الفصل الرابع عشر

روابط الكنيسة ونُظمها في القرن الثالث

الأخوَّة والمحبة

وواظب المسيحيون في هذا القرن على محبة المسيح، وأحب بعضهم بعضًا؛ لأنهم أحبوا المسيح ولأن المسيح أحبهم، وبقيت الكنيسة أخوية يتساهم أعضاؤها الوفاء ويتقاسمون الصفاء؛ لأن قلوبهم اجتمعت على محبة السيد المخلص، واتفقت على ولائه، ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا كل طمَّاع رغيب، خلا قلبه من نعمة الله ومحبة ابنه الحبيب.

كنيسة واحدة جامعة

وقضت العناية أن يكون المسيحيون واحدًا، فذكروا الآية: «لست أنا بعد في العالم، وأما هم فإنهم في العالم وأنا أمضي إليك، أيها الآب القدوس احفظهم باسمك، الذين أعطيتني ليكونوا واحدًا مثلما نحن «واحد».» نقول: ذكروا هذه الآية فحفظوها وعملوا بها كأنهم جسم واحد، فكانوا حيثما يحلون ينتظمون كنيسة واحدة لا «كنيسات» متعددة مستقلة كما فعل اليهود من قبلُ، ولا «كليات» منفردة قائمة بذاتها كما جرت عادة الوثنيين.١
وعلى الرغم من المسافات الطويلة، التي كانت تفصل الكنائس بعضها عن بعض، واللغات المتباينة التي كانت تعرقل سبل التفاهم، فإن المؤمنين ظلوا متماسكين معتبرين أنفسهم أعضاء جسم واحد، مستهدفين خيرًا واحدًا هو ملكوت الله، وظلت الرسائل Litterae Formatae واسطتهم العادية للمفاوضة وتبادل الرأي كما كانت في القرنين الأولين.٢
وجاءت بدع القرن الثالث، واشتد الاضطهاد، فلجأ الأساقفة إلى التفاوض مجتمعين لتوحيد الرأي ودرء الأخطار الداهمة، والإشارة هنا إلى سنودوسات إيطالية التي التأَمَتْ برئاسة أسقف رومة، ومجامع أفريقية برئاسة أسقف قرطاجة، ومجامع أنطاكية برئاسة أسقف أنطاكية، أو أقدم الأساقفة سيامةً كأسقف طرسوس.٣

الهيرارخية

والهيرارخية Herarchia لفظ يوناني معناه في الأصل سلطة الكاهن أو حكمه، ويرى رجال الاختصاص أن بعض الكنائس في بعض البلدان كانت منذ القرن الأول قد بدأت تخضع للكنيسة الأم التي أسستها، ولما كانت هذه الكنائس المؤسسة في غالب الأحيان كنائس مراكز الحكم في الولايات، تزعَّمَ أساقفتها السلطة في القرن الثالث على جميع أساقفة الولاية التي انتموا إليها، ومما يجدر ذكره لهذه المناسبة أن مراكز الحكم في الولايات كانت تتمتع في غالب الأحيان برتبة متروبوليس Metropolis «المدينة الأم»، وأن الولاية التابعة كانت تُدعَى «أبرشية» Eparchia، فأصبح أسقف المتروبوليس متروبوليت الأبرشية. ومما يذهب إليه رجال البحث في هذا الموضوع أن أبرشيات الشرق سبقت غيرها من الأبرشيات إلى هذا النظام، وأن متروبوليت الأبرشية تمتع منذ القرن الثالث بصلاحية سيامة الأساقفة في أبرشيته، أو بحق تثبيتهم بعد الانتخاب. ومما يُقِرُّه رجال الاختصاص أيضًا أن ظروف التبشير والإدارة والمواصلات قضت بتكتل أوسع وأكبر، ففرض أسقف قرطاجة سلطته في القرن الثالث على جميع أفريقية الشمالية، وعلى إسبانية في بعض الأحيان، وخضعت مصر وليبية لسلطة أسقف الإسكندرية، كما اعترفت إيطالية بأسرها بسلطة أسقف رومة، والشرق بسلطة أسقف أنطاكية.٤

هيرارخية أنطاكية

وكانت أنطاكية ثالثة مدن الإمبراطورية، وقاعدة الأباطرة في الشرق، وكانت قد أصبحت عاصمة النصرانية بعد خراب أوروشليم وتضعضع أم الكنائس، فكان من الطبيعي أن يصبح أسقفها خليفة بطرس وبولس ذا هيبة ووقار وسطوة واقتدار. وقد مرَّ بنا أن أغناطيوس «حامل الإله» اعتبر نفسه منذ نهاية القرن الأول أسقف سورية،٥ كما اعتبر كنيسة أنطاكية كنيسة سورية بأسرها،٦ وأن سيرابيون (١٩١–٢١٢) الأسقف التاسع بعد بطرس وبولس كتب إلى الإكليريكيَّيْن بونطيوس Pontios وكريكوس Caricus البونطيين بشأن هرطقة مونطانوس Montanos،٧ وأنه تدخل أيضًا تدخلًا فعليًّا في شئون كنيسة أرسوز ليمنع مطالعة إنجيل بطرس.٨
وفي التقليد السرياني روايات عديدة تدل على اتساع نفوذ الكرسي الأنطاكي وسلطته في ما بين النهرين وما وراءهما في هذه القرون الأولى، ولا سيما في أمر سيامة الأساقفة، ولكن هذه الروايات جاءت متأخرة مشحونة بالأغلاط التاريخية، فضاعت فائدتها وتعذر على المؤرخ المدقق أن يأخذ بها، ومن هنا ضلال العلامة اللبناني السمعاني وغيره.٩
ويأخذ فابيوس أسقف أنطاكية في منتصف القرن الثالث برأي فالنتنيانوس كما سبق وأشرنا، فيهرع أساقفة الكرسي الأنطاكي إلى إنقاذه من الضلال، ويلتئم مجمع أنطاكي في أنطاكية نفسها، فيهتم أفسابيوس المؤرخ لهذا الحدث، ويدوِّن أسماء أعضاء هذا المجمع،١٠ فيبين لنا بعمله هذا مدى سلطة السدة الأنطاكية، ويتضح من نص أفسابيوس أن هيرارخية أنطاكية شملت في منتصف القرن الثالث: سورية، ولبنان، وفلسطين، والعربية، وقيليقية، والقسم الشرقي من آسية الصغرى حتى البحر الأسود، بما في ذلك قبدوقية وغلاطية وما جاورهما.١١

تقدم رومة في الكرامة

ويتفق المؤرخون الباحثون في هذه الحقبة من تاريخ الكنيسة على تقدم أسقف رومة في الكرامة والاحترام، فهو أسقف عاصمة الدولة الرومانية وممثل الكنيسة الجامعة أمام السلطة المدنية العليا، يدافع عن حقوق هذه الكنيسة الجامعة، ويتحمل مسئولية أقوال المسيحيين وأفعالهم في جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وهو يتمتع في الوقت نفسه بتسلسل بركة رسولية لا غشَّ فيها ولا جدالَ حولها،١٢ ويحمل في شخصه ومن حوله أمانة العقيدة الطاهرة المقدسة، يؤم مقامه كبار علماء الكنيسة أمثال إيريناوس وترتوليانوس وأوريجانس، ويراسله غيرهم أمثال ديونيسيوس الإسكندري للمشاورة والاستيضاح.١٣
وأحسَّ بعض أساقفة رومة في هذه الحقبة من تاريخ الكنيسة بواجب رعائي تجاه الكنيسة الجامعة، فحاوَلَ فيكتوريوس (١٨٩–١٩٩) أن يفرض رأي رومة في كيفية ممارسة عيد الفصح على أساقفة آسية الصغرى، وهبَّ بعده إسطفانوس (٢٥٤–٢٥٧) يوجب الاعتراف بمعمودية التائبين العائدين إلى حضن الكنيسة، والاكتفاء بفرض الندامة والتوبة مهدِّدًا أساقفة أفريقية وآسية الصغرى وأنطاكية بالقطع إن هم خالفوا العرف والتقليد الرومانيين، فاحتجَّ بوليكراتس أسقف أزمير على تدخل فيكتوريوس، واستند في احتجاجه هذا إلى العرف الرسولي المتوارث في آسية الصغرى عن يوحنا الحبيب، وأيَّدَه في احتجاجه مجمع محلي ضم خمسين أسقفًا؛١٤ ثم احتجَّ أيضًا كلٌّ من القديس كبريانوس أسقف قرطاجة والقديس فرميليانوس أسقف قيصرية التابعة لكنيسة أنطاكية، على تدخُّل إسطفانوس في أمورهما، وقالا بتساوي الرسل١٥ وتساوي الأساقفة، مؤكدين أن وحدة الكنيسة إنما تتم بتفاهم الأساقفة وتآلفهم وتعاونهم.١٦ ورأى كبريانوس في العبارة «أنت صخرٌ» رمزًا بالرقم واحد لوحدة الكنيسة،١٧ أما العبارة Primatus Petro datur «الأولية تُعطَى لبطرس»، والعبارة «الذي يهجر كرسي بطرس الذي عليه أسست الكنيسة، هل يثق أنه في الكنيسة؟» Qui cathedram Petri Super quam fundata Ecclesia est, deserit, in Ecclesia se esse confidit? والواردة في رسالة كبريانوس عن وحدة الكنيسة، فإنها موجودة في بعض النسخ الخطية وساقطة من غيرها؛١٨ وهنا يختلف العلماء الباحثون، فإن بعضهم يرى أن هذه العبارات مدسوسة دسًّا لتأييد سلطة رومة،١٩ والبعض الآخر يرى أن نصوص هذه العبارات تتفق وطريقة كبريانوس في التعبير، وأن كبريانوس نفسه ربما أدخلها على النص الأصلي في ظرف متأخر.٢٠ ولا ينحصر القول بالدس في الأوساط العلمية غير الكاثوليكية، فإن كلًّا من أرهارد وتكسيرون يشكان في صحة هذه العبارات موضوع البحث.٢١
أما الآية «أنت صخر» فإنها في نظر علماء الكنيسة الكاثوليكية مصدر سلطة رومة، فالسيد المخلص وهب بطرس بموجب هذه الآية زعامةً رسوليةً بنى عليها الكنيسة، ثم مكَّنَه من تأسيس كنيسة رومة وأذن باستشهاده؛ فأصبح خلفه في أسقفية رومة وريثه.٢٢

وآباؤنا وعلماؤنا رأوا، ولا يزالون، في الصخرة التي تبنى عليها الكنيسة صخرة الإيمان، صخرة القول مع بطرس «أنت المسيح ابن الإله الحي» (متَّى، ١٦: ١٦)، ورأوا في القول «أنت صخر» تثبيتًا لبطرس في إيمانه، وقال آباؤنا بتساوي الرسل الأطهار في النعمة وفي الحل والربط، ووجدوا في اختلاف بطرس وبولس في أنطاكية واحتكامهما أمام مجمع الرسل في أوروشليم برئاسة يعقوب «أخي الرب»، دليلًا واضحًا على هذا التساوي؛ فبطرس لم يعترض على الاحتكام، بل امتثل لقرار المجمع، فأين الزعامة! وينهج آباؤنا في وحدة الكنيسة نهج القديس كبريانوس في رسالته «وحدة الكنيسة»، ولا سيما في الفصلين الرابع والخامس، فيرون أن هذه الوحدة تتجلى بتفاهم الأساقفة وتعاونهم، وأن الكلمة التي وجَّهَها السيد إلى بطرس إنما ترمز إلى وحدة الأساس الذي ترتكز إليه الكنيسة.

أنطاكية ورومة

ويرى العلَّامة الأب غوستاف بردي أن موافقة رومة على قرار المجمع الأنطاكي الثالث القاضي بخلع بولس السميساطي كانت ضرورية؛ ليصبح هذا القرار نافذ المفعول،٢٣ ويستند في رأيه هذا إلى الرسائل التي تبودلت في السنة ٣٣٩ بين يوليوس أسقف رومة وبين الأساقفة اليوسيبيين المجتمعين في أنطاكية آنئذٍ،٢٤ وإلى قول يوليوس فيها إن القانون الكنسي يقضي بإعلام الجميع بما يتم.
ويُلاحَظُ أن النصوص الأولية التي تحفظ أخبار المجمعين الأنطاكيين خاليةٌ من أية إشارة إلى ضرورة موافقة رومة على قرارات هذين المجمعين، وأن الرسائل التي تبودلت بين يوليوس أسقف رومة وبين الأساقفة اليوسيبيين تعود إلى السنة ٣٣٩؛ أي إلى ما بعد المجمع الأنطاكي الثالث بإحدى وسبعين سنة، وأن جل ما يقوله يوليوس هو إعلام «الجميع»٢٥ بالقرار المتخذ سنة ٣٣٩. ومما تجب ملاحظته أن الأب بردي يعترف بضياع القانون الكنسي، الذي أشار إليه يوليوس أسقف رومة، وأنه لا يجوز اتخاذ مرجع ضائع حجة ودليلًا، ونحن نلفت نظر الأب بردي إلى أن الكنائس الشرقية لا تزال حتى يومنا هذا توجِّه رسائل «سلامية» تنبئ بها جميع رؤساء الكنائس الشقيقة بالقرارات الهامة، التي تتخذ لمناسبة خلع رئيس أو ارتقاء غيره.

الأساقفة

وتميَّز الأسقف في هذا القرن على نظرائه في القرنين الأول والثاني، فأصبح على حد تعبير القديس كبريانوس هو الكنيسة Ecclesia in Episcopo،٢٦ وظلَّ الشعب ينتخبه انتخابًا، ويرفعه إلى أسقف عاملٍ في حقل الرب لينال منه الرسامة، ثم تبدلت شروط هذه الرسامة، فأصبح عدد الأساقفة الراسمين ثلاثة، وغدا تثبيت متروبوليت الأبرشية لازمًا ضروريًّا، وتمتع الأسقف بعد هذه التولية المزدوجة البشرية والإلهية بصلاحيات واسعة، فأصبح هو الراعي المطاع يدبر أمور الرعية كما يشاء، ويقدِّم لقاء هذه الطاعة محبة وغيرة وإخلاصًا.٢٧

الكهنة

وقضت ظروف الاضطهاد في القرن الثالث بتوسيع صلاحيات الكهنة، فاختباء بعض الأساقفة واستشهاد البعض الآخر، وتشتت الرعية وعدم تمكنها من انتخاب أساقفة جُددٍ، أدَّى بطبيعة الحال إلى توسيع صلاحيات الكهنة والسماح لهم بممارسة سر الأفخارستية. ولا يخفى أن أعمالهم كانت تنحصر قبل ذلك بتعليم المؤمنين وإعداد الموعوظين لتقبُّل سر المعمودية، وإرشاد التائبين إلى سُبل التكفير عن خطاياهم؛ وكانوا لا يمارسون سر الأفخارستية إلا بحضور الأسقف الراعي،٢٨ وأدى ازدياد عدد النصارى في أمهات المدن في هذا القرن إلى تقسيم الأبرشية إلى خورنيات Parochia، وإقامة كاهن على كلٍّ منها يدبر شئونها ويقوم بواجبات الرعاية.٢٩

الخور أسقف

Chorepiscopos وقضت هذه الظروف عينها بزيادة عدد الأساقفة، فازداد عددهم في هذا القرن ازديادًا عظيمًا، ولا سيما في إيطالية وشمالي أفريقية وسورية وآسية الصغرى، واختلفت الكنائس في صلاحيات هؤلاء الأساقفة الجدد، فلم تفرق رومة بينهم وبين الأساقفة القدماء، أما كنيسة أنطاكية وكنائس آسية الصغرى، فإنها ألحقت هؤلاء الأساقفة بأساقفة المراكز القديمة، وجعلتهم دونهم أهمية ونفوذًا، ومنحتهم لقب خور أسقف. وخوره Chora لفظ يوناني معناه منطقة تجمع القرى، والكورة العربية هي في الأرجح تحريف خوره اليونانية،٣٠ وأقدم خور أسقف ورد ذِكْره في تاريخ الكنيسة هو زوتيكوس خور أسقف كومانة في فريجية،٣١ ولم يلقَ هذا الترتيب ترحيبًا في الغرب، فأمسى استعمال هذا اللقب في كنائس الغرب أمرًا نادرًا شاذًّا.٣٢

الشمامسة

وواظب الشمامسة في هذه الحقبة من تاريخ الكنيسة على القيام بالخدمات نفسها التي مارسوها في القرنين الأولين، فعاونوا الأسقف في الصلوات والخدمات الروحية، وأشرفوا على توزيع الصدقات بين المؤمنين الفقراء، كما قاموا ببعض أعمال إدارية داخل الكنيسة وخارجها، وآثر الآباء في هذه الحقبة تأثر الرسل في عدد الشمامسة، فجعلوا هذا العدد سبعة وأبقوه، كما كان في أيام الرسل في أم الكنائس، وكان المقدم بين الشمامسة السبعة يُدعَى أرشدياكون، وكان الأرشدياكون في معظم الكنائسِ الكبيرةِ الشخصيةَ الثانيةَ بعد الأسقف، يخلفه في غالب الأحيان بعد وفاته.

الأناغنوستس

ويُستدَل ممَّا تبقَّى من مصنفات القديس يوستينوس٣٣ أن الكنائس الكبيرة كانت منذ عهده (١٠٠–١٦٤) قد بدأت توكل قراءة الأسفار المقدسة في الخدمات الروحية إلى أشخاص معينين أطلقت عليهم لقب أناغنوستس Anagnostes، وظل الأناغنوستس طوال القرن الثالث رجلًا مرموقًا في الخدمات الروحية،٣٤ ولا تزال هذه الرتبة محفوظة حتى يومنا هذا في جميع الكنائس اليونانية.

الأبوذياكون

واتسع عمل الشمامسة في هذا القرن نفسه، وحافظ الآباء على التقليد الرسولي، وأبقوا عدد الشمامسة سبعة، فاضطروا أن يرسموا معاوني شمامسة أطلقوا عليهم لقب أبوذياكون.٣٥

الإكزورخيس

وجاء بعد الأبوذياكون الإكزورخيس Exorkistes، وكانت واجباته في هذا القرن تقضي بطرد الشياطين والأرواح النجسة.٣٦

الكاتيخيستس

وعني بإرشاد الموعوظين في الكنائس الكبرى في هذا القرن موظف خصوصي أُطلِق عليه لقب كاتيخيستس Catechistes، وهو اﻟ Doctor Audientium في كنيسة رومة.٣٧

الإكليروس والشعب

وأجاز بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (٩: ١٣ و١٤) أن يأكل الذين يتولون الأعمال الكهنوتية من الهيكل، وأن يقاسم المذبح الذين يلازمونه، فحضَّ الآباء المؤمنين على التقدمة مما يملكون،٣٨ وقُدِّرَ للكنيسة في القرنين الثاني والثالث أن يكون لها أوقاف تدرُّ عليها دخلًا ثابتًا، فكان للإكليروس شيء من المال يتعيشون به، ولكن لا هذا ولا ذاك كان كافيًا، فامتثل بعض رجال الإكليروس أمر بولس واحتذوه، فتعاطوا الأعمال المدنية لاكتساب الرزق، ولم يقنع بعضهم باليسير، ولم يتكرموا عن المكاسب الشائنة، فأثاروا غضب زملائهم القديسين الأطهار أمثال كبريانوس٣٩ وأعضاء المجمعَيْن الأنطاكيين الثاني والثالث كما سبق وأشرنا.
وقضت رسائل الرسل بأن يتميَّز الإكليركي عن سائر أفراد الشعب بالصلاح والتقوى، وأوجب بولس في رسائله إلى تيموثاوس وتيطس أن يكون الأسقف غير متزوج «أكثر من مرة واحدة»، فلم تُفْرَض العزوبة على الإكليروس في القرون الثلاثة الأولى، ولكن التبتل فُضِّلَ على الزواج منذ عهد الرسل؛ فآثر الآباء في هذه القرون الأولى انتقاء رجال الإكليروس من صفوف العذاب إذا تساوت سائر الصفات بينهم وبين المتزوجين، وامتنع الآباء في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة عن قبول الحديثين في نعمة الإيمان Neophyte، والذين تعمدوا معمودية المرضى، والتائبين بعد الإجحاد، والذين شوَّهوا أنفسهم من غير إكراه؛ في صفوف الإكليروس.٤٠
١  Batiffol, P., Eglise Naissante, 41-42.
٢  Zeiller, J., Org. Ecc., Fliche et Martin, op. cit. I, 374-375.
٣  Zeiller, J., Org. Ecc., op. cit., II, 398–400.
٤  Zeiller, J., Org. Ecc., op. cit., II, 400-401.
٥  Ad Rom., II. 2.
٦  Ad Ephes., XXI, 2; Ad Mag., XIV; Ad Trall., XIII, 2.
٧  Eusèbe, Hist. Ecc., VI. 12.
٨  Ibid.; Harnack, A, Mission und Ausbereitung, II, 672, 674.
٩  Doctrina Addai, Edit. Philips, 50; Duval, R., Ancienne Lit. Chrét., 123; Zorel, F., Chron. Ecc. Arbelensis, 166; Mari Ibn Soleiman, Liber Turris; Bar-Hebraeus, Chron. Ecc., II, 26; Assemani, Bib. Or., II, 390 ff., III, 51 ff.; Harnack, A., Mission und Ausbreitung, II, 680, 689-690; Haase, F., Altchristliche Kirchengeschichte, 82-83, 104–107; Westphal, G., Unterschungen uber die Quellen und die Glaubwurdigkeit der Patriarchalchroniken des Mari Ibn Sulaiman, Amr Ibn Matai, und Saliba Ibn Johannan; Labourt, J., Le Christianisme dans l’Emp. Perse, 13 ff.
١٠  Eusèbe, Hist. Ecc., VI. 43–46.
١١  Bardy, G., Pant de Samosate, 220–223; Vailhé, S., Formation du Patriarcat d’Antioche, Echos d’Orient, 1912, 196.
١٢  Irenaeus, Adversus Haereses, I, 27, III, 3.
١٣  Feltoe, Letter and Other Remains of Dionysius of Alexandria, 182–198.
١٤  Eusèbe, Hist. Ecc., V. 24.
١٥  “Pari consortio praediti et honoris et potestatis” De Ecclesiae Unitate, IV, Unam Sanctam, 9, 8.
١٦  Ibid. IV, V, VII.
١٧  Epist. XXVII.
١٨  Unam Sanctam, 9, p. 11.
١٩  Koch, H., Cyprian und der Romische Primat; Benson, Cyprian, His Life, His Time, His Work, 180 ff; Loofs, Dogmengeschichte, 209.
٢٠  Dom Chapman, Les Interpolations dans le Traité de St. Cyprien sur l’Unité de l’Eglise, Rev. Bénédictine, 1902, 246 f., 357 f., 1903, 26 f.; Ritschel, O., Cyprian von Carthago, 1885, 92 f.
٢١  Ehrhard, Altchristliche Literatur, 476; Tixeront, Hist. des Dogmes, 1930, 381 f.
٢٢  Batiffol, Mgr., Cathedra Petri.
٢٣  Bardy, G., Paul de Samosate, 312.
٢٤  Sozoméne, Hist. Ecc., III, 8.
٢٥  Jules, Epist. ad Orient., Athanase, Apol. contra Arian., 35: “Il fallait nous écrire à nous tous et qu’ainsi justice fût rendue par tous”!
٢٦  Epist. XXXIII, I.
٢٧  Zeiller, J., Org. Ecc., op. cit., II, 390-391.
٢٨  Smedt, C., Org. des Eglises Chrét. au IIIe, Siécle, Rev. Quest. Hist., 1891, 397 f.
٢٩  Ibid., 410 f.
٣٠  Gillmann, F., Das Institut der Chorbischofe im Orient, Munchen, 1903; Bergére, H., Etude Hist. sur les Chorévêques, Paris, 1905; Jugie, P. M., Les Chorévêques en Orient, Echos d’Orient, 1904, 263 ff.
٣١  Eusèbe, Hist. Ecc., V, 16.
٣٢  Zeiller, J., Note sur le Chorépiscopat en Occident, Rev. Hist. Ecc., 1906, 27 ff.
٣٣  Apolog. I, 47.
٣٤  Tertullienus, Praescriptione, 41.
٣٥  Eusèbe Hist. Ecc., VI, 43.
٣٦  Ibid.
٣٧  Ibid.
٣٨  Didache, XIII; Didascalia, VII, XVIII.
٣٩  De Lapsis, IV.
٤٠  Zeiller, J., Org. Ecc., op. cit. II, 388-389; Eusèbe, Hist. Ecc., VI, 43.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤