الشيوعيين والفوضويين والنقابيين ومزيجٍ من تلك التوجُّهات؛ كانوا يرتدون أربطةَ عنقٍ غير محكمة الربط، أو لا يرتدون أربطةَ عنقٍ على الإطلاق، وتنسدل شعورهم على أعينهم، ويَبْدون للأب والعمة كأنهم يستكشفون الموقع بنِيَّة السطو عليه. انعقدَت اجتماعات الراديكاليين هناك، على ساحل الذهب؛ حيث انهمك الأوروبيون الأغنياء في المقامرة واللعب، وأثار الشياطينُ المساكين، الذين كانوا على حافة الموت جوعًا، شفقةَ المليونير الأمريكي الشاب، الذي كان يعيش في رفاهة وتأنيب ضمير. وكلما تجلَّت نيتُه في إقراض المال، ظهر بعض المساكين لطلبه، وكانوا كذَّابين في معظمهم، لكن مِن أين له تمييز الصالح من الطالح؟

كان السكرتير الخاص للأب قد رافق العمة إيما، من إنجِل سيتي، وجلب معه حقيبتَين مليئتَين بالتقارير والخطابات. وصار الأب مشغولًا وسعيدًا لفترة من الوقت؛ حيث درس هذه الأوراق، وأسهب في كتابة التعليمات، وأرسل برقياتٍ سلكيةً مشفرة، وانهمك في استيعاب بعض الردود لعدم وضوحها. أجل، لم تكن إدارة أعمال النفط سهلةً مِن على بُعد ستة آلاف ميل. كان العمال ينشئون آبارًا تجريبية في النصف الشمالي من ساني سايد، وكان من الضروري وجودُه لفحص لُبَاب الحفر. وتساءل لماذا لمْ يرسل هؤلاء الحمقى النص الكامل لتقارير الجيولوجيين.

لم يكن الأب في حالةٍ صحية تسمَح له بعقد صفقاتٍ جديدة مع فيرن؛ إذ كان بحاجة إلى بعض الراحة أولًا. لكن الراحة لم تُفِده؛ لأنه كان يبحث عن شيء يفعله بصفةٍ مستمرة، وعن شيءٍ يُوكِله إلى سكرتيره. كان يتجوَّل بالسيارة على الساحل بشكلٍ روتيني، لكنه كره الجلوس في حفلات الشاي، وتجاذُب أطراف الحديث مع العاطلين من أبناء الطبقة الراقية؛ إذ كان يزدريهم إلى حدٍّ تعجز الكلمات عن وصفه؛ لأنهم لم يكونوا فظِّين وأصحَّاء، مثل الأغنياء في كاليفورنيا، بل فاسدين حتى النخاع وشرسين وفظيعين. نظر سائق البغال إلى قصر القمار المُذهب، الذي ذاع صيتُه في جميع أنحاء العالم، ثم خرج وهو يبصُق على درَجه هاتفًا: «اللعنة عليكم!» كان على استعدادٍ لقبول رأي باني في هذه المسألة: إن هؤلاء الأشخاص نتاجُ توارُث الامتيازات على مدار عدة أجيالٍ متلاحقة؛ فإنْ سارت الأمور على المنوال نفسه في كاليفورنيا، فسيعطي أحفاد الأب لهذا الحشد دروسًا في الانحلال الأخلاقي. وفي الحقيقة، كان بعضُ الأمريكيين، في الريفيرا في الوقت الحالي، بهذا القَدْر من الانحلال، وهم الأغنياء الأمريكيون الذي يرسمون المسار برعونتهم وتفاخُرهم.

قال الأب: «على أي حالٍ أريد رؤية أمريكيين!» وفي إحدى الجولات، التقى بمالكِ متجرٍ كبير من دي موين يشعُر بالضجر الشديد مثله، فكانا يجلسان لساعاتٍ في الممشى يتحدثان عن أعمالهما والمشكلاتِ التي تجابههما. وسرعان ما انضَم إليهما مصرفيٌّ من داكوتا الجنوبية، ثم مزارعٌ كان قد حقَّق نجاحًا مفاجئًا في تكساس. كانت النساء تُصِر على القيام بهذه الرحلات الأوروبية السخيفة، ولم يجد الآباء مفرًّا من الانفراد بأنفسهم، والتذمُّر من النفقات. وها هم الأربعة، يُشجِّع بعضهم بعضًا، ويمارسون لعبة إلقاء حدوة الفرس بالقمصان، كأنهم لم يُخطئوا في جمع أموالٍ طائلة وإفساد حياتهم العائلية!

٩

أصبح الطقس حارًّا وعادا إلى باريس. أحب الأب الأجواءَ بعد هذا التحسُّن في الطقس، فراح يتجوَّل في الشوارع العريضة، ويجلس في المقاهي الخارجية ويرتشف المشروبات في تأنٍّ؛ كان يجد دائمًا نادلًا يفهم الإنجليزية أو ذهب يومًا إلى دولة الرب (أمريكا) ويريد التحدُّث عن ذلك. وقابل عددًا كبيرًا من الأمريكيين، وعثَر على مكتب شركة الشحن السريع التي يتلقَّون منها رسائلهم البريدية، بل إنه التقى بعددٍ من الأشخاص القادمين من إنجِل سيتي! وقدمَت الصحف من أرض الوطن مرتَين أسبوعيًّا، واستمَرَّ الحال على ذلك المنوال لفترةٍ طويلة.

وتوافَد عليهم الأصدقاء مثل آنابيل إيمز، التي جاءت لحضور العرض الأول لفيلمها «قلب الأم» في لندن، ولزيارة رومانيا والقسطنطينية مع فيرن. اتضح أن فيرن يدعم الحكومة التركية بهدف استخلاص أكبر حصة من نفط الموصل من البريطانيين. والغريب في الأمر أن خَصْمَه اللدود في أمريكا، إكسلسيور بيت، عرض أن يُدخله في هذه الامتيازات. لا شك أن المرء يجني بعض المنافع من شرائه لأعضاء الوزارة القياديين في حكومة الولايات المتحدة الأمريكية! فقد أظهرَت إيماءة إكسلسيور بيت الأهمية الكبرى التي يُولُونها لفضائح النفط وللموقف العام للرئيس الجديد.

كانت آنابيل سيدة أعمال، وعلى دراية بهذه المسائل، فبثَّ هذا الراحةَ في نفس الأب. كما استجدَت باني، بأسلوبها المحب اللطيف، أنه لا بأس في أن يضع معاييرَ جديدة للعمل، لكن هل من العدل أن يُحاكِم أباه بهذه المعايير؟ لا شك في أن كبار رجال الأعمال لا يتبعون هذه المعايير. وبالطبع من حق أمريكا الحصول على حصتها من نفط العالم، لكن لا سبيل لانتزاعه من هؤلاء الخصوم الأجانب الجَشِعين إلا بحشد قوة الحكومة في مواجهتهم.

جاءت آنابيل محمَّلة بالأخبار من الوطن. ولا علاقة لهذه الأخبار بالإشاعات فهي لا تنقل الأخبار الدنيئة، لكنها لم تستطع منعَ نفسها من قصِّ قصةٍ بعينها، تبيَّن أنها طريفة، وأثارت ضحك الأبِ كثيرًا. تحكي هذه القصة نوبة التواضُع المفاجئة التي أصابت عائلة أورايلي؛ فقد أخذَت العائلة تُزيل كل الدلائل الذهبية والنحاسية التي أفصحَت عن ازدهارها في أرجاء العالم! كما محت الأسماء من فوق بوَّابات المزرعة، واليخت الملقَّب ﺑ «الفاتح»، والسيارة الخاصة بتصميمها الداخلي البني الفاتح وكسوتها الحريرية الزرقاء! وتحدَّثَت الزوجة عن مَسَاوي الزواج بزعيم نفطٍ؛ فقد يقذفك متعصبٌ بقنبلةٍ على حين غرَّة!

اختَتَم الكونجرس أعماله لفصل الصيف، وتهيأ فيرن للعودة إلى أرض الوطن. لكنه أراد من الأب مواصلة البقاء لبعض الوقت؛ لأن التعاون الكندي هو أكثر عمل عُرضةً للهجوم من بين أعمال رجال النفط الأخرى؛ فهو لم يفعل شيئًا سوى توزيع مليونَي دولار على سبيل الرشاوى. ازدادت الحاجة للتكتُّم على الأمر؛ لأن الحكومة باشرَت إقامة الدعاوى لاسترجاع الاحتياطيات البحرية. وسينجُم عن ذلك أن تُحتجَز الأرباح، التي تمثِّل كميةً كبيرة من المال، في المحاكم، ما يجعل الوضع في غاية السوء!

سيبقى الأب بالتأكيد، وسيُضطَر باني إلى البقاء معه. ولأجل تسهيل الأوضاع، انضَم إليهما العظيم شمولسكي، الذي كان قد انتهى للتوِّ من شراء معظم كبار نجوم السينما الألمان، في خطوةٍ أخرى للهيمنة على صناعة الأفلام. لجأَت إليه آنابيل، وأظهر تعاونًا كبيرًا وأجابها إلى طلبها؛ إذ رأى أن المعاملة التي تلقَّاها جيم الأب لم تكن لائقة، كما أثنى على ابنه الذي لزم صحبته؛ فقد كان اليهود يُولُون اعتبارًا كبيرًا للروابط العائلية؛ وهكذا سيُنسِّق شمولسكي عرض فيلم «الأريكة الذهبية» عدَّة مرات في أوروبا، ما سيسمح لفِي بقضاء إجازةٍ طويلة بصحبة عزيزها باني. وكي لا ينسى شمولسكي جعلَته آنابيل يُملي برقيةً سلكية في الحال، وبهذه الطريقة استوعب باني أهميةَ وجودِ أصدقاءَ ذوي نفوذ! كان هذا الإجراء صفقةً تجاريةً ناجحة ومعروفة في الوقت نفسه؛ هذا لأنه عندما يشرع مشاهير العالم في هذه الجولات الترويجية الساحرة، فإن رجل علاقاتٍ عامة يمهِّد لهم الطريق، في عاصمةٍ تلو الأخرى، وتُرسَل أخبار الجماهير والضجَّة التي أحدثَتها الجولة في برقياتٍ إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتستحوذ على الصفحات الأولى من الصحف في كل مرة.

لا بأس أن يُخمِد باني ضميره إذ لا حاجة إليه في أرض الوطن. فأمور الصحيفة كانت على ما يُرام. ونُشِر منها اثنان وخمسون إصدارًا، تولَّت رايتشل تحرير ما يزيد عن نصفها، وصارت الصحيفة لا غنى عنها، مثلما لا يستغني المرء عن أشعة الشمس في الصباح، كما استحوذَت على اهتمام القُرَّاء في العالم بأَسْره!

كانت أوضاع بول هادئةً أيضًا. فمن بين التسعة عشر رجلًا الذين أُلقي القبض عليهم في أحد لقاءات الحزب الشيوعي أُدين رجلٌ واستُؤنفَت قضيتُه؛ وأُرجئَت باقي القضايا، إلى حين البَتِّ فيها، وأُطلِق سراح بول والآخرين بكفالة. أرسلَت روث هذه الأخبار إلى باني، من المؤلم أن يعيش المرء في ظل الخوف من الحكم عليه بالسجن لمدة عشرين عامًا، لكنهم قد ألِفُوا مثل هذه الأمور. واصلَت روث عملها في التمريض وأحرزَت تقدمًا جيدًا. وخرج بول في رحلةٍ طويلة، لم تُفصِح عن وجهتها؛ لأنه لم يأذن لها بذلك.

لكن الصحافة الرأسمالية أعطَت لنفسها الحقَّ في الإعلان عن وجهته. فمن وقتٍ لآخر، كان المرء يقرأ في الصحف الفرنسية أنباءً عن روسيا، سطَّرها الكاتب بصيغةٍ منفِّرة بأكبر قَدْرٍ ممكن. وبعد فترةٍ قصيرة من استلام خطاب روث، نشَرَت الصحف الفرنسية أنباء وقوع نزاعٍ بين الشيوعيين الأمريكيين بشأن الرؤى، ما دفع الفصيلَين المتنازعَين إلى رفع قضيَّتِهما لرؤساء الأممية الثالثة لحسم النزاع. لهذا السبب يُوجد حفنةٌ من قادة من الحزب الشيوعي الأمريكي في روسيا في الوقت الراهن؛ أحدهم يُدعى بول واتكينز، الذي يواجه تحقيقات في أرض الوطن بشأن مشاركته في مؤتمرٍ غير قانوني.

١٠

وقع العديد من الأحداث المثيرة التي شغلَت وقتَهُما في المنفى. أولها أن العمة إيما وقعَت في الحب، أجل، مثلما قرأتَ؛ فعندما يتعلق الأمر بالحب، فلا سبيل لمعرفة ما قد يحدث للنساء أو الرجال! أغرِمَت العمة بتاجرٍ مُسنٍّ مرموق، من نبراسكا، يُمضِي وقت فراغه في جمع الأحجار البارزة النقوش. ربما ذكَّرته العمة إيما بحجارة من حجارته النفيسة، على أي حال، بعد مواعدتِها لعدة شهور، عرَض عليها الزواج فجأة، وحظيا بعرسٍ عائليٍّ هادئ، وذهبا لقضاء شهر العسل في نبراسكا!

شعَر الأب بالوحدة بعد زواج العمة، لكنه سرعان ما سعى وراء مغامرة، وهذا أغربُ مما فعلَته العمة بكثير؛ إذ لن يخطر ذلك ببال أحدٍ ولو ظل يخمِّن مليون سنة. بل كان الأمر مخيفًا! فذات مرة ذهب باني في إحدى الأمسيات إلى لقاءٍ انخرط فيه الاشتراكيون والشيوعيون في شجارٍ عنيف، كما تبيَّن أن هذه عادتُهم في باريس، وعندما عاد، لم يجد الأبَ في غرفته. في صباح اليوم التالي أخبره الأب بما فعلَه بتردُّد وخجلٍ بالغَين. وسأل باني عن رأيه في الروحانية. فأجابه باني أنه ليس لديه رأيٌ معيَّن أو ليست لديه معلوماتٌ بشأنها؛ حينئذٍ أعلن الأب أنه مرَّ بتجربةٍ مذهلة وخاض محادثةً طويلة مع الجدة!

صُعق باني، واعترف الأب أن ما قاله يصعُب تصديقه، لكن لا سبيل له إلى إنكاره. فقد حدَّثَته الجدَّة عن طفولته بإسهاب، ووصفَت بيت المزرعة حيث عاشت العائلة، وسألَتْه عن لوحاتها، وعما فعلَه بلوحة الألمان الذين يشربون من الأكواب الخزفية، وما إذا كان لا يزال يمتلك القصر الكبير ذا النافورة في مقدمته، والعربة التي يجرُّها اثنتان من الخيل وتجلس السيدة والسيد داخلها. وقد نادته ﺑ «الصغير جيم»، وكان الأمر في غاية الواقعية، فأجهَش الأب بالبكاء.

أراد باني أن يعرف مكان الواقعة، وحكى له الأب عن امرأةٍ تعيش في الفندق، اسمها السيدة أوليفييه، قد قَدمَت من بوسطن في الماضي، وتزوَّجَت برجلٍ فرنسي قضى نحبه منذ سنة أو سنتَين تقريبًا. وقد تحدث إليها، وأخبرَتْه عن انشغالها بالأمور الروحانية، وعن اشتهارها بالوساطة، حتى إنها تعقد جلساتِ استحضار الأرواح في غُرفتها بالفندق، ودَعَته لحضور جلسةٍ من هذه الجلسات، وخاض هذه التجربة. شَهِد حدوث أمورٍ مذهلة؛ إذ حلَّقت الرءوس في الهواء، وانسابت الأصوات منها، وتذبذبَت المصابيح، بعد ذلك ظهَرَت الأشباح، وكان آخرها شبح سيدةٍ عجوز سأل عن «الصغير جيم» قبل أن يسرد مباشرةً التفاصيل التي عقدَت لسانه. كيف يمكن لوسيطٍ روحاني أن يعرف هذه الأمور؟

بهذه الطريقة شغل الأب وقته! وبالطبع ذهب إلى الجلسة التالية والجلسة التي تليها، وسرعان ما بدأ يتعلم طريقة حديث الروحانيين، وتعامل معها بجدية كأنها ديانةٌ من الديانات. وليست ثمَّة غرابةٌ في تصرُّفه؛ إذ أمضى الأب حياته بلا دين؛ لأنه كان في صحةٍ جيدة ولديه من المشاغل ما يكفيه، لكنه بعدما تقدَّم في السن وأصابه التعب والمرض، أصبح يتوق إلى شيءٍ يعتمد عليه. خَجِل الأب من اهتمامه بالروحانية أيما خجل، وخَشِي من أن يسخر منه ابنُه. وسأل باني إذا كان لديه دليلٌ على عدم حياة الروح بعد الموت. ودعاه إلى حضور جلسةٍ لتحضير الأرواح لأنه لا يمتلك الدليل. رأى الأب أن هذه المسألة أهمُّ من الاشتراكية بالتأكيد. فلو كان صحيحًا أننا نعيشُ للأبد، فلا بأس من تحمُّل الابتلاءاتِ المؤقتة، ولا جدوى من الجدال بشأن المال. هذا ما قاله جيه أرنولد روس بنفسه!

ذهب باني، الذي كان يحاول تلبية طلبات أبيه، إلى الجلسة وشهِدَ تلك الظاهرة الغريبة. كان يعلم أن مِثل هذه الأمور يمكن تنفيذها بالحيلة والخداع، ولا سبيل له للتأكد من ذلك؛ إذ لن يحظى بهذه الفرصة وسط جماعة المؤمنين المستثارين عاطفيًّا. كانت جلسة واحدة كافية لباني وقرَّر العودة إلى رفاقه الاشتراكيين. لكنه لم يمانع أن يكون الأب روحانيًّا ما دام سعيدًا بذلك!

على عكس باني، دخلَت بيرتي في نوبةِ غضبٍ شديدة عندما سمعَت بالأمر. وتعجَّبَت من سماحه بوقوع الأب في مِثل هذه الأيدي. فهذه أسوأُ حيلةٍ على الإطلاق في رأيها! وليس ثمَّة شكٌّ في أن تلك المرأة، السيدة أوليفييه، لها دافعٌ خفي وهو الزواج بالأب! قالت إنهما عملا بجدٍّ طيلة حياتهما لمساعدة الأب في جمع ثورته والحفاظ عليها، لكن المغامِرة الداهية انضمَّت إليهما، وتُحاوِل اختطاف المال، وهو أبلهُ لا يدرك ما يحدث حوله! لم يرَ باني أختَه غاضبةً بهذه الدرجة من قبلُ؛ إذ لقَّبَته بالأبله سبعَ مراتٍ متتالية، عندما عبَّر عن موافقته على حصول المرأة الروحانية على حصةٍ من المال، بشرط أن تساعد الرجل المسكين في العثور على السعادة.

١١

بعد ذلك وقعَت حادثةٌ غريبة أثارت نقاش العائلة؛ لأنها بعيدةٌ عن الخيال! نشَرَت الصحف الفرنسية تقريرًا عن إنجِل سيتي بشأن غرق إيلاي واتكينز مُدعي النبوة. ذكَر الخبر أنه ذهب للسباحة عند الشاطئ، وترك ثيابه في غرفة أحد الفنادق، ولم يرَه أحدٌ منذ ذلك الحين. تداولَت الصحافة هذا النبأ لبعض الوقت، وهز الأب رأسه وقال: «يا إلهي، هذا أمرٌ غريب، أن يعجز الرب الذي أنقذ الكثيرين عن إنقاذ نبيه! ماذا سيحدُث لذلك المعبد الكبير الذي كان تحت ملكية إيلاي الخاصة؟»

توافدَت صحف نيويورك، ثم اتبعَتْها صحف إنجِل سيتي في وقتٍ لاحق، بقصةٍ احتلَّت الصفحات الأولى يومًا تلو الآخر. لم يُعثَر على جثة إيلاي. كان أعضاء المعبد قد استأجروا غطَّاسين، ونشروا كشَّافاتٍ تمسح المياه في الليل، فيما باشر آلاف المؤمنين دورياتِ المراقبة على الشاطئ، وعقَدوا مجالس للصلوات الإحيائية، اغرورقَت فيها العيونُ بالدموع ولهجَت الألسنُ بالدعاء، عسى أن يرُد إليهم الرب قائدهم المحبوب في ثياب السباحة الخضراء. دامت هذه الإجراءات لمدة أسبوعٍ وامتدت لأسبوعٍ آخر، بعد ذلك تحيَّرَت العقول؛ لأن أطول فترة يمكن أن تمكُث فيها الجثة تحت الماء هي تسعة أيام، ولم يحدُث من قبلُ أنْ لم تنجرف جثةُ غريقٍ إلى الشاطئ.

ازدادت الأمور غرابةً أكثر فأكثر، وبدأت الإشاعات تتسلل إلى الصحف؛ إذ خشيَ الجميع التصريحَ لكنهم لجَئوا إلى التلميح وإلى اقتباس تلميحات الآخرين، بشأن احتمالية عدم تعرُّض إيلاي للغرق؛ فقد شُوهد في أماكنَ متفرقة بصحبة شابةٍ جميلة بعينها، أعلنَت الإشاعات أنها القيِّمة على الأردية المقدَّسة في المعبد. فور أن قرأ الأب هذه التلميحات، تذكَّر ما رآه وباني ذلك اليوم، في الفندق المُطِل على البحر، وثارت ثائرتُه. قال: «يا إلهي، هذا الشخص يخدعُنا! لقد خرج للمرح مع امرأة!»

كانت واقعة مثيرة! راح الأب يتحدث عنها لعدة ساعات، وكاد ينسى أمر الأشباح. لم يكن الأمر مزحة؛ فقد خسر شخصان حياتهما في أثناء بحثهما عن جثة إيلاي؛ أحدهما أُصيب بالتهابٍ في الرئة، وهو غطَّاس وعضو من أعضاء المعبد، والآخر توهَّم رؤية جثة فسبَح لمسافةٍ بعيدة حتى غرق في القاع. كان الأب هو الوحيد الذي يمتلك حلَّ هذه الأحجية! وتساءل ما إذا كان يجب عليه إرسال هذه الحقائق في برقية إلى الموقَّر بوبر.

لم تتوقف الإثارة عند هذا الحد؛ فقد بدأ أعضاء المعبد يتلقَّون رسائل اختطاف، زعَم فيها المُرسِلون أنهم اختطفوا إيلاي بملابس السباحة الخضراء وخبَّئوه، وتُطالِبهم بدفع فديةٍ قَدْرها نصف مليون دولار من أجل إطلاق سراحه! كان الموقف بعيدًا عن التصديق. واحتار جميع سكان إنجِل سيتي فيما يفعلونه. وتساءلوا هل اختُطف النبي حقًّا؟ أم أنه يسيح في الأرض بصحبة الآنسة المجهولة، كما أشارت الصحف إلى المرأة التي كانت تَعتَني بالأردية المقدَّسة في السابق؟ المضحك في هذه الفضيحة أن العُشَّاق الشباب الذين كانوا يذهبون في مغامرات حُبٍّ بسياراتهم — وهي تسليةُ الأغنياء المفضَّلة — وجدوا أنفسَهم في موقف حرجٍ؛ فقد كان مراسلو الصحف ومسئولو الشرطة يبحثون عن إيلاي والآنسة المجهولة في جميع أنحاء البلاد، والويل الويل لأي رجلٍ أشقر يُسجِّل الدخول في فندق من الفنادق مع فتاة، دون أن يكون معه ما يُثبت زواجهما!

جاءت لحظة النهاية في نهاية المطاف، وأثارت ضجةً كبيرة وصلَت إلى باريس بالبرق، ووفَّرَت على الأب ذلك الانتظار المُمِل. فبعد اختفاء إيلاي بخمسة وثلاثين يومًا، رأى بعضُ الصيادين في أثناء تجديفهم بالقارب في المَرْسى، على بُعد عدة مئات الأميال من إنجِل سيتي؛ رجلًا يسبَح باتجاه البحر، فانتشلوه من الماء، وللمفاجأة كان رجلًا طويلًا أشقرَ الشعر يرتدي ثياب سباحةٍ خضراء؛ باختصار كان هو النبي المفقود! حكى الرجل أنه بعدما حملَه الماء إلى البحر الواسع، دعا الرب ليُنقِذه، فاستجاب لدعائه، وأرسل ثلاثة ملائكة لإبقائه على سطح الماء. كان اسم أحد هؤلاء الملائكة هو ستيف، أما الملاك الثاني فكان أنثى اسمها روزي، والثالث كان ملاكًا مكسيكيًّا اسمه فيليبي. تناوَب هؤلاء الثلاثة على إمساك حمالتَي كتف ثوبه الأخضر، وعندما كان يُغشى عليه من الجوع، كان أحدهم يطير ويُحضِر له طعامًا. حافَظوا على بقائه بسلامٍ في الماء حتى في أثناء نومه. وقضى إيلاي هذه المدة، المقدَّرة بخمسة وثلاثين يومًا، بين السباحة والنوم. بعد ذلك أتى الشيطان، بأجنحةٍ من اللهب، وطرَد الملائكة الصالحين، وربط يدَيه خلف ظهره، حتى كاد يموت غرقًا. لكنه دعا الرب، فحملَته الملائكة إلى علبةٍ قديمةٍ صدئة، وحَرَصوا على بقائها في مكانها حتى حكَّ وثاقَه بأطرافها الحادَّة، وقطعَه، وعاد يُواصِل السباحة من جديد.

هكذا رجع النبي من مغامرته سالمًا، وبعدما وصل إلى الشاطئ وحصَل على بعض الثياب، هُرِع إليه المراسلون على عَجل؛ إذ لا تقع معجزاتٌ كثيرة في هذه الأيام المليئة بالتشكيك، وما حدَث معجزةٌ قطعًا لا تحتمل الشك. احتشدَت الجماهير الغفيرة حول النبي، يُنشِدون هوشعنا وينثُرون الزهور في طريقه، وعندما عاد إلى إنجِل سيتي، أثار ضجةً لا توصف؛ إذ اجتمع خمسون ألفَ شخصٍ في محطة السكة الحديدية لاستقباله في حفاوةٍ لم يحظَ بها أعظم نجوم السينما. وعندما وصل إلى المعبد، جثا أتباعه على ركبهم وبكَوا من فَرْط الفرحة؛ لأن الرب استجاب لصلواتهم وردَّ إليهم نبيهم، وامتلأَت القاعة عن آخرها بالأتباع ست مراتٍ يوميًّا، وامتلأَت الحديقة المحيطة بالمعبد بالوافدين، وحملَت مكبرات الصوت الكثيرة صوت إيلاي الهادر، فخرَّ الرجال والنساء ساجدين هاتفين: «سَبِّحوا الرب!»

بالطبع كان هناك متشككون، أناسٌ عشَّش الشيطان في قلوبهم، رفضوا تصديق قصة إيلاي، وتحدَّثوا بلا توقف عن السيارة الزرقاء التي كانت تقودها فتاةٌ حسنة المظهر، ويجلس في المقعد بجوارها رجلٌ لا يكاد يظهر منه شيء إلا نظارتُه الواقية. وتحدَّثوا عن التوقيعات في سِجلَّات النزلاء، والخبراء في خطوط اليد، وغير ذلك من الأمور الفاحشة، لكن لم يشكِّل ذلك فارقًا عند العبَّاد المتحمسين، الذين امتلأ بهم المعبد ليلَ نهارَ، مثلما لم يحدُث من قبلُ في تاريخ الأديان. حكى إيلاي قصته، التي كانت مليئةً بالتفاصيل المقنعة للغاية، مرارًا وتكرارًا، حتى إنه وصف رفرفة أجنحة الملائكة، وأنها كانت تنثُر الماء على وجهه في بعض الأحيان، كما نقل حديث الملائكة معه بدقةٍ متناهية. وسأل هل يعجز الرب الذي أبقى يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام، وجعل أتون النار المتقدة بردًا وسلامًا على حننيا وميشائيل وعزريا، عن إبقاء إيلاي واتكينز طافيًا على سطح البحر؟ بالتأكيد لم يستطع أحدٌ إجابة سؤاله.

بعد ذلك، وقعَت حادثةٌ أخمدَت كل الشكوك، وأتمَّت عظمة الوحي الثالث. فعندما كان إيلاي ينظر داخل ثوب السباحة الأخضر، بسبيل المصادفة، عثَر على ريشةٍ لونُها أبيض بياض الثلج! بالطبع، تعرَّف عليها؛ إذ هي الدليل على صدق قصته، وقد تُركَت هناك برحمة الرب! أعلن إيلاي عن المعجزة الجديدة، وعلَت أصوات العبَّاد بالهوشعنا، وسرعان ما وُضعَت الريشة في علبةٍ زجاجية، وثُبِّتَت خلف المكان الذي يخطب فيه، علامةً على رحمة الرب، وهي تَشفي الناظر إليها من جميع الأسقام وتُطهِّره من جميع الذنوب، ولو كان ذنبًا مميتًا مثل الزنا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤