أمسيةٌ حافلة

عندما صعد «تختخ» إلى غرفته، أسرع يستدعي «حسنية»، وسألها عن نزلاء «البنسيون»، فقالت له إنهم جميعًا هنا، عدا «فاروق» الذي خرج، فسأل عن مكان غرفة «فوزي» فعرَّفته بمكانها، فشكرها ثم منحها «بقشيشًا»، فانصرفت وهي تشكره.

نزل «تختخ» إلى الدور الأرضي، وكان «جان» وارث «البنسيون» يجلس في منصة العمل منهمكًا في الكتابة، وكان شابًّا نحيلًا شديد البياض، ممن يُطلقون عليه «عدو الشمس»، فحيَّاه «تختخ»، فردَّ التحية بسرعة، ثم عاد إلى العمل.

دقَّ «تختخ» باب «فوزي» فسمع صوتًا رفيعًا يقول: تفضَّل. فدخل. كان «فوزي» يجلس في كرسي مرتفع الظهر، فبدا غارقًا فيه؛ فقد كان قصيرًا ونحيلًا يلبس «بيجاما» لا لون لها، ولحيته نابتة، ومظهره يدعو للأسف؛ فقد كان يبدو حزينًا شارد الفكر.

وبعد أن تعارفا قال «تختخ»: آسف لأنني قد أكون أزعجتك، يبدو أنك مشغول الفكر …

قال «فوزي» وهو يقف: أبدًا … أبدًا … تفضَّل بالجلوس. هل أطلب لك زجاجة كوكاكولا؟

تختخ: شكرًا … لقد جئت أُعرِّفك بنفسي كسكَّان في مكانٍ واحد، فإذا كان عندك وقت ففي إمكاننا أن نتحدَّث قليلًا.

فوزي: يُسعدني هذا … وخاصةً أنني بلا أصدقاء.

تختخ: وزملاؤك في السكن؟!

فوزي: إنهم يعملون في شركةٍ واحدة، وهم يأكلون معًا ويسهرون معًا، وقليلًا ما يدعونني لمشاركتهم في شيء، وأنا أعمل في شركةٍ أخرى.

تختخ: إنك لم تكن موجودًا يوم حادث السرقة؟

فوزي: لا … لم أكن موجودًا … كنتُ في الشركة.

تختخ: وهل أنت مبسوط في عملك؟

فوزي: نعم … نعم … أقصد أنه في الفترة الأخيرة كانت هناك بعض المشاكل، ولكني سوف أترك هذه الشركة وأعمل في شركةٍ أخرى بالإسكندرية، فأنا من هناك …

تختخ: ومتى ستترك العمل؟

فوزي: سأتركه غدًا، وأُسافر في نفس اليوم؛ فليس عندي شيء يُبقيني هنا … وكل ما أملكه هو حقيبة ثياب سأحملها وأنطلق.

كانت المعلومات مثيرةً للغاية بالنسبة ﻟ «تختخ»، وأخذ يُفكِّر هل يسأله لماذا غادر عمله في يوم الحادث وأين ذهب؟ أم أنه قد يُثير شكوكه فيدفعه إلى الهرب، وقرَّر في النهاية ألَّا يسأله، في انتظار الغد …

عاد «تختخ» إلى الحديث فقال: هل كنت تعرف «محسن»؟

فوزي: ليس أكثر من تبادل التحية إذا التقينا، فهو كان صديقًا ﻟ «كامل»، وكانا دائمًا يُشاهَدان معًا، ولست أعرف عنه إلَّا أنه كان شابًّا طيبًا.

تختخ: وهل تعتقد أنه هو الذي ارتكب جريمة السرقة؟

فوزي: لا أدري، ولكني قرأت في الجرائد ما يُثبت أنه هو الفاعل، وقد حقَّق معه رجال الشرطة، ووجدوا بصماته في مكان الحادث، كما وجدوا النقود في غرفته.

فكَّر «تختخ» قليلًا، ثم قرَّر أن يتصل بالمفتش «سامي» فورًا، فاستأذن من «فوزي» وخرج، وأسرع إلى التليفون واتصل بالمفتش في المكتب فلم يجده، فاتصل به في المنزل ووجده.

قال المفتش: ماذا وراءك؟ … هل هناك شيء هام؟

تختخ: بخصوص حادث سرقة مدام «روز».

المفتش: لقد تمَّ القبض على اللص، وأظن أنه نُقل إلى نيابة حلوان لاستكمال التحقيق.

تختخ: إنني أعتقد أن رجال الشرطة لم يقوموا بكل التحريات اللازمة؛ فهناك موظَّف من سكَّان «البنسيون» يدعى «فوزي»، غادر شركته في الساعة الثانية عشرة ولم يعد إلَّا في الثالثة، وقد يكون هو مرتكب الحادث في فترة غيابه عن الشركة … فهل سأل رجال الشرطة هذا الشخص؟ لقد علمت منه حالًا أنه سيُغادر «المعادي» غدًا آخر النهار، وأخشى أنه بعد أن اطمأن إلى أن التهمة قد أُلصقت ﺑ «محسن»، سيُغادر مكان الجريمة ولن نعثر له على أثر، وخاصةً أنه كان متهمًا بالإهمال في ضياع مبلغ ٢٧٫٥٠ جنيهًا، وقد خرج يوم الحادث وغاب ثلاث ساعات، ثم عاد وسدَّد المبلغ، ولعله سدَّده من المبلغ الذي سرقه!

المفتش: وماذا تُريد بالتحديد؟

تختخ: أن يُسأل «فوزي» عن فترة غيابه عن المصنع، وماذا فعل فيها، ومن أين حصل على النقود، وأرجو أن تتأكَّدوا أن «سيد» ذهب لزيارة أسرته ﺑ «طنطا» أيضًا.

المفتش: سأُرسل أحد الضبَّاط غدًا لاستجواب «فوزي»، وأتصل بك في المساء في المنزل لأخبرك بما تمَّ بالنسبة للاثنين.

تختخ: أرجو إذا لم تجدني في المنزل أن تسأل عني في «البنسيون».

المفتش: «البنسيون»؟! ماذا تفعل هناك؟

تختخ: إنني أُحقِّق الحادث على الطبيعة.

المفتش: شيءٌ مدهش للغاية! لقد تقدَّمت جدًّا في وسائل عملك، وأخشى أن أطلب منك ألَّا تتصرَّف بهذه الطريقة، وإلَّا عرَّضت نفسك للخطر.

تختخ: لا تخف يا حضرة المفتش، وهذه القضية ليس فيها عنف ولا عصابات، إنها مجرد قضية غامضة تحتاج إلى بعض التفكير والتحريات.

انتهى «تختخ» من الحديث مع المفتش، فقرَّر أن يبحث عن «كامل» صديق «محسن»، ويطلب منه مساعدته في مراقبة «فوزي» … وقد وجده يجلس في صالة «البنسيون» يُطالع الجرائد.

كان «كامل» شابًّا طويلًا عريض الكتفَين، كثيف الشعر، يجلس في هدوءٍ واسترخاء … فلمَّا ناداه «تختخ» قائلًا: أستاذ «كامل» … انتبه بسرعة، ثم قال في صوتٍ حاد: أفندم.

قال «تختخ» مقدِّمًا نفسه: اسمي «توفيق»، وأنا صديق لصديقك العزيز «محسن».

قال «كامل»: من الغريب أنني لم أرَك من قبل … ولكن مرحبًا بك، ما الذي جاء بك هنا؟

تختخ: إنني في الواقع قريب لخطيبة «محسن»، وقد حضرت لأخذ حاجاته، فقرَّرت قضاء بعض الوقت هنا باحثًا عن حقيقة هذا الحادث العجيب.

كامل: أي عجب فيه؟

تختخ: أليس عجيبًا أن يندفع شاب مثل «محسن» إلى جريمة السرقة؟

قال «تختخ» هذه الجملة ليرى أثرها في «كامل» … الذي اندفع قائلًا: إنني متأكِّد أن «محسن» لم يرتكب هذه الحماقة، ولكن للأسف إن الظروف كلها ضده … الأدلة التي جمعها رجال الشرطة تُؤكِّد أنه هو الذي ارتكب الجريمة، خاصةً أنهم وجدوا النقود تحت لوح الخشب الثالث في غرفته …

تختخ: لقد قرأتُ كل ما كُتب عن الحادث … وأنا مثلك أرى أن الأدلة قوية جدًّا، ولكن هناك شيئًا أُحب أن أعرفه … هل دخلت غرفة مدام «روز» يوم الجريمة؟

كامل: لا أبدًا … أبدًا … لقد كان وقتي ضيِّقًا، وبعدما ارتديت ملابسي، وأنا في طريقي إلى مغادرة «البنسيون»، قابلتني الست «دولت»، وأعطتني الإيجار حتى أدفعه لمدام «روز»، ولكني لم أدفعه لاستعجالي، وفكَّرت أن أدفعه لها عند عودتي في المساء … لماذا تسأل؟

تختخ: لقد عثرت على متهمٍ جديد!

لمعت عينا «كامل» وهو ينظر إلى «تختخ» في ارتياب وقال: أنت؟!

قال «تختخ»: نعم إنني أشك في «فوزي».

كامل: ولكن «فوزي» كان في الشركة ساعة ارتكاب الجريمة.

تختخ: لقد غادر الشركة لمدة ثلاث ساعات بين الساعة الثانية عشرة والساعة الثالثة، وهي مدة كافية جدًّا لكي يحضر إلى «البنسيون» ويقوم بالسرقة، ثم يعود إلى الشركة، وخاصةً قد كانت عنده عهدة ناقصة قيمتها ٢٧٫٥ جنيهًا دفعها في ذلك اليوم … بل بعد عودته مباشرة.

أشعل «كامل» سيجارةً بطريقةٍ عصبية وقال: إذا كان ذلك صحيحًا؛ فليس هناك أي شك في أنه هو الذي ارتكب الجريمة، ويجب إبلاغ الشرطة فورًا.

تختخ: لقد أبلغتُ الشرطة فعلًا.

كامل: وهل قبضوا عليه؟

تختخ: إن رجال الشرطة يقومون بالتحريات، المهم الآن ألَّا نتركه يُفلت من بين أيدينا، فقد يشك أننا نشتبه فيه، فيغادر «البنسيون» ولا نعثر عليه.

كامل: وماذا نفعل الآن؟

تختخ: سوف أُراقبه حتى منتصف الليل، ثم تقوم أنت بمراقبته حتى الصباح … هل تستطيع السهر؟

كامل: بالطبع … وإذا حاول الفرار فسوف أضربه حتى لا يتمكَّن من السير.

تختخ: لا داعي للعنف … وعليك في هذه الحالة فقط الاتصال بالشاويش «علي»، وسوف يحضر فورًا، وقل له إنها تعليماتٌ من المفتش «سامي».

كامل: اتفقنا … إن براءة «محسن» هي أجمل أمنية يمكن أن تتحقَّق لنا جميعًا.

ترك «تختخ» «كامل» بعد هذا الاتفاق وصعد إلى غرفته، فجلس قليلًا … وأحضر كتابًا، ثم نزل مرةً أخرى إلى الصالة، حيث لا يمكن لأحدٍ أن يخرج دون أن يمر به، ثم جلس يقرأ الكتاب ويُراقب الباب.

أخذ نزلاء «البنسيون» يتسلَّون بمشاهدة التليفزيون فترةً من الوقت … ثم مضوا جميعًا إلى غرفهم عدا الشغَّالة «حسنية»، التي أخذت تتفرَّج على فيلم عربي بطولة «إسماعيل ياسين».

فكَّر «تختخ» أن يتحدَّث معها قليلًا … فقال لها: «حسنية» … هل هناك أحد يتردَّد على المنزل بانتظام؟

قالت «حسنية»: إننا نقوم بإحضار جميع لوازم «البنسيون» أنا و«عمر»، والشيء الوحيد الذي يُحضره صاحبه هو اللبن، وبائع اللبن يأتي في ساعةٍ مبكِّرة من الصباح … حوالي الساعة السادسة والنصف.

تختخ: ومن الذي يدفع له ثمن اللبن؟ هل تستيقظ مدام «روز» في هذه الساعة المبكرة؟

حسنية: لا طبعًا، إنما كانت عادةً لا تستيقظ قبل الساعة الثامنة، وعادةً كان «فتحي» بائع اللبن يحضر في الساعة الواحدة أو بعدها بقليلٍ ليأخذ ثمن اللبن، وهو حوالي ثلاثين قرشًا.

تختخ: إذن فبائع اللبن «فتحي» قد حضر في الوقت الذي ارتُكب فيه جريمة السرقة تقريبًا؟

حسنية: لا أدري يا أستاذ، ولم يسألني أحدٌ من قبلُ هذا السؤال.

تختخ: أين محل بائع اللبن هذا؟

حسنية: إنه في الشارع المجاور لقسم الشرطة.

فقال «تختخ» لنفسه: إنني أعرف هذا المحل، وقد تذكَّرت الآن شكل «فتحي»؛ فقد كان يُمدُّنا باللبن من قبل.

وانصرفت «حسنية» وتركت «تختخ» غارقًا في أفكاره. لقد كانت أمسيةً حافلةً بالمعلومات، ولكن أهمها جميعًا كان ظهور بائع اللبن على مسرح الحوادث … ومضى الوقت بين التفكير والقراءة، وقرب منتصف الليل ظهر «كامل»، فتبادل التحية مع «تختخ»، الذي صعد إلى غرفته فوق غصون الشجرة، واستطاع النزول إلى الحديقة … ثم قفز السور عائدًا إلى منزله، وخلع ملابسه واستسلم للنوم …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤