الفصل الرابع

المزرعة

١

بعد ذلك بوقتٍ قصير، حان موعد زيارة باني لوالدته.

لم تكن والدة باني تحمل اسم السيد روس كما هو حال أمهات الأولاد الآخرين؛ فقد كانت تُدعى السيدة لانج، وعاشت في منزلٍ صغير في ضواحي مدينة إنجِل سيتي. كان هناك اتفاق يحق لها بموجبه أن تستضيف باني لمدة أسبوعٍ واحد كل ستة أشهر، وكان باني يعرف دائمًا متى يقترب هذا الوقت، وكان يتطلع إليه بمشاعرَ مختلطة. كانت والدته لطيفة، وكانت تمنحه التدليل الذي كان يفتقده في أوقات أخرى، وكانت تطلق على نفسها اسم «الأم الصغيرة الجميلة». ولكن من نواحٍ أخرى، كانت الزيارة محرجة؛ لأنه كان من المفترض إخفاء بعض الأمور عن باني، لكنه شعر بذلك ولم يسَعْه سوى التخمين. كان من شأن الأم أن تسأله عن شئون الأب، وكان باني يعلم أن الأب لا يرغب في أن يتحدث أحدٌ عن شئونه. حينئذٍ أيضًا كانت الأم تشتكي من أنها لا تملك ما يكفي من المال؛ فقد كان الأب يسمح لها بمائتَي دولار فقط في الشهر، كيف يمكن لمطلقةٍ شابة ساحرة أن تعيش بمثل هذا المبلغ؟ ولطالما كانت فاتورة إصلاح سيارتها غير مسدَّدة، وكانت تخبر باني عنها، وتتوقَّع منه أن يخبر الأب، لكن الأب كان من شأنه أن يتهرَّب من الاستماع. وفي المرة التالية، كان من شأن الأم أن تبكي وتقول إن جيم كان طاغيةً وبخيلًا. كان الوضع صعبًا جدًّا الآن؛ لأن الأم كانت قد قرأَت عن البئر الجديدة في الصحف، وعرفَت مقدار الأموال التي تحصَّل عليها الأب، وكشفَت لباني عن خطتها، وهي أنه يتعين عليه أن يحاول إقناع الأب بزيادة المبلغ المخصَّص لها، ولكن دون أن يجعل الأب يشك في أنها مَن اقترحَت ذلك. لكن هذا الطلب جاء بعدما تعهَّد باني بعدم قول الأكاذيب الصغيرة!

كذلك كان هناك لغزٌ حول أصدقاء الأم. فقد كان هناك دائمًا أصدقاءُ رجال يأتون لرؤيتها أثناء وجود باني هناك، وقد يعاملون باني بلطف وقد لا يفعلون. عندما عاد إلى المنزل، وجَّهَت إليه العمة إيما الأسئلة التي اتضح منها أنها كانت تريد أن تستفسر بشأن هؤلاء الأصدقاء الرجال، لكنها لم ترغب في أن يعرف باني ذلك. لاحظ باني أن الأب لم يتطرَّق مطلقًا إلى هذه الأمور؛ فلم يطرح قَط أي أسئلةٍ حول الأم، وكانت العمة إيما تسأل هذه الأسئلة دائمًا أثناء غياب الأب.

كان لكل هذا تأثيرٌ غريب على باني. ومثلما احتفظ الأب بخزينة ودائع في البنك، لا يمكن لأحد سواه الاطلاع عليها، احتفظ باني بمكانٍ سري في ذهنه. فظاهريًّا، كان فتًى مرحًا وصادقًا، وإن كان ناضجًا إلى حدٍّ ما مقارنةً بعمره، لكن طَوال الوقت كان يعيش حياةً مزدوجة؛ حيث كان يلتقط الأفكار من حوله، ويحملها بداخله ويخفيها، كما يفعل السنجاب مع ثمرة الجوز حتى يتمكَّن من الرجوع إليها في موسم لاحق ليقشرها ويأكلها. بعض ثمار الجوز كان جيدًا وبعضها كان سيئًا، وقد تعلم باني كيفية الحكم عليها، والتخلص من الثمار السيئة.

شيءٌ واحد كان واضحًا؛ كان ثمَّة شيءٌ ما يفعله الرجال والنساء، وقد تآمروا جميعًا معًا لمنعك من معرفة ما كانوا يفعلونه. كان ركنًا مظلمًا من الحياة، غامضًا وبغيضًا إلى حدٍّ ما. في البداية، كان باني مخلصًا لوالده، ولم يحاول معرفة ما لا يريده والده أن يعرفه. لكن هذا لم يكن من الممكن أن يستمر إلى أجلٍ غير مسمًّى؛ لأن العقل يسعى تلقائيًّا إلى الفهم. لم يكن الأمر يقتصر على التلميحات التي كانت تعطيها لك الطيور والدجاج والكلاب في الشارع؛ كذلك لم يكن يقتصر على أن كل فتًى في الشارع كان يعرف، وكان تواقًا لأن يشرح، بل كان إصرار الكبار الأغبياء أنفسهم على قول أشياء لم تستطع منع نفسك من فهمها. كان لدى العمة إيما قناعةٌ ثابتة بأن كل السيدات كن يلاحقن الأب، أو كما كانت تقول «يحاولن جذب انتباهه»، أو «يسبِّلن له أعينَهن»، وعبارات أخرى كثيرة من هذا القبيل. وكان الأب يشعر دائمًا بإحراجٍ غريب كلما أظهر القليل من الاحترام لأي سيدة؛ فقد بدا أنه يشعُر بالقلق خشية أن يشارك باني شكوك العمة إيما. لكن الحقيقة كانت أن باني كان منزعجًا من عمته، وتعلَّم التهرب من أسئلتها، وعدم إخبارها بما قاله الأب للسيدة اللطيفة في الفندق عند نهر لوبوس، وما إذا كانت السيدة قد تناولَت العشاء معهما أم لا. اكتسب باني هذه الآداب الدنيوية، لكن كان هناك دائمًا ثورة تجرى سرًّا بداخله. لماذا لا يستطيع الناس التحدُّث بصراحة؟ لماذا كان عليهم التظاهر والتهامس، وجعلك لا تشعر بالراحة؟

٢

في غضون أسبوع من إنتاج بئر روس-بانكسايد رقم ١، بدأ الأب في بناء برجِ حفرٍ جديد في الموقع ذاته، وانتهى من تجهيزه بعد أسبوعٍ آخر، وكانت مجموعة الأدوات القديمة ستُستخدم في الحفر مرةً أخرى. كما كان لديه برجان جديدان قيد البناء، ومجموعتان جديدتان من الأدوات قيد التسليم. ستكون هناك أربع آبار، يقف كلٌّ منها على الزوايا الأربع لشكل المعين، ويبعُد كلٌّ منها عن الأخرى مسافة ثلاثمائة قدم. كان من الضروري استدعاءُ ناقلات منازل، لنقل منزل آل بانكسايد إلى قطعةِ أرضٍ أخرى، لكن هذا لم يزعج السيد بانكسايد، الذي كان قد انتقل بالفعل إلى قصرٍ يطلُّ على المحيط بالقرب من الأب، واشترى لنفسه أثاثًا جديدًا، وسيارةَ ليموزين كبيرةً جديدة، وكذلك «سيارة رياضية»، يقودها للذهاب إلى النادي الريفي للعب الجولف عصر كل يوم. بدأت عائلة بانكسايد تعتاد وجودَ كبير للخدم، وقد رُشِّحت السيدة بانكسايد للانضمام لأكثر نوادي السيدات تميزًا. كانت الفعالية هي الشعار السائد هنا في الغرب، وعندما تقرِّر تغيير وضعك الاجتماعي، عليك اتخاذ الإجراءات الضرورية لتحقيق هدفك.

انطلق الأب وباني في رحلةٍ أخرى إلى نهر لوبوس، ونجحا ببعض الصعوبة في القضاء على «النحس» بالبئر رقم اثنتَين، وجعلوها بئرًا جيدة جدًّا. كان من المقرَّر بناء برجَين إضافيَّين هناك، وجلب المزيد من الأدوات التي من المفترض شراؤها وتسليمها. هكذا كان الحال في قطاع النفط، فبمجرد حصولك على أي أموالٍ تستثمرها في عملياتِ حفرٍ جديدة، وهو ما يعني بالتأكيد مسئولياتٍ جديدة. القوى الكامنة في مجال النفط هي ما يدفعك لفعل ذلك. فأنت تتسابق مع أشخاصٍ آخرين، يهددونك دائمًا بالحصول على نفطك. وبمجرد أن تحفر بئرًا، يجب أن تكون لديك «آبارٌ فرعية مقابلة» لحمايتها من الناس الذين يودُّون الحصول على نفطك من كل جانب. أيضًا، قد تُواجِه مشكلة في تسويق نفطك، وستبدأ تفكِّر في أنه سيكون رائعًا أن يكون لديك معملُ تكريرٍ خاص بك، وأن تكون مستقلًّا تمامًا. لكن الاستقلالية لها ثمنُها؛ إذ سيتعيَّن عليك حينئذٍ توفيرُ ما يكفي من النفط للحفاظ على استمرارية عمل معمل التكرير، وستودُّ أن يكون لديك سلسلة من محطات الوقود لتصريف منتجاتك. كان مجالًا صعبًا على المبتدئين، ومهما زاد حجم استثماراتك، كان هناك دائمًا مَن هو أكبر منك!

لكن الأب لم يكن يُعاني من هذه الأمور الآن؛ فكل شيءٍ كان يسير على ما يُرام. وفي خضم انتصاراته الأخرى، كان قد خطر له أن يتعمق قليلًا في حفر إحدى آباره القديمة بموقع أنتيلوب، ليرى ما سيعثُر عليه، وبالفعل جَرَّب ذلك، وفوجئ باندفاع النفط عند الوصول إلى عمق ثمانمائة قدم. كانت الآبار في طبقةٍ جديدة من الرمال النفطية، وكل بئرٍ من هذه الآبار الست عشرة القديمة، التي كانت تُنتِج النفط لبضع سنوات، وكانت على وشك النضوب، كانت جاهزة لتزوِّد الأب بثروةٍ جديدة، مقابل تكلفةٍ قدرُها بضعة آلاف من الدولارات لكل بئر!

ولكن على الفور ظهرَت مشكلةٌ جديدة؛ لم يكن هناك خطُّ أنابيبَ يصل إلى هذا الحقل، ولا بد من وجود واحد. أراد الأب أن يتعاون مع غيره من العاملين في مجال التنقيب عن النفط، وكان سيذهب إليهم ليعقد صفقة. ثم جاء إليه باني، وهو في غاية الجدية. وقال: «أبي، هل نسيت، لقد اقترب الخامس عشر من نوفمبر.»

«ماذا في ذلك يا بني؟»

«لقد وعدتَني أننا سنذهب لصيد السُّمانى هذا العام.»

«يا إلهي، هذا صحيح! لكنني مشغول بشدة في الوقت الحالي يا بني.»

«أنت تعمل باجتهادٍ مفرط يا أبي، تقول العمة إيما إنك تجهد كُليتَيك، وقد أخبرك الطبيب بذلك.»

«وهل يوصي الطبيب باتباع حميةٍ تحتوي على السُّمَانى؟»

عرف باني من ابتسامة الأب العريضة أنه سيقدِّم بعض التنازلات. توسل الصبي قائلًا: «لنأخذ معدَّات التخييم معنا، وعندما تنتهي من عملك في موقع أنتيلوب، دعنا نعُد للديار من طريق وادي سان إليدو.»

«سان إليدو! لكن يا بني، هذا على بعد خمسين ميلًا من طريقنا!»

«يقولون إن السُّمَانى متوفرٌ هناك بكثرة يا أبي.»

«نعم، ولكن يمكننا العثور على السُّمَانى في أماكنَ أقربَ بكثير للديار.»

«أعلم يا أبي، لكنني لم أذهب إلى هناك من قبلُ، وأريد رؤية المكان.»

«ولكن ما الذي جعلك تودُّ الذهاب إلى هذا المكان؟»

شعَر باني بالإحراج؛ لأنه كان يعلم أن الأب سيظن أنه «غريب الأطوار». ومع ذلك، أصَر على موقفه. «هذا هو المكان الذي يعيش فيه آل واتكينز.»

«آل واتكينز، من هؤلاء؟»

«ألا تتذكَّر ذلك الصبي، بول، الذي التقيته ذاتَ ليلةٍ عندما كنتَ تتحدث عن عقد الإيجار؟»

«يا إلهي! أما زلتَ منشغلًا بشأن هذا الصبي؟»

«لقد قابلتُ السيدة جرورتي في الشارع أمس، وأخبرَتْني بشأن العائلة؛ إنهم في ورطة مروِّعة، سيستولي البنك على مزرعتهم لأنهم لا يستطيعون دفع فائدة الرهن العقاري، وتقول السيدة جرورتي إنها لا تستطيع التفكير فيما سيفعلونه. أنت تعلم أن السيدة جرورتي لم تحصل على أي أموال، وعلى أقل تقدير، ستكون قد أنفقَت نصيبها من الأرباح على الوحدات التي لم تستفِد منها بأيِّ شيء، وعليها أن تعيش على ما يكسبه زوجها من وظيفته كحارسٍ ليلي.»

«وماذا تريد أن تفعل حيال ذلك؟»

«أريدك أن تدفع ذلك الرهن العقاري، يا أبي، أو يمكنك فعل أي شيءٍ آخر، حتى يتمكَّن آل واتكينز من البقاء في منزلهم. من السيئ أن يخرج الناس من منزلهم على هذا النحو، وهم يبذلون قصارى جهدهم.»

«هناك الكثير من الأشخاص الذين يخرجون من بيوتهم يا بني، عندما لا يستطيعون الوفاء بالتزاماتهم.»

«ولكن ماذا لو كان ذلك بلا جريرةٍ اقترفوها، يا أبي؟»

«سوف يستغرق الأمر مراجعة الكثير من الدفاتر لمعرفة جريرة مَن هذه، والبنوك لا تحفظ الدفاتر من أجل هذا الأمر.» حينئذٍ، بعد رؤية الاحتجاج في وجه باني، قال الأب: «هناك الكثير من الأشياء القاسية في العالم التي لا تملك تغييرها، يا بني. وسيتعين عليك تقبُّل ذلك الأمر، إن عاجلًا أم آجلًا.»

«لكن يا أبي، هناك أربعة أطفال، ثلاثٌ منهم فتيات، أين سيذهبون؟ بول بعيد عنهم، وليس لديهم أي وسيلة لإعلامه بما حدث. لقد أرتني السيدة جرورتي صورة لهم، يا أبي، إنهم أناسٌ طيبون، ولطفاء، يمكنك أن ترى أنهم كانوا يكدُّون طوال حياتهم. صدقني يا أبي، لن أكون سعيدًا إذا لم أساعدهم. لقد قلت لي إنك ستشتري لي سيارة في يوم من الأيام، وأنا أفضِّل أن تأخذ هذا المال وتدفع به هذا الرهن العقاري. إنه أقل من ألفَي دولار، وهذا لا شيء يُذكَر بالنسبة لك.»

«أعلم يا بني، ولكن حينئذٍ سيعتادون ذلك …»

«لا، إنهم ليسوا كذلك، لديهم عزة نفس، وتقول السيدة جرورتي إنهم لن يقبلوا منك أي مال، تمامًا مثلما فعل بول. لكن إذا دفعت الرهن العقاري للبنك، فلن يبقى أمامهم سوى قبول ذلك. أو يمكنك شراء المزرعة يا أبي وتأجيرها لهم. يقول بول إن هناك نفطًا في تلك المزرعة؛ لقد رآه عمه إيبي على سطح الأرض.»

«هناك الآلاف من المزارع مثل تلك الموجودة في كاليفورنيا، يا بني. ووجود النفط على سطح الأرض لا يعني أي شيء مميز.»

«حسنًا يا أبي، لطالما قلت إنك تريد استكشاف مناطق لم يُعثر فيها على نفط قط، وأنت تعلم أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنك بها فعل ذلك؛ فهناك سيكون لديك قطعة أرض كبيرة، ولن تضطر إلى دفع أي أرباح، ولن يتدخل أحد في عملك. لذا دَعْنا نجرِّبْ حظنا في بارادايس، ونذهب إلى هناك ونخيم لبضعة أيام ونصطَد بعض السُّمَانى، ونرَ الوضع هناك، ونساعد هؤلاء الفقراء، ونمنح كُليتَيك بعض الراحة في الوقت ذاته.»

قال الأب حسنًا، وغادر وهو يقول في نفسه: «يا إلهي! يا له من طفل عجيب!»

٣

يقع وادي سان إليدو على حافة الصحراء، وعليك أن تمر عبر جزء صغير من الصحراء للوصول إليه، لم يكن هناك سوى صحراء جرداء من الرمال والصخور التي تغمرها أشعة الشمس الحارقة، ولا شيء سوى نباتات صحراوية رمادية متربة. كان بإمكانك القيادة بسرعة على الطريق المرصوف الممهد، لكن الأرض كانت مسكونة بأرواح الرواد القدامى الذين عبروها في عربات مغطاة أو مع قطيع من البغال، وتركوا عظامهم بجانب العديد من الممرات. وحتى الآن، كان عليك توخي الحذر عند السير في الممرات الجانبية عبر هذه الأراضي القاحلة؛ فبين الحين والآخر تتعطل سيارة بسبب نفاد ماء المبرد، وقد يحالف هؤلاء الناس الحظ ويخرجون من هناك أحياء.

يمكنك الحصول على الماء إذا حفرت بئرًا عميقة؛ ولذا كانت هناك مزارع للفاكهة وحقول للبرسيم متناثرة في عدة أماكن. وكانت هناك مساحاتٌ كبيرة من الأرض لونها أبيض مثل الملح، قال الأب إن هذا كان ملحًا قلويًّا، مما جعل هذا المكان أشبه بالفخ. كان الشخص الغريب القادم من الشرق يأتي ويفحص مزرعةَ فاكهةٍ جميلة، ويعتقد أنه كان يعقد صفقة جيدة للحصول على الأرض المجاورة مقابل مائة دولار للهكتار، ثم يزرع أشجار الفاكهة ويرويها بصبر، لكنها لا تنمو، ولا ينمو شيءٌ سوى القليل من البرسيم، وربما كان هناك الكثير من الملح القلوي الذي يمنع حدوث ذلك. حينئذٍ يضطر صاحب المزرعة المحتمل إلى اقتلاع الأشجار، ومحو آثارها، وتعيين سمسار عقارات للإيقاع بمغفل آخر.

كان هناك صرة كبيرة، ملفوفة في غطاء مقاوم للماء، مربوطة بعتبة سيارة الأب، على الجانب الأيمن حيث جلس باني؛ فقد كانا سيخيمان في العراء، مما أثار في عقل الصبي أفكارًا عن المخاطر والأشياء المثيرة التي تعرض لها الإنسان قبل عشرة آلاف عام. أحكم باني قبضتيه على زوج من بنادق الصيد المتعددة الطلقات، أمسك بهما لساعات، من ناحيةٍ لأنه كان يحب ملمسهما، ومن ناحية أخرى لأنه كان لا بد من حملهما في العراء، فإذا وضعتهما في الصندوق الخلفي للسيارة فسيُعتبران «أسلحة مخبأة»، وكان ذلك مخالفًا للقانون.

بالقرب من رأس الوادي تشعب طريق ترابي، وظهرت لافتةٌ مكتوبٌ عليها: «بارادايس، ثمانية أميال.» انحرفا إلى مفازة صغيرة، تحدُّها الجبال التي بدت وكأنها أكوام من الصخور المتساقطة، من كل الأحجام والألوان. كانت هناك مزارع فاكهة، وأشجار خالية من الأوراق، جذوعها بيضاءُ متكلسة، وأشجارٌ صغيرة حولها شباك من الأسلاك، لإبعاد الأرانب عنها. سقطَت الأمطار الموسمية الأولى، ونبتَت الأعشاب الجديدة، إنه ربيع كاليفورنيا الذي يبدأ في الخريف.

اتسعَت المفازة، وتناثرت بيوت المزارع هنا وهناك، وكانت قرية بارادايس، المكوَّنة من شارع واحد، تحتوي على عددٍ قليل من المتاجر المتناثرة التي تتخذ من أشجار الأوكالبتوس مأوًى لها؛ حيث كانت تلقي بظلالها الطويلة حتى وقتٍ متأخر من العصر. توقف الأب في محطة الوقود، التي كانت تحتوي أيضًا على متجر لبيع الأعلاف. «هل يمكن أن تخبرني أين تقع مزرعة آل واتكينز؟»

قال الرجل: «هناك عائلتان تحملان هذا الاسم. هناك آيبل واتكينز العجوز …»

صاح باني: «نعم هذا هو!».

«لديه مزرعة مَعْز، بجانب المنحدر. ليس من السهل العثور عليها. هل تنويان الوصول إلى هناك الليلة؟»

قال الأب: «لن نقلق إذا ضللنا الطريق؛ فلدينا عدة تخييم.»

وصف لهم الرجل الطريق مستخدمًا توجيهات معقدة. اسلك الممر خلف مبنى المدرسة، حيث ستجد العديد من المنعطفات، يليها حوالي ستة عشر تقاطعًا، حتى تصل إلى التقاطع الصحيح، ثم اتبع المنحدر الذي ينقل الماء إلى روزفيل، حتى تصل إلى الغدير الرابع بعد المرور بمزرعة أغنام السيد تاكر العجوز، حيث المنزل الصغير تحت أشجار الفلفل. وهكذا انطلقا وسلكا طريقًا متعرجًا يبدو أن الأغنام هي من أسسته، وغابت الشمس خلف التلال الكالحة، وتحولت السحب إلى اللون الوردي، وتفاديا الصخور التي كانت أعلى من أن تسير فوقها السيارة وزحفا في الأخاديد الصغيرة، ثم صعدا مرة أخرى، معتمدَين على التبديل المستمر بين سرعات السيارة. لم تكن هناك حاجة للسؤال عن السُّمَانى؛ فقد رددت التلال صدى النداء المزدوج الشجي للأسراب المتجمعة بعد حلول الظلام.

بعد قليل وصلا إلى «المنحدر»، الذي كان عبارة عن ممر خشبي ينقل الماء — وكان كثير من الماء يتسرب منه؛ لذا انتشر العشب الأخضر اللامع في كل اتجاه، موفرًا طعامًا لقطيع كبير من الأغنام، التي لم تلتفت إلى السيارة، ولا إلى صوت البوق، كان من الممكن أن تتعرض هذه الأغنام الغبية الخرقاء للدهس تحت عجلات السيارة! ثم جاء رجل يمتطَّى صهوة حصان، كان رجلًا وسيمًا ضخمًا أسمر البشرة، يضع حول رقبته منديلًا ذا ألوان زاهية، وقبعة عريضة الحواف لها حزام من الجلد. كان يرعى قطيعًا من الماشية، وأثناء ركوبه على حصانه، كان سرجه وأحزمة ركابه تصطدم ببعضها محدثةً صوتًا اعتبره الصبي مثيرًا، خاصة في الهدوء الذي كان يخيم على المساء. توقف الأب، وتوقف الرجل، قال الأب: «مساء الخير»، أجابه الرجل: «مساء الخير». كان الرجل لطيفًا وأمينًا ودلَّهُما على الطريق، لم يكن من الممكن أن يغفلا عن الغدير؛ لأنه كان الوحيد الذي يوجد به ماء، وكانا سيريان المباني بمجرد الصعود لأعلى قليلًا. وعندما انطلقا قال باني: «يا إلهي، أبي أتمنى أن نتمكن من العيش هنا؛ أود أن أركب حصانًا مثل هذا.» كان يعلم أن الأب سيُعجَب بهذا الأمر؛ لأن الرجل كان تجسيدًا حيًّا للصورة التي كان يضعها الأب لكيف يجب أن يبدو الرجال؛ إذ كان ضخمًا وقويًّا، ببشرة سمراء تشوبها بعض الحمرة وكأنه أحد الهنود الحمر. نعم، لن يتطلب الأمر الكثير لإقناع الأب بشراء مزرعة آل واتكينز لابنه!

تهاديا على طريق الأغنام، وأخذا يحصيان عدد الأغادير، التي كانت جدرانها تلوح عاليًا في الشفق، متوجة بأكوام مذهلة من الحجارة. كانت أنوار السيارة مضاءة، وكانت تتأرجح في كل اتجاه للبحث عن الطريق الصحيح؛ حتى وصلا أخيرًا إلى غدير به ماء — كان مميزًا بوجود العشب الأخضر اللامع — وانعطفا، وتابعا السير في ممر أكثر وعورة، وظهرت أمامهما بعض المباني، حيث سطع الضوء من إحدى النوافذ. كانت هذه هي المزرعة التي وُلد فيها بول واتكينز وترعرع، وشعر باني بداخله بإثارة لا يمكن تفسيرها، كما لو كان يقترب من مكان ولادة أبراهام لنكولن، أو شخص بهذا القدر من العظمة!

فجأة تحدث الأب. وقال: «اسمع يا بني. قد يكون هناك نفط هنا، فهناك دائمًا فرصة ولو كانت ضئيلة؛ لذا لا تقُل شيئًا عن هذا الأمر. يمكنك إخبارهم أنك قابلت بول إذا أردت ذلك، لكن لا تقُل إنه ذكر أي شيء عن النفط. دعني أنا أتحدث عن الأمور المتعلقة بالأعمال.»

كان المنزل يشبه «منازل كاليفورنيا»، أي إنه كان مصنوعًا من ألواح بعرض قدم، مثبتة عموديًّا، وتغطي شرائط صغيرة من «القطن» الشقوق. لم تكن به شرفة، سواء أمامية أو خلفية، لا شيء سوى حجر واحد مسطح يُستخدم كدَرَج. كان الطلاء، أو ما تبقى منه، باهتًا للغاية لدرجة أنك لا تستطيع رؤيته حتى مع إضاءة مصابيح السيارة. على الجانب الآخر من الممر، بعيدًا أعلى الوادي الصغير، لاحت في الأفق مجموعة من السقائف، وحظيرة كبيرة مبنية من ألواح الخشب، ومزودة بأعمدةٍ مقطوعة من أشجار الأوكالبتوس. وأتت من هذا المكان أصوات تذمُّر وهياج عدد كبير من الحيوانات المحشودة معًا.

اصطفت العائلة في الفناء، تحدق في مشهدٍ غير معتاد لسيارة تدخل ملكيتهم. كان هناك رجل نحيف ومحني الظهر، وصبي أقصر منه ومحني الظهر أيضًا؛ كان كلاهما يرتدي قميصًا أزرق باهتًا من دون ياقة، وبنطال جينز به الكثير من الرقع ومثبتًا بحمالات. وكانت هناك ثلاث فتيات، يقفن واحدة وراء الأخرى، من الأقصر إلى الأطول، ويرتدين فساتين عادية من قماش الكاليكو، وفي المدخل كانت تقف امرأة شاحبة، يبدو عليها الإرهاق الشديد. وقف الستة جميعًا صامتين، بلا حراك، بينما دخلَت السيارة إلى الفناء وتوقفَت، وهدأ صوت المحرك الصاخب. قال الأب: «مساء الخير.»

قال الرجل: «مرحبًا يا أخي.»

«هل هذا منزل آل واتكينز؟»

«نعم يا أخي.» كان صوتُه ضعيفًا مهزوزًا، لكنه أثار إعجاب باني بشدة؛ لأنه كان يعلم أن هذا الصوت قد اعتاد «التمتمة» و«التكلم بألسنة». تخيل لو أن الأسرة «أطلقَت العنان لنفسها»، وبدأت في «القفز» و«التدحرج» أثناء وقوف باني هناك!

قال الأب: «نحن في رحلة صيد، وقيل لنا إن هذا المكان سيكون جيدًا للتخييم. هل لديك ماءٌ صالح للشرب؟»

«الأفضل على الإطلاق. اعتبِر نفسك في بيتك، يا أخي.»

«حسنًا، سنصعد إلى الممر قليلًا، بعيدًا عن الطريق. هل لديك شجرةٌ كبيرة يمكن أن توفِّر لنا ظلة؟»

«إيلاي، أرِهِما شجرة البلوط، وساعِدْهما في التخييم.»

مرةً أخرى شعر باني بسعادةٍ غامرة؛ فهذا كان إيلاي، الذي كان مباركًا من الروح القدس، وكانت تنتابه «الرعشات»، وقد شفى السيدة باجنر العجوز، التي كانت تعاني من مضاعفاتٍ صحية، بأن وضع يدَيه على رأسها. تذكَّر باني كل التفاصيل حول هذه العائلة، وهي، باستثناء القصص، أكثر التفاصيل التي صادفها غرابةً على الإطلاق.

٤

سار إيلاي صاعدًا على الممر، وتبعَتْه السيارة. كانت هناك شجرةُ بلوط كبيرةٌ دائمة الخضرة، وكانت تحتها مساحةٌ خالية، وأوقف الأب السيارة بحيث تضيء المساحة الخالية؛ فعندما تخيم ومعك سيارة، لا داعي للقلق بشأن الظلام! توقفا، وانزلق باني فوق الباب إلى جواره، وبدأ يفك الأحزمة التي كانت تثبِّت الصرة الكبيرة فوق عتبة السيارة. فك الأحزمة في لمح البصر، وفتح الصرة، وأخرج منها أشياءَ سحرية للغاية. كان هناك خيمة، مصنوعة من حريرٍ خفيف مقاوم للماء؛ بحيث يمكن لف هذه الخيمة البالغ حجمها ثماني أقدامٍ مربعة في صُرة في حجم حقيبة ملابس. وكان هناك أعمدة للخيمة، مكوَّنة من عدة وصلات يمكن ضمها باستخدام المسامير، وأوتاد، وفأس تخييم صغيرة لتثبيت الأوتاد. وكان هناك ثلاث بطانيات تخييم للتدفئة، بالإضافة إلى غطاءٍ مقاوم للماء، يمكن أيضًا استخدامه بطانية. وكانت هناك وسادتان هوائيتان، ومرتبةٌ هوائية، عليك الجلوس لنفخها حتى يحمر وجهك، ويا له من نشاطٍ مسلٍّ ورائع! أخيرًا، كانت هناك حقيبةٌ من القماش تحتوي على مجموعة من أواني التخييم، كلها مصنوعة من الألومنيوم، ويمكن إدخال بعضها في بعض، وكانت كلها مزودةً بمقابض قابلة للفصل، وصناديق ألومنيوم مُقسَّمة لتخزين الطعام. عند ترتيب كل هذه الأشياء، يمكن أن تشعر بالراحة وسط الصحراء أو على قمة جبل كما لو كنتَ في أفضل غرفةٍ في فندق.

طلب السيد واتكينز من إيلاي أن يساعدهما، لكن الأب أخبره ألا يشغل باله؛ فهما يعرفان جيدًا ما يجب عليهما فعله، وكان الأمر سهلًا. ومن ثَمَّ طلب السيد واتكينز من إيلاي إحضار سطل من الماء، وسألهما بعد ذلك عما إذا كانا يريدان بعض الحليب، وبالطبع لم يكن لديهم سوى حليب ماعز. قال الأب لا بأس بهذا، وشعر باني أنه سافر إلى البلقان، أو أيٍّ من الأماكن المثيرة التي قرأ عنها؛ حيث يعيش الناس على حليب الماعز. طلب السيد واتكينز من روث الذهاب لإحضار بعض الحليب، وسُر باني مرةً أخرى؛ لأن روث كانت الأخت التي أحبها بول، والتي قال عنها إنها كانت «عاقلة». ونادى عليها السيد واتكينز، وطلب منها جلب بعض من «البيض» أيضًا، وقال الأب إنهما يرغبان في بعض الخبز، حينئذٍ أصيب باني بالصدمة؛ لأن الرجل العجوز قال إنهم لا يملكون خبزًا؛ فهم لا يملكون مكانًا لزراعة الحبوب، ولم تكن الذرة تنمو جيدًا هنا على التلال؛ لذا لم يكن لديهم سوى البطاطس. قال الأب إنه لا بأس بالبطاطس، فيمكنهما سلق بعضها لتناول العشاء، حينئذٍ قال السيد واتكينز إن بإمكانهما الحصول عليها بشكلٍ أسرع إذا سلقَتها السيدة واتكينز على الموقد؛ مما أثبت عدم فهمه بالكامل للمغزى من رحلة التخييم. رفض الأب، وقال إنهما سيُشعِلان النار على أي حال، وقال السيد واتكينز إن هناك القليل من الثلج الذي يتساقط كل ليلة الآن، وطلب من إيلاي أن يجلب لهما الكثير من الخشب. كان من السهل فعل ذلك، فبمجرد السير لبضع أقدام على جانب الغدير، ستصادف أشجارًا صحراوية، الكثير منها ميت وجاف؛ لذا قطع إيلاي بعض الشجيرات وسحبها وكسرها إلى قطعٍ صغيرة على ركبته. ثم أحضر بعض الصخور، وكان ذلك سهلًا أيضًا؛ لأنه بالكاد كان بإمكانك المشي عشر أقدام في مزرعة آل واتكينز دون أن يصطدم إصبع قدمك بصخرة.

وبعد قليل أشعلا النيران، وسلقا البطاطس في القِدْر بسرور، وفتحا وعاءً من لحم الخنزير المقدَّد وقلَياه في المقلاة. تولَّى الأب أمور الطهو؛ فقد كانت مهنةً كريمة، بينما تولَّى باني مسئولية تحضير الأطباق وغيرها من الأغراض على الغطاء المقاوم للماء، والذي كان كمفرش طاولة بدون طاولة. وعندما أصبح لحم الخنزير المقدد جاهزًا، كسر الأب البيض على جانب المقلاة، وقلَاه ليحصل على «بيض عيون». وكان حليب الماعز، الغني والدسِم، باردًا حيث كان يُحفظ في «مخزن الينبوع»، ولم تكن النكهة القوية مزعجة؛ لأنك أقنعت نفسك بأنها رائعة. شربا الحليب في أكواب من الألومنيوم كانت جزءًا من عدة التخييم، وكان هناك أيضًا طبقٌ من العسل وقرص عسل، من عسل المريمية البني القوي النكهة، الذي كانت روث قد أحضرَتْه.

دعا الأب العائلة للحضور وتناول الطعام معهما، لكن الرجل العجوز رفض وشكره، وقال إنهم قد تناولوا طعامهم بالفعل. حينئذٍ قال الأب: هل من الممكن أن يجلسوا على الأقل؛ لأنهم لم يكونوا يبدون مرتاحين بالوقوف هناك؛ لذا جلس إيلاي والفتيات الثلاث، وأمهم، التي انضمَّت إليهم، جلسوا جميعًا على صخور على مسافةٍ معقولة من الضوء، وجلس السيد واتكينز على صخرة أقرب قليلًا، وبينما كانا يأكلان، تحدَّث الأب معه عن حالة الطقس والمحاصيل وعن طريقة حياتهم هنا في التلال.

عندما انتهى الأب وباني من تناول الطعام، ومدَّدا جسدَيهما على البطانيات، شاعرَين بالراحة، عرض السيد واتكينز أن يتولى إيلاي نصب الخيمة، لكن الأب قال مرةً أخرى إنه لا داعي للقلق؛ فقد كان الأمر بسيطًا للغاية، ولن يستغرق سوى بضعِ دقائق. حينئذٍ قال السيد واتكينز إن إحدى البنات ستغسل الأواني من أجلهما، وقال الأب: حسنًا، هذا جيد؛ لذا جمع باني المقالي والأطباق معًا، وحملَتها الفتاة المتوسطة الحجم، التي كانوا يدعونها ميلي، إلى المنزل. وبعد ذلك تجاذب الأب والسيد واتكينز أطراف الحديث، ولاحظ باني أن الأب كان يتعرف بمهارة على الأسرة ويكتسب ثقتهم.

فجأةً جاءت لحظةٌ حرجة في التعارُف؛ حيث ساد صمتٌ مؤقت، وبصوتٍ رصين مثقل بالمشاعر، يختلف عن صوته المعتاد، قال آيبل واتكينز: «أخي، هل لي أن أطرح عليك سؤالًا شخصيًّا؟»

قال الأب: «نعم، بالتأكيد.»

«أخي، هل خَلصتما؟»

حبس باني أنفاسه؛ لأنه تذكَّر ما قاله بول عن طريقة السيد واتكينز، فإذا قلتَ أي شيءٍ مخالفٍ لدينه، فحينئذٍ سينظر إلى أعلى ويبدأ في تلاوة الصلوات بصوتٍ عالٍ و«يطلق العنان لنفسه». كان باني قد أخبر الأب عن هذا، ومن الواضح أن الأب قد عرف ما يجب فعله. لذلك أجاب بنبرةٍ لا تقل رصانة عن نبرة السيد واتكينز وقال: «نعم يا أخي، لقد خَلصنا.»

«هل اغتسلتما بدم المسيح؟»

«نعم يا أخي، لقد اغتسلنا.»

«ما كنيستك يا أخي؟»

«إنها تُسمَّى كنيسة «كلمة الحق».»

ساد صمتٌ مؤقت. ثم قال السيد واتكينز: «لا أعرف شيئًا عن رسالتها.»

قال الأب: «أنا آسف. أودُّ أن أشرحها لك، لكن لا يُسمح لنا بالتحدث عن عقيدتنا مع الغرباء.»

«لكن يا أخي!» من الواضح أن السيد واتكينز كان مندهشًا من ذلك. «قيل لنا في الكتاب المقدس: «الرب قد دعانا لنُبشِّرَهم» وأيضًا «ينبغي أن يُكرَز أولًا بالإنجيل في جميع الأمم.»

قال الأب وهو لا يزال محتفظًا بجديته البالغة: «يا أخي، أنا أفهم ذلك، لكن وفقًا لعقيدتنا، علينا أن نكوِّن صداقات أولًا، ثم نتحدث عن ديننا لاحقًا. وعلينا جميعًا احترام معتقدات الآخرين.»

قال السيد واتكينز: «نعم، يا أخي»، وخفَت صوته قليلًا، وكان بإمكانك أن ترى أنه لا يستطيع العثور على الرد المناسب. ونظر إلى أفراد عائلته وكأنه يطلب الدعم منهم، لكنهم لم ينطقوا بكلمة، باستثناء «حسنًا يا أبي» عندما كان يُطلب منهم فعل شيءٍ ما.

لذلك كان الأمر متروكًا للأب للتخفيف من حدة الموقف المحرج. قال: «لقد جئنا إلى هنا للبحث عن السُّمَانى. أسمع الكثير منه حولنا.»

٥

كان الطقس يزداد برودة لدرجة أن النار الصغيرة لم تعد توفر الدفء اللازم؛ لذا غادر آل واتكينز، ونصب الأب وباني الخيمة، ووضعا فيها أغراضهما، ونفخ باني المرتبة حتى امتلأت. كانت النجوم تتلألأ؛ لذا وضعا فراشهما في العراء. وبعد بسط البطانيات، خلعا أحذيتهما وملابسهما الخارجية، ووضعاها في الخيمة، ودخلا مسرعَين تحت البطانيات؛ فقد كان البرد قارسًا لدرجة تجعلك تقفز في مكانك! تكوَّر باني على نفسه التماسًا للدفء، واستلقى على فراشه، مستشعرًا بنسيم الليل على جبهته، وقال: «قل لي يا أبي، ما هي كنيسة «كلمة الحق»؟»

ضحك الأب ضحكة قصيرة. وقال: «يا له من معتوهٍ عجوز مسكين! كان عليَّ إسكاته بأي طريقة.»

استلقيا في مكانهما، وسرعان ما غط الأب في نومٍ عميق. لكن الصبي، رغم أنه كان متعبًا، لم ينم على الفور. وظل راقدًا يفكر: كان سلوك الأب مختلفًا عن السلوك الذي قرَّر باني اتباعه. فقد كان الأب يكذب كلما رأى ذلك ضروريًّا، وكان يبرر ذلك بأن الشخص الآخر لا يمكنه تحمُّل الحقيقة، أو أن ليس لديه الحق في معرفتها في ظروفٍ معينة. ومع ذلك، كان من الواضح عدم رغبة الأب في اتباع باني السلوك ذاته. فقد كان يطلب من باني ألَّا يقول شيئًا، لكنه لم يطلب منه قطُّ أن يكذب، وبوجهٍ عام، عندما كان يُضطر إلى الكذب، كان يفعل ذلك في غياب باني! وكان هناك الكثير من الأشياء المماثلة؛ فقد كان الأب يدخِّن السيجار، ويشرب بين الحين والآخر، لكنه لم يكن يريد باني أن يدخِّن أو يشرب. كان هذا غريبًا.

كان رأس باني ووجهه باردَين، لكن باقي جسده كان دافئًا، وكان قد بدأ يغفو تدريجيًّا، وأصبحَت أفكاره ضبابية، لكنه فجأة استيقظ مرةً أخرى وكان في تمام وعيه. ما كان ذلك؟ كانت المرتبة تهتز، لدرجة أنها كانت تدحرجك من جانب لآخر؛ لذلك كان عليك مد مرفقَيك للحفاظ على توازنك. صاح باني: «أبي! ما هذا؟» استيقظ الأب على الفور، وانتصب جالسًا، وكذلك فعل باني، مادًّا يدَيه ليحافظ على ثباته. صاح الأب: «يا للهول! إنه زلزال!»

من المؤكد أنه كان زلزالًا! كان شعورًا غريبًا أن تهتز الأرض الصلبة، التي تعتمد عليها، على هذا النحو! وبدأَت الشجرة تصدر صريرًا فوق رأسَيهما وكأن ريحًا تهزها، حينئذٍ قفَزا وفرَّا من تحتها. ثارَت ضجة، وصياح، ونواح؛ فالمَعْز، التي كرهَت هذا الإحساس أكثر من البشر، لم يكن لديها أفكار عن بنية الأرض والصدوع الجيولوجية لتهدئة عقولها. ثم صدر نوعٌ آخر من الصخب، قادمًا من آل واتكينز، الذين على ما يبدو كانوا قد هُرعوا خارج الكوخ. «المجد للرب! أنقذنا يا يسوع! ارحمنا يا رب!»

قال الأب: «انتهى كل شيء الآن، دعنا نستلقِ مرةً أخرى، وإلا فسيأتي هؤلاء الأشخاص ليُصلُّوا معنا.»

أطاعه باني، واستلقيا بلا حراك. همس الصبي: «يا إلهي، كان ذلك زلزالًا مروعًا! هل تعتقد أنه تسبَّب في هدم أي مدن؟»

أجاب الأب: «على الأرجح كان في هذه المنطقة فقط. تحدث الزلازل كثيرًا هنا في هذه المنطقة المرتفعة.»

«إذن أنت تظن أن آل واتكينز معتادون عليها.»

«أظن أنهم يستمتعون بإحداث ضجة. فليس لديهم الكثير من الإثارة في حياتهم.» وكان هذا كل ما كان على الأب قوله. فقد كان لديه الكثير من الإثارة في حياته الخاصة، ولم يكن مهتمًّا بشكلٍ خاص بالزلازل، فضلًا عن هذيان هؤلاء المجانين المتدينين. وسرعان ما راح في النوم مجددًا.

لكن باني رقد واستمع. فها هم آل واتكينز «يُطلِقون العنان لأنفسهم»، وكانوا يؤدون صلاة تحتوي على قفزٍ مقدسٍ منتظم، في العراء تحت النجوم البيضاء الباردة. صاحوا، وصلَّوا، وضحكوا، وغنوا، وصرخوا قائلين: «المجد! المجد!» و«آمين!» و«سلاه!» وكلمات أخرى لم يفهمها باني، لكنها ربما كانت يونانية أو عبرية، أو ربما من لغة رؤساء الملائكة. كان صوت آيبل واتكينز العجوز هو الأعلى، وأطلق الأطفال صرخات حادة كأنهم يغنون في جوقة، وكان ثغاء المَعْز يشبه الصوت الصادر من مجموعة من الكمان الأجهر في أوركسترا. دبت قُشَعريرةٌ باردة في ظهر باني؛ فعقله ذو التفكير العلمي، الذي كان يعرف بنية الأرض والصدوع الجيولوجية، كان عمره قرنًا أو قرنَين فقط، بينما يبلغ عمر العقل الفطري الذي يلفظ التعاويذ آلافًا وربما مئات الآلاف من السنين. لقد ابتدع الكهنة نوبات الهياج، وتنبَّئوا بالكوارث التي تحقَّقَت بسبب إيمان الكهنة والضحايا بها، مما عزز من مصداقية الكهنة أكثر من أي وقتٍ مضى. كانت هذه تعويذة ضد الزلازل — حيث كانوا يجثون على ركبهم، ويرفعون أيديهم في الهواء ويتمايلون بأجسادهم …

«مركبات إلى المجد،
مركبات إلى المجد،
مركبات إلى المجد
مع الحمل المقدس!»

غفا باني في النهاية، وعندما فتح عينَيه مرةً أخرى، كان نور الفجر يشقشق خلف التلال، وكان الأب يرتدي ملابس الصيد ذات اللون الكاكي. وعلى الفور، قفز باني من الفراش، دون حتى فرك عينَيه، وارتدى ملابسه بسرعة؛ فهذه البرودة كادت تجمد العظام!

صعد إلى جانب التل، وبدأ في تجميع الأغصان الجافة، وأشعل النيران ووضع عليها القدر. ثم جاء إيلاي، حاملًا الأطباق النظيفة وغيرها من الأغراض، وسأل ما إذا كانا يريدان حليبًا باردًا من الليلة الماضية، أم حليب هذا الصباح الدافئ. وسأل إيلاي بحماس: «هل شعرتُما بذلك الزلزال. لقد كان زلزالًا رهيبًا! هل تحدُث الزلازل في الأنحاء التي أتيتما منها؟»

كان لإيلاي شعرٌ أصفرُ شاحب، لم يقُصَّه منذ فترة من الوقت، ولم يُمشَّط منذ «زلزال» أمس. كانت عيناه زرقاوَين شاحبتَين جاحظتَين قليلًا، تعطيانه مظهرًا شغوفًا. وكان لديه عنقٌ طويل وتفاحةُ آدم كبيرة. كشف بنطال إيلاي البالي عن حذائه الذي كان يرتديه بدون جوربَين، وساقَيه اللتَين كانتا تتدليان منه نتيجة لنموهما السريع. وقف هناك، يحدق في كل تفاصيل معدات وملابس هذَين الغريبَين القادمَين من المدينة، وفي الوقت ذاته كان يحاول استكشاف روحَيهما. «ماذا تقول كنيسة «كلمة الحق» عن الزلازل؟»

كان الأب منشغلًا بقلي لحم الخنزير المقدَّد والبيض، وللتخلص من إيلاي قال إنهما يرغبان في الحصول على بعضٍ من حليب هذا الصباح. لكن إيلاي لم يستغرق وقتًا طويلًا للعودة مرةً أخرى، ووقف وراقب كل لقمة تدخل فمَيهما؛ وأخبرهما أن العائلة «صلَّت بقوةٍ عظيمة» أثناء الزلزال، وأن الزلازل تعني أن الروح القدس قد سئم من الزنا والسكر والكذب في العالم، وسألهما عما إن كانا يرتكبان أيًّا من هذه الأشياء. لم يكن لدى باني فكرةٌ واضحة عن الزنا، لكنه كان يعلم أن الأب قد كذب كذبةً كبيرةً للغاية قبل حدوث «الزلزال» بوقتٍ قصير، وضحك بداخله وهو يقول لنفسه إن آل واتكينز قد يعتبرون هذا الأمر معجزة، إن عرفوا ذلك!

جاء الرجل العجوز للتأكُّد من أنهما بخير. كان السيد واتكينز النسخة الأكبر والأطول من ابنه، بالعينَين الزرقاوَين الشاحبتَين البارزتَين أنفسهما وتفاحة آدم الكبيرة؛ كان وجهه مسفوعًا نتيجة التعرض لظروفٍ مناخيةٍ مختلفة، ويظهر فيه الكثير من التجاعيد الناجمة عن الشعور بالقلق، وكان يبدو عليه أنه رجلٌ عجوزٌ لطيف، صادق وطيب، على الرغم من جنونه. تحدَّث هو أيضًا عن «الزلزال»، وتحدَّث عن الزلزال الذي هز المباني المشيدة بالطوب والخرسانة في روزفيل قبل عدة سنوات. ثم قال إن ميلي وسادي ذاهبتان إلى المدرسة، وستُحضِران بعض الخبز إذا أراد الغريبان ذلك. لذلك أعطاه الأب دولارًا، وبعدها تجادلا قليلًا؛ لأن السيد واتكينز قال إنهم لن يقبلوا إلا بالسعر المعتاد لبيع البيض والحليب والبطاطس في المتجر، وإنهم لن يتلقوا أي أجرٍ مقابل التخييم؛ لأن ذلك لم يشكِّل أي مشكلة لهم؛ فهم يسعدون بمقابلة الغرباء؛ لأنهم يعيشون حياةً منعزلة في هذه التلال، ولولا الرب وكتابه المقدس، لفقدوا الشغف في الحياة.

٦

وضع الأب وباني أحزمة الخراطيش حول كتفَيهما، ولقما بنادق الصيد المتعددة الطلقات، وانطلقا عبر التلال نحو الوادي الصغير. لم يهتم باني كثيرًا بصيد السُّمَانى؛ فقد كان يشعر بالأسف تجاه تلك الطيور الجميلة ذات اللون الأسود والبني، التي كانت تتباهى بعرفها الفخم، وتركض بأرجلها الرشيقة السريعة، وتطلق أصواتًا عذبة عند غروب الشمس. لكن باني لم يبُح مطلقًا بهذه الأفكار؛ لأنه كان يعلم أن الأب يحب الصيد، وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة لإبعاده عن عمله، والخروج إلى العراء، وهو ما قال الطبيب إنه مفيد لصحته. كان الأب سريعًا مثل البرق في تحريك بندقيته، وبسبب مهارته في التصويب بدا وكأن إصابة الهدف أمرٌ سهل للغاية، ولم يرتكب قَط الخطأ الذي ارتكبه باني، وهو محاولة إطلاق النار على عصفورَين في الوقت نفسه. كما كان لدى الأب الوقت لمراقبة باني وتعليمه؛ للتأكد من أنهما يتحركان في خطٍّ مستقيم، ولم ينحرفا عن بعضهما، حتى لا يكون أحدهما في مرمى بندقية الآخر.

تجولا كثيرًا في التلال والوديان، وحلَّقَت الطيور في كل اتجاه مرفرفةً بسرعة بأجنحتها، ثم دوى صوت البندقية، وكانت الطيور إما تتمكن من الفرار وإما تسقط على الأرض. لكن حينئذٍ لم يكن هناك داعٍ لالتقاطها، فما زال هناك طيورٌ أخرى، فهي تحلق بعيدًا وتختبئ، وعليك تتبُّعها، وإطلاق المزيد من الطلقات، حتى تجمع أخيرًا كل ما يمكنك العثور عليه، ويصبح لديك حزم من الريش الدافئ الناعم، المبقع بالدم. في بعض الأحيان كانت الطيور تظل على قيد الحياة حتى بعد إصابتها، وحينئذٍ كان عليك كسر رقابها، وكان باني يكره هذا الفعل.

ملآ حقائبهما، ثم عادا إلى المخيم وهما في غاية التعب والجوع. أتى إيلاي، وعرض أن ينظف الطيور لهما، وكانا سعيدَين بالسماح له بفعل ذلك، وأعطياه نصف الطيور ليأكلها أفراد أسرته، كان من المثير للشفقة رؤية التماع عينَي الشاب الفقير الذي كان يتضوَّر جوعًا عند سماع هذا النبأ. فليس من السهل أن تصل إلى درجةٍ عالية من النضج الروحي في هذه السن المبكرة!

أخذ إيلاي الطيور إلى المنزل، حيث يتوفر لوح تقطيع ودلاء من الماء، وفي هذه الأثناء، استلقى باني لنيل قسط من الراحة، مادًّا قدميه أمامه. فجأة انتصب جالسًا في تعجُّب. وقال: «أبي! انظر إلى هذا!»

«علام أنظر؟»

«عند حذائي!»

«ما الأمر؟»

قرَّب باني قدمه إليه. وقال: «أبي، هذا نفط!»

«هل أنت متأكد؟»

«ماذا يمكن أن يكون غير ذلك؟» نهض ووثب على قدمٍ واحدة، حتى يستطيع الأب أن يرى بنفسه. «إنه يغطي الجزء العلوي من الحذاء.»

«هل أنت متأكد من أنه لم يكن موجودًا من قبلُ؟»

«بالطبع لا يا أبي! ما زال طريًّا. لا يمكنني حزمُ حذائي هكذا دون أن ألاحظه. لا بد أنني وطئتُ على تجمُّع للنفط. يا إلهي، أراهنك أن السبب كان الزلزال! ربما خرج بعض النفط عَبْر أحد الشقوق!»

خلع باني حذاءه، وفحص الأب الاكتشاف. وقال له ألا يبالغ في الشعور بالحماس؛ فقد كان من الشائع العثور على تجمُّعاتٍ نفطية قريبة من سطح الأرض، لكن عادةً ما تكون صغيرة ولا تفضي إلى أي شيء. ومع ذلك، لا ينبغي تجاهل المؤشرات التي تدل على وجود نفط؛ لذلك بعد الغَداء سيخرجان مرةً أخرى، ويتتبعان خطواتهما، لمعرفة ما يمكنهما اكتشافه.

كان من السهل على الأب أن يقول لباني ألا يتحمس كثيرًا؛ فهو لم يكن يعرف سوى القليل عن عقل ولده! فقد كان هذا حُلم باني الذي ظل يحلُم به لسنوات. فقد كان الأب يتحدث طوال الوقت عن أنه سيمتلك يومًا ما قطعةَ أرضٍ غنية بالنفط، تخصه هو وحده. وكان يجري حساباته ويبين أنك عندما تدفع لرجل سدس الأرباح، فأنت في واقع الأمر تعطيه نصف صافي أرباحك؛ لأنك مطالب بدفع جميع التكاليف، ليس فقط تلك الخاصة بالحفر، ولكن أيضًا المتعلقة بصيانة البئر وتشغيلها، وتسويق النفط. وبهذا يكون الشخص الآخر قد حصل على نصف أموالك، دون أن يفعل شيئًا سوى امتلاك الأرض! حسنًا، يومًا ما، سيكتشف الأب أرضًا، ويمتلكها وحده، حتى يتمكن من تطويرها جيدًا، وبناء مدينة نفطية يمكنه إدارتها كما ينبغي، دون أي تدخل أو أي ابتزاز.

ولكن كيف سيعثر على تلك الأرض؟ كان هذا هو حلم باني! كان قد تخيل خوض هذه المغامرة بأشكال عدة؛ منها أن يحفر حفرة في الأرض، ثم يندفع النفط منها، ومن ثم يغطيها باني ليخفيها عن الأنظار، ويشتري الأب أميالًا من الأراضي حول هذه الحفرة، ويجعل باني شريكًا معه فيها، أو أن باني، أثناء استكشاف كهف في الجبال، يسقط في تجمع نفطي، ويخرج منه بصعوبة بالغة. كان هناك العديد من الطرق المختلفة التي تصورها، لكنه لم يفكر قطُّ في هزةٍ أرضيةٍ تتسبَّب في تصدُّع الأرض، قبيل خروجه هو والأب لصيد السُّمَانى!

كان باني متحمسًا للغاية، لدرجة أنه لم يلاحظ طعم تلك الوجبة اللذيذة من السُّمَانى والبطاطس المقلية واللفت المسلوق. وبمجرد أن فرغ الأب من تدخين سيجاره، انطلقا مرة أخرى، ولم يرفعا عينيهما عن الأرض إلا لدراسة المعالم البارزة حولهما، ولمعرفة ما إذا كانا قد سارا في هذا الممر عبر التلال أو ذاك. كانا قد سارا لمسافة نصف ميل أو نحو ذلك، عندما وجد الأب زوجًا من السُّمَانى وأطلق عليه الرصاص فأسقطه، ومشى لالتقاطه، ثم صاح قائلًا: «ها هو، يا بني!» ظن باني أنه كان يتحدث عن السُّمَانى، لكن الأب نادى مرة أخرى: «تعال إلى هنا!» وعندما اقترب الصبي قال له الأب: «ها هو النفط!»

كان هناك خطٌّ أسودُ من النفط، بعرض ست أو ثماني بوصات، يسيل عَبْر صدع متعرج في الأرض، كان طريًّا ورطبًا، وكان يتدفَّق مُصدرًا فقاقيع بين الحين والآخر، كما لو كان لا يزال يتسرب. جثا الأب على ركبتَيه وغمس إصبعه فيه، ورفعه أمام الضوء ليرى اللون، وكسر غصنًا يابسًا من شجرة وغرزه في الصدع ليرى مدى عمقه، ومقدار ما تبقَّى فيه من نفط. عندما نهض الأب مرةً أخرى، قال: «لا شك في أن هذا نفطٌ حقيقي. أظن أن شراء هذه المزرعة لن يضُرنا في شيء.»

وهكذا عادا إلى المخيم. وكان باني يشعر بسعادةٍ بالغة، كانت بادية عليه، وكان الأب يحسب ويخطط، ولم يهتم أيٌّ منهما بالسُّمَانى. سأل الأب: «هل أخبرَتْك السيدة جرورتي من قبلُ عن مساحة هذه المزرعة؟»

«قالت إن مساحتها ميلٌ مربع.»

«سيتعيَّن علينا معرفة حدودها. وبالمناسبة، يا بني، لا ترتكب أي خطأ في الوقت الحالي، ولا تتفوه بكلمة لأحد عن النفط، ولا حتى بعد أن أشتري المكان. فالحصول على مساحةٍ كبيرة من الأرض في هذه التلال لن يضُرنا في شيء. ولن نُضطَر إلى دفع الكثير مقابل حجارة.»

«لكن اسمع يا أبي، ستعطي السيد واتكينز سعرًا عادلًا!»

«سأعطي له ثمن الأرض، لكنني لن أدفع له مقابل النفط. وذلك لأنه ربما يشتبه في الأمر ويرفض البيع. فلا شأن له بالنفط الموجود هنا؛ فهو لم يَستفِد منه من قبلُ، ولن يستفيد منه حتى بعد مليون عام. وعلاوةً على ذلك، ما الفائدة التي يمكن أن يجنيها مسنٌّ مسكينٌ معتوه مثل هذا من أموال النفط؟»

«لكننا لا نريد استغلاله يا أبي!»

«سأعطيه ما يكفيه من المال الذي لا يجعله يعاني، وفي الوقت ذاته لا يمكنه التبرع به لأي إرساليات، وسأعتني به دائمًا، وبأطفاله، وأتأكد من أنهم يعيشون في رغد. ولكن لن يكون هناك أي أرباح من النفط! وإذا سألك أيٌّ منهم عني، يا بني، فقط قُل إنني أعمل في التجارة؛ أتاجر في الأراضي وجميع الأشياء الأخرى. قُل لهم إنني أملك متجرًا عامًّا؛ حيث أشتري المعدات وأُقرِض المال. وهذا كله صحيح تمامًا.»

تابعا السير، وبدأ باني في تأمل عناصر المشكلة الأخلاقية التي كانت تشغل تفكيره من حين لآخر لسنواتٍ عديدة. فما حقوق آل واتكينز بالنسبة للنفط الموجود تحت أرض هذه المزرعة؟ لم يقُل الصبي أي شيء لوالده؛ لأنه كان يعلم أن والده قد حسم قراره، وبالطبع سوف يطيع أوامر والده. لكنه فكر في الأمر طوال الطريق حتى عادا إلى المزرعة؛ حيث شاهدا الرجل المسن يثبِّت بعض الألواح الخشبية بحظيرة المَعْز الخاصة به. انضَمَّا إليه، وبعد الدردشة قليلًا حول السُّمَانى، قال الأب: «سيد واتكينز، هل يمكنني أن آتي إلى منزلك لأحظى بمحادثة معك أنت وزوجتك؟» وعندما وافق السيد واتكينز، التفت الأب إلى باني قائلًا: «معذرةً، يا بني، فلتُحاوِل اصطياد بعض الطيور بنفسك.» وكان باني يعرف بالضبط ما يعنيه ذلك؛ فقد ارتأى الأب أنه من الأفضل لابنه ألَّا يشهد هذه العملية الجراحية، التي سيفقد فيها آل واتكينز البائسون ستمائة وأربعين هكتارًا من الحجارة!

٧

تجول باني إلى أعلى الغدير، وفي أعلى المنحدر رأى المَعْز وهي تأكل. صعد ليشاهدها؛ وهناك قابل روث.

كانت جالسةً على جلمودٍ صخريٍّ كبير، تحدق في حافة التلال. كانت حاسرة الرأس وكانت ساقاها باديتَين من الفستان الكاليكو المرقَّع والباهت، الذي صغُر مقاسه عليها ولم يكن لديها غيره. كانت طفلةً نحيفة، وجهها شاحب، على الرغم من سمرته؛ فقد كان يشوبه الهزال، ويفتقر إلى التورُّد. كانت عيناها زرقاوَين مثل باقي أفراد الأسرة، وجبهتها مستديرة بارزة، وشعرها مشدودًا للخلف ومربوطًا بشريطٍ قديم. جلسَت ترعى قطعان المَعْز، كما كان الفتيان والفتيات يفعلون قبل ألفَي عام في فلسطين، كما قرأَت في الكتاب الوحيد الموجود في منزل آل واتكينز. كانت تفعل هذا كل أسبوعَين لمدة عشر ساعات أو اثنتَي عشرةَ ساعةً في اليوم، بالتناوب مع شقيقتَيها. نادرًا ما كان يقترب أحدٌ من هذا المكان؛ ولذلك شعَرَت بعدم الارتياح عندما صَعِد الصبي الغريب إلى هناك، لم تنظر إليه، وكانت تشعُر بالتوتر.

لكن باني كان يعرف كيف يمكنه الدخول إلى قلبها. سألها: «أنت روث، أليس كذلك؟»، وعندما أومأَت برأسها، قال: «أنا أعرف بول.»

وهكذا صارا صديقَين في لمح البصر. ضمَّت يديها معًا وسألَته وهي تحدِّق فيه: «يا إلهي، أين قابلته؟»

أخبرها باني كيف أنه كان في منزل السيدة جرورتي — لكنه لم يقُل شيئًا عن النفط بالطبع — وكيف جاء بول، وما حدث بالضبط. أصغت إلى كل كلمة دون أن تقاطعه؛ فروث لم تكن كثيرة الكلام، وبالرغم من عمق مشاعرها، لم تكن تُفصِح عنها. لكن باني كان يعلم أن روحها كانت هائمة في قصته؛ فقد كانت تُحب أخاها حبًّا جَمًّا. سألَته هامسة: «ألم تره بعد ذلك مرةً أخرى؟»

قال باني: «أنا لم أرَه قَط على الإطلاق، ولن أعرفه إن التقيتُ به. ألا تعرفين أين هو؟»

«لقد تلقيتُ منه ثلاث رسائل. دائمًا ما يرسلها من مكانٍ جديد، ويقول إنه لن يقيم هناك. يقول إنه سيأتي لرؤيتي في يوم من الأيام، أنا فقط. فهو خائف من أبي.»

«ماذا سيفعل والدكِ؟»

«سيجلده. فهو مختلفٌ معه بشدة. ويقول إنه أحد أعوان الشيطان. فبول يقول إنه لا يؤمن بما في الكتاب المقدَّس! هل تصدق ذلك؟»

تردَّد باني، متذكرًا والده وما قاله عن «كلمة الحق». لكنه قرَّر أنه يمكنه الوثوق في روث؛ ولذلك أخبرها أنه لا يظن أنه يؤمن بكل شيء. حدَّقَت روث في عينَيه بقلقٍ شديد وسألَته: «ما الذي يسبب الزلازل؟»

أخبرها باني بما علَّمه إياه السيد إيتون عن قشرة الأرض وتقلُّصها، والصدوع التي تحدُث في الطبقات التي تتأثر على الفور بهذا الضغط. واستنتج من نظرة الإعجاب على وجهها أن هذا كان أول درسٍ لها على الإطلاق في العلوم الطبيعية. قالت: «ولذلك لستَ بحاجة لأن تخاف!»

ثم لاحظ باني علامات بزوغ فكرةٍ أخرى في ذهنها. وكانت روث تحدِّق فيه باهتمام أكثر من أي وقتٍ مضى، وصرخَت: «يا إلهي! أنت من أرسلت ذلك المال!»

تساءل ببراءة: «أي مال؟»

«جاءت أربع رسائل بداخل كلٍّ منها ورقةٌ نقدية فئة خمسة دولارات، دون أن يكون مكتوبًا معها شيء. قال أبي إنه الروح القدس، لكنه كان أنت! أليس كذلك؟»

وهكذا بعد هذه المواجهة المباشرة، أومأ باني برأسه معترفًا؛ واحمر وجه روث خجلًا، وبدأَت تشكره وهي تتلعثم وتشعُر بالإحراج؛ فهي لم تكن تعلم كيف سيتمكنون من رد هذا المال؛ فقد كانوا يواجهون وقتًا عصيبًا. قاطعها باني، وأخبرها أنه ليس هناك داعٍ لرد المال لأن الأب كانت لديه أموالٌ كثيرةٌ فائضةٌ عن حاجته. وأوضح لها أن الأب كان يعرض شراء المزرعة من والدَيها، وسداد الرهن العقاري، والسماح لهم بالعيش هناك ما داموا يريدون ذلك، مقابل دفع إيجارٍ صغير جدًّا. بدأَت الدموع تسيل على خدَّي روث، وكان عليها أن تدير رأسها بعيدًا؛ كان الأمر محرجًا فهي لم تستطع تمالُك نفسها، ولم يكن لديها شيءٌ تمسح به دموعها، فكل قطعةٍ من فستانها كانت ضرورية لتغطية ساقَيها العاريتَين. انزلقَت عن الصخرة، ودخلت في نوبة بكاء بعيدًا عن بصره، وجلس باني مضطربًا، ليس بسبب تعبيرها عن عواطفها بقَدْر ما كان بسبب الحرب الأخلاقية التي كانت تدور بداخله. قال لنفسه إن دافعه الحقيقي لحمل الأب على المجيء إلى هنا كان مساعدة آل واتكينز، أما النفط فقط فكان مجرد ذريعة لإقناع الأب. وفي هذا الخصوص، كان الأب سيشتري المزرعة، فقط لمساعدة الأسرة، وبدون أي نفط، ربما كان الأمر سيتطلب بعض المناقشات، لكنه كان سينجح في النهاية! لذلك طمأن باني نفسه، لكن طَوال الوقت كان يفكر في تلك العملية الجراحية التي كانت تُجرى في الكوخ، بينما كان يجلس هنا تاركًا روث تعتبره بطلًا ومنقذًا.

كان الأب قد قال: «ما الفائدة التي يمكن أن يجنيها مسنٌّ مسكين معتوه مثل هذا من أموال النفط؟» وعرف باني أن الأب كان سيستعمل الحُجة ذاتها بشأن روث؛ فقد كانت سعيدة وتتمتع بصحةٍ جيدة، وتجلس في الشمس كاشفةً عن ساقَيها السمراوَين، كان هذا عندها أفضل شيء في العالم، أفضل بكثير مما لو كانت ساقاها في جواربَ حريريةٍ باهظة الثمن. كان هذا لا بأس به بالنسبة لباني، لكن حينئذٍ، راودَتْه فكرةٌ أخرى: لماذا ترتدي النساء الأخريات الجوارب الحريرية؟ فها هي العمة إيما التي تجلس على تسريحتها، لا ترتدي فقط الجوارب الحريرية، بل المشدات المستوردة من باريس، ولديها ما يكفي متجرًا كاملًا من مستحضرات التجميل، لماذا لا تجلس هنا في الشمس ترعى المَعْز وهي تكشف عن ساقَيها السمراوَين؟

٨

سمع باني صوت الأب ينادي عليه، فودَّع روث، وركض نحو الغدير. كان الأب جالسًا في السيارة. قال: «سنذهب إلى بارادايس. لكن غَيِّر أولًا هذا الحذاء الملطَّخ بالنفط.» فعل باني كما قال الأب، ووضع حذاءه جانبًا في صندوق السيارة. قفز في السيارة، ومضيا في الممر، وقال الأب، وعلى وجهه ابتسامةٌ مبتهجة: «حسنًا، يا بني، لقد أصبحَت المزرعة ملكنا.»

كان الأب مستمتعًا باللعبة التي لعبها للتو، وأخبر باني عنها، متجاهلًا احتمالات تأثير ذلك على مشاعر باني. كان الأب قد بدأ الحديث بلباقة مع السيد واتكينز وزوجته حول افتقار العائلة للخبز، مما جعل السيد واتكينز يتحدث عن الموقف برمته. كان هناك رهنٌ عقاري بقيمة ألف وستمائة دولار بضمان المزرعة، بالإضافة إلى الفائدة المتأخرة التي تصل قيمتها إلى ما يقرب من ثلاثمائة دولار، وكانوا قد تلقَّوا إنذارًا نهائيًّا من البنك بأن إجراءات نزع الملكية ستبدأ الأسبوع المقبل. وهنا أوضح الأب أنه يريد مكانًا للتخييم الصيفي؛ حيث يمكن أن يعيش ولده في الهواء الطلق، وسيشتري المزرعة بسعر معقول. بدأَت السيدة واتكينز المسكينة في البكاء؛ فقد كانت، حسبما بدا، قد وُلدَت في هذا المكان؛ ولذلك فهو يتمتع بمكانةٍ أكبر من مجرد منزل. أخبرها الأب أنه لا داعي للقلق؛ فبإمكانهم البقاء في المزرعة، والاستمرار في زراعتها، لمدة تسعة وتسعين عامًا مقابل دفع عشرة دولارات في السنة. أمسك الرجل المسن بيد الأب، وقال إنه كان يعلم أن الرب سينقذهم. رأى الأب أن هذه ركيزةٌ جيدة يمكنه استخدامها؛ ولذا أوضح أن الرب قد أرسله، مسترشدًا برؤيا «كلمة الحق»؛ وبناءً على ذلك كان السيد واتكينز يوافق على كل ما كان يقوله له الرب على لسان الأب!

وبالطبع تولى جيه أرنولد روس شئون تلك الأسرة ونظَّمها، وأوقف هُراء التبرع بأموالهم للإرساليات! فقد قال الرب للأب أن يخبر السيد واتكينز أنه سيستخدم نقوده في إطعام أطفاله وكسوتهم وتعليمهم. علاوةً على ذلك، أخبره الرب ألا يدفع أسهم الأرض نقدًا، بل يجب أن تكون في شكل شهادات إيداع في شركة لإدارة الأموال، ستدفع لهم دخلًا صغيرًا يبلغ حوالي خمسة عشر دولارًا في الشهر، وذلك أفضل بكثير من دفع فائدة على الرهن العقاري تُقارِب عشرة دولاراتٍ شهريًّا للبنك! وكذلك أمر الرب بأن تُحفظ هذه الأموال في شكل وديعة للأطفال، ويمكن لبول صديق باني أن يشكُر الأب لأنه وفر له نصيبًا. فقد قال السيد واتكينز إن أحد أبنائه قد ضل الطريق، ولا يستحق رعاية الرب، لكن الأب أخبره أن رؤيا «كلمة الحق» أكَّدَت له أن الرب سيهدي هذا الابن الضال في الوقت المناسب، تلقَّى السيد واتكينز هذه الرؤيا بفرح، ووقَّع هو وزوجته على عقد البيع الذي أخرجه الأب. كان سعر الشراء ثلاثة آلاف وسبعمائة دولار، وفقًا لتقدير السيد واتكينز؛ فقد قال إن ثمن الأرض في هذه التلال يبلغ خمسة دولارات للهكتار، وقدَّر ثمَن الإصلاحات التي أجراها بالمزرعة بخمسمائة دولار. قال الأب إن الإصلاحات لا تستحق هذا المبلغ حقًّا؛ فما زالت المزرعة تحتاج إلى المزيد من الإصلاحات، لكنه قَبِل بتقدير الرجل المسن لقيمتها. ونَصَّ العقد على أن يكون للسيد واتكينز الحق في الحصول على ما يكفي من الماء لري هكتارَين من الأرض؛ حيث كانت هذه هي المساحة المزروعة حاليًّا؛ وبالطبع، سيعطيه الأب المزيد إذا أراد، وذلك ليتجنَّب أي نزاعاتٍ مستقبلية حول حقوق الماء. وفي الصباح، كان السيد واتكينز وزوجتُه سيتوجهان إلى بارادايس، وسيستأجر الأب هناك سيارة تتسع لأربعة ركاب، وسينطلق بهما إلى بلدةٍ أخرى؛ حيث يمكنهم إيداع العقد لدى وكيل ضمان دون إجراء المزيد من المناقشات.

في غضون ذلك، كان الأب في طريقه إلى بارادايس، ليطلب من وكيل عقارات البلدة شراء المزيد من الأراضي له. سأله باني: «لماذا لا تطلب ذلك من بن سكوت؟» أجاب الأب بأن بن كان وضيعًا؛ فقد أمسك به وهو يحاول الحصول على عمولة من الطرف الآخر. وعلى أية حال، يمكن لأي رجلٍ محلي أن يفعل ذلك الأمر على نحوٍ أفضل، وسيكسب الأب ولاءه بعمولةٍ إضافية، ليسمح لباني أن يلاحظ ويتعلم كيفية سير الأمور. ولحسن الحظ، كان الأب قد اتخذ الاحتياطات اللازمة، وأحضر معه شيكًا مصرفيًّا قيمته ثلاثة آلاف دولار. قال بسخريةٍ ماكرة: «لم أكن أعرف إلى متى سنخيم.»

وهكذا ذهبا إلى مكتبٍ يحمل لافتةً مكتوبًا عليها: «جيه إتش هارداكر، للعقارات والتأمين والقروض». كان السيد هارداكر يجلس واضعًا قدمَيه على مكتبه والسيجار في فمه، في انتظار فريسته؛ حيث كان يشبه عنكبوتًا نحيفًا يبدو عليه الجوع، ولم ينخدع للحظة بملابس الصيد القديمة ذات اللون الكاكي التي كان يرتديها الأب؛ علم أن هذا الرجل يملك المال؛ لذا أنزل قدمَيه على الأرض وانتصب في جلسته. جلس الأب، وأبدى ملاحظةً عن الطقس، وسأل عن الزلزال، وأخيرًا قال إن له قريبًا يريد أن يعيش في مكانٍ مفتوح من أجل حالته الصحية، وإن الأب قد اشترى للتو مزرعة آيبل واتكينز، ويرغب في التوسُّع في تربية المَعْز؛ لذا هل يمكنه الحصول على بعض الأراضي المتاخمة؟ أجاب السيد هارداكر على الفور، وقال إن هناك عددًا كبيرًا من الأراضي المتاحة للشراء؛ فهناك أرض السيد باندي، التي تقع بجوار مزرعة آل واتكينز مباشرةً، وأخرج السيد هارداكر خريطةً كبيرة وبدأ يوضح للأب مكانها بقلمه الرصاص، وكانت مساحتُها تبلغ ما يقرب من ألف هكتار، لكنها مليئةٌ بالصخور ويقع معظمها في التلال. سأل الأب عن سعر الشراء، وقال السيد هارداكر إن سعر الهكتار في التلال كان خمسة أو ستة دولارات. وبدأ في عرض أراضٍ أخرى، وطلب منه الأب أن ينتظر، وأخرج ورقة وقلم رصاص وبدأ في تدوين الأسماء والمساحات والأسعار. كان واضحًا أنه كان يمكن شراء كل الأراضي في هذه المنطقة، وكلما كان الرجل يغفُل عن ذكر أي قطعة، كان الأب يسأل: «وماذا عن تلك الأرض؟» فيقول السيد هارداكر: «هذه أرضُ العجوز راسكوم، أظن أنه يمكن شراؤها.» قال الأب: «دعنا نضع جميع الأسماء في قائمة»، وبدأَت تظهر على وجه السيد هارداكر نظرة غريبة؛ فقد بدأ يدرك أن هذه كانت أعظم فرصة في حياته.

قال الأب: «حسنًا، سيد هارداكر، دعنا نتحدث بصراحة. أريد شراء بعض الأراضي، إذا كان من الممكن الحصول عليها بشكلٍ معقول. فبمجرد أن يكتشف الناس أنك تريد شراء أراضيهم، يبدَءون في رفع السعر؛ لذلك دعنا نوضح الأمور، أنا على استعداد لدفع سعرٍ معقول، ولا أنوي دفع ما يزيد عن ذلك، وإذا بدأ أي شخص في المبالغة في السعر الذي يطلبه، فقُل له أن ينسى الأمر لأن هذا ما سأفعله أنا أيضًا. لكن أريدك أن تشتري لي جميع الأراضي التي يمكنك شراؤها بسعرٍ معقول، ويمكنك الحصول على عمولتك من البائع بالطريقة المعتادة، وإلى جانب ذلك، ستحصل مني على عمولة نسبتُها خمسة بالمائة. خلاصة القول، أريدك أن تعمل لحسابي، وأن تفعل كل ما في وسعك حتى أحصل على الأرض بأقل الأسعار. لستُ بحاجة إلى أن أوضِّح لك أن اعتباري الوحيد هو الشراء في سرعة وهدوء؛ حتى لا يحظى الناس بوقتٍ لملاحظة زيادة الطلب على أراضي المنطقة. هل تفهم ما أقول؟»

قال السيد هارداكر: «نعم. لكنني لستُ متأكدًا من مدى إمكانية فعل ذلك في هدوء؛ فالمنطقة صغيرةٌ جدًّا، وكلام الناس كثير، وإبرام الصفقات يستغرق وقتًا.»

«لن يستغرق الأمر أي وقتٍ على الإطلاق إذا تعاملتَ معه بطريقتي، واستخدمتَ المنطق السليم. ولا تُفصِح عن هويتي؛ فأنت تشتري الأراضي لعميلٍ غير معروف مقابل عقودِ خياراتٍ نقدية؛ وهذا يعني، إذا كان الأشخاص موجودين، فأبرم الصفقاتِ على الفور.»

قال السيد هارداكر بنبرةٍ يشوبُها قليل من الخوف: «لكن هذا سيتطلب مبلغًا كبيرًا من المال.»

قال الأب: «معي مبلغٌ بسيط في جيبي، بالإضافة إلى شيك بثلاثة آلاف دولار، يمكنني صرفُه في الصباح. وكما ترى، سيد هارداكر، أنا مهووس بصيد السُّمَانى؛ ولذا راودَتْني فكرة أنه إذا عثَرتُ على الكثير من السُّمَانى بإحدى الأراضي، فسأشتريها لأصطاد السُّمَانى بها. لكنني أودُّ أن أوضِّح لك أن بإمكاني صيد السُّمانى في أي مكان؛ فهذا ليس السبب الوحيد لاهتمامي بشراء هذه الأراضي!»

أخرج الأب من محفظة بطاقاته رسالةً من رئيس بنكٍ كبير في مدينة إنجِل سيتي، ينصح كل من يهمه الأمر بأن السيد جيمس روس رجلٌ ذو مواردَ كبيرة ويتمتَّع بأعلى درجات النزاهة. كان الأب يحمل رسالتَين مثل هذه، كما كان باني يعرف؛ إحداهما باسم جيمس روس والأخرى باسم جيه أرنولد روس؛ كان يستخدم الرسالة الأولى في شراء الأراضي التي تحتوي على نفط، ولم يطَّلع أحدٌ قطٌّ على هُويَّته وقت شراء الأراضي!

كان اقتراح الأب كالتالي: سيبرم عقدًا مع السيد هارداكر يستطيع بموجبه تقديم عقود خيارات مدتها عشرة أيام لقائمةٍ طويلة من الأراضي، بمساحاتٍ محددة وأسعارٍ محددة؛ حيث يدفع خمسة بالمائة من سعر الشراء لكل عقد خيار، ويوافق الأب على الحصول على كل هذه العقود في غضون ثلاثة أيام، ويدفع خمسة بالمائة للسيد هارداكر على جميع عمليات الشراء. كان السيد هارداكر في حَيرة من أمره بين الشعور بالقلق والرغبة في التملك، وفي النهاية قال إنه يرى أنه سيغتنم الفرصة، وإذا خذَله الأب، يستطيع بسهولة إشهار إفلاسه! جلس على آلته الكاتبة الصدئة وكتب نسختَين من العقد، مع قائمةٍ طويلة من الأراضي التي كان من المفترض أن تكلف الأب ما يزيد عن ستين ألف دولار. قرآ العقد مرتَين، ووقَّعه الأب، ووقَّعه السيد هارداكر بيدٍ مرتعشة، وقال الأب حسنًا، ووضع على المكتب عشر أوراقٍ نقدية من فئة المائة دولار، وقال للسيد هارداكر أن يبدأ عمله فورًا. كان من الأفضل أن تكون جميع عقود الخيارات جاهزة على توقيع الطرف الآخر، وظن الأب أن لديه بعضًا من النسخ في السيارة؛ لم يكن متأكدًا من ذلك، لكنه سيذهب ليرى. خرج، وسأل السيد هارداكر باني، بطريقةٍ لطيفةٍ وودية: «ما هو عمل والدك، يا فتى؟» أجاب باني، وهو يبتسم بداخله: «أبي يعمل في جميع الأنشطة التجارية، ويشتري الأراضي، وغيرها من الأشياء الأخرى.» «ما طبيعة هذه الأشياء الأخرى؟» قال باني: «حسنًا، لديه متجرٌ عام، وفي بعض الأحيان يشتري الآلات ويُقرِض المال.» حينئذٍ عاد الأب، ولحسن الحظ، تصادَف أن كان لديه عددٌ من العقود في سيارته، وابتسم باني بداخله مرةً أخرى؛ لأنه دائمًا ما كان الأب يعثُر على المستنَد الصحيح، أو الأداة المناسبة، أو الطعام المناسب، أو المطهر واللاصق الطبي المناسبَين، مخبَّأً في مكانٍ ما في تلك السيارة!

٩

عادا بالسيارة إلى المخيم، وكان الوقت يقترب من غروب الشمس مجددًا، وكانت نداءات السُّمَانى تنتشر في جميع أنحاء التلال. ومرا بالخَيَّال الذي كان يرعى قطيعًا من الماشية، وتوقف وتحدث عن الزلزال، ثم أكمل طريقه، محدثًا الصوت الذي ينجم عن تصادم سرجه وأحزمة ركابه. وقال الأب: «ربما سنشتري أرض ذلك الرجل قبل الليل، حينئذٍ يمكنك ركوب حصانه.» وتابعا مضيَّهما، وجاء بعد قليلٍ رجلٌ آخر، هذه المرة سيرًا على الأقدام. كان شابًّا صغيرًا، طويل القامة ونحيفًا، لكن ظهره كان محنيًّا كما لو كان معتادًا على العمل بالمحراث، كان يرتدي ملابسَ ريفية وقبعةً من القش، ومَرَّ بجانبهما بسرعة، محدقًا فيهما بشدة، وبالكاد أومأ برأسه ردًّا على تحية الأب الودودة: «مساء الخير». علق الأب قائلًا: «يا له من شابٍّ غريب الأطوار»، ورسم باني في عقله صورةً ذهنيةً لوجهٍ، بادي الجدية، ذي أنفٍ بارز وفمٍ واسعٍ حزين.

واصلا السير حتى وصلا إلى مخيَّمِهما، وأشعلا نارًا، وأعدَّا وجبةَ عَشاءٍ لذيذة، تتكوَّن من السُّمَانى ولحم الخنزير المقدد المطهوين في المقلاة، والكاكاو الساخن، وخبزٍ محمَّص مصنوع من الخبز الذي كانت قد أحضرَتْه ميلي وسادي، وبعض الخوخ المعلَّب الذي كان باني قد اشتراه. وبعد العَشاء رأى باني روث بالأسفل عند حظيرة المَعْز، ومشى متمهلًا نحوها ليلتقي بها؛ نظرَت حولها بخوف لتتأكد من عدم وجود أي شخصٍ آخر بالقرب منها، ثم همسَت: «بول كان هنا!»

أجفل باني، مذهولًا. «بول؟» وفجأة ظهرَت الحقيقة أمامه. «لقد كان الذي مررنا به على الطريق هو بول!» وصَف شكله لروث، فقالت نعم، كان هذا هو بول، كان قد سافر متطفلًا مجانًا لرؤيتها، كما وعدَها، وأعطاها خمسة عشر دولارًا وفَّرها من دخله. «أخبرتُه أننا لسنا بحاجة إليها الآن، لكنه تركها.»

حينئذٍ صاح باني: «أوه، لماذا لم يتوقف ويتحدث معي أنا وأبي؟ لم يزِد على أن أومأ إلينا!»

كانت روث بادية الإحراج، وكان من الصعب جعلُها تتحدث عن بول بعد الآن. لكن باني أصر، وقال إنه كان حريصًا جدًّا على معرفة بول، وبدا الأمر كما لو أن بول لم يكن يحبه. عندها فقط تشجَّعَت روث لتخبره بما قاله بول. «لقد كان غاضبًا بسبب بيع أبي للمزرعة. ويقول إنه لم يكن علينا فعل ذلك.»

«ولكن ما الحلول الأخرى التي كان يمكنكم اللجوء إليها؟»

«يقول إنه كان يتعيَّن علينا بيع المَعْز، وسداد القرض للبنك، وزراعة الفراولة، كما يفعل بعض الناس هنا. حينئذٍ كان يمكن أن تتحسَّن الأحوال ونصبح مستقلين …»

صاح باني: «إن بول شامِخ الأنفِ جدًّا! إنه خائف جدًّا من قبول الإحسان!»

قالت روث: «لا، ليس الأمر كذلك بالضبط.»

«ماذا إذن؟»

«حسنًا، ليس من اللائق التحدُّث عن …» شعرت روث بالإحراج مرةً أخرى.

«ما الأمر يا روث؟ أريد أن أحاول فهم بول.»

«حسنًا، يقول إن والدك تاجرٌ كبير في مجال النفط، ويقول إن هناك نفطًا في هذه المزرعة، وأنت تعرف ذلك؛ لأنه أخبرك بذلك.»

ساد الصمت.

«هل والدك تاجر نفط؟»

أجبر باني نفسه على الإجابة. وقال: «أبي رجل أعمال؛ يشتري الأراضي وغيرها من الأشياء. لديه متجرٌ عام ويشتري المعدات ويُقرِض المال.» هذا ما أمره الأب بقوله، وكانت هذه هي الحقيقة كما نعلم، ومع ذلك اعتبر باني نفسه كاذبًا وهو يقول ذلك. كان يُضلِّل روث اللطيفة، البريئة، حَسَنة الظَّنِّ بالنَّاس، ذات العينَين الواسعتَين الصادقتَين والملامح الجميلة اللطيفة، روث التي كانت لا تراودها فكرةٌ بغيضة أو دافعٌ أناني؛ فقد كانت حياتها كلها تضحيةً طويلةً من أجل الأخ الذي تُحبه! يا إلهي، لماذا كان عليه خداع روث؟

واصلا الحديث قليلًا عن بول. كان قد مكث في التلال معظم فترة بعد الظهر وأخبر أخته عن أحواله. وقال إن أموره تسير على ما يُرام؛ فقد حصل على وظيفة مع محامٍ عجوز لم يكن يكترث بأمر هروبه من المنزل، بل سيساعده أيضًا على أن يظل مختبئًا. فقد كان هذا المحامي ممن يُدعَون ذوي التفكير الحر؛ حيث قال لبول إن لديه الحق في تصديق ما يختاره، وكان بول يساعده في الاعتناء بحديقته وغيرها من الأمور اليدوية، وأعطاه المحامي القديم كُتبًا ليقرأها، وكان بول يتعلم منها. بدا الأمر رائعًا ومريعًا في الوقت ذاته؛ إذ كان بول قد قرأ كتابًا عن الكتاب المقدس، بَيَّن أنه لا يحتوي إلا على التاريخ اليهودي القديم وحكاياتٍ خرافية، وأنه مليءٌ بالتناقضات وجرائم القتل الدموية وحالات الزنا، وأمورٍ ليس من المعقول أن تُوصَف بأنها كلام الرب. وأراد بول أن تقرأ روث هذا الكتاب، لكن روث كانت قلقةً للغاية، ومع ذلك لاحظ باني أنها كانت خائفةً على روح بول، وليس على روحها!

بعد ذلك، عاد باني إلى الأب وأخبره أن الشاب الذي مرَّا به على الطريق كان بول؛ قال الأب: «حقًّا؟» وكرَّر ما قاله سابقًا أنه كان «شابًّا غريب الأطوار». لم يكن الأب مهتمًّا بهذا الأمر، ولم يكن لديه أدنى فكرة عن ضيق النفس الذي يشعر به باني، كانت أفكاره كلها تدور حول الاكتشاف العظيم والصفقات التي كان يعقدها. استلقى على ظهره، واضعًا وسادةً تحت رأسه، محدقًا في النجوم. وقال ساخرًا: «هناك شيءٌ واحد مؤكد يا بني؛ إما أن نتقدم أنا وأنت إلى مقاعد الصف الأمامي في قطاع النفط، وإما أن نصبح ملوك المَعْز والأغنام في كاليفورنيا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤