الفصل التاسع عشر

العقوبة

١

دخلَت اللوحات الإعلانية في شوارع باريس في فورةٍ من الحماس الواسع الانتشار، وقد كُتِب عليها: «تقدَّم شمولسكي-سوبربا النجمة الأمريكية فيولا تريسي في فيلم «الطبقة الذهبية»، وهي ميلودراما سينمائية من إنتاج الشركة من ثماني بكرات.» وأعلنَت صفحات الصحف أن هذا هو «العرض الأول في قارة أوروبا» — كان شمولسكي يُبلي بلاءً حسنًا. وجاءت «النجمة» بنفسها من كاليفورنيا، وذهب باني بالسيارة إلى هافر لاستقبالها، ويا لها من لحظة! كم كانا سعيدَين؛ فبعد أن تجاوزا الخلافات القديمة، أصبحا بصدَد قضاء شهر عسلٍ ثانٍ. أوصلَها باني إلى باريس — بل إلى مكان بالقرب من باريس — إذ كان عليها ركوب قطار خارج المدينة، ثم دخولها وفقًا للجدول المُحَدَّد في الصحف. كان المشهد مليئًا بالآلاف من المتفرجين المتحمسين والكاميرات والمراسلين، وفيهم أولئك المكلفون بإرسال برقياتٍ تتضمَّن الأخبار المثيرة إلى نيويورك وإنجِل سيتي.

أصبح العالم قريةً صغيرة، وشركة «سينما ميلودراميه دي لا سوسيتيه» هي التي تتولى هذه المهمة — مما يجعل العالم أكثر أمريكية. فقد كان العرض الأول هنا في باريس هو نفسه العرض الأول في هوليوود، باستثناء أن الجمهور في هوليوود كان أكثر حماسًا، وأرادوا معانقة نجمتهم المفضَّلة بحرارة، لدرجة أن ذلك كان في الواقع خطرًا على النجمة. وثمَّة سببٌ إضافي للإثارة وهو أنَّ الرجل الذي لعب الدور الرئيسي لم يكن ممثِّل أفلام عاديًّا، بل كان أميرًا حقيقيًّا من رومانيا، كان يزور جنوب كاليفورنيا، وقرَّر أن يصبح نجمًا سينمائيًّا لليلةٍ واحدة بفضل إقناع شمولسكي. والآن أصبح هنا شخصيًّا، في طريق عودته إلى رومانيا — بعد أن سافر في القطار والباخرة مع فِي، حسبما عَلِم باني. كان شابًّا طويل القامة ونحيفًا، ولم يكن شديدَ الوسامة، لكنه اعتاد لَفْت الانتباه، وكان مهذبًا، ولكنه كان يشعُر بالملل بسهولة، وغالبًا ما تظهر على شفتَيه ابتسامةٌ فضولية، وكان يتجنَّب المحادثات الجادة — حتى سمع باني يعبِّر عن تعاطفه مع الحُمْر الدمويين الكافرين! فأصبح يُفَضِّل قضاء الوقت مع شقيقة باني.

وبعد انتهاء العرض الأول في باريس، اشترى له الأب سيارةً مكشوفةً كبيرة جدًّا، وتوجَّهوا إلى برلين، كان باني هو من يقود السيارة، وجلسَت فِي بجانبه، وجلس الأب في المقعد الخلفي مع سكرتيره، وكان معهم أيضًا سائق للطوارئ. كانت الرحلة رائعةً مثل رحلتهم إلى نيويورك؛ إذ كانت الطرق ممهدة، والمناظر الطبيعية خلابة، وكان الفلاحون البسطاء يقفون لتحيتهم باحترامٍ وإجلال، وكلَّما توقَّفَت السيارة، هُرِع الخدم لتنفيذ طلباتهم. إن أوروبا بأكملها مَدينةٌ لنا بالمال، وهذه طريقتهم في سداد الدَّيْن.

ثم وصَلوا إلى برلين؛ حيث وجدوا اللوحات الإعلانية: «العرض الأول في ألمانيا، تحت رعاية شركة شمولسكي-سوبربا» وهكذا. ووُجِدَت أيضًا الحشود الضخمة والكاميرات والمراسلون — أصبح العالم كله قريةً صغيرة. فقبل ست سنواتٍ فقط، كانت هذه الدولة تُعتبَر دولةً عدوة، ولكن هل عسكر أي جنديٍّ سابق بزيه العسكري عند مدخل المسرح، ومنع الأفلام الأمريكية من وضع معاييرَ عالية جدًّا للأفلام المحلية؟ لم يفعل أحدٌ ذلك، وابتسم باني وهو يتذكر محادثته مع شمولسكي عندما قال له: «وا أسفاه على المنهزمين!» فردَّ شمولسكي قائلًا: «هاه؟»

وواصلوا رحلتهم إلى فيينا. وهي مدينةٌ فقيرة هذه الأيام، وبالكاد تغطي عائدات الفيلم فيها تكاليف إعلاناته، ومع ذلك، لا يزال اسم المدينة يحمل بعض السحر الخاص، وله أهميةٌ كبيرة في الصحف. لذلك، أُقيم أيضًا في فيينا عرضٌ أول، أقل ضجيجًا ولكن أكثر ودية. ثم بدأَت فِي وحبيبها يشعُران بالملل قليلًا في هذه المرحلة؛ لقد استمتعَت بالفعل بكافة أشكال الإثارة والتشويق التي يمكن أن تقدمها الحياة. فعندما يقوم نجمٌ مشهور بجولةٍ في جميع أنحاء القارة، ويبدأ الملل يتسلَّل إليه، فإنه يصبح مثل شخصٍ طاعن في السن لم يعُد ينبهر بالأشياء بسهولة، شخص يَشْعُر بالملل ولا يعبأ بشيء، لم تَعُد الحياة بالنسبة له سوى سلسلةٍ من الأحداث الروتينية المُتعاقبة.

أما الشخص الذي كان لديه إحساسٌ دائمٌ بالانبهار الطفولي، فهو الأب. فقد استمتع بكل عرضٍ أول للفيلم كما لو كان المرة الأولى التي يشاهده فيها، حتى إنه أراد مواصلة الرحلة إلى بوخارست؛ حيث كانت جلالة الملكة — التي تمتلك عبقريةً في الدعاية — ستذهب إلى أول عرضٍ سينمائي على شرف الأمير ماريسكو. ولكنَّ شيئًا آخر أبقى الأب في فيينا؛ لقد تبعَته الأشباح! كانت صديقتُه السيدة أوليفييه قد أعطته رسالةً إلى وسيطٍ رائع، وذهبوا إلى جلسة تحضير أرواح، وخلالها، علمَت فِي بأمر بائع الأدوية المُسجَّلة الذي رباها في عربة؛ استخدم الوسيط الكلمات نفسها التي استخدمها هذا الرجل لجذب الجمهور. رائع! إذا كانت هذه خدعة، فهي بالطبع خدعةٌ بارعة جدًّا!

٢

خلال شهر العسل الثاني هذا، كان لدى باني اهتمامٌ واحد، احتفظ به لنفسه. ففي كلٍّ من برلين وفيينا، كانت هناك صحفٌ للشباب، وشعَر أن من واجبه زيارةَ مقرَّات هذه الصحف، ودعوة المحرِّرين المتمردين لتناول الغداء، وإرسال رسائل إلى الديار لتنشرها رايتشل. في فيينا، كانت هناك صحيفةٌ تُنشَر باللغة الإنجليزية مهمتها دعم السجناء السياسيين، وكانت صحيفةً شيوعية، لكن باني لم يدرك ذلك؛ إذ كانت تعمل تحت ستار، وعلى أي حال فقد أراد مقابلة محرِّريها. كان يبذل قصارى جهده لفَهْم كلا الجانبَين — حتى هنا في أوروبا الوسطى؛ حيث كان الاشتراكيون والشيوعيون في كثيرٍ من الأحيان في صراعٍ صريح.

في مكتبٍ سرِّي يقع في حيٍّ للطبقة العاملة في المدينة، عاش باني تجربةً مروعة. رأى شخصًا كان ذات يوم شابًّا، ولكنه الآن لا يزيد كثيرًا عن مجرد هيكلٍ عظمي مُغطًّى بجلدٍ أصفرَ مُخضَر. لم يكن لهذا الشخص سوى عينٍ واحدة وأذنٍ واحدة، وكان عاجزًا عن الكلام بسبب استئصال لسانه أو قطعه، ومعظم أسنانه الأمامية مخلوعة، ووجنتاه مثقوبتان من أثَر حروق السجائر. أما أظافره فقد كانت منزوعة، وكانت يداه مثقوبتَين من الحروق، وخلع الرجال في المكتب قميصه؛ ليكشفوا لباني كيف تَمزَّق جسدُه بفعل الجَلْد الذي تعرَّض له في أماكنَ متفرقةٍ من جسده، ما جعل جسدَه يُشبه لوحات التظليل المتقاطع بالقلم والحبر.

كان هذا الشخص سجينًا هاربًا من أحد السجون الرومانية، وهذه الندوب تُمثل العقوبة التي تلقاها نتيجة لرفضه خيانة رفاقه لصالح الإرهاب الأبيض. وهنا في هذا المكتب كانت هناك صور ورسائل وشهادات للضحايا؛ إذ كان الآلاف من الرجال والنساء في رومانيا يتعرَّضون لمثل هذه المعاملة. والسبب هو أن الحكومة كانت تحت سيطرة أفراد الطبقة الحاكمة الفاسدة، الذين كانوا يسرقون الأخضر واليابس، ويبيعون الموارد الطبيعية للدولة، وفي الآونة الأخيرة، قاموا بتأجير أحد أكبر حقول النفط في رومانيا لمجموعةٍ من المستثمرين الأمريكيين، هل يمكن أن يكون الرفيق روس على درايةٍ بذلك؟ أكد الرفيق روس أنه سمع بالأمر. ولكنه لم يَذْكُر أن والده كان متورطًا في الصفقة!

كان ضحية الإرهاب الأبيض هذا من بيسارابيا، وهي مقاطعة أُخذَت من روسيا بموجب مبدأ تقرير المصير المُبارك. وكانت بيسارابيا موطنًا للفلاحين الروس، وعندما حاول هؤلاء الفلاحون بطبيعة الحال الحصول على حريتهم، تعرَّضوا للقتل أو التعذيب حتى الموت، ولم يحدُث ذلك للمتمردين فحسب، بل لأي شخص يُظهر تعاطفًا تجاه التمرد. ولم يكن الحال هكذا في مناطقَ متفرقةٍ من روسيا، بل كان كذلك في كل مكانٍ فيها، وهي التي تمتد لمسافة ألف ميل من بحر البلطيق إلى البحر الأسود. فقد أُخذَت كل هذه المقاطعات والمناطق، التي يعيش فيها الفلاحون الروس من الحُمر، وتم إعطاؤها للبيض. لذا، كان الوضع كالتالي: على الجانب الشرقي، امتلك الفلاحون الأراضي وكان لهم دور في عمليات اتخاذ القرار في الحكومة، وكانوا يتمتعون بالحرية ويخلقون مجتمعًا للعمال؛ وعلى الجانب الغربي، عاش الفلاحون أقنانًا تحت رحمة مُلاك الأراضي، يُسلَبون ثمرة جهودهم المضنية، ويُضرَبون أو يُقتَّلون إذا نطقَت شفاههم بكلمة شكوى. وكان من المستحيل منع الفلاحين من العبور إلى الجانب الآخر، وكان الفرق بين طريقتَي الحياة واضحًا جدًّا لدرجة أنه حتى الطفل يمكنه ملاحظته. وأدى ذلك إلى استمرار الصراع الطبقي، وإلى حربٍ أهلية ضَرُوس لم يُسمَح لأحدٍ بالحديث عنها للعالم الخارجي.

لو كان ملاك الأراضي الأغنياء هؤلاء بمفردهم، لَمَا استمرُّوا لسنة. لكنهم حصلوا على دعم من رأس المال العالمي؛ تَمَثَّل هذا الدعم في الأسلحة التي يحتاجونها لأعمال العنف، أو المال للحصول على تلك الأسلحة، من الشركات الأمريكية الكبرى. نعم، لقد كانت أمريكا بالفعل هي التي دعمَت هذا الإرهاب الأبيض؛ من أجل مراكمةِ فوائد القروض واغتنامِ الفُرص لشراء الأصول داخل البلاد؛ السكك الحديدية والمناجم وحقول النفط، وحتى القلاع الضخمة والملكيات العقارية. ألن يُخبر الرفيق روس الشعب الأمريكي بالأشياء الفظيعة التي أُنفِقَت عليها أمواله؟

غادر باني وثمَّة تساؤل يكدِّر ضميره. هل يكشف الحقيقة أم يبقيها سرًّا؟ هل يبدأ بإخبار حبيبته عما اكتشفه عن العالم؟ هل يُخبرها أن الأمير الشاب ماريسكو، الذي أُعجبَت به كثيرًا، هو ابن أحد أكثر أعضاء الطبقة العليا الحاكمة دموية؟

بينما كان باني يصطحب حبيبته بالسيارة عَبْر الممرات المتعرجة، وسط الجبال المُغطاة بالجليد في سويسرا، لم يشعر بالسعادة التي كان من المفترض أن يشعر بها. فقد كان يغرق في أفكاره لفتراتٍ طويلة، وعندما كانت فِي تسأله عما يشغل باله، كان يتجنَّب الإجابة. لكنها كانت ذكيةً مثل غالبية النساء عندما يتعلق الأمر بأمور الحب، وكانت تُحاصِره بأسئلتها. فسألَته: «هل يتعلق الأمر بالحمر الذين كنت تلتقي بهم؟» فأجابها: «نعم يا عزيزتي، ولكن دعينا لا نتكلَّم في هذا الموضوع لأنه لن يؤثِّر علينا مطلقًا.» فأجابت بنبرةٍ تشاؤمية: «سيكون له تأثيرٌ كبير علينا!»

٣

وفي باريس، كانت هناك رسائلُ مستفيضة من فيرن؛ فقد أقامت الحكومة دعوى لاستعادة الأراضي النفطية، وأصبحَت منطقة ساني سايد الآن تحت سيطرة شخص تم تعيينه لإدارة شئونها؛ لذلك توقفَت كل أعمال التطوير. لكن قيل لهم ألَّا يقلقوا؛ لأنه سيتمُّ إعطاء مجموعتهم امتيازاتٍ خارجيةً مختلفة، أما فيما يتعلق بالمال، فإن الدخل الذي كانوا يتلقَّونه من بارادايس سيؤمِّن لهم مستقبلهم المادي عند تقدُّمهم في السن.

ومن الغريب أن الأب لم يكن يبدو عليه القلق. فقد تعرَّفَت السيدة أوليفييه على وسيطةٍ روحانيةٍ جديدة، كانت حتى أكثر براعة من الوسطاء الذين قابلوهم من قبلُ؛ إذ تمكَّنَت هذه الفلاحة البولندية، التي تعاني من الصرَع ومن مشاكلَ في أسنانها، من التواصل من خلال أعماق الوعي الكوني مع روح جد الأب، الذي عبَر القارة في عربةٍ مُغطَّاة وتُوفي في صحراء موهافي؛ كما تواصلَت أيضًا مع روح زعيمٍ هندي قُتِل على يد هذا الرائد القديم أثناء هذه الرحلة. لقد كان آسرًا للغاية سماعُ هذَين المحاربَين يرويان أحداثًا من الصراعات المبكرة بين الحمر والبيض!

كانت بيرتي حَنِقةً بالطبع، لكنها لم تستطع أن تقول شيئًا للأب؛ إذ إنه كان لا يزال الرئيس وقد يوبِّخها. لذا، نفَّسَت عن غضبها بتوبيخ باني؛ لأنه هو مَن كان يستطيع حماية الأب من هذه المرأة الخَطِرة، لكنه لم يفعل. فلم يستطع باني إلا أن يضحك؛ لأن السيدة أوليفييه لم تكن المرأة التي صوَّرها مخرجو هوليوود؛ كانت عجوزًا وممتلئةً بعض الشيء، وكانت لطيفةً وعاطفية، ولها صوتٌ ناعم ومريح؛ كان من المضحك جدًّا سماعُها تتحدث بحنان إلى الزعيم الهندي الشرس والغاضب، متسائلة: «الآن، أيها «الذئب الأحمر تحت المطر»، هل ستكون لطيفًا معنا الليلة؟ نحن سعداءُ جدًّا لسماعِ صوتكَ مرةً أخرى! إن حفيد الكابتن روس الصغير موجودٌ هنا ويريد أن يعرف ما إذا كانت وجوهُ الحُمر بيضاء في عالمكم البهيج.»

كان باني يصطحب فِي لرؤية باريس، المدينة التي كانت تُظهِر للعالم الانحدار الأخلاقي للإمبريالية الرأسمالية. فعلى مسارح هذا المركز الثقافي، يمكنك مشاهدة عددٍ كبير من النساء العاريات، أجسادهن مطلية بجميع ألوان قوس قُزح، حتى إن بعضهن مُتْنَ بتسمُّم تسببت فيه هذه الألوان، لكن في الوقت نفسه، كانت الحرب من أجل الديمقراطية تحظى بالدعم. فأثناء وجود باني في المدينة، انزعج الفنانون هناك لأن مديري مترو الأنفاق اعترضوا على أحد الإعلانات المبتذلة، واحتجاجًا على الرقابة، خلع بضع مئات من الرجال والنساء ملابسهم خلال حفلات الخمر، ودخلوا وقت الفجر إلى عربات مترو الأنفاق عراةً تمامًا. قام صانعو الجمال ومرشدو المستقبل هؤلاء بتنظيم مهرجانٍ سنوي يُسمَّى حفلة الفنون الأربعة، وهي مناسبةٌ معروفة، دُعِيَت فِي إليها، كونها فنانة زائرة، وهنا، بينما تسير الاحتفالات على قدم وساق، كان بإمكانك التجول في قاعةٍ كبيرة ومشاهدة التصوير الحي لجميع أنواع السلوكيات غير العادية وغير الأخلاقية، التي ابتكَرها الأشخاص ذوو العقول المنحطة على منصَّات مقابل الجدران.

وفي أوقات فراغه، كان باني يكتب مقالًا لصحيفة «الطالب الشاب»، كان بمثابة صرخة احتجاج ضد الإرهاب الأبيض الروماني. وقد كان على وشك الانتهاء من المقال عندما تركَه على طاولة الكتابة في غرفته بالفندق، وعندما عاد، لم يجد المقال، ولم يُسفِر سؤال موظفي الفندق عن أي إجابات. وبعد يومَين، جاءت إليه بيرتي وكانت غاضبة مجددًا؛ فقد عرفَت ما تضمَّنه المقال، وعبَّرَت عن استيائها من العار الذي سوف يُلحِقه بهم! تعجَّب باني، وهو على وَشْك الانفجار غضبًا هو الآخر، قائلًا: «إذن فقد أرسل إلدون جواسيسَ خلفي!» لكن بيرتي قالت إن ما يقوله هُراء وإن إلدون ليس له دخلٌ بهذا الموضوع؛ فقد كان الفاعل هو الاستخبارات الفرنسية. هل تخيَّل للحظةٍ أن الحكومة لا تراقب الدعاية البلشفية؟ هل كان يظُن أن الحكومة ستسمح له باستخدام البلاد قاعدةً للتآمر على سلام أوروبا؟

وتساءل باني عما إذا كانوا حمقى ليتصوَّروا أن بإمكانهم منعه من مشاركة ما اكتشَفه في فيينا مع الناس في وطنه؟ سوف يعيد كتابة المقال وسيجد طرقًا لإرساله إلى أمريكا رغم كل الجواسيس. عندئذٍ انهارت بيرتي وأجهشَت في البكاء؛ لم تصدق أن باني اختار رومانيا من بين جميع الدول! فقد كانت تعمل في الخفاء لتأمين منصبٍ دبلوماسي رفيع لإلدون، مستغلةً نفوذَ فيرن في واشنطن ونفوذَ الأمير ماريسكو في بوخارست، والآن، أتَتْ تصرُّفات باني لتُشوِّه سمعتهم!

وثمَّة شيءٌ آخر! ألم يستطع باني، ذلك الأحمق الأعمى البصيرة، أن يرى أن ماريسكو منجذبٌ إلى فِي؟ هل كان يريد تركها له؟ فبالطبع سيعلم الأمير بهذا الأمر عن طريق الحكومة الفرنسية، التي كانت تسلِّح رومانيا ضد روسيا. ماذا لو عاد إلى باريس وتحدَّى باني في مبارزة؟ فأجاب الشاب المتحذلق: «سنخوض مبارزةً بمضارب التنس!»

٤

وصلَت الأمور إلى ذروتها. فقد تلقَّى باني خطابًا عليه طابعُ بريدٍ فرنسي، ومكتوبًا بخطِّ يدٍ مألوفٍ له جعل قلبه يخفق. ففتحه وقرأ: «ولدي العزيز، أنا في المدينة لبضعة أيام، فهل ترغب في لقائي؟ المخلص للأيام الخوالي، بول واتكينز.»

تَذَكَّر باني، البالغ من العمر الآن أربعةً وعشرين عامًا، عندما كان في الفِناء الخلفي لمنزل السيدة جرورتي منذ أحد عشر عامًا حينما ترك والده، وهو يجري وينادي: «بول! بول! أين أنت؟ أرجوك لا تغادر!» وعلى الرغم من أنه كان من المقرَّر أن يقابل فِي، فإنه ألغى الموعد، وستَدْعوها أختُه إلى إحدى حفلات الشاي الدبلوماسية حيث تقابل الأمراء والدوقات. ثم هُرع باني إلى الفندق المنعزل الذي كان يقيم فيه صديقه.

بدا بول هزيلًا؛ فلا أحد يذهب إلى موسكو لاكتساب الوزن. لكن وجهَه الجاد كان يشعُّ حماسةً شديدة — وهي نفس الحماسة التي وصفَها أخوه إيلاي بالنور الإلهي! ربما كان الأب سيقول إن كلا الأخوَين مخبولان بالقدر نفسه، لكن باني لم يرَ الأمر بهذه الطريقة؛ فقد سخر من إله إيلاي، لكنه آمن بإله بول، على الأقل بدرجةٍ كافية تجعله يرتعد في حضرته. كان بول يعيش مرةً أخرى في ظل حكومةٍ تديرها الطبقة العاملة، ولكن هذه المرة لم يكن عبدًا بالأجرة، ولا عاملًا بديلًا يرتدي الزي العسكري، وإنما رجلٌ حر، سيد المستقبل. إذن، في غرفة الفندق القذرة هذه، جلس باني مقابل أحد الحواريين، بول، بملامحه الحازمة المتجهمة وجسده المعتاد على الكدح؛ كان بول التجسيد الحقيقي لمناصر الطبقة العاملة المتفاني!

وكانت جميع المعجزات التي سيُشاركها حقيقية. أولًا، حدثَت معجزة روحية؛ إذ دافع مائة مليون شخص عن سيادتهم وسقط الحكام والمستغلون، بمن فيهم الملوك والكهنة والرأسماليون، وكل هؤلاء الطفيليين. لقد كانت أيضًا معجزةً مادية لأن هؤلاء المائة مليون شخص تحكَّموا في منطقةٍ شاسعة، تُعادِل سدس مساحة العالم، وكانوا يبنون حضارةً جديدة؛ لتكون نموذجًا يُحتذى به لمن سيأتون بعدهم. لقد كانوا فقراء، بالطبع؛ إذ بدءوا العمل في حُطام دولة. ولكن ما أهمية بضع سنوات، وقليلٍ من الجوع، مقارنةً بدهور من المعاناة التي تحمَّلوها؟

وصف بول ما رآه في موسكو. أولًا، حركة الشباب؛ إذ تعلَّم جيلٌ جديدٌ بالكامل أن يكون حرًّا وثاقب الفكر، لمواجهة حقائق الطبيعة وخدمة الطبقة العاملة بدلًا من استغلالها وتكوين مجموعةٍ من الطفيليين! كان من الممكن رؤية هؤلاء الشيوعيين الشباب في الفصول الدراسية، وفي الملاعب الرياضية، وفي الشوارع، وهم يسيرون ويغنُّون ويسمعون الخطب، وقد خاطب بول نفسُه عشرات الآلاف منهم، مستخدمًا لغته الروسية المحدودة، وكانت تلك أهم تجربةٍ في حياته. ومنذ تلك اللحظة، لم يعُد لديه سوى مهمةٍ واحدة لما تبقَّى من حياته، وهي مشاركة قصة العمال الشباب في روسيا مع العمال الشباب في أمريكا. وبدأ بمشاركتها مع باني!

وتحدَّث عن الاجتماعات التي حضرها، والتجمُّعات الدولية التي نُوقشَت فيها الخطط المستقبلية للأحزاب السياسية في العالم. وبالطبع أعرب باني عن اعتراضه على هذا الأمر. هل كان بول يعتقد حقًّا أنه من الممكن لحزبٍ سياسيٍّ أمريكي أن يُحدَّد مساره في دولة أجنبية؟ فابتسم بول واعترف بأن الأمر صعب؛ إذ لم يتمكَّن القادة الروس من فَهْم مدى تخلُّف أمريكا من الناحية التاريخية. ولكن ماذا كان البديل؟ هل يرغبون حقًّا في نظامٍ عالمي أم لا؟ وإذا سمحوا لحزب كل دولة بتحديد مساره الخاص، فسوف تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب؛ حيث يُطلِق بعض الأفراد على أنفسهم الاشتراكيين، ويتولَّون السلطة باسم الاشتراكية، ولكنهم في الحقيقة وطنيون مستعدُّون لدَعْم المستغلين في بلادهم في حروبهم ضد المستغلين من بلدانٍ أخرى.

كان هذا ما يُشكِّل تهديدًا للإنسانية، وكان الحل الوحيد هو اتباع مسار الأممية الثالثة؛ أي تكوين حكومةٍ عالمية والتأكُّد من اتباع توجيهاتها. كان المقر الرئيسي للحكومة العمالية العالمية في موسكو؛ لأنه في أي مكان آخر، سيُسجَن المندوبون أو يُغتالون، كما حدث في جنيف. ولكن، قبل مرور عدة سنوات، ستعقد الأممية الثالثة مؤتمرًا في برلين، ثم في باريس ولندن، وفي نهاية المطاف في نيويورك. سيحضُر ممثلون عن العمال من جميع أنحاء العالم، وسيُصدِر هذا المؤتمر توجيهاته؛ لإجبار الدول على وقف صراعاتها، ذلك مؤكَّد! هذا ما اعتقَدَه بول، وكالعادة، انجرف معه باني في موجة الحماس.

٥

كان هناك الكثير من الأشياء التي أراد باني أن يعرفها. فاصطحب بول لتناول العشاء في مقهًى مفتوح، واتباعًا للتقاليد الفرنسية، أمضَيا معظم المساء في المقهى يتسامران. تحدَّث بول عن المدارس، وعن أحدث التطوُّرات في مجال التعليم التي بدأَت في أمريكا ولا يمكن تطبيقها إلا في روسيا. كما تحدَّث عن الأوراق البحثية والكتب، وترجمة كتابات الكتَّاب المعاصرين والتقدُّميين ونَشْر أعمالهم في نصف القارتَين. وتحدَّث أيضًا عن الصناعة، والجهود الهائلة التي يبذلها الناس لبناء عالمٍ حديث من الصفر، دون رأسِ مال أو مساعدةٍ خارجية. ووصَف بول صناعة النفط في ظل النظام السوفييتي هذا بأنها منظمةٌ خاضعة للحكومة معتَرَف فيها بنقابات العمال، ويُمنح العمال فيها الفرصة لإبداء رأيهم في شئون العمل. كما نشَر العمال أوراقهم البحثية الخاصة، وكوَّنوا أنديةً ومجموعاتٍ تُشارك في الأنشطة المتعلقة بالدراما، وزرعوا ثقافةً جديدة تتمحور حول الصناعة بدلًا من الاستغلال.

ثم، بالطبع، سأله باني عن روث، وعن اعتقاله، ومحاكمته، وعما ينوي فعله في الوقت الحالي. كان بول في طريق عودته إلى أمريكا، ومن المحتمل أن يتم تكليفه بتنظيم الأنشطة في كاليفورنيا؛ لأنه كان على درايةٍ كبيرة بالمنطقة. كان قد عقَد اجتماعاتٍ سريةً مع العمال في بارادايس حتى افتُضِح أمره في النهاية، وطُرد من المنطقة التي وُلد وعاش فيها معظم حياته تقريبًا! لكن لا بأس من ذلك لأن الحزب أنشأ «نواة»، كما يُطلِقون عليها، في المنطقة، وكانت الكُتيبات تُوزَّع هناك وتُقرأ.

أخبره باني عن تجاربه في فيينا، وكيف أن مقاله عن رومانيا قد سُرِق، فقال بول إنه في كل عاصمةٍ أوروبية يُوجد جواسيسُ عددهم أكثر من عدد القمل. ومن المحتمل جدًّا أن يكون هناك عميلٌ يجلس على إحدى الطاولات القريبة، ويحاول التنصُّت على محادثتهما. كانت أمتعة بول تُفَتَّش كل بضعة أيام. فقد كانت الحكومات الحمقاء تحاول قمع الحركة العمالية، وفي الوقت نفسه تكدِّس الأسلحة استعدادًا للحرب المرتقبة، التي من شأنها أن تجعل صعود البلشفية أمرًا حتميًّا كشروق الشمس!

«هل تعتقد حقًّا أنه ستكون هناك حربٌ أخرى يا بول؟»

فضحك بول. وقال: «اسأل صهرَك الموقَّر! فهو يعلم.»

«لكنه لن يخبرني. فنحن لا نكاد نتبادل حديثًا.»

فأجاب بول بأن امتلاك الأسلحة يؤدي تلقائيًّا إلى إشعال الحروب؛ لأن الرأسماليين الذين يصنعونها يحتاجون إلى التأكد من استخدامها لكسب المزيد من المال؛ ومن ثَمَّ صُنع المزيد منها. فأعرب باني عن رعبه من فكرة قيام حربٍ أخرى، فأجاب بول قائلًا: «إذن لا تفكِّر في الأمر؛ فإن ذلك يجعل من السهل على رجال الأعمال إعداد العدة لها.»

وبعد لحظة من التأمل، تابع بول قائلًا: «أثناء سفري في أوروبا، وجدتُ نفسي أفكِّر في تلك الليلة التي التقينا فيها أنا وأنت لأول مرة. هل تتذكَّر ذلك يا بني؟»

عندما قال باني إنه يتذكَّر، تابع بول: «لم أكن داخل غرفة معيشة عمتي، ولم أشاهد هؤلاء الأشخاص الذين أتَوا لاستئجار قطع الأراضي الخاصة بنا، لكنني تنصَّتُّ من الخارج وسمعتُ الشجار، والآن، بينما أسافر حول أوروبا، أقول لنفسي إن هذه هي الدبلوماسية العالمية. شجار حول رخصةٍ للتنقيب عن النفط! فكل دولة تكره الدولة الأخرى، وتشكِّل تحالفات وتتعهَّد بالولاء، لكن الدول يخون بعضها بعضًا قبل حلول الليل، وليس هناك كذبةٌ لم ينطق بها حُكامها ولا جريمة لم يرتكبوها. هل تتذكَّر هذا الشجار؟»

تذكَّر باني تلك الليلة جيدًا! تذكَّر الآنسة سنيب، التي لم يكن يعرف اسمها، ولكن تبادَر إلى ذهنه وجهها المُحمَر من الغضب. «دعني أؤكِّد لك، لن تجبرني أبدًا على التوقيع على تلك الورقة، ولا حتى بعد مليون عام!» وكان هناك السيد هانك، الرجل ذو التعبير الصارم، وهو يصرخ: «دعيني أؤكد لكِ، القانون سيجبركِ على التوقيع عليها»؛ الفرق هو أنه لا يُوجد قانون في الدبلوماسية الأوروبية! وأيضًا كانت هناك السيدة جرورتي، عمة بول، تَحدجُ السيد هانك بغضَبٍ وتُطبِق قبضتَها كما لو كانت تخنقُه. «لقد كنتَ أنتَ من يصرخ من أجل حقوق أصحاب الأراضي الصغيرة! وكنتَ من ينادي بالحصول على حصصٍ متساوية؛ يا لك من لئيم!»

قال بول: «لقد أعمى الجشع بصيرتهم، لدرجة أنهم كانوا على استعدادٍ للتضحية بفرصهم الخاصة لمجرد الانتصار على الآخرين. لقد فعلوا ذلك بالضبط، وأظن أنك قلتَ لي إنهم تخلَّوا عن عقد الإيجار مع والدك. والجميع في الحقل فعلوا الشيء نفسه. لا أعرف إذا كنتَ تعلم عن البيانات الحكومية الخاصة بحقل بروسبكت هل؛ الأموال التي أُنفِقَت في حفره أكثر من إجمالي الأرباح من النفط المستخرَج!»

قال باني: «نعم، بالطبع. لقد شاهدتُ أبراج الحفر هناك حيث كانت منصاتها في الواقع متلامسة.»

«الجميع يُهرعون لاستخراج النفط، وينفقون أكثر مما يكسبون؛ أليس هذا انعكاسًا للرأسمالية؟ ثم الحرب! هل تتذكَّر كيف سمعنا الجلبة، وهُرعنا إلى النافذة، ورأينا رجلًا يلكم آخر في أنفه، بينما كانت الغرفةُ بأكملها في حالة من الفوضى، والناس يصرخون ويحاولون فضَّ الشجار أو الانضمام إليه!»

«قال أحدهم: «أيها الجبان المخادع الخائن!» وقال الآخر: «خذ أيها الجبان الرعديد!»»

«يا بُني، كان هذا صراعًا بسيطًا على النفط! وبعد عامٍ أو عامَين، بدأ الصراع الكبير، وإذا كان هناك أي شيءٍ تجده مُحيرًا بشأنه، فتذكَّر فقط ما حدَث في منزل عمتي. وتذكَّر أنهم كانوا يتقاتلون من أجل فرصةٍ لاستغلال عُمال النفط؛ لتقسيم الثروة التي كان عُمال النفط سيولدونها؛ ففي خِضَم جشعهم الشديد، تسبَّبوا في إيذاء أو قتل ثلاثة وسبعين بالمائة من جميع الرجال الذين استأجروهم للعمل في بروسبكت هِل؛ هذه أيضًا إحصاءاتٌ حكومية! ألا يمكنك أن ترى كيف يعكس هذا الحرب العالمية بالضبط؟ كان العمال هم الذين يُقاتِلون، بينما يستفيد المصرفيون من السندات!»

٦

كان هناك العديد من الموضوعات التي تناقشا فيها! أخبر باني بول بقصة إيلاي التي لم يكن بول قد سمع بها. ذكَر بول أن الأمر كان مفهومًا لأن إيلاي كان دائمًا شخصًا يطارد النساء. لقد كان هذا أحد الأسباب التي جعلَت بول ينفر من وعظ أخيه. قال: «لا أمانع لو كان لديه صديقة، لكنه يُنكِر حقي في أن أكون مع صديقتي. إنه يُلقي المواعظ بشأن نموذجٍ أحمقَ للزهد، ثم يذهب سرًّا ليفعل ما يحلو له.»

رأى باني فرصةً كان يبحث عنها. فتَحمَّس فجأة. وقال: «بول، هناك شيءٌ أريد أن أخبرك به. طوال السنوات الثلاث الماضية وأنا أعيش مع ممثلةٍ سينمائية.»

أجاب بول: «أعلم ذلك؛ لقد قالت لي روث.»

«روث!»

«نعم، لقد قَرَأَت شيئًا عن ذلك في الصحف»، ثم قال بول بعد أن قرأ أفكار صديقه: «كان على روث أن تتصالح مع حقيقة أن العالم على النحو الذي هو عليه، وليس كما تريده.»

فسأله باني: «وما رأيك في ذلك يا بول؟»

«حسنًا يا بني، يعتمد الأمر على ما تشعُر به تجاه الفتاة. إذا كنتَ تُحبها حقًّا، وهي تحبك، أظن أنه لا بأس بذلك. هل أنت سعيد؟»

«كنا سعيدَينِ في البداية، وما زلنا كذلك في بعض الأحيان. المشكلة هي أنها تكره الحركة الراديكالية بشدة. إنها بالطبع لا تفهمها.»

فأجاب بول: «هناك أناسٌ يكرهون الحركة الراديكالية لأنهم لا يفهمونها، وهناك من يكرهونها لأنهم يفهمونها.» وبعد أن فكَّر باني في هذا الأمر للحظة، تابع بول: «ستحتاج إما إلى إعادة النظر في معتقداتك وإما إلى الانفصال عن الفتاة. الشيء الوحيد الذي أنا متأكدٌ منه هو أنه لا يمكنك إقامة علاقةٍ سعيدة إلا إذا كانت مبنيةً على أفكارٍ متناغمة. وإلا فسوف تتجادلان باستمرار، أو على الأقل ستشعُران بالملل.»

«هل سبق لك أن عشتَ مع امرأة يا بول؟»

«لقد كنت منجذبًا بشدة لفتاة في إنجِل سيتي، وربما كان من الممكن أن أكون معها. ولكن كان ذلك منذ عامَين، عندما عرفتُ أنني سأصبح من البلاشفة، وكنتُ أعلم أنها لن تقبل ذلك؛ لذا ما الفائدة؟ ينتهي بك الأمر إلى الوقوع في دوامة من العواطف، وإضاعة الوقت الذي يجب أن تقضيه في العمل.»

«لطالما تساءلتُ عن أفكارك وعن مثل هذه الأشياء. لقد كنتَ تفكِّر بالطريقة التي يتحدث بها إيلاي عندما التقينا لأول مرة.»

ضحك بول. وقال: «ما كنتُ لأحتفظ بخرافاتي المسيحية عندما أصبحتُ منظِّمًا شيوعيًّا. لا يا بني، ما أعتَقِده هو أن عليك إيجاد امرأة تحبها حقًّا، وتريد أن تشارككَ عملك، وتريد أن تستمر معك، ثم تستطيع أن تعيش معها، ولن تحتاج إلى أي كاهنٍ ليمنحك الإذن. في يومٍ من الأيام، أَفترضُ أنني سأقابل رفيقة — أفكِّر في الأمر كثيرًا بالطبع — فأنا لستُ شخصًا عديم الشعور. لكنني يجب أن أنتظر وأرى ما سيحدُث في محاكمتي. لن أكون ذا نفعٍ لفتاة إذا اضطُرِرتُ إلى قضاء عشرين عامًا في ليفنوورث أو أتلانتا!»

٧

كان من المقرَّر أن يتحدث بول في اجتماع للشيوعيين في المساء التالي، وكان على باني أن يحضُر ذلك الاجتماع بالطبع. ولكن ماذا سيفعل مع فِي؟ فهي لن تكون مهتمة بسماع بول يتحدث عن روسيا؛ لأنها سمعَت عنها بالفعل من صديقها الأمير ماريسكو. فتذكَّر باني الأب وجلسات تحضير الأرواح، وفكَّر في حيلة، وهي أن يجعل الأب يتصل بفِي؛ ليخبرها عن جلسةِ تحضيرِ أرواحٍ مثيرة يخطِّطان لحضورها في ذلك المساء. فوافقَت فِي على الحضور، واعتقد باني أنه أصبح الآن حرًّا.

ولكن عندما اقترب موعد الغداء، اتصلت به بيرتي هاتفيًّا. وقالت له: «إذن صديقك القديم بول موجودٌ هنا في باريس!»

فُوجِئ باني عند سماع ذلك؛ إذ كان يظن أنه أبقَى الأمرَ سرًّا. ثم ضحك قائلًا: «يبدو أن خِدمتَك السرية القديمة كانت تقومُ بعملها!»

ردَّت أخته: «لقد ظننتُ فقط أنك ستكون مهتمًّا بأن تعرف؛ صديقك القديم بول لن يتحدث الليلة. لقد اعتقلَته الشرطة.»

«من أخبركِ بذلك؟»

«لقد أبلغوا السفارة للتو. وسيتمُّ ترحيله؛ في الواقع هو في طريقه الآن.»

«يا إلهي، هل أنتِ متأكدة يا بيرتي؟»

«بالطبع، أنا متأكدة. هل كنتَ تعتقد أنهم سيسمحون له بإلقاء خطاباتٍ بلشفية في فرنسا؟»

«أعني، هل أنتِ متأكدة من أنهم سيرحِّلونه؟» كان باني قد سمع الكثير عن كيفية معاملة الحمر، وكان يعلم أنهم في جميع أنحاء أوروبا كانوا يسيرون على نهج الشرطة الأمريكية، المتمثِّل في ضرب السجناء بالخراطيم المطاطية التي لا تترك آثارًا مرئيةً على الجلد. لذلك، بدأ جدالٌ حادٌّ عَبْر الهاتف، وكان باني في حالةٍ من الذعر، وأصَر على معرفة المسئول الذي قدَّم هذه المعلومات إلى إلدون، ولكن بيرتي أصرَّت على أن باني لا ينبغي أن يتسبَّب في فضيحةٍ أخرى في باريس، مما قد يعرِّضه لخطر ترحيله وربما الإضرار بسمعة صهره في جميع أنحاء أوروبا.

وفي النهاية، أغلق باني الهاتف واتصل بمكتب الصحيفة الشيوعية. هل هم على علم باعتقال الرفيق بول واتكينز، أو بول فوتكان، كان من الضروري أن يقول الاسم هكذا. لا، لا يعرفون شيئًا عن ذلك، ولكنهم سيُحاولون التقصِّي عن الأمر. ثم ركب باني على عَجلٍ سيارة أجرة وهُرع إلى مكتب مديرية الشرطة؛ حيث استُقبِل بطريقةٍ تفتقر إلى الكياسة التي اعتاد مسئولو الشرطة إظهارها عند التعامل مع الشباب الذين يرتدون ملابسَ أنيقة. لم تكن لديهم أي معلوماتٍ لإعطائها بخصوص الأمريكي الذي يُدعى بول فوتكان، لكنهم كانوا مهتمين بجمع معلومات عن أمريكيٍّ آخر يُدعى جيه أرنولد روس، وإلى متى كان يتوقع استغلال ضيافة الحكومة الفرنسية، من خلال إعطاء مبالغَ مالية لأعداء الأمن العام.

في هذه الأثناء، كانت بيرتي تشعُر باليأس، فطلبَت مِن فِي تريسي أن تبذل المزيد من الجهد في إثناء باني عن التورُّط في هذه الأعمال البشعة. فوافقَت فِي على إجراء محاولةٍ أخيرة للمساعدة، محاولةٍ واحدة. ثم أبعَدت سماعة الهاتف عن أذنها وأمرَت خادمتها أن تحزم أغراضها، وعندما عاد باني من زيارته للشرطة، وجد رسالةً في صندوق بريده:

«عزيزي باني: لقد اكتشفتُ للتو سبب حضوري جلسةً روحانية الليلة بدلًا من الذهاب إلى الأوبرا معك! لقد حانت اللحظة التي يجب أن تختار فيها بيني وبين أصدقائك الحمر، وقد انتقلتُ إلى فندقٍ آخر حتى تتخذ قرارًا. يُرجى إبلاغ قرارك في رسالة. لا تُحاوِل مقابلتي شخصيًّا؛ لأنني لن أتحدث معك حتى يتم تسوية هذه المسألة. إذا كان ذلك يعني أننا يجب أن نفترق، فأنا أُفضِّل اتخاذ قرارٍ سريعٍ ونهائي. فلم يعُد بإمكاني تحمُّل الإهانة الناتجة عن ارتباط اسمي بمجرمين خطرين، وما لم تعلن أنك تُحبني بما يكفي لتغيير رفاقك، فإنك لن تراني مجددًا. خذ بعض الوقت للتفكير في الأمر، ولكن ليس كثيرًا. المخلصة فِي.»

في واقع الأمر، لم يكن باني بحاجة إلى أي وقتٍ إضافي. فحتى عندما كان يقرأ الرسالة، كان هناك صوتٌ بداخله يخبره بأنه كان يتوقع ذلك. وبعد أن هدأ من صدمته الأولى، جلس وكتب ردًّا:

«عزيزتي فِي: لقد أمضينا معًا أوقاتًا رائعة. وقد عانيتُ لفترةٍ طويلة لأني كنتُ أعلم أن كل شيءٍ بيننا سينتهي. لن أُهدِر وقتك في محاولة الدفاع عن معتقداتي؛ فلديَّ أفكارٌ ومعتقداتٌ لا يمكنني التخلي عنها بالقَدْر نفسه الذي لا يمكنك به التخلي عن معتقداتك وأفكارك. أتمنى لكِ كل السعادة التي يمكنُ أن تهبَها لكِ الحياة، وأتمنى ألَّا تحملي مرارةً في قلبك؛ لأن هذا أمرٌ لا أستطيع تغييره. وإذا أتى وقتٌ يمكنني فيه تقديم المساعدة لكِ، فسأكون طَوعَ أمرك. وبالمودة نفسها، الأرنب باني.»

٨

لا يمكن لباني إهدار الوقت بالانغماس في أحزانه؛ فعليه أن يسرع بالاتصال بالشيوعيين الفرنسيين، وأن يعرض عليهم تَحَمُّل تكاليف توكيل أحد المحامين ليتولى الإجراءات القانونية، ويعرف ماذا يحدث لبول. ولكن، في واقع الأمر، اتضح أن جهوده لم تكن ضرورية؛ لأنه في صباح اليوم التالي، نشرَت جميع الصحف خبرًا: اصطحبَت السلطات مُحرِّضًا بلشفيًّا أمريكيًّا معروفًا إلى هافر، ووضعَتْه على متن سفينةٍ بخارية للإبحار في ذلك اليوم. وعلَّقَت الصحيفة الشيوعية في تقريرها بسخريةٍ قائلةً إن هذا المُحرِّض البلشفي بالتحديد كان شخصًا لا تستطيع الحكومة الأمريكية منع دخوله؛ إذ إنها دفعَت كفالة بقيمة عشرين ألف دولار مقابل مثوله أمام المحكمة! اتخذ باني، الذي لم يثِق بالسلطات الفرنسية، الاحتياطات اللازمة بإرسال برقية إلى بول على متن السفينة مع ردٍّ مدفوع مسبقًا، وبعد ساعاتٍ قليلة، تلقى الرسالة «في الطريق إلى بارادايس»، وهي رسالةٌ مشفَّرة من بول!

بعد ثلاثة أيام، تلقَّى باني رسالة من حبيبته، ليست رسالةً مشفرة هذه المرة، ولكن إعلانًا عامًّا ليراه العالم كله. أعلنَت الصحف في باريس وفي جميع العواصم الأخرى، عواصم مدغشقر وباراجواي ونوفا زيمبلا والتبت وغينيا الجديدة، خبر خطوبة الممثلة السينمائية الأمريكية فيولا تريسي على الأمير ماريسكو، أمير رومانيا، ومن المقرَّر أن يُقام حفل زفافهما في كاتدرائية بوخارست الكبرى، وستحضُر الملكة ماري بنفسها الزفاف. وقد قام فريق العلاقات العامة الماهر في شمولسكي-سوبربا بتنفيذ العديد من الحِيَل الدعائية من قبلُ، ولكن لم يكن أيٌّ منها ناجحًا مثل تلك التي سلمها لهم القدَر دون أي جهد أو تكلفة!

وهكذا انتهى فصلٌ من حياة باني. تم إغلاق الباب الذي يربط جناحَه الفندقي بجناح في، ووُضعَت قطعة أثاث أمامه. ومع ذلك، لا يمكن لأي قطعة أثاث أن تحجُب الذكريات في ذهن باني! لا شيء يمكن أن يمحو صورة تلك الفتاة البيضاء الرشيقة، المفعمة بالحيوية والمتحمسة، وذكرى السعادة التي جلبَتها إلى حياته. لقد أصيبت روحه، كما أصيب جسد ضحايا الإرهاب الأبيض — والسبب واحد!

كانت هناك نساءٌ من مختلف الأنواع والأحجام، محليات وأمريكيات، شابات يتبعْنَ الموضة، حريصات على جذب انتباه أمير النفط الشاب. لقد كُن على علم بعلاقته الماضية وحسرة قلبه الأخيرة، وقالت لهن أمهاتهن الذكيات نصيحةً قديمة معروفة للنساء، منذ أن عرف الإنسان المغازلة؛ «انتهزي الفرصة عندما يكون الرجل مجروحًا عاطفيًّا!» تمَّت دعوة باني لحضور حفلات الشاي والحفلات الراقصة، ولكنه في أغلب الأحيان كان يذهب إلى اجتماعات الحزب الاشتراكي، وعندما كان يفكِّر في النساء، كان يسرح بخياله في إنجِل سيتي. كانت روث واتكينز لطيفةً وهادئة، ولكنها شجاعة، ولم تتخلَّ عن شقيقها حتى عندما اعتنَق البلشفية! وكانت رايتشل مينزيس فتاةً مثابرة وجادة؛ إذ كانت تُرسل لباني خطابًا من أربع صفحات بانتظام مثل الساعة، به جميع المعلومات التي يريد معرفتها. وكانت تُرسل له مرةً واحدة في الشهر بيانًا مفصَّلًا ودقيقًا دائمًا بالإيصالات والنفقات، كانت تكتبُه بنفسها بالآلة الكاتبة، وتم تخصيص أي دولاراتٍ متبقية لعيناتٍ من النسخ، مما يضمن أنه لن يكون لديه أبدًا فائضٌ ولا عجز!

٩

في شهر سبتمبر، جاء الأب ومعه بعض الأخبار التي تردَّد في قولها لباني، ودبَّ الاحمرار في وجهه عندما بدأ الحديث. قال: «كما ترى يا بني، لقد أصبحتُ صديقًا مقربًا لأليس؛ نحن نتشارك الأفكار نفسها، ونعتقد أنه يمكننا دعم أحدنا الآخر.»

«نعم يا أبي، بالطبع.»

«حسنًا، الأمر هو — في الواقع — لقد كنتُ أثقِل عليك لفترةٍ طويلة، لكنك الآن ستحصل على حريتك؛ لأنني طلبتُ من أليس الزواج، ووافقَت.»

«حسنًا يا أبي، كنتُ أتوقع حدوث ذلك منذ فترةٍ طويلة. وأنا متأكِّد من أنك ستكون سعيدًا.»

بدا الأب مرتاحًا بشكل واضح — هل كان يخشى أن تنتاب باني نوبةُ غضب، على غرار بيرتي؟ فسارع الأب إلى القول: «أريدك أن تعلم أنني وأليس قد ناقشنا هذا الأمر، واتفقنا، إنها معجبة بك وتقدِّر وقوفك إلى جانبي وكل هذا، وتريد أن توضِّح لك أنها لن تتزوَّجني طمعًا في ثروتي.»

«لا يا أبي، لا أظن ذلك.»

«حسنًا، أنت تعرف بيرتي وآراءها. إن بيرتي مادية، أعتقد أنها تتبنى أسلوب والدتها. على أية حال، لن أناقش هذا الأمر معها؛ فهذا ليس من شأنها، وسنتزوَّج في حفلٍ بسيط، ويُمْكِن لبيرتي معرفة الخبر من الصحف. هذا ما أخطِّط لفعله، لقد قالت أليس إنها لم يكن لها أي دور في مساعدتي في جمع ثروتي، وإنها لا تريد أن يكرهها أبنائي إذا حصلَت على حصةٍ كبيرة من الثروة.»

«أوه، لكنَّني لن أكرهَها يا أبي!»

«لقد اتفقنا على أن أكتُب وصية، وأن أترك لها مليون دولار، وسيتمُّ تقسيم الباقي بينك وبين بيرتي، وأليس ستكون راضيةً بذلك؛ فهذا المبلغ كافٍ لإشباع شغفها بالأعمال الروحانية. هي تريد أن تفعل ذلك …»

«نعم يا أبي، أفهم ذلك. فأنا أيضًا أشارك في نشر الأفكار!»

«أعلم ذلك يا بُني. وما كنتُ أفكِّر فيه هو أن لديك الحقَّ في التعبير عن آرائك. وعلى الرغم من أنني لا أتفق مع آراء تلك الصحيفة الصغيرة، فإنني أرى أنها صادقة، وتعكس معتقداتك؛ لذا سأقوم بتحويل ما يزيد عن مليون دولار من أسهم روس إليك، ويمكنك استخدامها كما يحلو لك. أتمنى ألَّا تصبح بلشفيًّا مثل بول، وآمل ألَّا تجد نفسك في نهاية المطاف في السجن.»

«سيكون من الصعب جدًّا دخولي السجن إذا كان لديَّ مليون دولار يا أبي.»

ابتسم الرجل المسن؛ فلم يُخرِج الوسطاء ولا الأرواح بعدُ الشيطان القديم تمامًا من جسده. وتابع قائلًا إنهم بالطبع لن يرثوا الكثير من المال كما كان يعتقد. فالدعاوى القضائية الحكومية ستأخذ جزءًا كبيرًا من المال؛ فبلا شكٍّ سيهيئ السياسيون الأمر بحيث يضمنون خسارة الأب وفيرن. قد يكسبون بالطبع مالًا كثيرًا من هذه الصفقات الخارجية الجديدة، لكن ذلك لم يكن مؤكدًا، ولم يكن الأب مهتمًّا بمتابعة الأمر؛ بل ترك ذلك لفيرن.

«ما هي خططك أنت والسيدة أليس يا أبي؟»

«في الواقع، نودُّ أن نقضيَ ما يمكن أن نطلق عليه شهرَ عسلٍ روحانيًّا. سنزور ذلك الوسيط في فيينا، وسمعنا أيضًا عن وسيطٍ آخر في فرانكفورت. وسيعتمد الأمر أيضًا على ما تريده أنت. ربما ستعود إلى كاليفورنيا.»

«أعتقد أنني سأفعل ذلك يا أبي لبعض الوقت، إذا كنتَ متأكدًا من أنك تستطيع تدبُّر الأمر بدوني.»

نعم، قال الأب إنه وأليس سيكونان على ما يُرام؛ فقد تَعَلَّم سكرتيره ما يكفي من اللغة الفرنسية لتلبية احتياجاتهما، وكانا يخطِّطان للاستعانة بمرشد أو مترجم خلال فترة إقامتهما في ألمانيا. كان يأمل أن يكون الطقس مناسبًا له؛ فهو لا يتمتَّع بصحةٍ جيدة هذه الأيام. فقد أثَّرَت الإنفلونزا التي أصيب بها على صحته.

تم إجراء الخطوات الأولية، وارتدى كلٌّ من باني ووالده والسكرتير والسيدة أليس هنتنجتون فورسايث أوليفييه من الثياب أرقاها، وذهب الجميع إلى عمدة بلدةٍ صغيرة في ضواحي باريس وتم الزواج رسميًّا، وقبَّل باني زوجةَ أبيه الجديدة على خدَّيها، وفعل العمدة الشيء نفسه، كما قبَّل باني والأب على خدَّيهما. وبعد ذلك، أخذ الأب باني جانبًا وسلَّمَه مظروفًا في يدَيه. كان بالداخل أمرٌ موجَّه إلى فيرن بنقل ٣٢٠٠ سهم من أسهم روس كونسوليديتد من الفئة ب، التي تقدَّر قيمتها بما يزيد قليلًا عن مليون دولار في السوق. أوضح الأب أن هذه الأسهم تُسمى «شهادات الشارع» لقد وَقَّع عليها بالفعل وتركَها مع فيرن، في حال أرادوا بيعها. قال الرجل العجوز: «والآن يا بني، كن رشيدًا في إنفاق هذا المبلغ الكبير من المال. خُذ وقتك، واتخذ قراراتٍ مدروسةً جيدًا، ولا تقع فريسةً للمحتالين الذين سيظهرون فور معرفتهم بوجود هذا المبلغ معك!»

لم يتغيَّر الأب قطُّ! وتبادلا عناقًا حارًّا، وانهمرَت الدموعُ من أعينِ الجميع، حتى السكرتير، وحتى العمدة ومساعديه، الذين لم يسبق لهم أن سمعوا عن هذا الأجر الضخم لحفلات الزفاف؛ الأمريكيون أشخاصٌ رائعون حقًّا! وتعهَّد باني ووالده بأن يُبقي أحدهما الآخر على علم بأخباره، وقال باني إنه سيعود إلى فرنسا في الصيف المقبل إذا لم يتمكَّن الأب من المجيء إلى أمريكا، وأعرب الأب عن ثقته في أن فيرن سوف يُصلح كل شيء قبل ذلك الوقت. ثم قبَّل باني زوجة أبيه مرةً أخرى، وعانق الأب مرةً أخرى وصافح السكرتير؛ لقد كان وداعًا عاطفيًّا وصادقًا، ووقف المسئولون وأطفال الشوارع على الرصيف يتابعون المشهد، مُحدِّقين في السيارة الفاخرة وفي ركَّابها الأمريكيين الأثرياء. سيكون باني سعيدًا عندما يتذكر هذه اللحظة بعد سنوات؛ فعلى الأقل تسلَّلَت السعادة إلى قلب هذا الرجل العجوز لمرةٍ واحدة! وبعد انتهاء الثرثرة والرسائل والزهور، والعناية بالأمتعة والتأكد من أن الملابس في أماكنها الصحيحة، تحرَّكَت السيارة أخيرًا، وسط التلويح بالأيدي والهتافات، وتوجَّها إلى جلسةٍ روحانية في فرانكفورت أم ماين!

استقل باني القطار عائدًا إلى باريس، وكتب رسالتَين؛ واحدة إلى روث واتكينز والأخرى إلى رايتشل مينزيس، يعلن فيهما عن عودته إلى الديار دون إظهار محاباة لأيٍّ منهما! ثم اشترى إحدى الصحف ووقعَت عيناه على مقالٍ إخباريٍّ قصير بعنوان «حريق النفط الهائل في كاليفورنيا.» وذكر المقال أن صاعقةً ضربت أحد صهاريج التخزين التابعة لشركة روس كونسوليديتد للنفط في بارادايس بولاية كاليفورنيا، وبسبب الرياح العاتية، لم يُعتقد أنه من الممكن إنقاذ أي جزءٍ من حقل صهاريج التخزين، وقد يُدمَّر الحقل بأكمله.

عندما عاد باني إلى الفندق، وجد برقيةً من إنجِل سيتي. كان من المستحيل تقديرُ حجم الأضرار، لكن لدَيهم تغطية تأمينية كاملة، فلا داعي للقلق، وتم توقيع البرقية باسم «إيه إتش دوري»، التوقيع الذي لا يزال يستخدمه فيرن عندما يريد أن يكون مرحًا. أرسل باني بدوره هذه الرسالة إلى والده، وسأله عما إذا كان بإمكانه تأجيل سفره، لكن الأب أجاب بأنه لا يمكنه ذلك، ويمكن لباني إخباره بما يريد عن طريق الرسائل أو البرقيات، وسيكون الأب سعيدًا إذا سافر باني إلى الحقل لإطلاعه على ما يجري هناك. وكتب في النهاية «مع الحب وأطيب التمنيات» وكانت تلك هي آخر كلماتٍ كتبها الأب لباني، باستثناء الاتصالات عَبْر عالم الأرواح!

١٠

استقل باني باخرة أبحرت في المحيط؛ لقد كانت واحدةً من تلك الفنادق العائمة، مثل الفندق الذي كان يقيم فيه في باريس، كانت السفينة مجهزةً على طراز القصور، بها زخارفُ مصنوعة من خشب الماهوجني، وستائر ووسائدُ حريرية، وكانت مليئةً بأشخاصٍ من الطبقة العليا الأنيقة يرتدون ملابسَ باهظة الثمن، والنساء يتحلَّيْنَ بجواهرَ براقة، فخمسة آلاف دولار لكل أنثى سيكون تقديرًا متواضعًا للأمسيات في صالون الطعام. ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى بدأَت همسات القيل والقال تنتشر بين الركاب؛ «والده هو قطب النفط في كاليفورنيا، ويقولون إنه يمتلك حقولَ نفطٍ شاسعةً هناك، لكن أحد هذه الحقول مشتعل حاليًّا، بحسب ما جاء في الصحف. روس الذي كان متورطًا في فضيحة، أتَذْكرينه، إنه مختبئ في الخارج منذ عام تقريبًا، لكن يمكن لابنه العودة بالطبع. يقولون إنه كان أحد عُشَّاق فيولا تريسي، لكنها تركَته وتزوجت بذلك الأمير الروماني. انتهزي الفرصة عندما يكون الرجل مجروحًا عاطفيًّا يا عزيزتي!»

وهكذا تعامَل الجميع بلطف مع باني، ورقصَت معه الكثيرات من الفتيات الفاتنات حتى الساعات الأولى من الصباح، وسارت مَن أرادت منهن معه على سطح السفينة بعيدًا عن الأنظار. كن يُحطن به طَوال اليوم، ويرمقنه بنظراتٍ أنثويةٍ مغرية؛ أبدَين اهتمامًا بكل ما يهتم به، حتى الكتاب الذي كان يقرؤه، في حالة إذا تكلم عنه فقط ولم يقرأه لهن. حتى إن بعضهن ادَّعَين اهتمامهن بالاشتراكية، واعترفْنَ أنهن لا يعرفْنَ الكثير عنها، ولكنهن مُشتاقات للتعلُّم. وفي صباح اليوم الثاني من الرحلة، تلَقَّى الاشتراكي الشاب رسالةً لاسلكية غَيَّرت وضعه تمامًا في المجتمع الراقي:

«والدك مريضٌ جدًّا بسبب التهابٍ رئويٍّ مزدوج، يعتني به أفضل الأطباء، سأُبقيك على علمٍ بحالته، أُرْسِل لك تعاطُفي الشديد وحبي، أليس.»

فمشى باني بمفرده على سطح السفينة، وساورَه الشعور بالذنب الذي توقَّعه له فيرنون روسكو. بالتأكيد كان بإمكانه أن يكون أكثر لُطفًا وصبرًا مع والده المُسِن الطيب! بالتأكيد كان بإمكانه بذل المزيد من الجهد لفهمه وتقديم الدعم له! والآن، كان القدَر يأخذه بعيدًا، خمسمائة أو ستمائة ميلٍ كل يوم، وفي أي لحظة، قد تفصلهما مسافةٌ لا يُمكن حسابها. كان والده نفسُه يشعر بدنُو أجله، وتَذكَّر باني كلمات والده، وأدرك أن فكرة الموت كانت تراوده؛ لذا عكف على إعطاء ابنه بعض النصائح الأخيرة.

في البداية، لم يشعر باني إلا بالحسرة. لكن تدريجيًّا، وجد ذهنه عالقًا في الفكرة القديمة التي كانت تشغل تفكيره. هل كان من الممكن للرجال أن يستمروا في فعل ما كان الأب يفعله في إدارة أعماله؟ هل يمكن لأي مجتمع أن تقوم له قائمةٌ على أساس شراء البعض للنفوذ داخل الحكومة؟ قال باني في نفسه لا، لكنه كان يعتقد أيضًا أنه كان ينبغي عليه بذلُ المزيد من الجهد، وإظهارُ المزيد من المحبة، وإقناعُ والده بتغيير أساليبه! ولكن متى كان عليه أن يفعل هذا؟ كان والده متورطًا في شراء النفوذ داخل الحكومة منذ أن كان باني صبيًّا صغيرًا. وكان جميع أباطرة النفط وكبار رجال الأعمال منخرطين في فعل الشيء نفسه، سواء قبل الانتخابات أم بعدها. إذن، في أي مرحلةٍ من حياة الابن يُمكِن له أن يخبر والده أن أسلوب حياته خاطئ، وأن عليه أن يلقي في يده زمام الأمور؟

لم يكن لدى باني أي أفكارٍ جديدة بشأن هذا الموضوع، تمامًا كما حدث في موضوعه مع فِي تريسي. فقد شعَر فقط بالحزن وألم الوحدة! تختفي الأشياء القديمة، وتظل تختفي، أين تذهب؟ إنه لغزٌ محيِّر، في أوقاتٍ كهذه؛ كان الأمر أشبه بالوقوف على حافة الهاوية والنظر إلى الأسفل! كان من غير المعقول تقريبًا أن والده، الذي كان حقيقيًّا جدًّا، وكان جزءًا من حياته لفترةٍ طويلة، يمكن أن يختفيَ فجأة، ولا يظل موجودًا! ولأول مرة، بدأ باني يتساءل هل كانت أليس على حقٍّ بشأن وجود الأرواح؟

وفي وقتٍ لاحق من ذلك المساء، وصلَت رسالةٌ أخرى. جاء فيها: «الحالة كما هي، سأبقيك على اطلاع، مع تعاطفي الشديد وحبي.» تم تضمين هذه الكلمات الأخيرة دائمًا في الرسائل، وفي اليوم التالي لم يطرأ أيُّ تغييرٍ على حالة الأب، وكانت الأزمة متوقَّعة في الغد، وعندما جاء الغد، تدهورَت صحة الأب، ثم جاء الصباح التالي، وتلقَّى باني رسالةً من أليس تقول: «لقد انتقلَت روح والدك من هذا العالم إلى العالم الآخر، لكنه لن يتوقَّف أبدًا عن البقاء معك. لقد تحدَّث عنكَ وهو على فراش الموت، ووعدكَ بأنه إذا تواصلتَ مع وسيطٍ جيد في إنجِل سيتي، فسوف يوجِّه حياتك بالحب والمودة كما كان يفعل دائمًا. أليس» بعد ذلك، تلقَّى رسالة من بيرتي: «كنتُ مع أبي وهو على فراش الموت، وقد سامحني، أطلب منكَ أن تسامحني أنت أيضًا.» عندما قرأ باني هذه الرسالة، اضطُرَّ إلى أن يُهرَع إلى حجرته الفاخرة؛ حيث استلقى وبكى كالطفل. نعم، سيسامحها، أرسل لها برقيةً بذلك، وعسى مَن خلقَهم أن يغفر لهم جميعًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤