الفصل الثالث والعشرون

أوطيخة والمجمع المسكوني الرابع

٤٤١–٤٥١

أوطيخة (٣٧٨–٤٥٥)

وراجت تعاليم كيرلس الإسكندري في الأوساط الرهبانية في القسطنطينية، وتزعم هذه الأوساط بعد وفاة القديس دلماتوس (٤٤٠) الراهب أوطيخة أو إفتيشيس Eutyches، وكان أوطيخة راهبًا زاهدًا وَرِعًا محترمًا، وقد تقدَّم جميع رهبان العاصمة وبرز تبريزًا، وكان الإمبراطور يجله كما كان الخصي خريسافيوس ابنه في المعمودية يحترمه ويستشيره في جميع المشاكل الإدارية الدينية.١
واهتم أوطيخة للجدل بين كيرلس ونسطوريوس، وكان يكره نسطوريوس فقال قول كيرلس، ثم تمادى فقال إن الطبيعة الإنسانية في المسيح امتزجت بالطبيعة الإلهية حتى تلاشت فيها «تلاشي نقطة خمر وقعت في بحر ماء»، فالمسيح والحالة هذه أقنوم واحد وطبيعة واحدة.٢ وراجت هذه التعاليم في القسطنطينية وخارجها؛ نظرًا لروابط الصداقة التي كانت تربط أوطيخة بأصدقاء كيرلس وأتباعه، ونظرًا لبراعة أوطيخة في وضع الخطط ونصب المكايد، فإنه تودد إلى أورانيوس أسقف هيميرية في منطقة الرها ليحارب به إيبا الأسقف الشهير، وتحبَّبَ إلى الناسك برصوم ليشاغب به على دومنوس أسقف أنطاكية وثيودوريطس أسقف قورش في سورية وفي العاصمة.٣

دومنوس أسقف أنطاكية (٤٤١–٤٤٩)

هو دومنوس الثاني Domnos، وُلِد في أنطاكية ونشأ فيها وأخذ العلم عن أساتذتها، ثم عكف على الصلاة والتأمل في جوار القديس أفثيميوس الكبير في ساحل أريحا، وكان بإمكانه أن يلجأ إلى دير أفبريبيوس؛ حيث تقبل النذر خاله يوحنا أسقف أنطاكية ونسطوريوس أيضًا، ولكنه آثر طهر أفثيميوس وقفار أريحا، فأطل على هذا القديس في السنة ٤٢٨ وتقبَّلَ النذر على يده، ثم هاله موقف خاله من كيرلس في السنة ٤٣١، فأحَبَّ أن يعود إلى أنطاكية ليقنع خاله بوجوب تأييد العقيدة القويمة كما رآها معلمه ومرشده، فنهاه أفثيميوس عن ذلك، مبينًا أنه إذا عاد إلى أنطاكية، فإنه لا يستفيد شيئًا، وأنه سيبقى هناك وسيقام أسقفًا ليخلف خاله في كرسي الرسولين، ولكن المنافقين سيحطونه من مقامه. والواقع أن القديس الكبير أفثيميوس عرف دومنوس حق معرفة، فقدر فيه طهره وقداسته وتواضعه وحسن نواياه، ولكنه لمس فيه «بساطة» وضعفًا في تقدير الرجال لم يؤهِّلاه للزعامة والرئاسة.٤

دومنوس وأوطيخة

ولم يرضَ دومنوس عن تعليم أوطيخة، ولم يخشَ خريسافيوس الخصي ولا سيده الإمبراطور، فرأى رأي ثيودوريطس، ورضي عن تصنيف كتاب يرد به على أوطيخة، فظهر في أواخر السنة ٤٤٧ إيرانيستيس Eranistes ثيودوريطس أي كتابه «الشحاذ»، وراج هذا الكتاب في الأوساط الرسمية والدينية، فوجد المؤمنون فيه رسالة متينة تثبت أن الله لا يتغير ولا يتألم، وأن الطبيعتين وجدتا معًا في المسيح بدون امتزاج، ورصَّع ثيودوريطس فقراته بمقتطفات من كلام الآباء القديسين، ولم يستهدف شخصًا معينًا، ولكنه لم يترك لقرائه مجالًا للشك في أنه إنما يقصد أوطيخة و«الأوطخة». وفي مطلع السنة ٤٤٨ كتب دومنوس إلى الإمبراطور نفسه يلفت نظره إلى خروج أوطيخة وهرطقته.٥

الإمبراطور يدافع عن أوطيخة

ولم يرضَ الإمبراطور عن هذه الشكوى، فأجاب في السادس عشر من شباط سنة ٤٤٨ بإرادة إمبراطورية قضت بتحريم مصنفات بورفيريوس ونسطوريوس، وجميع المصنفات التي لم تتفق ونصوص قرارات نيقية وأفسس و«بنود كيرلس»! وأمر أيضًا بعزل إيريناوس أسقف صور من منصبه،٦ فاتخذ لنفسه بعمله هذا صلاحيات لم يسبقه إليها قسطنديوس من قبلُ، ولا يخفى أن القومس إيريناوس كان أحد أصدقاء نسطوريوس، وأنه نُفِي إلى البتراء ثم أُطلِق سراحه بعد وفاة كيرلس، وأن أساقفة فينيقية الساحلية ألحوا بوجوب سيامته أسقفًا على صور، فوافق بروكلوس نفسه على ذلك، وقام بفروض السيامة ثيودوريطس أسقف قورش.٧
وذاع خبر هذه الإرادة السنية، ودبت عقارب أوطيخة وخريسافيوس بين القوم، فخاض عملاؤهما في الأخبار الكاذبة إيقادًا للفتنة، فأمَّ أنطاكية من الرها مَن شكا الأسقف إيبا إلى رئيسه دومنوس، فاحتار دومنوس في أمره وأجل وسوَّف، فرفع المتذمرون شكواهم إلى القسطنطينية والإسكندرية، وشكوا دومنوس نفسه وثيودوريطس،٨ فصدرت إرادة جديدة تقضي بوجوب بقاء ثيودوريطس ضمن حدود أبرشيته، وحصر اهتمامه بأبنائه الروحيين، وكتب ديوسقوروس إلى دومنوس كتابًا ناشفًا، أشار فيه إلى تأخُّر دومنوس عن سيامة خلف لإيريناوس في صور واهتمامه بأعداء الأرثوذكسية ومعاونته لهم،٩ فاحتج دومنوس على تدخل ديوسقوروس في شئون غيره ولكن دون جدوى.١٠
وفي الثامن والعشرين من تشرين الأول سنة ٤٤٨ صدر أمر سني إلى القائد دمسكيوس Damascius بوجوب نقل كلٍّ من إيبا الرها ودانيال حران ويوحنا الرسينة إلى فينيقية؛ لإجراء محاكمتهم أمام هيئة روحية مؤلَّفة من: أورانيوس أسقف هيميرية، وفوطيوس أسقف صور، وأفستاثيوس أسقف بيروت،١١ ومثل المتهمون أمام الهيئة الحاكمة في صور أولًا ثم في بيروت، وترافع الطرفان فنصحت الهيئة الحاكمة بالصلح والمسالمة، فتم ذلك في بيروت في ربيع السنة ٤٤٩.١٢

فلابيانوس وأوطيخة

وفي الثامن من تشرين الثاني سنة ٤٤٨ أثار أفسابيوس أسقف دورلة قضية أوطيخة أمام المجمع القسطنطيني، وكان أفسابيوس قد نبَّه أوطيخة إلى ضلاله فلم يصغِ، واضطر فلابيانوس أن يأمر الأرشمندريت أوطيخة بالمثول أمام المجمع المقدس للإجابة عمَّا يُوجَّه إليه من أسئلة تتعلق بتعاليمه، فلم يحضر ولم يمتثل إلا بعد التهديد. وفي الثاني والعشرين من تشرين الثاني خرج أوطيخة من ديره، يحف به عدد كبير من الرهبان والموظفين واتجه نحو الأسقفية، ومثل أمام الأساقفة في المجمع وأصرَّ على القول بالطبيعة الواحدة، فحكم عليه المجمع بالهرطقة، وقطعه من كل رتبة كهنوتية ومن الشركة ومن رئاسة الدير، وكان بين الأساقفة الجالسين أربعة أنطاكيون: باسيليوس سلفكية، وسابا «بلدة» Paltos عند مصب نهر السن بين بانياس وجبلة، وبروكلوس أذرح، وذيفرنطيوس Diapherontios حلبان في شرقي حماة.١٣ ولم يرضخ أوطيخة، وأكد أنه سيرفع أمره إلى مجامع رومة والإسكندرية وأوروشليم وتسالونيكية.١٤

لاوون وأوطيخة

وكتب أوطيخة إلى لاوون أسقف رومة، وبطرس أسقف رابينة، وغيرهما من الشخصيات الكبيرة؛ راجيًا إنصافه،١٥ فكتب لاوون إلى الإمبراطور يفيد أن فلافيانوس لم يكتب إليه بشيء مما جرى، وأنه بناء على ما أفاد به أوطيخة نفسه لا يرى ما يستعاب به للبتِّ في الأمر.١٦

تلصص في أفسس (٤٤٩)

وكتب خريسافيوس الخصي إلى ديوسقوروس أسقف الإسكندرية يطلب معونته، فعقد ديوسقوروس مجمعًا محليًّا، وحلَّ أوطيخة من القطع واعتبره أرشمندريتًا على ديره، ثم طلب إلى القيصر أن يدعو إلى مجمع سكوني للنظر في قضية أوطيخة، وبمداخلة خريسافيوس وأفذوكية زوجة الإمبراطور وغيرهما من رجال البلاط انتصر الإمبراطور لأوطيخة، وكتب إلى لاوون أسقف رومة يلمح بوجوب النظر في قضية أوطيخة أمام مجمع مسكوني، فكتب لاوون إلى فلابيانوس بعناية الإمبراطور في الحق والعدل واستعلم منها ما جرى، فأرسل فلابيانوس أعمال المجمع القسطنطيني الذي حكم على أوطيخة، فعقد لاوون مجمعًا محليًّا، ودقق هذه الأعمال فوافق عليها، وكتب إلى الإمبراطور يعتذر عن حضور المجمع بشخصه، ويفيد أن يوليوس أسقف بوزولة سيرأس الوفد الروماني إلى المجمع، وأنَّ ليوليانوس أسقف كوس الحقَّ بتمثيله أيضًا.١٧
ودعا الإمبراطور إلى مجمع في أفسس يبدأ أعماله في أول آب سنة ٤٤٩، وأكد الإمبراطور أنه لا يجوز اشتراك ثيودوريطس في هذا المجمع إلا إذا طلب ذلك الأساقفة المجتمعون، وأمر أيضًا بأن يمثل الزهاد والنساك في الشرق الأرشمندريت برصوم (عدو ثيودوريطس)، وأوجب الإمبراطور على إلبيذيوس Elpidios وإفلوجيوس Eulogios من رجال المعية أن يمثلاه في المجمع، وأعلن مسبقًا أن رئاسة هذا المجمع ستكون لديوسقوروس أسقف الإسكندرية، يعاونه فيها كلٌّ من يوبيليانوس أسقف أوروشليم، وثلاسيوس Thalasios أسقف قيصرية.
ومثَّل كنيسة أنطاكية في هذا المجمع دومنوس رئيسها وواحد وعشرون أسقفًا بينهم: ملاتيوس شيزر، وفوطيوس صور، وثيودوروس دمش، وأفستاثيوس بيروت، وإسطفانوس عين زربة، وثيودوروس طرسوس، وروفينوس سميساط، وسمعان آمد، وبوليكاربوس جبلة،١٨ ومنع ثيودوريطس كما مرَّ بنا، وأُلقِي القبض على إيبا أسقف الرها في أواخر حزيران، وتجاذبته أيدي الشرطة مدةً من الزمن.١٩

طوموس القديس لاوون

وحمل الوفد الروماني عددًا من الرسائل، منها واحدة للمجمع بكامله، وثانية للإمبراطور، وغيرها للإمبراطورة، ورابعة لرهبان العاصمة، وأهمها طوموس القديس لاوون، وهي رسالته إلى زميله فلابيانوس أسقف القسطنطينية، وفيها أيد موقف فلابيانوس ضد أوطيخة، وشرح تعليم الكنيسة بالطبيعتين في الأقنوم الواحد شرحًا مدققًا واضحًا:٢٠

لقد جلست أيها المجيد على كرسي الكهنوت، وأبكمت بعقائد الثالوث الموقر أفواه الأسد الناطقة، وأنرت رعيتك بنور معرفة الله، فلذلك مجدت يا مقرًّا إلهيًّا لنعمة الله.

السواعي
١٨ شباط

المجمع اللصوصي

ودعا ديوسقوروس الوفود إلى الاجتماع في كنيسة السيدة في أفسس في الثامن من آب سنة ٤٤٩، فلبَّى الدعوة مائة وثلاثون أسقفًا أو أكثر، وافتتح ديوسقوروس الأعمال بتلاوة أوامر الإمبراطور، وعند الانتهاء من تلاوتها طلب إليه ممثل رومة الأسقف يوليوس أن يقرأ رسائل رئيسه، فتناولها ديوسقوروس ولكنه أمر بتلاوة ما تعلَّقَ بمهمة الأرشمندريت برصوم، ثم طلب إلى أوطيخة أن يعترف بالإيمان، فأكد هذا الراهب أن إيمانه هو إيمان الآباء، ثم لعن جميع الهرطقات، ولا سيما تلك التي ادَّعت بأزلية جسد المسيح. واحتج على قطعه وطلب إنصافه، فأشار فلابيانوس بوجوب استماع أفسابيوس أسقف دورلة، ولكن البيذيوس ممثل الإمبراطور رفض ذلك، ولم يسمح أيضًا بقراءة رسائل أسقف رومة، ثم بدءوا بتلاوة أعمال المجمع القسطنطيني الذي حكم على أوطيخة بالقطع، وعندما بلغ القارئ إلى العبارة: «إن أفسابيوس الدورلي قد بذل جهده في حمل أوطيخة على الإقرار بأن في المسيح طبيعتين.» هتف عدد كبير من الحاضرين: «فَلْيُحرَق أفسابيوس حيًّا وَلْيُقطع؛ لأنه أراد أن يقسم المسيح.» ثم طرح ديوسقوروس قضية أوطيخة للتصويت، فقال باستقامة رأيه مائة وأربعة عشر أسقفًا، أولهم دومنوس أسقف أنطاكية، ويوبيليانوس أسقف أوروشليم، وآخِرهم ديوسقوروس!٢١ فشهر أوطيخة أرثوذكسيًّا وأُعِيد إلى مقامه ورئاسة ديره.
وذكَّر ديوسقوروس بعد هذا الأعضاءَ الجالسين بموقف المجمع المسكوني الثالث، ممَّن يجسر على مخالفة دستور نيقية، وطلب إدانة فلابيانوس وأفسابيوس على هذا الأساس، فاحتج فلابيانوس وصرخ الشماس الروماني هيلاريوس باللاتينية: Contradicitur، وتقدم بعض الأساقفة نحو ديوسقوروس ورجوه التبصر والتريث، فادعى أسقف الإسكندرية بأنهم هددوه، وطلب المعونة من ممثلي الإمبراطور، ففتح هؤلاء أبواب الكنيسة، وأدخلوا إليها الجند والرهبان والبحارة المصريين وغيرهم من عناصر الغوغاء، وعبثًا حاول فلابيانوس الالتجاء إلى قدسية المذبح، فإن الرهبان جروه جرًّا، فوقع على الأرض فداسه ديوسقوروس وجماعة برصوم، وأُخرِج خارجًا وسُجِن وتوفي بعد ثلاثة أيام وهو في طريقه إلى المنفى،٢٢ واتهم ديوسقوروس بقتله قتلًا.٢٣ أما أفسابيوس أسقف دورلة فإنه كان أسعد حظًّا، فتمكَّنَ من الفرار والالتجاء إلى رومة.٢٤
وعقد هذا المجمع جلسته الثانية في الثاني والعشرين من آب من السنة نفسها، فنظر في قضية إيبا أسقف الرها، فاستمع إلى أعمال المجمع الأنطاكي وقرار محكمة بيروت وإفادات قاضي الرها Chereas، فحطَّه عن مقامه الأسقفي، ونزع عنه ممارسة السلطات الكهنوتية، وأكرهه على «إعادة الذهب المسروق».٢٥
ونظر المجمع أيضًا في قضية دانيال أسقف حران، فاعتبره غير أهل لأن يكون كاهنًا،٢٦ وحرم المجمع إيريناوس أسقف صور وأكلينوس Aclynos أسقف جبيل، وكان هذا قد سيم أسقفًا على يد إيريناوس، وطلب المجمع إلى فوطيوس أسقف صور الجديد أن يرسم أسقفًا آخَر على جبيل،٢٧ وجاء دور صفرونيوس أسقف قسطنطينة، وكان قد اتُّهِم بالسحر والعرافة وبكسر الصوم والاشتراك في الأكل والقصف مع يهودي معين، فقرر المجمع إحالة ملف صفرونيوس إلى عهدة متروبوليت الرها.٢٨
ثم تُلِيت بعض فقرات من مصنفات ثيودوريطس أسقف قورش، فاتُّهِم بالنسطرة، وأوجب ديوسقوروس حرق هذه المصنفات، وخلع صاحبها من كرسي الأسقفية وإبعاده، ولفت ديوسقوروس نظر دومنوس إلى هذه الأمور، فوافق دومنوس على هذه الاقتراحات، وخرج بذلك على الإيمان القويم؛ ومن هنا في الأرجح امتناع المجمع الخلقيدوني من إعادة النظر في قضيته،٢٩ واستجار ثيودوريطس بأسقف رومة وأساقفة الغرب٣٠ ولكن دون جدوى، وترجى أن يُسمَح له بالعودة إلى ديره القريب من أبامية،٣١ فكان له ذلك.٣٢
وكان دومنوس قد وعد مسبقًا بأنه يوافق على جميع الإجراءات التي تُتَّخَذ ضد النساطرة،٣٣ ولكن هذا لم يكفِ لغضِّ النظر عنه، فإنه كان في نظر ديوسقوروس وأعوانه صديق فلابيانوس أسقف القسطنطينية وثيودوريطس وحامي النساطرة، فحكم المجمع عليه بالخلع،٣٤ فعاد إلى فلسطين إلى ساحل أريحا وجاوَرَ معلمه الكبير أفثيميوس،٣٥ وخلف فلابيانوس في كرسي القسطنطينية أناتوليوس ممثل ديوسقوروس في العاصمة، وخلف دومنوس في أنطاكية مكسيموس (٤٤٩–٤٥٥) عدو يوحنا وصديق الإسكندرية.

رومة تحتَجُّ

ولم يرضَ لاوون الكبير عن هذا التلصص ولم يسكت، فإنه كتب في خريف السنة ٤٤٩ إلى الإمبراطور والإمبراطورة والإكليروس والشعب، يعترض على ما جرى، ويوجب انعقاد مجمع مسكوني لإعادة النظر، ولكن ثيودوسيوس لم يكترث ولم يُجِبْ، فحرر الأسقف الروماني مرة ثانية يوم عيد الميلاد، ثم وصل إلى رومة في مطلع السنة ٤٥٠ كلٌّ من فالنتنيانوس الثالث وأمه بلاكيدية Placidia وزوجته أفذوكسية، فتوسَّلَ لاوون بالدموع إليهم أن يكتبوا إلى ثيودوسيوس، فكتبوا ولكن ثيودوسيوس أجاب أن ما جرى كان كافيًا، وأنه لا حاجة إلى عقد مجمع آخر.٣٦

بلشيرية ومركيانوس

ووقع ثيودوسيوس عن حصانه، ومات في الثامن والعشرين من تموز سنة ٤٥٠، ولم يكن له ولد فاستلمت بلشيرية أخته زمام الأمور، ثم تزوجت من قائد جيشها مركيانوس، شرط أن تبقى عذراء، وأن تقتصر الزيجة على الاشتراك في إدارة الإمبراطورية.

وكان مركيانوس رجلًا حازمًا عادلًا يتمتع بتأييد الجيش، فوُفِّقت فيه رومة الجديدة إلى حاكم مناسب، وأعلن مركيانوس انتهاء الظلم والفوضى بإعدام خريسافيوس الخصي وإبعاد مستشاره أوطيخة،٣٧ فسعى الأساقفة المظلومون لديه وأسقف رومة أيضًا، فأرجع المنفيين من منافيهم، ووافق لاوون في الدعوة إلى مجمع مسكوني جديد ينظر في أمر أوطيخة ويصلح ما هدَّمه ديوسقوروس، ولكنه لم يرضَ أن يلتئم هذا المجمع في أرض إيطالية كما رغب في ذلك لاوون.

المجمع المسكوني الرابع

وفي السابع عشر من أيار سنة ٤٥١ صدرت عن بلاط مركيانوس دعوة إلى مجمع مسكوني يفتتح في اليوم الأول من أيلول، ولبَّى هذه الدعوة خمسمائة أسقف، وتلاقوا في القسطنطينية ليقوموا منها إلى نيقية في الموعد المعين، وقضت ظروف عسكرية بتأخر مركيانوس عن الحضور، فتأجل انعقاد المجمع مدة وجيزة، وانتهز ديوسقوروس هذه الفرصة للدس والتخريب، فسعى سعيًا حثيثًا لقطع لاوون أسقف رومة،٣٨ ولكنه لم يلقَ آذانًا صاغية خارج أوساط الأساقفة المصريين، واعترف في هذه الآونة نفسها بمكسيموس أسقفًا على أنطاكية.٣٩

ثم رغب مركيانوس أن تُعقد جلسات المجمع في خلقيدونية لقربها من العاصمة، وأمر بإخراج رهبانها منها لتأمين السلام والصفاء فأُخرِجوا، وبدأ المجمع المسكوني الرابع أعماله في الثامن من تشرين الأول سنة ٤٥١ في خلقيدونية.

الوفد الأنطاكي

وتألَّفَ الوفد الأنطاكي من مائة وثلاثين أسقفًا، وذلك على الوجه التالي:
  • (١)
    أساقفة سورية الأولى: مكسيموس أسقف أنطاكية، وماراس أسقف خناصير Anasartha (إلى جنوبي حلب وشرقيها، وعلى بُعْد ستين كيلومترًا عنها)، وثيوكتيستوس أسقف حلب، ورومولوس أسقف قنسرين Chalcis، وبوليكاربوس أسقف جبلة، وبطرس أسقف الجبُّول Gabboula، ومكاريوس أسقف اللاذقية، وسابا أسقف بلدة Paltos، وجيرونتيوس أسقف سلفكية.
  • (٢)
    أساقفة سورية الثانية: دومنوس أسقف أبامية، ومرقس أسقف الرستن Arethusa، وتيموثاوس أسقف بانياس Balanée، وأفتيخيانوس أسقف حماة، وملاتيوس أسقف شيزر، وبولس أسقف مريمين إلى شرقي المشتى، ولمباذيوس Lampadios أسقف رفنية Raphania، وأفسابيوس أسقف جسر شغور Seleucobelos.
  • (٣)

    أساقفة أسورية: وهم اثنان وعشرون، أولهم باسيليوس أسقف سلفكية الساحلية، ويأتي بعده يعقوب أسقف أنيموريون، وأكاكيوس أسقف أنطاكية.

  • (٤)

    أساقفة قيليقية الأولى: ثيودوروس أسقف طرسوس، وفيليبوس أسقف أدنة، وثيودوروس أسقف أوغسطة، وخمسة آخرون.

  • (٥)
    أساقفة قيليقية الثانية: كيروس أسقف عين زربة، ويوليانوس أسقف الإسكندرية، وباسيانوس أسقف موبسوستي، ويوليانوس أسقف أرسوز Rhosos، وخمسة آخرون.
  • (٦)
    أساقفة الفرات: إسطفانوس أسقف منبج Hierapolis، وقوزمة أسقف بالس Barbalisos (بين منبج والرقة وقبل صفين)، وثيودوريطس أسقف قورش، وتيموثاوس أسقف دولك Doliché، وداود أسقف جرابلس Europos، ويوحنا أسقف مرعش، وبتريقيوس أسقف صفين Neocesaria، وماراس أسقف روم قلعة Ourima، وأثناسيوس أسقف بيرين Perrhé، وماريانوس أسقف الرصافة Sergiopolis، وروفينوس أسقف سميساط، وأورانيوس أسقف سورية أو سورة على الفرات، وإيفولغيوس Evolcios أسقف بلقيس Zeugma.
  • (٧)
    أساقفة الرها: نونوس أسقف مدينة الرها، ودانيال أسقف بيرة جك Birtha وأحيانًا Macedonopolis، ودميانوس أسقف الرقة Callinicum، وإبراهيم أسقف كيراسيوم Ciresium، ولعلها قرقيسيون عند مصب الخابور في الفرات، وصفرونيوس أسقف قسطنطينة، ويوحنا أسقف حرَّان Carrhes، وقيومة أسقف مركوبوليس وهي مجهولة الموقع، ويوحنا أسقف العرب Sarracènes.
  • (٨)
    أساقفة ما بين النهرين: سمعان أسقف آمد، وماراس أسقف غزة (وهي مجهولة الموقع)، وقيومة أسقف أنجل، ونوح أسقف كيفا، وزبنوس أسقف ميافارقين Martyropolis، وأفسابيوس أسقف صوفانة.
  • (٩)
    أساقفة العربية: قسطنطين أسقف بصرى، وبروكلوس أسقف درعة، ومالك أسقف مسمية Phaena، وثيودوسيوس أسقف القنوات Canatha، وسُليم أسقف قسطنطينة اللجا، وماراس أسقف السويدا Dionysias، ويوحنا أسقف الصنمين Erès، وزوسيس أسقف حسبان Esbos، وأناستاسيوس أسقف حران Eutimia، وبلانكوس أسقف جرش، وغيانوس أسقف مادبا، وسويروس أسقف شقة Maximianopolis، وخيلون أسقف خان النيلة Neapolis، وأيوب أسقف نوي Nevé، وغوطوس أسقف مشنف Neela، وأفلوجيوس أسقف عمان Philadelphia، وهورميداس أسقف شحبة Philippopolis، ونونوس أسقف أذرح Zerabene.
  • (١٠)
    أساقفة فينيقية الأولى أو الساحلية: فوطيوس أسقف صور، وألكسندروس أسقف طرطوس Antarados، وبولس أسقف أرواد، وإيراقليطس أسقف عرقة Arce، وأفستاثيوس أسقف بيروت، وبورفيريوس أسقف البترون Botrys، وبطرس أسقف جبيل Byblos، وفوسفوروس أسقف عرطوز Orthosia، وأوليمبوس أسقف بانياس، وتوما أسقف النبي يونس Porphyreon، وبولس أسقف عكة Ptolemais، ودميانوس أسقف صيدا، وثيودوروس أسقف طرابلس.
  • (١١)
    أساقفة فينيقية الثانية أو اللبنانية: ثيودوروس أسقف دمشق، ويردانوس أسقف سوق وادي بردي Abila، وإبراهيم أسقف حرلانة في الغوطة، وذاذاس أسقف قارة أو كناكر Chonacara، وبطرس أسقف جيرود Corada، وثيودوروس أسقف مهين Danaba، وأورانيوس أسقف حمص، وتوما أسقف حوارين Evaria، ويوسف أسقف بعلبك Heliopolis، وأفسابيوس أسقف يبرود، وفاليريوس أسقف قطينة Laodicia، ويوحنا أسقف تدمر، وأفستاثيوس أسقف العرب.٤٠

الوفود الأخرى

وتألف الوفد الروماني من الأسقفين باسكاسينوس Paschasinus ولوشنتيوس Lucentius، والقسين بونيفاتيوس وباسيليوس، وانضم إليهم يوليانوس أسقف جزيرة كوس للمرة الثانية، وجاء ديوسقوروس ووراءه سبعة عشر أسقفًا، وانضم إلى هؤلاء أساقفة آسية وتراقية واليونان واليرية وأفريقية، ومثَّلَ الدولة الرومانية أناتوليوس القائد الكبير، وبلاذيوس برايفكتوس الشرق، وتاتيانوس برايفكتوس العاصمة، وخمسة عشر موظفًا.
  • الجلسة الأولى: وافتُتِحت أعمال المجمع في الثامن من تشرين الأول في كنيسة القديسة أفيمية٤١ في خلقيدونية، بحضور هذا العدد الكبير من الأساقفة، ووجود عدد من وجهاء الدولة في صدر المجمع أمام الباب الملوكي، وعن يسارهم: نوَّاب رومة القديمة، وأنانوليوس أسقف رومة الجديدة، فمكسيموس أسقف أنطاكية، وعن يمينهم: ديوسقوروس أسقف الإسكندرية، ويوبيناليوس أسقف أوروشليم، ثم سائر الأساقفة من الجهتين، ويتضح من هذا الترتيب أن رئاسة المجمع المسكوني الرابع كانت في يد السلطة.٤٢

    وبعد الافتتاح قام باسكاسينوس ووقف في وسط المجمع وقال لعظماء الدولة: «إن أسقف مدينة الرومانيين الرسولي الجزيل الغبطة رأس جميع الكنائس، أمرنا أن نخاطبكم بألَّا يجلس معنا ديوسقوروس أسقف الإسكندرية، فإما أن يخرج هو وإما أن نخرج نحن.» فرأى ممثلو السلطة أن يجلس ديوسقوروس في وسط المجمع فجلس، ثم وقف أفسابيوس أسقف دورلة، ودفع للمجمع كتابًا مضمونه ملخص ما جرى من التلصص في أفسس، وتُلِيت بعد ذلك أعمال المجمع اللصوصي، ثم أعمال المجمع القسطنطيني قبله، وبعد أخذ ورد شديدين اقترح ممثلو السلطة قطع كلٍّ من ديوسقوروس الإسكندرية، ويوبيناليوس أوروشليم، وثلاسيوس قيصرية، وأفسابيوس أنقيرة، وأفستاثيوس بيروت، وباسيليوس سلفكية؛ باعتبارهم زعماء التلصص في أفسس، ثم ارتفعت الجلسة فخرج الآباء يرددون: «قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت، ارحمنا.» وهي أول مرة يرد فيها ذكر التريصاجيون في تاريخ الكنيسة، وهتفوا بعد هذا التقديس قائلين: «لتكن سنو الإمبراطور عديدة! المسيح أسقف ديوسقوروس القاتل! قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت، ارحمنا.»

  • الجلسة الثانية: وعاد الآباء إلى العمل في العاشر من تشرين الأول، وظل ديوسقوروس ويوبيناليوس وسائر المتهمين بأعمال التلصص في أفسس خارج المجمع، فطلب ممثلو السلطة إلى الآباء المجتمعين أن ينظروا في أمر الإيمان، وأن يتفقوا على صيغة تصبح هي المعول عليها، فذكر الآباء أن المجمع المسكوني الثالث حرم أي تعديل في قانون الإيمان النيقاوي، ولكن نظرًا لإلحاح السلطة فإن الآباء أصغوا إلى نصوص رسائل كيرلس إلى نسطوريوس ويوحنا، وإلى «الطوموس» رسالة لاوون إلى فلابيانوس، فهتف معظم الآباء قائلين: «هذا هو إيمان الآباء، هذا إيمان الرسل، جميعنا هكذا نؤمن، الأرثوذكسيون هكذا يؤمنون، محروم مَن لا يؤمن هكذا، بطرس نادى بهذا التعليم بواسطة لاوون، كيرلس هكذا علم، محروم مَن لا يؤمن هكذا.» وتردَّدَ أساقفة فلسطين، وطلبوا شرح الطوموس، ولم يتخذ أساقفة مصر موقفًا معينًا نظرًا لتغيُّب رئيس وفدهم ديوسقوروس، وقبيل ارفضاض الجلسة هتف بعض الإليريين للأساقفة المتهمين.
  • الجلسة الثالثة: والتأم المجمع في جلسة ثالثة في الثالث عشر من تشرين الأول، وفي كنيسة مجاورة لكنيسة القديسة أفيمية تضم رفاة بعض الشهداء، وتغيب ممثلو السلطة فتسلم تسيير دفة الأمور الأسقف باسكاسينوس ممثل أسقف رومة، ونهض أفسابيوس أسقف دورلة وقرأ مذكرة جديدة بيَّن فيها هفوات ديوسقوروس وذنوبه، ثم تلاه أربعة إكليريكيين إسكندريين انتقدوا ديوسقوروس من حيث موقفه من أسرة سلفه كيرلس وقساوته وظلمه، ومن حيث طمعه بالمال وجشعه في جمعه، فدعا المجمع ديوسقوروس ثلاث مرات فلم يحضر، فقال باسكاسينوس: «لقد دعي ديوسقوروس ثلاث مرات ولم يحضر، فماذا يستحق هذا الذي يزدري بالمجمع؟» فقال المجمع: «يستحق جزاء العصاة.» ثم قال لوقيانوس أسقف بيزا ونائب أسقف هرقلية: «لقد أجرى المجمع المسكوني السابق أعمالًا ضد نسطوريوس، فَلْنقف على إجراءاته وَلْنعمل بموجبها.» فقال باسكاسينوس: «أتأمرون أن نطبق في حقه عقوبات كنسية؟» فقال المجمع: «إننا نوافق على ما هو حسن.» وخاطب الأسقف يوليانوس وفد رومة وطلب إلى رئيسه باسكاسينوس أن يبين القصاص المعين في القوانين، فقال باسكاسينوس: «إني أكرر ماذا تستحسنون؟» فقال مكسيموس أسقف أنطاكية العظمى: «كل ما يستحسنه بركم نوافق عليه.» فاقترح باسكاسينوس قطع ديوسقوروس؛ لأنه برَّأ أوطيخة وقبله في الشركة قبل اجتماع أفسس، ولأنه لم يسمح بقراءة رسالة لاوون إلى المجمع، ولأنه أصَرَّ على قطع العلاقة مع الأرثوذكسيين، فقال أناتوليوس أسقف رومة الجديدة: «إني أعتقد في كل شيء مثل الكرسي الرسولي، وأوافق على قطع ديوسقوروس.» وقال مكسيموس أسقف أنطاكية: «إني أضع ديوسقوروس تحت العقاب الكنسي الذي فاه به لاوون أسقف رومة القديمة وأناتوليوس أسقف رومة الجديدة.» ووافَقَ كثيرون آخرون، فحُكِم على ديوسقوروس بالقطع، أما الأساقفة الباقون من المتهمين فإنهم قدموا ندامةً ونالوا الصفح.
  • الجلسة الرابعة والخامسة: وبحث الآباء في الجلستين الرابعة والخامسة أمر العقيدة، فنظروا في طوموس لاوون على ضوء دستور الإيمان الذي سُنَّ في المجمعين المسكونيين الأول والثاني، وعلى ضوء تحديدات القديس كيرلس كما جاءت في أعمال المجمع المسكوني الثالث.

    وقدم ثلاثة عشر أسقفًا مصريًّا لائحة إيمان أثبتت تعلقهم بإيمان الآباء منذ عهد مرقس الإنجيلي حتى أيام كيرلس، وشجبوا آريوس وفنوميوس وماني ونسطوريوس، ولكنهم سكتوا عن أوطيخة، فوبخهم المجمع فقالوا إنهم يعملون بموجب القانون النيقاوي السادس؛ إذ لا يجوز لهم أن يقطعوا رأيًا بدون موافقة أسقف الإسكندرية.

    وحاول برصوم أن يدافع عن ديوسقوروس ولكنه لم يُفلح، فإنه ما كاد يُطل على الآباء المجتمعين حتى تعالت الأصوات بوجوب خروجه، فقال البعض: «إلى الخارج أيها القاتل، إلى المرسح المدرَّج، إلى الوحوش الضارية.» فخرج برصوم والوفد الرهباني الذي كان يرافقه.

    وألفت لجنة تمثل جميع الآراء في المجمع لتعد صورة اعتراف يبتُّ في قضية الطبيعة الواحدة التي أثارها أوطيخة، فقامت هذه اللجنة بالمهمة الموكولة إليها خير قيام، وتقدمت من المجمع في جلسته الخامسة بمشروع اعترافٍ هذا نصه:
    إننا نعلم جميعنا تعليمًا واحدًا تابعين الآباء القديسين، ونعترف بابن واحد هو نفسه ربنا يسوع المسيح، وهو نفسه كامل بحسب اللاهوت، وهو نفسه كامل بحسب الناسوت، إله حقيقي وإنسان حقيقي، وهو نفسه من نفس واحدة وجسد، مساوٍ للآب في جوهر اللاهوت، وهو نفسه مساوٍ لنا في جوهر الناسوت، مماثل لنا في كل شيء ما عدا الخطيئة، مولود من الآب قبل الدهور بحسب اللاهوت، وهو نفسه في آخر الأيام مولود من مريم العذراء والدة الإله بحسب الناسوت لأجلنا ولأجل خلاصنا، ومعروف هو نفسه مسيحًا وابنًا وربًّا ووحيدًا واحدًا بطبيعتين، بلا اختلاط ولا تغيير ولا انقسام ولا انفصال، من غير أن يُنفى فرق الطبائع بسبب الاتحاد، بل إن خاصة كل واحدة من الطبيعتين ما زالت محفوظة، تؤلفان كلتاهما شخصًا واحدًا وأقنومًا واحدًا لا مقسومًا ولا مجزَّأً إلى شخصين، بل هو ابن ووحيد واحد هو نفسه الله الكلمة الرب يسوع المسيح، كما تنبأ عنه الأنبياء من البدء، وكما علمنا الرب يسوع المسيح نفسه، وكما سلمنا دستور الآباء.٤٣
  • الجلسة السادسة: وفي هذه الجلسة في الخامس والعشرين من تشرين الأول حضر الإمبراطور بشخصه، وخطب في الآباء، فحضَّهم على استقامة الرأي والسلام، وتلا تحديدَ المجمع فأمضى عليه الآباء وصدَّق الإمبراطور.

صور وبيروت

ونظر الآباء في الجلسة الرابعة في الدعوى التي أقامها فوطيوس أسقف صور على أفستاثيوس أسقف بيروت، وخلاصة هذه الدعوى أن أناتوليوس أسقف القسطنطينية وهب أفستاثيوس أسقف بيروت لمناسبة ارتقائه إلى رتبة متروبوليت؛ الرئاسةَ على أسقفيات جبيل والبترون وطرابلس وعرطوز وعكار وطرطوس، وذلك بعد أن كانت هذه جميعها خاضعة لمتروبوليت صور، فلام المجمع أناتوليوس على هذا التعدي، وحكم بإرجاع هذه الأسقفيات إلى متروبوليت صور.

ثيودوريطس وإيبا

وفي الجلسة الثامنة فاه ثيودوريطس أسقف قورش لأول مرة بقطع نسطوريوس «وكل مَن لا يدعو مريم العذراء والدة الإله، ويجعل من الابن الوحيد اثنين»، وحذا حذوه كلٌّ من صفرونيوس أسقف قسطنطينة الرها، ويوحنا أسقف مرعش، فعرف المجمع جميع هؤلاء أرثوذكسيين، وفي الجلسة العاشرة تبرَّأ إيبا.

كنيسة أوروشليم

وكان الآباء القديسون المجتمعون في نيقية في المجمع المسكوني الأول قد خصوا أسقف أوروشليم بامتيازات معينة نجهلها، وحافظوا في الوقت نفسه على حقوق متروبوليت الأبرشية أسقف قيصرية، وكان يوبيناليوس منذ أن تسلَّمَ عكاز الرعاية قد بدأ يمارس صلاحيات أوسع بكثير مما سمح به العرف والتقليد؛ فإنه تشوَّف إلى ممارسة السلطة في العربية وفي فينيقية، فسام الأساقفة في هاتين الأبرشيتين، وزوَّر الوثائق وأبرزها في أفسس ليثبت حقًّا لم يعترف به أحد، واعترض كيرلس سبيله وكشف أمره، فسكت وبات ينتظر فرصة مؤاتية، فلما تعكَّر الجو واجتمع الآباء لينظروا في أمر أوطيخة، عاد يوبيناليوس إلى سابق مطلبه. وفي الجلسة السابعة من جلسات المجمع الخلقيدوني المنعقدة في السادس والعشرين من تشرين الأول سنة ٤٥١، تفاهم الأسقفان الأنطاكي والأوروشليمي، فاعترف مكسيموس بسلطة يوبيناليوس على أمهات المدن بيسان وقيصرية والبتراء، وامتنع يوبيناليوس عن المطالبة بأية صلاحية في فينيقية أو العربية.

أسقف رومة الجديدة

وفي الجلسات الحادية عشرة إلى الرابعة عشرة حلَّت مسائل تتعلق بأساقفة آسية، وفي الجلسة الخامسة عشرة سنَّ المجمع ثلاثين قانونًا لا تزال سارية المفعول، وجاء في القانون التاسع أنه إذا وقع خلاف بين إكليريكي وبين متروبوليت الأبرشية، يُرفَع إلى إكسرخوس الولاية أو إلى الجالس على كرسي القسطنطينية، وجاء مثل هذا في القانون السابع عشر، ونص القانون الثامن والعشرون بالمساواة في الكرامة بين أسقفي رومة الجديدة ورومة القديمة، فاعترض الوفد الروماني على هذه المساواة.

انتهاء الأعمال

وصدَّق الإمبراطور على القرارات والقوانين، وحلَّ المجمع المسكوني الرابع، ومنع أتباع أوطيخة عن إقامة الحفلات الدينية، ونفى أوطيخة فتوفي بعد ذلك بقليل، ونفى أيضًا ديوسقوروس فجعل إقامته جبريةً في كنغريس أفلاغونية.

١  Bardy, G., Brigandage d’Ephèse, Fliche et Martin, op. cit., IV, 212.
٢  Tixeront, J., Hist. des Dogmes, III, 84-85.
٣  Duchesne, L., Hist. Anc. de l’Église, III, 398 ff.
٤  Tillemont, Mémoires, XV, 581-582; Génier, F. R., Vie de Saint Euthyme le Grand, 152–156.
٥  Facundus d’Hermiane, Pro Defensione Trium Capitulorum, XII, 5.
٦  Cod. Justin., I, 1.
٧  Mansi, V, Col. 417–420; Martin, P., Actes du Brigandage d’Ephèse, 163. For English edition, see Perry, S. G. F., Second Synod of Ephesus, Dartford, 1881.
٨  Epist., 83.
٩  Martin, P., Actes, 163.
١٠  Martin, P., op. cit., 142; Théodoret, Epist., 92.
١١  Schwartz, Ed., Acta, Session XI, 378.
١٢  Ibid., Session X, 373–375.
١٣  Schwartz, Ed., Acta, Session I, 145-146.
١٤  Mansi, VI, Col. 817.
١٥  Bardy, G., Brigandage d’Ephèse, op. cit., IV, 217.
١٦  Jaffé-Wattenbach, Regesta, 421.
١٧  Saint Léon, Epist., 34, 35; Jaffé-Wattenbach, Regesta, 423–429.
١٨  Schwartz, Ed., Acta II, 77–82, 183–186, 192–195; Devresse, R., Patriarcat d’Antioche, 135-136.
١٩  Martin, Actes, 4-5.
٢٠  Saint Léon, Epist. 28; Tixeront, J., Hist. des Dogmes, III, 86; Bardy, G., Brigandage, op. cit., IV, 219-220.
٢١  Mansi, VI. Col. 839.
٢٢  Mansi, VI. Col. 691, 1017, VII, Col. 68.
٢٣  Jaffé-Wattenbach, Regesta, 496; Silva-Tarouca, C., S. Leonis Magni Epist. cont. Eutychis, II, 34–38.
٢٤  Libellus Appellationis (Ed. Mommsen), Neues Archiv. 1886, 362–367.
٢٥  Théodoret, Epist. 132; Martin, Actes, 69–76.
٢٦  Martin, Actes, 77–82.
٢٧  Martin, Actes, 82–89.
٢٨  Martin, Actes, 89–94.
٢٩  Tillemont, Mém., XV, 581–583; Martin, Actes, 95–129.
٣٠  Théodoret, Epist. 113, 116.
٣١  Devresse, R., Patriarcat, 60, n. 7.
٣٢  Azema, Y., Corresp., 24.
٣٣  Martin, Actes, 11.
٣٤  Martin, Actes, 132–172.
٣٥  Tillemont, Mém., XV, 582.
٣٦  Inter Epistolas Leonis, Epist. 4, 56, 57, 58.
٣٧  Théodore le Lecteur, Hist. Ecc., I, 1.
٣٨  Mansi, VI, Col. 1097; Duchesne, L., Hist. Anc. de l’Eglise, III, 428, n. 1.
٣٩  Bardy, G., Concile de Chalcédoine, op. cit., IV, 228.
٤٠  Schwartz, Ed., Acta, op. cit., II, 56–64, 326–335, 337–351; Devresse, R., Patriarcat d’Antioche, 136–140.
٤١  Evagrius, Hist. Ecc., II, 3.
٤٢  Batiffol, P., Siège Apostolique, 539.
٤٣  Mansi, VII, Col. 116; Hahn, A., Bibliothek der Symbole, 146.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤