الفصل الأول

المادية تتجاوز ذاتَها

(١) حُجَّة كانْت

يقول كانْت قرب نهاية كتابه «نقد العقل الخالص»١ إن شيئين يملآن عقلَه بالإعجاب والإجلال المتجددين والمتزايدين على الدوام: السموات المرصعة بالنجوم من فوقه، والقانون الأخلاقي في داخله؛ فالشيء الأول من هذين يرمز عنده إلى مشكلة معرفتنا عن العالم الفيزيائي٢ ومشكلة مكاننا في هذا العالم، والثاني يتصل بالذات غير المرئية: بالشخصية الإنسانية (والحرية الإنسانية كما يُبَيِّن). الأول يلغي أهمية الإنسان إذا نظرنا إليه كجزء من العالم الفيزيائي، والثاني يُعلِي قيمتَه إلى غير حد بوصفه كائنًا ذكيًّا ومسئولًا.٣

أعتقد أن كانْت قد أصاب كبدَ الحقيقة. ومثلما قال مرةً جوزيف بوبر-لينكيوس إن كل مرة يموت فيها إنسانٌ يكون عالمٌ بأسره قد انحطَم (يدرك المرءُ ذلك إذا ما وضع نفسَه مكانَ هذا الإنسان). إن الكائنات الإنسانية غير قابلة للاستبدال، وهي في ذلك تختلف بشكلٍ بَيِّنٍ عن الآلات اختلافًا شديدًا؛ فهي قادرة على الاستمتاع بالحياة، وعلى المعاناة، وعلى مواجهة الموت مواجهةً واعية. إنها ذوات، إنها غاياتٌ في ذاتها كما قال كانْت.

تبدو لي هذه النظرةُ غيرَ متوافقة مع المذهب المادي القائل بأن البشر آلات.

وهدفي في هذا الفصل التمهيدي هو أن أكشف عددًا من المشكلات، وأن أؤكد أهمية بعض الأشياء التي ينبغي، ربما، أن تجعل صاحب المذهب المادي أو الفيزيائي يتروَّى في أمره. وأود في الوقت نفسه أن أنظر بعين الإنصاف إلى الإنجازات التاريخية العظيمة للمذهب المادي. غير أني أود أن أوضح من فوري أنه ليس في نِيَّتِي أن أُثير أي أسئلة من صنف «ما هو …؟» مثل: «ما هو العقل؟» أو «ما هي المادة؟» (الحق أن ضرورة اجتناب أسئلة «ما هو …؟» سوف يتبين أنها من مقاصدي الكبرى) وإنني لَأقلُّ حرصًا من ذلك على الإجابة عن مثل هذه الأسئلة (أي أنني لا أقوم بتقديم ما يسمى أحيانًا «أنطولوجيا»).

(٢) البشر والآلات

المذهب القائل بأن البشر آلات أو روبوتات هو مذهب قديم إلى حد ما. وتعود أول صياغة واضحة وقوية لهذا المذهب، فيما يبدو، إلى عنوان كتاب شهير للامتري: «الإنسان كآلة» Man a Machine (١٧٤٧م)، وإن يكن هوميروس هو أول كاتب داعب فكرة الروبوتات.٤

غير أنه من الواضح أن الآلات ليست غايات في ذاتها مهما بلغت من التعقيد. قد تكون الآلات قَيِّمةً بسبب فائدتها أو بسبب ندرتها. وقد تكون لقطعة معينة قيمة بسبب فرادتها التاريخية. ولكن الآلات تصبح بلا قيمة إذا لم يكن لها قيمة الندرة، إذا كانت كثيرة جدًّا ومن صنف نحن على استعداد لأن ندفع ثمنًا للتخلص منه. ونحن، في المقابل، نقدر حياة البشر برغم مشكلة زيادة السكان، التي هي أخطر المشكلات الاجتماعية في زمننا هذا. نحن نحترم حتى حياةَ القاتل.

يجب أن نعترف بعد حربَين عالميَّتَين، وتحت تهديد الوسائل الجديدة للدمار الشامل، أنه كان ثمة تدهور مريع في احترام الحياة الإنسانية لدى بعض طبقات مجتمعنا. هذا ما يجعل من المُلِح والعاجل أن أعيد فيما يلي توكيدَ رأيٍ لا مَحيدَ لنا عنه فيما أعتقد: وهو الرأي القائل بأن البشر غايات في ذاتها وليسوا «مجرد» آلات.

نستطيع أن نقسِّم أولئك الذين يذهبون إلى أن البشر آلات، أو يذهبون مذهبًا شبيهًا بذلك، إلى فئتين:

أولئك الذين ينكرون وجود أحداث عقلية، أو خبرات شخصية، أو وعي، أو ربما يقولون إن السؤال عما إذا كانت مثل هذه الخبرات موجودة هو سؤال قليل الأهمية، ولا ضير من أن يُترَك دون حسم.

وأولئك الذين يعترفون بوجود الأحداث العقلية ولكنهم يؤكدون أنها «ظواهر ثانوية» (أو «ظواهر مصاحبة» epiphenomena) وأن بالإمكان تفسير كل شيء بدونها، ما دام العالم المادي مغلقًا عِلِّيا. ولكن سواء كانوا ينتمون إلى هذه الفئة أو تلك فإن كلا الفريقين، فيما يبدو لي، لا بد أن يتجاهل واقع المعاناة البشرية وأهمية محاربة المعاناة الزائدة.

بذلك أعتبر المذهب القائل بأن البشر آلات ليس مغلوطًا فحسب بل خليقًا أيضًا بتقويض أي علم أخلاق إنساني. غير أن هذا السبب نفسه يُلزِمني بشدة أن أؤكد أن المناصرين العظام لهذا المذهب — أي الفلاسفة الماديين الكبار — كانوا كلُّهم تقريبًا دعاةَ أخلاق إنسانية. فمن ديمقريطس ولوكريتس إلى هربرت فايجل وأنتوني كوينتون، كان الفلاسفة الماديون دائمًا إنسانيين ومنافحين عن الحرية والتنوير. ومن المؤسف أن نقول إن خصومهم كانوا على النقيض من ذلك في بعض الأحيان. هكذا، وبالضبط لأني أعتبر المذهب المادي مغلوطًا، وبالضبط لأني لا أعتقد أن البشر آلات أو روبوتات، أود أن أؤكد على الدور العظيم والحيوي حقًّا الذي لعبته الفلسفة المادية في تطور الفكر الإنساني والأخلاق الإنسانية.

(٣) المادية تتجاوز ذاتَها٥

كانت المادية، كحركة فلسفية، ملهِمةً للعلم. وقد خلقت برنامجين من أقدم برامج البحث العلمي وأهمها حتى الآن، تقليدَين متعارضين لم يندمجا إلا حديثًا جدًّا. الأول هو نظرية بارمنيدس عن «المَلاء» plenum، والتي تطورت إلى نظرية الاتصال في المادة والتي أدت مع فاراداي ومكسويل وريمان وكليفورد، وفي زمننا نحن مع أينشتين وشرودنجر وهويلر، إلى نظرية المجال أو الحقل في المادة وإلى الديناميكا الهندسية للكوانتم، والثاني هو المذهب الذري عند ليوسيبوس وديمقريطس وأبيقور ولوكريتس، الذي أدى في النهاية إلى النظرية الذرية الحديثة وإلى ميكانيكا الكوانتم.
غير أن كِلا هذين البرنامجين البحثيين قد تجاوز نفسَه إلى حد ما. بدأ كِلا البرنامجَين البحثيَّين من نظرية أن المادةَ، بمعنى شيءٍ ما ممتدٍ في المكان أو يشغل مكانًا (أو أجزاءً من المكان)، نهائية ultimate، ماهوية essential، جوهرية substantial: ماهية أو جوهر غير قابل لتفسيرٍ أبعد ولا هو بحاجة إلى هذا التفسير؛ ومبدأ، من ثَم، يجب، ويمكن، أن يفسَّر به كلٌّ شيء آخر. هذا الرأي في المادة قد أُبطِل للمرة الأولى على يد ليبنتز وبوسكوفيتش (انظر قسم ٥١ لاحقًا). وتتضمن الفيزياءُ الحديثة نظرياتٍ تفسيريةً explanatory theories للمادة، ولخواص المادة مثل خاصة شَغل المكان (أُطلِق عليها يومًا خاصة «عدم القابلية للاختراق» impenetrability)، وخواص المرونة، والتماسك؛ و«حالات» states المادة (أو «حالات التجمع»: الصلب أو السائل أو الغازي). إن الفيزياء الحديثة إذ تفسر المادة وخواصها بهذه الطريقة فإنها قد تجاوزت البرنامج الأصلي للمادية. والحق أن الفيزياء نفسها هي التي أنتجت الحجج الأهم إلى حد بعيد ضد المادية الكلاسيكية.
سأوجز هنا أهم هذه الحجج (انظر أيضًا قسمَي ٤٧، ٥١ لاحقًا). تفترض المادية الكلاسيكية التي قال بها ليوسيبوس أو ديمقريطس، شأنها شأن النظريات اللاحقة لديكارت أو هوبز، أن المادة أو الجسم أو «الجوهر الممتد» يملأ أجزاءً من المكان أو ربما المكان كله، وأن الجسم يمكن أن «يدفع» push جسمًا آخر. الدفع، أو التصادم، يصبح هو تفسير التفاعل العِلِّي («الفعل بالتلامس»). والعالم آلية تعمل كالساعة، لأجسامٍ يدفع بعضُها بعضًا كما تفعل التروس.
كان أول تجاوز لهذه النظرية هو تصور نيوتن للجاذبية التي هي (١) جذبٌ لا دفع. و (٢) فعلٌ عن بُعد لا فعلٌ بالتلامس. وقد كان نيوتن نفسه يرى أن هذا محال.٦ ولكنَّه هو وخلفاءه (وبخاصة ليسيج٧   Lesage) لم ينجحوا في محاولاتهم تفسير الشد الجاذبي على أنه بسبب الدفع. ورغم ذلك فقد تم رأب هذا الصدع الأول في درع المادية الكلاسيكية بمد فكرة المادية: لقد تقبل خلفاء نيوتن الشد الجاذبي على أنه خاصة «جوهرية» (ماهوية) essential للمادة لا يمكن، ولا يلزمها، أن تفسَّر بأي شيء آخر.٨

أحد أهم الأحداث في تاريخ تجاوز المادية لذاتها كان هو اكتشاف طمسون للإلكترون، والذي شخَّصه طمسون (هو وﻫ. أ. لورنتز) على أنه شظية دقيقة من الذرة. هكذا أمكن للذرة أن تنقسم وهي غير القابلة للانقسام بحكم التعريف. كان هذا مقلقًا، ولكن كان بوسع المرء أن يكيِّف نفسه معه بأن يعتبر الذرات كمنظومات من جسيمات مادية مشحونة أصغر، الإلكترونات والبروتونات، والتي يمكن اعتبارها دقائق من المادة المشحونة بالغة الصغر.

أمكن النظرية الجديدة أن تفسر الدفع بين أجزاء المادة (عدم قابلية المادة للاختراق) بواسطة التنافُر الكهربي بين الجسيمات المتساوية الشحنة (القشرة الإلكترونية للذرات). كان هذا شيئًا مقْنِعًا، غير أنه دمر فكرة أن الدفع هو شيء «جوهري»، استنادًا إلى خاصية ملء المكان كخاصية جوهرية للمادة، ودمر فكرة أن الدفع هو نموذج لكل فعل عِلِّي فيزيائي. وقد عُرِفت الآن جسيمات أولية أخرى لا يمكن تفسيرها كأجزاء مشحونة (أو غير مشحونة) للمادة — المادة بالمعنى الذي يفيده المذهب المادي — ذلك لأنها غير ثابتة: إنها تنحل. وفضلًا عن ذلك فحتى الجسيمات الثابتة كالإلكترونات يمكن أن تَفنَى أزواجًا فتنتج الفوتونات (كَمَّات الضوء)، ويمكن أن تُخلَق من فوتون (شعاع جاما). ولكن الضوء ليس مادة، وإن جاز لنا القول بأن الضوء والمادة هما شكلان من الطاقة.

هكذا تم التخلي عن قانون بقاء المادة (وبقاء الكتلة)؛ فالمادة ليست «جوهرًا» substance؛ لأنها غير ثابتة: فمن الممكن أن تُدمَّر، ومن الممكن أن تُخلَق. وحتى أشد الجسيمات ثباتًا، أي النوَيَّات، يمكن أن تدمَّر باصطدامها بجسيمات مضادة، إذ تتحول طاقتُها إلى ضوء. لقد تَكَشَّف أن المادة هي «طاقة معبأة» قابلة للتحول إلى صور أخرى من الطاقة. وهي من ثَم شيء له طبيعة «العملية» process، ما دام بالإمكان أن تتحول إلى عمليات أخرى مثل الضوء، ومثل الحركة والحرارة بطبيعة الحال.
بوسعنا أن نقول إذن إن نتائج الفيزياء الحديثة تهيب بنا أن نتخلى عن فكرة «الجوهر» أو «الماهية».٩ وتشير إلى أنْ ليس هناك شيء من قبيل الكيان الثابت الدائم عبر الزمن من وراء جميع التغيرات (وإن كانت أجزاء المادة تفعل ذلك في الظروف «العادية»)؛ وأنْ ليس هناك جوهر باقٍ حامل أو مالك لخصائص الشيء أو صفاته؛ فالعالم الآن لا يبدو أنه تجمُّع من الأشياء بل مجموعة متفاعلة من «الأحداث» events أو «العمليات» processes (كما أكد ألفرد نورث هويتهد A. N. Whitehead بصفة خاصة).
بذلك يسع الفيزيائي الحديث أن يقول بأن الأشياء المادية — الأجسام، المادة — لها بِنية ذرية، ولكن الذرات لها بنية بدورها؛ وهي بنية يصعب أن نصفها بأنها «مادية»، ويصعب بالتأكيد أن نصفها بأنها «جوهرية» substantial: هكذا يمكن القول، من خلال برنامج تفسير بنية المادة، بأن الفيزياء تحتَّم عليها أن تتجاوز المادية.
كان هذا التطور بأسره المتجاوز للمادة نتاجًا للبحث في بنية المادة، في الذرات، ونتاجًا من ثَم لبرنامج البحث المادي نفسه (وهو ما يفسر لماذا أنا أتحدث عن تجاوز المادية لذاتها). إنها لم تنل من أهمية المادة والأشياء المادية وواقعيتها؛ الذرات، والجزئيات، وبنية الجزيئات، بل قد نقول حتى بأنها أدت إلى إضافة إلى الواقع. فكما يبين تاريخ المادية وبخاصة المذهب الذري فإن واقعية المادة كانت تُعَد شيئًا موضع شك، ليس فقط عند الفلاسفة المثاليين من أمثال باركلي وهيوم بل حتى لدى فيزيائيين من أمثال ماخ، لحظة ظهور نظرية الكوانتم بالتحديد، ولكن منذ عام ١٩٠٥م (تاريخ ورقة أينشتين عن النظرية الجزيئية للحركة البراونية)، بدأت الأشياء تبدو مختلفة؛ وحتى ماخ قد غير رأيه مؤقتًا على الأقل،١٠ قبيل وفاته، عندما أروه، على شاشة إيماض، تلك الومضات الناتجة عن جسيمات ألفا، وهي الشظيات المتخلفة عن انحلال ذرات الراديوم. ويمكننا القول إنه قد تم تقبل الذرات كشيء «واقعي» حقًّا عندما لم تَعُد «ذرية» atomic: أي عندما لم تعد أجزاءً غير منقسمة من المادة، أي عندما اكتسبَت بنية.
هكذا يمكننا القول بأن النظرية الفيزيائية للمادة لم تعد «مادية» materialist، وإن احتفظت بالكثير من طابعها الأصلي، فلا تزال تتعامل مع جسيمات (وإن لم تعد هذه مقصورة على «أجزاء من المادة») غير أنها أضافت حقول القُوَى وشتَّى صور النشاط الإشعاعي. ولكنها الآن تتحول إلى «نظرية» للمادة: نظرية تفسر المادة بواسطة افتراضات عن كيانات غير مادية (وإن تكن بالتأكيد غير عقلية). وعلى حد قول ج. أ. هويلر (١٩٧٣م) فإن «الفيزياء الجسيمية ليست نقطة البداية الصحيحة للفيزياء الجزيئية، نقطة البداية هي فيزياء الفراغ  vacuum physics١١

بذلك تجاوزت الماديةُ نفسَها؛ فالرأي القائل بأن الحيوانات والبشر آلات بالمعنى الميكانيكي، وهو الرأي الذي استلهم في الأصل عنوان كتاب لامتري «الإنسان كآلة» (انظر قسم ٥٦ لاحقًا) قد استُبدِل به تصور الحيوانات والبشر كآلات كهروكيميائية.

إنه تغيُّر مهم. إلا أنه لأسبابٍ ذكرتُها في بداية الفصل فإن هذه الصيغة الحديثة من نظرية أن البشر آلات لا تبدو لي (وإن تكن، ربما، أقرب بخطوة إلى الحقيقة) أكثر قبولًا من الصيغة الميكانيكية القديمة للمذهب المادي.

كثير من الفلاسفة الجدد الذين يرون هذا الرأي (وبخاصة بليس U. T. Place، وسمارت J. J. C. Smart، وأرمسترونج D. M. Armstrong) يسمون أنفسهم «ماديين»، فيعطون بذلك مصطلح «المادية» معنًى يختلف بعض الشيء عن معناه الأول. وهناك آخرون يأخذون بآراء شبيهة جدًّا، وبخاصة تصور البشر كالآلات، يسمون أنفسهم «أصحاب النزعة الفيزيائية» physicalists (يعود المصطلح على حد علمي إلى أوتو نويرات Otto Neurath). كذلك يفعل هربرت فايجل، الذي يعتبر وجود الوعي الإنساني مشكلة من أهم المشكلات الفلسفية.

الاصطلاح بالطبع خارج تمامًا عن الموضوع، ولكن ينبغي ألا نغفل شيئًا: أن نقد المادية القديمة، حتى لو كان حاسمًا، لا ينسحب بالضرورة على الصيغة الفيزيائية السائدة الآن للمذهب المادي.

(٤) ملاحظات على مصطلح «واقعي»١٢

من دأبي أن أحاول تجنب أسئلة «ما هو»، وحتى أكثر من ذلك أسئلة «ماذا تعني ﺑ»؛ لأني أراها خليقة بأن تُفضي إلى مزلق استبدال مشكلات لفظية (أو مشكلات عن المعنى) بالمشكلات الحقيقية. غير أني سأحيد في هذا القسم عن هذا المبدأ١٣ وأعرض باختصار إلى استخدام، أو معنى، مصطلحٍ معين؛ مصطلح «واقعي» real، الذي استُخدِم في القسم السابق. (حيث كنت أقول إن الذرات قد قُبِلَت كشيءٍ «واقعي» عندما لم تعد «ذرية».)

وأنا أفترض أن أهم استخدامات مصطلح «واقعي» هو استخدامه لتحديد الأشياء المادية ذات الحجم العادي؛ أشياء يمكن للرضيع أن يتناولها ويميل إلى أن يضعها في فمه. ومن هذا يمتد استخدام لفظ «واقعي» ليشمل أشياء أكبر؛ أشياء أكبر من أن نتناولها، مثل قطارات السكة الحديدية، المنازل، الجبال، الأرض والنجوم، ويمتد أيضًا ليشمل أشياء أصغر؛ أشياء مثل ذرات التراب أو السوس. ويمتد أيضًا، بالطبع، إلى السوائل ثم إلى الهواء أيضًا، إلى الغازات وإلى الجزيئات والذرات.

ما هو المبدأ من وراء الامتداد؟ إنه، فيما أرى، أن الكيانات التي نحدس بأنها واقعية يجب أن يكون بإمكانها أن تمارس تأثيرًا عِلِّيًّا على الأشياء التي هي واقعية «للوهلة الأولى» prima facie، أي الأشياء المادية ذات الحجم العادي: أي أن يكون بإمكاننا أن نفسر التغييرات في عالم الأشياء المادية العادية عن طريق التأثيرات العِلِّية للكيانات التي نحدِس (افتراضيًّا) بأنها واقعية.

ومع ذلك فإنه يبقى السؤال اللاحق: هل هذه الكيانات التي نحدِس بأنها واقعية موجودة حقًّا أم غير موجودة؟

كثير من الأشخاص كان كارهًا قبول أن الذرات موجودة، إلا أن الذرات قد اعتُرِفَ بوجودها على نطاقٍ عريض بعد مَجِيء نظرية أينشتين عن الحركة البراونية. اقترح أينشتين النظرية القابلة تمامًا للاختبار والقائلة بأن الجسيمات الصغيرة العالقة في سائل (والتي نجد حركاتها مرئية خلال الميكروسكوب، وهي من ثَم «واقعية») تتحرك نتيجة للتصادمات العشوائية لجزيئات السائل المتحركة. وقد حَدَسَ بأن الجزيئات غير المرئية لفرط صغرِها تمارس تأثيرات عِلِّية على تلك الأشياء الصغيرة جدًّا وإن تكن واقعية «عادية». لقد قدم هذا تبريرات عقلية وجيهة لواقعية الجزيئات، ومن ثَم لواقعية الذرات أيضًا.

وقد أصبح ماخ، الذي لم يكن يحب العمل بالتخمينات، مقتنعًا (لفترة من الوقت على الأقل) بوجود الذرات من جراء الدليل الملحوظ للتأثيرات الفيزيائية لانحلالها. وقد غدا وجود الذرات معرفةً عامة عندما تَسَبَّبَ انحلالُها الاصطناعي في تدمير مدينتين آهلتين بالسكان.١٤

ومع ذلك فإن مسألة قبول مثل هذا الدليل ليست واضحة تمامًا. فبينما لا يمكن لدليل أن يكون نهائيًّا فإننا فيما يبدو نميل إلى أن نقبل شيئًا ما (والذي وقع لنا حدسٌ بوجوده) على أنه موجود حقًّا إذا كان وجوده يعززه، مثلًا، اكتشاف تأثيرات نحن نتوقع أن نجدها إذا كان هذا الشيء موجودًا فعلًا.

ورغم ذلك فقد نقول إن هذا التعزيز يشير، أولًا، إلى أن «شيئًا ما» هو هناك، وسيتعين على الأقل تفسير واقعة هذا التعزيز بواسطة أي نظرية مستقبلية ويشير التعزيز ثانيًا إلى أن النظرية التي تشتمل على الكيانات الواقعية المخَمَّنة قد تكون صادقة، أو أنها قد تكون قريبة من الصدق (الحقيقة) (أي إنها تتمتع بدرجة جيدة من مظهر الصدق١٥  verisimilitude). (لعل من الأفضل أن نتحدث عن صدق النظريات أو مظهر صدقها لا عن وجود الكيانات؛ لأن وجود الكيانات هو جزء من نظرية أو حدس افتراضي).
ونحن إذا وضعنا هذه التحفظات في الحسبان فلن يكون هناك سبب يمنعنا من القول، مثلًا، إن الذرات وأيضًا الإلكترونات والجسيمات الأولية الأخرى هي الآن مقبولة على أنها موجودة حقًّا، وليكن بسبب تأثيراتها العِلِّية على الطبقات الفوتوغرافية الحساسة. إننا لَنأخذ الأشياءَ على أنها «واقعية» real إذا كان بإمكانها أن تمارس فعلًا عِلِّيًّا على، أو تتفاعل مع، أشياء مادية واقعية عادية.
غير أن الكيانات الواقعية قد تكون عيانية أو مجردة، على تفاوت الدرجة، فنحن في الفيزياء نقبل «القُوى» forces و«حقول القُوى» fields of forces على أنها واقعية، لأنها تمارس فعلًا على الأشياء المادية؛ وإن تكن هذه الكيانات أكثر تجريدًا، وربما أيضًا أكثر حدسية أو افتراضية، من الأشياء المادية العادية.

تتصل القُوى وحقول القُوى بالأشياء المادية، وبالذرات، وبالجسيمات. إن لها طبيعةً نزوعية؛ إنها ميول (استعدادات) إلى التفاعل. ومن ثَم فهي تُوصَف على أنها كيانات نظرية عالية التجريد، ولكنها إذ تتفاعل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مع أشياء مادية عادية، فنحن نقبلها على أنها واقعية.

وباختصار فأنا أشارك أصحابَ المذهب المادي القديم الرأيَ بأن الأشياء المادية واقعية، وحتى الرأي بأن الأجسام المادية الصلبة هي عندنا النماذج الإرشادية للواقعية. كما أشارك الماديين الجدد أو أصحاب المذهب الفيزيائي الرأيَ بأن القُوى وحقول القُوى والشحنات … إلخ — أي الكيانات الفيزيائية النظرية التي ليست مادة — هي أيضًا واقعية.

وبالإضافة إلى ذلك، فرغم أنني أفترض أننا في طفولتنا المبكرة، نأخذ فكرتنا عن الواقع من الأشياء المادية، فأنا لا أحسب أن الأشياء المادية «نهائية» ultimate بأي معنًى من المعاني؛ بل على العكس، فبعد أن علمنا بالقُوى الفيزيائية، والأحداث، والعمليات، فقد نكتشف أن الأشياء المادية، وبخاصة الصلبة، ينبغي أن تُفسَّر على أنها عمليات فيزيائية خاصة جدًّا، تلعب فيها القُوى الجزيئية دورًا مهيمنًا.

(٥) المادية، والبيولوجيا، والعقل

المادية حركة عظيمة وتقليد عظيم، ليس في الفيزياء فحسب، بل أيضًا في البيولوجيا. ورغم أننا لا نعرف كثيرًا عن أصل الحياة على الأرض، فإنه يبدو محتملًا جدًّا أنها نشأت مع الاتحاد الكيميائي لجزيئات عملاقة ذاتية التكاثر، وأنها تطورت من خلال الانتخاب الطبيعي كما اعتاد الماديون أن يقولوا، مقتفين في ذلك أثر دارون.

هكذا يبدو أنه في عالم مادي فإن بوسع شيء ما جديد أن يظهر. ويبدو أن للمادة الميتة إمكانات أكبر من مجرد إنتاج مادة ميتة. لقد أنتجت، بصفة خاصة، العقول — في مراحل بطيئة بغير شك — وفي النهاية أنتجت الدماغ البشري والعقل البشري، والوعي البشري بالذات، والدراية البشرية بالعالم.

بذلك فأنا أشارك الماديين أو أصحاب المذهب الفيزيائي لا في التوكيد فحسب على الأشياء المادية كنماذج للواقع، بل وأشاركهم أيضًا في الفرضية التطورية. غير أن طريقَينا يفترقان، فيما يبدو، عندما يُنتِج التطورُ العقول، وينتج اللغةَ البشرية، ويفترقان حتى افتراقًا أوسع عندما تُنتِج العقولُ القصصَ، والأساطير الشارحة، والأدوات والأعمال الفنية والعلمية.

كل هذا، كما يبدو، قد تطور دون أي انتهاك لقوانين الفيزياء، وإنما مع الحياة، حتى في صورها الدنيا، يدخل حل المشكلات إلى العالم، وفي صورها العليا تدخل الأغراض والأهداف منشودةً بوعي.

ولا يسعنا إلا الدهَشُ من قدرة المادة هكذا على تجاوز ذاتها، بإنتاج العقل، والغرض، وعالم منتجات العقل البشري.

أحد المنتجات الأولى للعقل البشري هو اللغة البشرية. والحق أني أحدِس بأنها كانت أول هذه المنتجات جميعًا، وأن الدماغ والعقل البشريَّين قد تطورا بالتفاعل مع اللغة.

(٦) التطور العضوي

لكي نفهم هذا التفاعل على نحو أفضل ينبغي أن ننظر إلى جانب من جوانب نظرية الانتخاب الطبيعي يتم إغفالُه في بعض الأحيان.

كثيرًا ما يُنظَر إلى الانتخاب الطبيعي على أنه نتاج تفاعل بين مصادفة عمياء تعمل عملَها من داخل الكائن العضوي (الطفرة mutation)، وبين قوًى خارجية ليس للكائن بها يد؛ فأهداف الكائن العضوي واختياراته لا يبدو أنها تأتي على الإطلاق إلا كنواتج للانتخاب الطبيعي. ونظريات لامارك أو بطلر أو برجسون التي تجعل لرغبات الحيوان أو أهدافه تأثيرًا ممكنًا في تطوره تتعارض فيما يبدو مع مذهب داروِن بقولها بوراثة الصفات المكتسَبة.
هذه النظرية مغلوطة كما وجد عدد من الأشخاص، كلٌّ بمعزل عن الآخر فيما يبدو؛ وعلى الأخص الباحثان الداروينيان ج. م. بولدوين، وس. لويد مورجان، اللذان أطلقا على نظريتهما اسم «التطور العضوي» organic evolution.١٦
تبدأ نظرية التطور العضوي من واقعة أن جميع الكائنات العضوية، وبخاصة الكائنات الأرقى، لديها مخزون متنوع بعض الشيء من السلوك تحت تصرفها. وبتبني شكل جديد من السلوك فإن الكائن العضوي الفرد قد يغير بيئته. حتى الشجرة قد تدفع جذرَها في شِقٍّ بين صخرتين فتفسخ إحداهما عن الأخرى وبذلك تجد منفَذًا إلى تربة ذات تركيب كيميائي مختلف عن محيطها المباشر. وأكثر دلالةً من ذلك أن يتبنى حيوانٌ اختيارًا لنوعٍ جديد من الغذاء عن وعي، كنتيجة للمحاولة والخطأ. يعني ذلك تغيير بيئته لدرجة أن جوانب جديدة من البيئة تتخذ أهمية بيولوجية (إيكولوجية) جديدة. بهذه الطريقة فإن الرغبات والمهارات الفردية قد تؤدي إلى اختيار الكائن، وربما حتى تشييده، لمَحضَنٍ إيكولوجي جديد. بهذا الفعل الفردي فإن الكائن العضوي قد «يختار» بيئته إذا جاز التعبير،١٧ وهو بذلك قد يعرِّض نفسَه وذريتَه من بعده لمجموعة جديدة من ضغوط الاختيار الخاصة بالبيئة الجديدة. هكذا يؤثر نشاط الحيوان الفرد ورغباته ومهارته وخصوصياته البنيوية والمزاجية، بشكل غير مباشر، على ضغوط الاختيار التي يتعرض لها، ومن ثَم على مآل الانتخاب الطبيعي.
ولنأخذ مثالًا معروفًا جيدًا. فوفقًا للامارك فإن اختيار التنقيب بين الأفرع العليا للأشجار هو الذي جعل أسلاف الزراف يمط أعناقَه، وهو الذي أفضَى، من خلال وراثة الصفات المكتسبة، إلى الزراف الذي نعرفه اليوم. وبحسب النظرية الداروينية الحديثة (النظرية التخليقية the synthetic theory) فإن هذا التفسير غير مقبول قطعًا، لأن الصفات المكتسبة لا تُوَرَّث؛ غير أن هذا لا يعني أن أفعال أسلاف الزراف ورغباته واختياراته لم تلعب دورًا حاسمًا (وإن يكن غير مباشر) في تطوره. فهي، على العكس، قد خلقت بيئةً جديدة لذريته لها ضغوط انتخابية جديدة، وأدت هذه الضغوط الجديدة إلى انتخاب الأعناق الطويلة.

بل إن بوسع المرء، إلى حد ما، أن يقول إن الرغبات حاسمة التأثير في كثير من الأحيان. إنه لَأكثر احتمالًا بكثير أن تؤدي عادة غذائية جديدة بالانتخاب الطبيعي (وعن طريق الطفرات العارضة)، إلى تكيفات تشريحية جديدة من أن تدعم التغيراتُ التشريحية العارضةُ عاداتٍ غذائيةً جديدة؛ فالتغيرات التي لا تساير عادات الكائن العضوي قلَّما تُجْدِيه نفعًا في صراعه من أجل الحياة.

لقد كتب داروِن نفسُه: «… إنه لمن السهل على الانتخاب الطبيعي أن يكيف بِنيةَ الحيوان وفقًا لعاداته المتغيرة …» غير أنه أردف قائلًا: «ليس من السهل أن تقرر، ولا هو بالمهم لنا، هل العادات تتغير أولًا بصفة عامة ثم تتلوها البِنيات، أم إن التحور الطفيف للبِنية يؤدي إلى تغير العادات. فمن المحتمل أن الأمرين كليهما، في أحيان كثيرة، يحدثان في الوقت نفسه تقريبًا.»١٨ إنني أوافق على أن الأمرين يحدثان، وأن الانتخاب الطبيعي في الحالتين هو الذي يفعل فعله في البنية الوراثية. ولكني أعتقد أنه في حالات كثيرة، وفي بعض الحالات الأكثر إثارة للاهتمام، تتغير العادات أولًا. تلك هي الحالات المسماة ﺑ «التطور العضوي» organic evolution.
ولكني لا أتفق مع داروِن حين يقول إن هذا السؤال «غير مهم لنا»؛ فأنا أعتقد أنه يهمنا كثيرًا؛ فالتغيرات التطورية التي تبدأ بأنماط سلوكية جديدة — برغبات جديدة، بأغراض جديدة للحيوان — لا تتيح فهمًا أفضل لكثير من تكيفاته فحسب بل إنها تعيد استثمار أهداف الحيوان وأغراضه الذاتية على نحو ذي دلالة تطورية. كما أن نظرية التطور العضوي تفسر لنا لماذا تصبح آليةُ الانتخاب الطبيعي أكثرَ كفاءة عندما يتوافر لدى الحيوان مخزونٌ سلوكي أكبر؛ وبذلك تُبيِّن القيمةَ الانتخابية لوجود حرية سلوكية فطرية معينة كمقابل للتصلب السلوكي القَمين بأن يُصعِّب على الانتخاب الطبيعي أن يُنتِج تكيفات جديدة. ولعلها تتيح فهمًا أفضل لكيفية ظهور العقل البشري. ومثلما ألمح سير أليستر هاردي (في العنوان الفرعي لكتابه «التيار الحي» the living stream) فإن هذه «الصيغة الجديدة» لنظرية دارون يمكن أن توضح «علاقتها بروح الإنسان». وبوسعنا أن نقول إن الإنسان حين اختار أن يتكلم، وأن يُشغَف بالكلام، فقد اختار أن يطوِّر دماغَه وعقله، وإن اللغة ما إن خُلِقَت حتى مارست الضغط الانتخابي الذي انبثق تحته الدماغ البشري والوعي الذاتي.

أعتقد أن لهذه النقاط بعض الأهمية بالنسبة لمشكلة العقل-الجسم. فمثلما أشرنا سابقًا في القسم ٤ فإننا لا نحدس فحسب بوجود شيء ما كشيء واقعي إذا أمكنه أن يؤثر على الأشياء المادية بل إننا لَنَميل إلى أن نسلم بأنه موجود إذا تم تعزيز هذه التأثيرات. تومئ النقاط التي تناولناها في هذا القسم — كيف تؤدي اختياراتنا وأفكارنا وخططنا وأفعالنا إلى موقفٍ يمارس بدوره تأثيرات علينا تتضمن تطور الدماغ البشري — تومئ إلى أن في تطور الحيوانات العليا وسلوكها، وبخاصة الإنسان، بعض الأدلة على وجود الخبرة الواعية. تشكل هذه النقاط مشكلةً لأولئك الذين ينكرون أن الوعي موجود، وحتى لأولئك الذين يُسلمون بأن الوعي موجود ولكنهم يَدَّعون أن العالم الفيزيائي مكْتَفٍ بذاته عِلِّيًّا (انظر الفصل الثالث).

(٧) لا جديد تحت الشمس: الردِّية و«العِلِّيَّة الهابطة»١٩

من أقدم العقائد الفلسفية تلك العقيدة التي يلخصها القول المأثور (للكنسيِّين) «لا جديد تحت الشمس». وهذه العقيدة متضمَّنة أيضًا في المذهب المادي بطريقة ما، وبخاصة في الصور الأقدم للمذهب الذري، وحتى في المذهب الفيزيائي. يعتقد الماديون — أو كانوا يعتقدون — أن المادة أزلية وأن كل تغير هو عبارة عن حركة أجزاء من المادة والتغيرات الناجمة عن تنظيماتها. ويعتقد أصحاب المذهب الفيزيائي، كمبدأ عام، بأن القوانين الفيزيائية أزلية. (هناك استثناءات لهذا المبدأ العام، كما في حالة بول ديراك وجون أرشيبالد هويلر من أصحاب المذهب الفيزيائي؛ انظر هويلر ١٩٧٣م). والحق أنه من الصعب أن يرى المرء غير هذا الرأي؛ إذ إن ما نسميه قوانين الفيزياء هي نتائج بحثنا عن الثوابت. وهكذا فحتى إذا تَكشَّف لنا أن قانونًا طبيعيًّا مفترَضًا هو قانون متغير، كأن يتبين لنا أن واحدًا مما أخذناه مأخذ الثوابت الفيزيائية الأساسية يتغير عبر الزمن، فإن علينا أن نحاول أن نستبدل به قانونًا ثابتًا جديدًا يحدد معدل التغير.

والرأيُ القائل بأنْ لا جديد تحت الشمس متضمَّنٌ، على نحو ما، في المعنى الأصلي لكلمة «تطور» evolution؛ ﻓ «أن يتطور» to evolve تعني أن ينتشر (المطوِي)، و«تطوُّر» كانت تعني في الأصل تَكشُّف ما هو هناك أصلًا: ما هو هناك، متشكل سلفًا، إذ يَظهر ويُسفِر وينبلج (كلمة «ينمو» develop أيضًا تعني بَسْط ما هو (مطوِيٌّ) هناك). قد يقال إن هذا المعنى الأصلي هو الآن مهجور، على الأقل منذ داروِن، رغم أنه لايزال يلعب دوره، فيما يبدو، في رؤية العالم (world view)٢٠ الخاصة ببعض أصحاب المذهب المادي والفيزيائي.
لقد تعلم بعضُنا اليوم أن يستخدم مصطلح «تطور» استخدامًا مختلفًا. فنحن نرى أن التطور — تطور العالم، وبخاصة تطور الحياة على الأرض — قد أنتج أشياء جديدة: جِدة حقيقية real novelty. وإن أطروحتي في هذا القسم هي أن علينا أن نكون على وعي أوضح بهذه الجِدة الحقيقية.
يبدو، وفقًا للنظرة الفيزيائية الحالية، أن العالم الآخذ في الاتساع قد خلق نفسه، منذ بلايين عديدة من السنين، بانفجارٍ عظيم. وتشير قصة التطور إلى أن العالم لم يتوقف قَط عن الخلق أو «الاختراع»، على حد قول كينيث ج. دينبيج Kenneth G. Denbigh.٢١
والرأي المادي والفيزيائي٢٢ المعتاد هو أن جميع الاحتمالات التي حققت نفسها عبر الزمن والتطور لا بد أنها كانت كامنة مسبقًا، أو مقدَّرة سلفًا، منذ البداية. وهو إما رأيٌ نافلٌ مصوغ بطريقة مضلِّلة على نحو خطير، وإما رأيٌ خطأ. إنه لَمن نوافل القول أن لا شيء يمكن أن يحدث ما لم تسمحْ به قوانينُ الطبيعة وتُهيِّئه الحالةُ السابقة، وإن كان من المضلِّل أن نقول إن بوسعنا دائمًا أن نعرف ماذا يمتنع بهذه الطريقة. أما إذا كنا نعني أن المستقبل قابل وكان دائمًا قابلًا للتنبؤ به، على الأقل من حيث المبدأ، فهذا خطأ، بحكم كل الذي نعرفه عن التطور وكل الذي يمكن أن نتعلمه من التطور. لقد أنتج التطور الكثير مما كان غيرَ قابل للتنبؤ، على الأقل بالنسبة للمعرفة البشرية.
يذهب البعض إلى أنه كان هناك منذ البداية شيءٌ ما يشبه العقل، شيءٌ ما نفسيٌّ، متأصل في المادة، وإن لم يصبح إحساسًا ووعيًا إلا لاحقًا جدًّا، مع تطور الحيوانات العليا. هذه هي نظرية «شمول النفس» panpsychism: كل شيء (كل شيء مادي) له روحٌ، أو شيءٌ يشبه طليعة الروح أو بداءتها (انظر أيضًا قسم ١٩ لاحقًا).

الدافع وراء هذه الآراء، سواء المادية أو الشمولية النفسية، فيما أعتقد، هو «لا جديد تحت الشمس» أو «لا شيء يأتي من لا شيء». كان الفيلسوف العظيم بارمنيدس يعلِّم ذلك منذ ٢٥٠٠ عامٍ، واستنبط منه أن التغير مستحيل، ولا بد من ثَم أن يكون وهمًا. وقد اقتفى أثرَه مؤسِّسا النظرية الذرية ليوسيبوس وديمقريطس إذ كانا يعلِّمان أنه لا يوجد إلا ذرات لا تتغير، وأنها تتحرك في الخلاء، في فضاء فارغ. وعلى ذلك فإن التغيُّرات الممكنة الوحيدة هي حركات الذرات واصطداماتها وإعادة اتحادها، بما فيها الذرات البالغة الدقة التي تكوِّن أرواحنا. ويعلِّم بعضٌ من أهم الفلاسفة الأحياء (مثل كواين) أنه لا يمكن أن توجد إلا كيانات مادية، وأنْ ليس هناك أحداث أو خبرات عقلية (والبعض الآخر يقفون موقفًا وسطًا ويسلِّمون بوجود خبرات عقلية ولكنهم يقولون إن هذه أحداثٌ جسمية بمعنًى ما أو «في هوية مع» أحداث جسمية).

وعلى النقيض من كل هذه الآراء فأنا أذهب إلى أن العالم، أو تطور العالم، خالقٌ، وأن تطور الحيوانات الحاسَّة ذات الخبرات الواعية قد أتى بشيء ما جديد. كانت هذه الخبرات في البدء من صنف أكثر بدائية ثم صارت لاحقًا من صنف أعلى، وفي النهاية ظهر ذلك الصنف من الوعي بالذات وذلك الصنف من الإبداعية الذي نجده في الإنسان.

فمع ظهور الإنسان تجلت، في اعتقادي، إبداعيةُ العالم؛ لأن الإنسان أبدعَ عالمًا موضوعيًّا جديدًا: ذلك هو عالم منتجات العقل البشري، عالم الأساطير وحكايا الأشباح والنظريات العلمية والشعر والفن والموسيقى (سأطلق على هذا اسم «العالم ٣» لأميز بينه وبين «العالم ١» المادي و«العالم ٢» الذاتي أو النفسي؛ انظر القسم ١٠ لاحقًا). إن وجود الأعمال الفنية والعلمية العظيمة والمبدعة بدون شك لَتُثبت إبداعية الإنسان، ومعها إبداعية العالم الذي خَلَق الإنسان.

والذي أعنيه هنا بكلمة «خالق» هو ما يعنيه جاك مونود (١٩٧٠، ١٩٧٥م) حين يتحدث عن تعذُّر التنبؤ بانبثاق الحياة على الأرض، وتعذر التنبؤ بالأجناس المختلفة، وبخاصة جنسنا نحن البشري. يقول جاك مونود: «… لقد كنا غير قابلين للتنبؤ بنا قبل ظهورنا.» (١٩٧٥م، ص٢٣.)

وحين أستخدم فكرة التطور الخالق أو التطور الانبثاقي التي لا أنكر غموضها فأنا أضع باعتباري صنفين من الوقائع، هناك أولًا واقعة أنه في بداية التكوين وفي عالم لم يكن فيه (وفق نظرياتنا الحالية) أي عناصر عدا الهيدروجين مثلًا والهيليوم، لم يكن بمقدور أي عالم مُلِم بقوانين الطبيعة السارية آنئذٍ والمتمثلة في هذا العالَم أن يتنبأ بجميع خصائص العناصر الأثقل التي لم تظهر بعد، ولا أن يتنبأ بظهورها، ولا كان بمقدوره أن يتنبأ حتى بخصائص أبسط الجزيئات المركبة كالماء، ثانيًا، يبدو أن العالم قد مر بالمراحل التطورية التالية على أقل تقدير، والتي أنتج بعضُها أشياءَ ذات خصائص غير متوقَّعة على الإطلاق أو «انبثاقية» emergent:
  • (١)

    إنتاج العناصر الأثقل (شاملة النظائر المشعة) وظهور السوائل والبلورات.

  • (٢)

    ظهور الحياة.

  • (٣)

    ظهور الوظيفة الحسية.

  • (٤)

    ظهور الوعي بالذات والوعي بالموت (متصاحبًا مع اللغة البشرية) أو حتى ظهور اللحاء المخي البشري.

  • (٥)

    ظهور اللغة البشرية ونظريات النفس والموت.

  • (٦)

    ظهور منتجات العقل البشري كالأساطير المفسِّرة، أو النظريات العلمية أو الأعمال الفنية.

ولعل من المفيد، لأسباب عديدة (وبخاصة للمقارنة بمخطط ٢: انظر لاحقًا) أن ندرج بعض هذه المراحل التطورية الكونية في المخطط ١ التالي.

مخطط ١: بعض مراحل التطور الكوني.
العالم ٣ (٦) الأعمال الفنية والعلمية (شاملة التكنولوجيا)
(منتجات العقل الإنساني) (٥) اللغة البشرية. نظريات النفس والموت
العالم ٢ (٤) الوعي بالذات وبالموت
(عالم الخبرات الذاتية) (٣) الإحساس (الوعي الحيواني)
(العالم ١) (٢) الكائنات العضوية الحية
(عالم الأشياء الفيزيائية) (١) العناصر الأثقل؛ السوائل والبلورات
(صفر) الهيدروجين والهيليوم

من الواضح أن الكثير قد تم إغفاله في هذا المخطط، وأنه مخطط مفرِط جدًّا في التبسيط. غير أنه يتميز بأنه يلخِّص تلخيصًا شديدًا بعض الأحداث الكبرى في التطور الخالق أو التطور الانبثاقي.

ثمة حدسٌ سبقي قوي يقف ضد قبول فكرة التطور الانبثاقي، فإذا كان العالم يتكون من ذرات أو جسيمات أولية، بحيث إن جميع الأشياء هي مركبات من هذه الجسيمات، إذن فكل حدث في العالم ينبغي أن يكون قابلًا للتفسير، وقابلًا للتنبؤ من حيث المبدأ، في حدود التركيب الجسيمي والتفاعل الجسيمي.

وهكذا نجد أنفسنا بإزاء ما أُطلِق عليه «البرنامج الردِّي» programme of reductionism. ولكي أشرح هذا البرنامج سأستعين بالمخطط ٢ التالي.
مخطط ٢: الأنساق البيولوجية وأجزاؤها المكوِّنة.
(١٢) مستوى الأنساق الإيكولوجية (البيئية).
(١١) مستوى مجتمعات الميتازوَّا والنباتات.
(١٠) مستوى الميتازوا (الحيوانات المتعددة الخلايا) والنباتات المتعددة الخلايا.
(٩) مستوى الأنسجة والأعضاء (وربما الإسفنج).
(٨) مستوى مجتمعات المتعضيات الوحيدة الخلية.
(٧) مستوى الخلايا والمتعضيات الوحيدة الخلية.
(٦) مستوى العضيوات (أعضاء الخلية) وربما الفيروسات.
(٥) مستوى السوائل والأجسام الصلبة (البلورات).
(٤) مستوى الجزيئات.
(٣) مستوى الذرات.
(٢) مستوى الجسيمات الأولية.
(١) مستوى الجسيمات تحت الأولية.
(صفر) مجهول (جسيمات تحت تحت أولية).

تفيد الفكرة الردِّية (الاختزالية) وراء هذا المخطط أن الأحداث أو الأشياء في كل مستوى يجب أن تفسَّر في حدود المستويات الأدنى.

عليَّ أولًا أن أشير في نقد هذا المخطط ٢ إلى أنه ينبغي أن يكون أكثر تعقيدًا من هذا بكثير: ينبغي أن يُظهِر على الأقل بعض التفرعات كالشجرة. هكذا يتضح أن المستوى (٦) والمستوى (٧) بعيدَين عن التجانس. كما أن الكيانات في المستوى (٨) ليست أجزاءً من الكيانات القائمة في المستوى (٩) بأي معنًى من المعاني.

على أن ما يحدث في المستوى (٩) — ما يحدث مثلًا لرئتَي حيوان أو إنسان يعاني من السُّل — قد يُفسَّر حقًّا بعضَ التفسير في حدود المستوى (٨)؛ وفضلًا عن ذلك فإن المستوى (١٠) قد يكون نسقًا إيكولوجيًّا (بيئة) للمستوى (٨). كل هذا يكشف اضطرابًا معينًا في مخططنا (لعل من السهل تشييد مخطط تكون فيه هذه المصاعب أقل وضوحًا مما هي عليه في مخطط ٢، غير أنها ستظل قائمة كما هي: إن النسق الحيوي ليس في صميمه منتظمًا في تراتبٍ هرمي دقيق).

ولكن لنضربْ صفحًا عن هذه الصعوبات وننصرف إلى تفحصٍ للفكرة الحدسية القائلة بأن الأحداث والأشياء في أي مستوى أعلى يمكن أن يفسَّر في ضوء ما يحدث في المستوى الأدنى، وبتحديدٍ أكثر، أن ما يحدث للكل يمكن تفسيره عن طريق بِنية (تنظيم) أجزائِه والتفاعل بين هذه الأجزاء.

هذه الفكرة الردِّية هي فكرة شائقة وهامة؛ فحيثما أمكننا أن نفسر كيانات وأحداثًا على مستوًى أعلى بتلك التي على مستوًى أدنى أمكننا أن نقول إننا أحرزنا تقدمًا علميًّا كبيرًا، وأمكننا أن نقول إننا أضفنا الكثير إلى فهمنا للمستوى الأعلى. الردِّية، كبرنامج علمي، ليست مهمة فحسب بل هي جزء من البرنامج العلمي الذي يهدف إلى التفسير والفهم.

ولكن هل لدينا حقًّا ما يبرر لنا أن نأمل في تحقيق رد إلى المستويات الأدنى؟ لقد ادَّعَى بول أوبنهايم وهيلاري بُتنام، اللذان قدما (١٩٥٨م، ص٩) مخططًا شبيهًا بعض الشيء بالمخطط ٢، أن لدينا ليس فقط ما يبرر قبولَ برنامج بحث ردِّي وتوقُّعَ نجاحات جديدة عبر هذا الطريق (وأنا موافق تمامًا على هذا)، بل لدينا أيضًا ما يبرر أن نتوقع أو نؤمن بأن البرنامج سوف ينجح نهائيًّا. على هذه النقطة الأخيرة لستُ موافقًا: فما أظن أن هناك أي أمثلة لرد ناجح وكامل (ربما باستثناء رد بصريات يَنج وفريسنيل إلى نظرية المجال الكهرومغناطيسي لمكسويل — انظر ملاحظة ٢ لاحقًا — ذلك الرد الذي لا يلائم مخطط ٢ على نحو دقيق). كما أنني لا أعتقد أن أوبنهايم وبتنام لم يَعرِضا قَط للصعوبات القائمة مثلًا في الجزء الأعلى من مخططنا ١، مثل صعوبة رد تقلبات العجز التجاري البريطاني وعلاقاته بصافي الدخل القومي البريطاني إلى علم النفس ثم إلى البيولوجيا (أنا مَدِين بهذا المثال لسير بيتر ميداوار الذي تحدث في عمله (١٩٧٤م)، ص٦٢، عن قابلية رد «عجز النقد الأجنبي». يشير أوبنهايم وبتنام (op. cit., p. 11) إلى فقرة شهيرة، اقتبسها ميداوار أيضًا (١٩٦٩م، ص١٦؛ ١٩٧٤م، ص٦٢)، يدَّعي فيها جون ستيوارت مِل إمكان رد علم الاجتماع إلى علم النفس. غير أنهما لا يعرِضان لنقاط ضعف حجة مل هذه (التي بينتها في كتابَي 1945c، الفصل الرابع عشر؛ و1958i، الفصل الرابع)).
الحق أنه حتى الرد الذي كثيرًا ما يُشار إليه، رد الكيمياء إلى الفيزياء، على أهميته، هو رد ليس كاملًا بحال، ومن المحتمل جدًّا أنه لا يمكن إكماله. صحيح أن بعض خواص الجزيئات (وبخاصة الجزيئات البسيطة ذات الذرتين) مثل بعض الأطياف الجزيئية، أو النسق البلوري للماس والجرافيت، قد تم تفسيرها في حدود النظرية الذرية؛ غير أننا لا يمكننا بأي حال أن ندعي أن جميع، أو معظم، خواص المركبات الكيميائية، يمكن ردها إلى النظرية الذرية، حتى لو كان ما يمكن أن يُسمَّى «الرد من حيث المبدأ» reduction in principle للكيمياء إلى الفيزياء يوحِي بذلك إيحاءً شديدًا.٢٣ والحقيقة أن المستويات الخمسة السفلى للمخطط ٢ (والتي تتفق تقريبًا مع مثيلاتها في مخطط أوبنهايم وبتنام) يمكن أن تستخدم لإثبات أن لدينا ما يبرر اعتبار هذا الصنف من البرنامج الردي الحدسي مخالفًا لبعض نتائج الفيزياء الحديثة.
ذلك أن ما يومئ إليه هذا المخطط ٢ قد يوصف بأنه مبدأ «العِلِّية الصاعدة» upward causation. يفيد هذا المبدأ أن العِلِّية يمكن تعقُّبها في مخططنا ٢ من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى، ولكن العكس غير ممكن على الإطلاق. وبعبارة أخرى: إن ما يجري على مستوى أعلى يمكن تفسيره في ضوء المستوى الأدنى منه مباشرة، وهكذا نُزُلًا إلى أن يتم التفسير في ضوء الجسيمات الأولية والقوانين الفيزيائية الخاصة بها. ويبدو بداءةً أن المستويات العليا لا يمكن أن تؤثر على المستويات الدنيا.
غير أن فكرة التفاعل بين جسيم وجسيم أو بين ذرة وذرة قد تخلت عنها الفيزياءُ نفسُها. إن مُحَزَّزة الحُيود٢٤ أو البللورة (المنتمية إلى المستوى ٥ لمخططنا ٢) هي بناء معقد (ودوري) هائل الامتداد المكاني ومركب من بلايين الجزيئات، غير أنه يتفاعل كبناء دوري ممتد كلي مع فوتونات أو جسيمات شعاع من الفوتونات أو الجسيمات. إننا هنا بإزاء مثال هام ﻟ «العِلِّية الهابطة» downward causality، على حد تعبير د. ت. كمبل (١٩٧٤م). بمعنى أن الكل، البنية الكبرى، قد يؤثر، بوصفه كلًّا، على فوتون أو على جسيم أولي أو على ذرة.
من الأمثلة الفيزيائية الأخرى للعلية الهابطة — لِبِنياتٍ ماكروسكوبية على المستوى ٥ تؤثر على جسيمات أولية أو فوتونات على المستوى ١ — الليزر، والميزر، والهولوجرام. وهناك أيضًا العديد من البنيات الكبيرة الأخرى التي تعد أمثلة للعِلية الهابطة: إن كل تنظيم بسيط للتغذية الراجعة السلبية (negative feed-back)، مثل أداة ضبط الآلة البخارية، هو بنية ماكروسكوبية تنظم أحداث المستوى الأدنى، مثل تدفق الجزيئات التي تكوِّن البخار.

والعِلِّية الهابطة مهمة بطبيعة الحال في جميع الأدوات والآلات المصمَّمة لغرض معين. فعندما نستعمل إسفينًا مثلًا فنحن لا نرمي إلى مفعول جسيماته الأولية، بل نحن نستخدم بِنية، معتمدين عليها لكي توجه فعل جسيماتها الأولية المكوِّنة حتى تعمل، في توافق، بحيث تحقق النتيجة المطلوبة.

والنجوم وإن تكن غير مصمَّمة (undesigned)، إلا أن للمرء أن ينظر إليها على أنها «آلات» غير مصمَّمة؛ فوضع الذرات والجسيمات في منطقتها المركزية تحت ضغط جاذبي مهول، والنتيجة (غير المصمَّمة) عن ذلك من اندماج بعض أنوية الذرات وتكوين أنوية عناصر أثقل، لَهُو مثالٌ ممتاز على العِلِّية الهابطة، على تأثير البنية الكلية على أجزائها المكوِّنة.
(النجوم، بالمناسبة، أمثلة جيدة للقاعدة العامة القائلة بأن الأشياء هي عمليات. كما أنها توضح خطأ التمييز بين «الكُلَّات» wholes — التي هي «أكثر من مجموع أجزائها» — و«مجرد الكومات» heaps؛ فالنجم، بمعنًى ما، «مجرد» تراكم، «مجرد كومة» من ذراته المكوِّنة.٢٥ غير أنه عملية-بنية دينامية. يعتمد ثبات النجم على التوازن الدينامي بين ضغطه الجاذبي، الناجم عن مجرد كتلته، والقُوى الطاردة بين جسيماته الأولية المكبوسة معًا. فإذا زادت هذه القُوى الأخيرة ينفجر النجم؛ أما إذا قَلَّت عن الضغط الجاذبي فإن النجم ينحطم ويتحول إلى «ثقب أسود» black hole).
أما الأمثلة الأكثر إثارة عن العِلِّية الهابطة فإنما ينبغي التماسُها في الكائنات العضوية وأنساقها الإيكولوجية، وفي المجتمعات المكوَّنة من هذه الكائنات.٢٦ فالمجتمع مثلًا قد يظل يؤدي وظائفه حتى لو مات كثير من أعضائه، بينما يؤدي إضراب في صناعة حيوية كتوليد الكهرباء إلى معاناة الكثير من الأفراد. والحيوان قد يبقى بعد موت الكثير من خلاياه أو زوال عضو من أعضائه كالساق مثلًا (وما ينجم عنه من موت الخلايا المكوِّنة للعضو)، بينما يُفضي موتُ الحيوان، عاجلًا أو آجلًا، إلى موت أجزائه المكوِّنة بما فيها الخلايا.٢٧

أعتقد أن هذه الأمثلة تُظهِر بوضوح وجودَ العِلِّية الهابطة، وتجعل النجاح الكامل لأي برنامج ردي أمرًا صعبًا على أقل تقدير.

يقدم بيتر ميداوار (في كتابه (١٩٧٤م)؛ قارن أيضًا كتابه (١٩٦٩م)، ص١٥-١٩) عرضًا نقديًّا للرد مستخدمًا المخطط ٣ التالي:

مخطط ٣: المخطط المعتاد للرد
(٤) الإيكولوجيا (البيئة)/علم الاجتماع
(٣) البيولوجيا
(٢) الكيمياء
(١) الفيزياء

يومئ ميداوار إلى أن العلاقة الحقيقية للأعلى بالأدنى من هذه الموضوعات ليست، ببساطة، علاقة رد منطقي، بل هي علاقة مثيلة للعلاقة بين الموضوعات المدْرَجَة في مخط ٤:

مخطط ٤: الهندسات المختلفة
(٤) الهندسة القياسية (الإقليدية)
(٣) الهندسة الأفينية*
(٢) الهندسة الإسقاطية
(١) الطوبولوجيا (الهندسة اللاكمية أو اللامقدارية)
Affine Geometry هي نوع من الهندسة، بدأه ليونارد يولر Leonhard Euler تتم فيه دراسة الأشياء الهندسية التي تبقى دون تغير بعد إسقاط موازٍ من سطح إلى سطح آخر (The Internet Encyclopedia of Science-Geometry). (المترجم)

ليس من السهل تمامًا وصف العلاقة الأساسية بين المباحث الهندسية الأعلى في المخطط ٤ والمباحث الأدنى، غير أنها بالتأكيد ليست علاقة رد. مثلًا، الهندسة القياسية، وبخاصة في صورة الهندسة الإقليدية، لا يمكن ردها إلى الهندسة الإسقاطية إلا بشكل جزئي جدًّا، وإن تكن نتائج الهندسة الإسقاطية جميعًا صحيحة في هندسة قياسية مدمَجة في لغة ثرية بحيث تستخدم مفاهيم الهندسة الإسقاطية. وهكذا يجوز لنا أن نعتبر الهندسة القياسية إثراءً للهندسة الإسقاطية. وتسري علاقات مثيلة بذلك بين المستويات الأخرى للمخطط ٤. إن الإثراء يتعلق بالمفاهيم جزئيًّا ولكنه بالأساس إثراء نظريات (مبرهَنات).

يشير ميداوار إلى أن العلاقات بين المستويات المتتالية للمخطط ٣ قد تكون مماثلة لمستويات المخطط ٤. بذلك يمكن اعتبار الكيمياء بمثابة إثراء للفيزياء، وهو ما يفسر لماذا تقبل الرد جزئيًّا، وإن لم يكن كليًّا، للفيزياء؛ وكذلك الأمر بالنسبة للمستويات العليا للمخطط ٣.

هكذا يتضح أن الموضوعات المُدرَجة في المخطط ٤ ليست قابلة للرد إلى موضوعات المستويات الأدنى، وإن بقيت المستويات الأدنى، بمعنًى شديد الوضوح، صائبة داخل المستويات الأعلى، وكانت محتواة بشكل ما في المستويات الأعلى. وفضلًا عن ذلك فإن بعض القضايا على المستويات الأعلى قابلة للرد إلى المستويات الأدنى.

وعندي أن ملاحظات ميداوار وجيهة جدًّا. وهي بالطبع لا يمكن قبولها إلا إذا تخلينا عن فكرة أن عالمنا الفيزيائي حتمي، فكرة أن النظرية الفيزيائية مضافًا إليها الحالات الأصلية القائمة في أية لحظة معطاة، تحدد «تحديدًا تامًّا» حالة العالم الفيزيائي في أية لحظة أخرى (انظر مناقشة لابلاس في القسم التالي). إذا نحن أخذنا بهذه الحتمية الفيزيائية فلن يمكننا إذن اعتبار المخطط ٤ مماثلًا للمخطط ٣. وإذا رفضناها سيكون بإمكاننا أن نستخدم المخطط ٤ كمفتاح للمخطط ٣، وللمخطط ١ أيضًا.

(٨) الانبثاق ومنتقدوه

إن فكرة التطور «الخالق» creative أو «الانبثاقي» emergent (التي ألمحت إليها في القسم ٧) بسيطة للغاية، وإن تكن غامضةً بعض الشيء. إنها تشير إلى واقعة أنه في مسار التطور تحدث أشياءُ أو أحداثٌ جديدة، ذات خواص غير متوقَّعة وغير قابلة للتنبؤ في الحقيقة؛ أشياء وأحداث تتسم بأنها جديدة بالمعنى نفسه تقريبًا الذي يوصف به عملٌ فني عظيم بأنه جديد.

غير أن منتقدي الانبثاق قد شككوا في فكرة استحالة التنبؤ هذه. وقد أتى الهجوم على هذه الفكرة من ثلاثة أطراف رئيسية: من أصحاب مذهب الحتمية، ومن أصحاب المذهب الذري التقليدي، ومن أنصار نظرية القدرات أو الإمكانات.

  • (١)
    وتُعزَى الصياغةُ الأشهَر لوجهة النظر الحتمية إلى لابلاس Laplace (١٨١٩؛ ١٩٥١م، ص٤-٥): «ينبغي أن نعتبر الحالة الحاضرة للعالم كمعلولٍ لحالته السابقة، وكعِلَّة لحالته الآتية. إذا افترضنا ذهنًا أمكنه معرفة جميع القُوى التي تسَيِّر الطبيعة، وحالة جميع الأشياء المكوِّنة لها في لحظة معينة، فبالنسبة لهذا الذهن لن يكون هناك أي شيء غير معلوم علم اليقين، وسيكون المستقبل، كالماضي، حاضرًا أمام عينيه …»

    هذه الفقرة المقتبسة من لابلاس هي من كتابه «مقالات فلسفية في الاحتمال». وقد أريدَ بها في هذا الكتاب أن توضح تمام الوضوح أن نظرية الاحتمال — كما يراها لابلاس — تنصب على الأحداث التي لدينا بها معرفة ناقصة، نقصًا «ذاتيًّا»، وليس على أحداث هي «موضوعيًّا» غير محتومة أو تشبه المصادفة، فهذه الأخيرة لا وجود لها (لاحظ أن حتمية لابلاس لا تسمح بأي استثناء؛ فالإقرار بوجود أية أحداث شبيهة بالمصادفة موضوعيًّا هو مساوٍ للاحتمية، حتى إذا كانت هذه الأحداث الشبيهة بالمصادفة هي استثناءات نادرة).

    والدعوى الحتمية مقنِعة حدسيًّا إلى حد كبير — إذا ضربنا صفحًا عن حركاتنا الإرادية نحن أنفسنا — ما بَقِيَت الذراتُ يُنظَر إليها على أنها أجسام جامدة غير قابلة للانقسام (وإن كان أبيقور قد أدخل مذهبًا ذريًّا غيرَ حتمي). غير أن إدخال ذرات مركبة، وجسيمات تحت-ذرية كالإلكترونات، طرح احتمالًا آخر: وهو فكرة أن تصادمات الذرات والجزيئات قد لا تكون ذات طبيعة حتمية. يبدو أن أول من تطرَّق إلى هذا في زمننا هو شارلس ساندر بيرس، الذي أكد أن علينا أن نفترض وجود مصادفة موضوعية لكي نفهم التنوع القائم في العالم، وفرانز إكسنر.٢٨ والرد على لابلاس هو، باختصار، أن الفيزياء الحديثة تفترض أن هناك أحداثًا تصادفية موضوعيًّا، واحتمالات أو استعدادات موضوعية.
  • (٢)
    يرى صاحب المذهب الذري أن جميع الأجسام المادية وجميع الكائنات العضوية ما هي إلا بناءات من الذرات (انظر المخطط ٢ في القسم السابق ٧). وهكذا لا يمكن أن تكون هناك جِدة إلا جدة التنظيم. فإذا أُعطِينا التنظيم الدقيق للذرات، هكذا تمضي الحجة، ينبغي أن يكون ممكنًا من حيث المبدأ اشتقاقُ، أو التنبؤ ﺑ، جميع خصائص أي تنظيم جديد، من خلال معرفة الخصائص «الباطنية» intrinsic للذرات. صحيح أن معرفتنا البشرية بخصائص الذرات وتنظيمها الدقيق ستكون بصفة عامة غير كافية لمثل هذا التنبؤ، غير أن هذه المعرفة، من حيث المبدأ، يمكن أن تتحسن، ومن ثَم ينبغي علينا أن نسلِّم بأن التنظيم الجديد ونتائجه قابلان للتنبؤ من حيث المبدأ.
    وقد قدمنا ردًّا جزئيًّا على صاحب المذهب الذري في القسم السابق ٧. والنقطة الرئيسية في الرد هي أن التنظيمات الذرية الجديدة قد تؤدي إلى خواص فيزيائية وكيميائية ليست مشتقة من عبارة تصف تنظيم الذرات متضامة مع عبارة من عبارات النظرية الذرية. ومع الاعتراف بأن بعض هذه الخواص قد تم اشتقاقه بنجاح من النظرية الفيزيائية وبأن هذه الاشتقاقات مثيرة للإعجاب جدًّا، إلا أنه يبدو أن لا نهاية لعدد، وتعقيد، الجزيئات المختلفة وخواصها، وأنها قد تتجاوز بكثير احتمالات التفسير الاستنباطي. فبعض الخواص الهامة، وعلى رأسها بعض خواص الدنا (DNA) مفهومة جيدًا على أساس البنية الذرية، إلا أننا، رغم التقدم الباهر الذي أحرزناه، بعيدون بُعدًا كبيرًا، البعض يراه لا نهائيًّا، عن اشتقاق أو التنبؤ حتى بأغلب خواص الجزيئات الكبيرة اللانهائية التنوع، من المبادئ الأولى.
  • (٣)
    الحجة الثالثة (التي يمكن وصفها على أنها صورة ضعيفة من «مذهب التكون المسبَق» preformationism) ربما تكون أقل وضوحًا، إلا أنها جذابة حدسيًّا. وهي متصلة اتصالًا وثيقًا بالحجتين السابقتين. ويمكن عرضها كما يلي: إذا ما بدا أن شيئًا ما ينبثق في مسار تطور العالم عنصرًا كيميائيًّا جديدًا (أيْ بنية جديدة من الأنوية الذرية) أو جزيئًا مركبًا جديدًا أو كائنًا عضويًّا حيًّا أو كلامًا بشريًّا أو خبرة واعية … إذن فلا بد أن الجسيمات أو البنيات المادية التي يتضمنها ذلك الشيء كانت تمتلك مسبقًا ما يمكن أن نسميه «استعدادًا» أو «إمكانية» أو «قوة» أو «قدرة» على إنتاج الخواص الجديدة، تحت الظروف الملائمة. وبعبارة أخرى: إن إمكانية أو قوة الدخول في التضام أو التركيب الجديد، ومن ثَم إمكانية أو قوة إنتاج الخاصية الجديدة الانبثاقية أو غير المتوقعة، لا بد أنها كانت هناك من قبل الحدث، وأن المعرفة الكافية بهذه الإمكانية أو القوة الباطنة أو الخفية كانت كفيلة بأن تتيح لنا، من حيث المبدأ، التنبؤ بالخطوة التطورية الجديدة، وبالخاصية الجديدة. التطور إذن لا يمكن أن يكون خالقًا أو انبثاقيًّا.
إذا ما طُبِّقَت هذه الحجة الثالثة، بصفة أخص، على مشكلة تطور العقل أو الخبرة الواعية (الظاهر الانبثاق)، فإنها تُفضي إلى مذهب شمول النفس panpsychism (الذي سنعرض له بتفصيل أكبر في قسم ١٩).
ومن المثير عندي أن الحجج (١) إلى (٣) المعروضة هنا قد جَيَّشَها حديثًا جدًّا ضد فكرة التطور الانبثاقي عالم السيكولوجيا الجشطلتية٢٩ العظيم فلفجانج كولر Wolfgang Köhler (١٩٦٠، ١٩٦١م، ص١٥–٣٢).
في الوقت الذي كتب فيه كوهلر هذا البحث كان قد قضى أكثر من أربعين عامًا منشغلًا بمشكلة الانبثاق وبمشكلة العقل-الجسم: وقد نشر قبل أربعين عامًا كتابًا مبتكرًا جدًّا في «الجشطلتات العقلية في حالة الراحة وفي حالة السكون» (١٩٢٠م، لم يُترجَم إلى الإنجليزية على حد علمي). وقد حاول في هذا الكتاب أن يفند حجج أستاذه السابق، السيكولوجي كارل ستامف، الذي كان مناهضًا للمادية ولمذهب التوازي السيكوفيزيقي ومناصرًا للتفاعل والتطور الانبثاقي. كان كولر أيضًا تلميذًا لماكس بلانك عالم الفيزياء الكبير ونصير الحتمية، وينم كتابه عام ١٩٢٠م على إلمام كبير بالفيزياء. وقد قرأتُه وأنا طالب فور صدوره وأُعجِبت به إعجابًا كبيرًا. يمكن صياغة الفكرة المركزية المتضمنة في الكتاب كما يلي: إن المادية والتوازي الخاص بمذهب الظاهرة الثانوية لا يدحضهما وجود «كلات» أو «جشطلتات» عقلية، فالجشطلتات يمكن أن تحدث، ويمكن تفسيرها غالبًا تفسيرًا تامًّا، في حدود الفيزياء (من الأمثلة البسيطة على ذلك فقاعة الصابون).٣٠ لا شك أن هذا الخط من التفكير قد اقتضى من كولر بعد أربعين عامًا أن يأخذ بأن جميع الكلات (الكائنات العضوية الحية، الخبرات الكلية) يجب أن تفسَّر تفسيرًا ماديًّا.٣١
ورغم ذلك فالحجج من ١–٣ قائمة على الفيزياء الكلاسيكية وطبيعتها الحتمية الظاهرة. لم يلمح كتاب كولر (١٩٦٠م) إلى واقعة أن النظرية الذرية الجديدة — ميكانيكا الكوانتم — قد تخلت عن الحتمية الصارمة. لقد أثْرَت الفيزياءَ بإدخال «عبارات الاحتمال الموضوعي» objective probability statements إلى نظرية الجسيمات الأولية والذرات. ومن ثَم فينبغي علينا أن نتخلى عن حتمية لابلاس. والحق أن كثيرًا من العبارات القديمة العِلِّية الصارمة تقرر احتمالات قريبة من الواحد. لقد استُبدِلَ بالتفسير العِلِّي، بصفة جزئية على أقل تقدير، تفسيرٌ احتمالي.

إذا ما أخذنا بالاعتبار التغير من الفيزياء الكلاسيكية (النيوتونية) إلى الفيزياء الذرية الحديثة باحتمالاتها (أو نزوعاتها) الموضوعية، فلسوف نجد بحوزتنا دفاعًا كاملًا عن فكرة التطور الانبثاقي ضد انتقادات مثل انتقادات كولر من ١–٣. بإمكاننا أن نُسَلم بأن العالم لا يتغير ما بقيت قوانين عامة معينة ثابتة لا تتبدل؛ غير أن هناك جوانب أخرى شبه قانونية مهمة ومثيرة — وبخاصة النزوعات الاحتمالية — تتغير بالتأكيد، وفقًا لتغير الموقف. هكذا يكون ردي على كولر بسيطًا: من الممكن أن تكون هناك قوانينُ ثابتة وانبثاق (في آنٍ معًا)؛ لأن منظومة القوانين الثابتة ليست من التمام والتقييد بحيث تمنع انبثاق خواصَّ جديدة شبه قانونية.

لقد اكتسب الاحتمال أهميةً في النظرية الفيزيائية بظهور النظرية الجزيئية في الحرارة والغازات بصفة رئيسية، وفي القرن العشرين بظهور النظرية الذرية.

في البداية، كان الدور الذي يضطلع به الاحتمال في الفيزياء يفسَّر ذاتيًّا، وفقًا لتفسير لابلاس؛ فالأحداث الفيزيائية حتمية موضوعيًّا على نحو كامل، ولكن نقص معرفتنا نحن (نقصًا ذاتيًّا)، لا أكثر، فيما يتعلق بالمواقع الدقيقة للجزيئات أو الذرات أو الجسيمات الأولية، وسرعاتها، هو الذي يلجئنا إلى استخدام المناهج الاحتمالية بدلًا من المناهج الحتمية الصارمة. وقد استمسك الفيزيائيون بهذا التفسير الذاتي للاحتمال ردحًا طويلًا من الزمن. استمسك به أينشتين (انظر خطابه إليَّ المنشور في نهاية كتابي (1959a)، وتعليقاتي فيه ص٤٥٧، الفقرة الثالثة)، وكان هيزنبرج يميل إليه؛ وحتى ماكس بورن، مؤسس التفسير الإحصائي للميكانيكا الموجية، كان يبدو أحيانًا أنه يأخذ به. إلا أنه مع إعلان رذرفورد وسودي (١٩٠٢م) لقانونهما الشهير عن فناء النشاط الإشعاعي، فإن تفسيرًا بديلًا قد طرح نفسَه: أن أنوية الذرات الإشعاعية تتحطم «تلقائيًّا»: أن لكل نواة ذرية «ميلًا» أو «نزوعًا» (استعدادًا) إلى الانحلال، وفقًا لبنيتها. يمكن قياس هذا الميل أو النزوع ﺑ «نصف العمر» half-life، وهو خاصية ثابتة لبنية النواة المشِعة. إنه الطول الزمني الذي يحتاجه نصف أي عدد معطَى من الأنوية (ذات بنية معطاة) لكي تنحل أو تفنى. يشير الثبات الموضوعي لنصف العمر، واعتماده على البنية النووية، إلى أن هناك ميلًا أو نزوعًا، موضوعيًّا وثابتًا ويمكن قياسه، للنواة، وفقًا لبنيتها، إلى أن تتحطم خلال أي وحده مختارة من الزمن.٣٢
هكذا يؤدي الموقف في الفيزياء إلى فرضية «الاحتمالات الموضوعية» أو «النزوعات» الاحتمالية في الفيزياء. وأرى أنه بدون هذه الفكرة يتعذر فهم الفيزياء النووية الحديثة (ميكانيكا الكوانتم). غير أنها لا تحظى بالقبول العام بين الفيزيائيين: فلا تزال النظرية الذاتية الأقدم للابلاس، التي يجب التمييز الصارم بينها وبين التفسير النزوعي، على قيد الحياة (ولَطالما أيدتُ الدعوى القائلة بأن الدور الغريب الذي يلعبه «الملاحِظ» في بعض تأويلات ميكانيكا الكوانتم يمكن تفسيره على أنه مخلَّفٌ متبقٍّ من التفسير الذاتي لنظرية الاحتمالات، وبأن التخلي عن كل ذلك ممكن وواجب).٣٣
هناك أسباب عديدة تشير إلى أن النزوعات الاحتمالية الموضوعية يمكن اعتبارها تعميمات لمواقف عِلِّية، واعتبار المواقف العِلية كحالاتٍ خاصة للنزوعات. (انظر كتابي «1974c»، قسم ٣٧). غير أنه من المهم أن ندرك أن العبارات التي تقرر احتمالات أو نزوعات غير الصفر والواحد لا يمكن أن تُشتق من قوانين عِلِّية من صنفٍ حتمي (مضافًا إليها الحالات المبدئية) أو من قوانين تقرر أن صنفًا معينًا من الأحداث يحدث دائمًا في موقف معين؛ فالنتيجة الاحتمالية لا يمكن أن تُستمَد إلا من مقدمات احتمالية، مقدمات عن نزوعات متساوية على سبيل المثال. ولكن من الممكن، من الجهة الأخرى، أن نستمِد عبارات تقرر نزوعات مساوية، أو مقارِبة، لصفر أو لواحد — ومن ثم فهي ذات طبيعة عِلِّية — من مقدمات احتمالية قلبًا وقالبًا.

وكنتيجة لذلك يمكننا القول بأن عبارةً نزوعيةً نموذجيةً، مثل العبارة القائلة بنزوع نواة معينة غير ثابتة إلى الانحلال، لا يمكن أن تستمَد من قانون عام (من صنفٍ عِلِّي) مضافًا إليه الحالات المبدئية. ومن ناحية أخرى فإن «الموقف» الذي يحدث فيه حدث ما قد يؤثر على النزوع تأثيرًا عظيمًا، مثال ذلك أن وصول نيوترون بطيء إلى الجوار المباشر لإحدى الأنوية قد يؤثر في نزوع النواة إلى الإمساك بالنيوترون ومن ثم إلى الانحلال.

ولكي نوضح أهمية الموقف بالنسبة لاحتمالية وقوع حدثٍ ما، أو نزوعه لأن يحدث، فلنتأمل في عملية قذف عملة معدنية (قرش) بالظفر في الهواء (للقُرعة): إن لنا أن نقول إن القرش غير متحيز، وإن احتمال سقوطه ووجهُه لأعلى (صورة) يساوي ١/ ٢. ولكن افترض أننا قذفنا القرش على طاولة بها شقوق أو شقوب ذات اتجاهات مختلفة، مصمَّمة بحيث تمسك بالقرش واقفًا (عموديًّا). إن نزوع القرش عندئذٍ لأن يسقط ووجهه لأعلى قد يقل كثيرًا عن ١/ ٢، وإن كان لايزال مساويًا لنزوعه لأن يسقط وظهره لأعلى (كتابة).٣٤ ذلك أن نزوع القرش لأن يبقى واقفًا (عموديًّا) سيكون قد تغير من صفر إلى قيمة موجبة ما (ثلاثة بالمائة مثلًا).
الأمر شبيه بذلك تمامًا إذا نظرنا في نزوع ذرة هيدروجين، أُخِذَت عشوائيًّا، إلى أن تصبح جزءًا من جزيء كبير معين (جزيء حمض نووي على سبيل المثال)؛ فوجود أو غياب «عامل مساعد»٣٥ قد يُحدِث فارقًا عظيمًا، شأنه شأن وجود أو غياب الشقوب في الطاولة المستخدمة في قذف القرش. سيكون الاحتمال أو النزوع صفرًا بالنسبة لذرة هيدروجين أُخِذَت عشوائيًّا في أي مكان من العالم. ولكن الاحتمال أو النزوع قد يكون كبيرًا جدًّا بالنسبة لذرة هيدروجين موجودة داخل كائن عضوي أو في الجوار المباشر لإنزيمٍ ملائم.

أرى أن هذه الفكرة عن اعتماد احتمالية (أو نزوع) حدثٍ مثير على الموقف يمكن أن تُلقِي بعضَ الضوء على مشكلتي التطور والانبثاق.

ربما تكون الأحداث التالية من بين أهم الأحداث الانبثاقية بحسب الآراء الكوزمولوجية الحالية. (وهي تناظر النقاط من ١ إلى ٥ في المخطط ١ السالف الذكر):
  • (أ)

    ظهور العناصر الثقيلة (خلافًا للهيدروجين والهيليوم اللذين يُفترَض أنهما كانا موجودَين منذ الانفجار العظيم الأول).

  • (ب)

    بداية الحياة على الأرض (وربما في مكان آخر).

  • (جـ)

    انبثاق الوعي.

  • (د)

    انبثاق اللغة البشرية، والدماغ البشري.

من بين هذه الأحداث يبدو (أ)، أي ظهور العناصر، متوقَّعًا لا انبثاقيًّا. يبدو كما لو أن بإمكاننا من حيث المبدأ أن نفسر حدوث العناصر بواسطة الضغوط الهائلة في مركز نجمٍ ضخم. وقد يبدو للوهلة الأولى أن خواص العناصر الجديدة أيضًا متوقَّعة لا انبثاقية، إذا ما تذكرنا اطِّرادات الجدول الدوري للعناصر، تلك الاطرادات التي تم تفسيرها إلى حد كبير بالاستعانة بمبدأ الاستبعاد لباولي وبالمبادئ الأخرى لميكانيكا الكوانتم. ورغم ذلك، فليس جدول العناصر فقط هو ما يتعين تفسيره، بل تسلسل الأنوية الذرية — النظائر — وخصائصها المميزة. بين هذه الخصائص تندرج، على نحو خاص، درجة ثبات، أو عدم ثبات، النواة الذرية؛ وهذا يعني، بالنسبة للأنوية غير الثابتة، احتمالية، أو نزوعية، انحلالها الإشعاعي. فنزوع نواة إلى الانحلال (مقيسًا بنصف عمرها) هو من أهم الخواص المميزة للنظائر المشعة. وهو يختلف من نظير لآخر، ويتراوح ما بين أقل من جزء من مليون من الثانية إلى أكثر من مليون سنة، وإن يكن ثابتًا بالنسبة لجميع الأنوية ذات البنية الواحدة. ورغم أننا كشفنا الكثير عن البنية النووية، فنحن نعرف أن ثبات النواة يتوقف كثيرًا على خصائصها السيمترية — يومئ المشهد بشدة إلى أن القيمة الدقيقة لنصف عمر نواة ما — هي شيء مقدر له أن يظل إلى الأبد خاصية انبثاقية، خاصية لا يمكن التنبؤ بها من خلال خواص مكوناتها.٣٦

أما بالنسبة ﻟ (ب)، أي نشأة الحياة، فقد قلتُ للتو إن احتمالية، أو نزوع، أي ذرة، مأخوذةً عشوائيًّا في العالم، إلى أن تصبح (خلال وحدة مختارة من الزمن) جزءًا من كائن عضوي حي، كانت دائمًا وما زالت لا تفترق عن الصفر. لقد كانت صفرًا بالتأكيد قبل ظهور الحياة؛ وحتى بافتراض وجود كواكب كثيرة يمكن أن تقوم عليها الحياة، فلا بد أن يبقى الاحتمال المذكور ضئيلًا إلى غير حد.

كتب جاك مونود (١٩٧٠م): «ظهرت الحياة على الأرض: وقبل الحدث ترى ماذا كانت احتمالات أن هذا سوف يقع؟» ثُم قدم أسبابًا وجيهة للإجابة بأن الاحتمال كان «صفرًا تقريبًا».٣٧ والأسباب هي أنه حتى لو قُدِّر لجينٍ مجرد تَخَلَّق بالمصادفة أن يجد نفسه في حساء من الإنزيمات، فإن الاحتمال سيكون صفرًا أن الإنزيمات — تلك الجزيئات البالغة التعقيد الشديدة التخصص — ستكون مطابقة تمامًا لمقاييس الجين بحيث تساعده في أداء وظيفتيه: إنتاج إنزيمات جديدة، ونسخ ذاته؛ هاتين الوظيفتين اللتين تتطلبان إنزيمات مطابِقة بدقة (يُقدِّر مونود أن هذا الغرض يتطلب نحو خمسين إنزيمًا مختلفًا. ووفقًا لمبدأ «جين واحد، إنزيم واحد» فإن هذا سوف يزيد أيضًا عدد الجينات المطلوبة إلى حوالي ٥٠).
حتى إذا كان بإمكاننا في حالة نشأة العناصر أن نقدم تفسيرًا ما للكيفية التي قد تكون حدثت بها، فيبدو أنه ليس بإمكاننا أن نقدم تفسيرًا لنشأة الحياة؛ لأن التفسير الاحتمالي يجب أن يعمل باحتمالات قريبة من ١، ولا يمكن أن يعمل باحتمالات قريبة من الصفر، فما بالك باحتمالات مساوية للصفر أو تكاد (انظر كتابي 1959a، قسم ٦٧-٦٨).

إن كم المعرفة المحصَّلة حديثًا عن الجينات والإنزيمات وما يبدو شروطًا دنيا للحياة هو كم مذهل. ومع ذلك فإن هذه المعرفة المفصلة ذاتها هي ما يشير إلى أن الصعوبات التي تقف في طريق تفسيرٍ لمنشأ الحياة هي صعوبات قد لا يمكن تذليلها؛ فرغم أن لدينا فكرة ما عن الشروط الضرورية لحدوث هذا الحدث، فإن ثمة مؤشرات كثيرة ترجح الرأي القائل بأن هذا الحدث كان حدثًا فريدًا.

تحت هذه الظروف فإن كثيرًا من خواص الكائنات العضوية قد يكون غير قابل للتنبؤ، أي قد يكون انبثاقيًّا. (من بينها خواص نمو هذه الكائنات الحية). وكذلك خواص الأنواع الجديدة التي تظهر في مسيرة التطور.

أما عن (ﺟ)، فمن الصعب أن نقول أي شيء عن انبثاق الوعي. لدينا هنا نظريات متعارضة جذريًا الواحدة مع الأخرى. منها اثنتان هما: «مذهب شمول النفس» panpsychism، القائل بأنه حتى الذرات لديها حياة باطنة (من صنف بدائي جدًّا)، وذلك الشكل من «السلوكية» behaviorism الذي ينكر الخبرات الواعية حتى لدى الإنسان؛ وكلا الرأيين يتجنب مشكلة انبثاق الوعي،٣٨،٣٩ ثم هناك وجهة النظر الديكارتية القائلة بأن الوعي يظهر مع الإنسان فحسب، وبأن الحيوانات هي آلات ذاتية الحركة غير حية، وهي نظرة قبل-تطورية بشكلٍ واضح. وأرى أن لدينا ما يدعونا إلى قبول الرأي القائل بأن هناك مراحل دنيا ومراحل عليا من الوعي. (وانظر في الأحلام على سبيل المثال). فإذا كانت واقعة أن الحيوانات لا تتكلم سببًا كافيًا لإنكار الوعي عليها، لكانْت أيضًا سببًا كافيًا لإنكاره على الأطفال الرضَّع في عمرٍ سابق على تعلمهم الكلام. وفضلًا عن ذلك فإن هناك دلائل وجيهة تؤيد نظرية أن الحيوانات العليا تحلم (pace Malcolm and Wittgenstein).

ولعل الرأي الأكثر قبولًا هو أن الوعي خاصية انبثاقية للحيوانات تظهر تحت ضغط الانتخاب الطبيعي (ومن ثَم لا يكون إلا بعد تطور آلية للتكاثر). متى تظهر سوابقه الأولى، وهل هناك حالات شبيهة نوعًا ما في النباتات، يبدو لي هذان السؤالان، وإن كانا شائقَين، غير قابلَين للإجابة ربما إلى الأبد. ولكن لعله جدير بالذكر أن عالم البيولوجيا العظيم ﻫ. س. جينينجس (١٩٠٦م) قد روى أن ملاحظة سلوك الأميبا كان يخلق فيه انطباعًا قويًّا بأنها واعية. لقد رأى في سلوكها دلائل النشاط والمبادأة. والحق أنه إذا كان على حيوان حر الحركة أن يستعمل هذه الحرية فإن عليه أن يكون مستكشِفًا نشِطًا لبيئته. إن حواسه ليست مجرد مستقبِلات سلبية للمعلومات، بل هو يستخدمها إيجابيًّا ﻛ «أجهزة إدراكية»، «لالتقاط المعلومات»، كما يؤكد ج. ج. جيبسون (١٩٦٦م). غير أن الأجهزة الإدراكية لا تكفي: ثمة مركز للنشاط، لحب الاستطلاع، للاستكشاف، للتخطيط؛ ثمة مستكشِف، هو عقل الحيوان.

هكذا يمكننا أن نتأمل في شريط انبثاق الوعي. ولكن من الواضح أنه شيء ما جديد، وغير متوقَّع: إنه ينبثق٤٠ (it emerges).
أما عن (د)، فيقدَّر أن الدماغ البشري يحتوي على عشرة آلاف مليون من النيورونات، المتصلة فيما بينها بواسطة عدد قد يصل إلى ألف ضعف هذا العدد من المشتبكات العصبية؛ وأن هذا الجهاز المذهِل التعقيد هو في حالة استثارة شبه دائمة. وقد أشار ف. أ. فون هايِك (١٩٥٢م، ص١٨٥) إلى أنه من المحال علينا على الإطلاق، والحالة هذه، أن نفسر عمل الدماغ البشري بأي تفصيل، ما دام «أي جهاز … يجب أن يمتلك بنية على درجة أكثر تعقيدًا من تلك البنية التي تمتلكها الأشياء» التي يحاول أن يفسِّرها. يبين مونود، إذ يشير إلى هذا الصنف من الحجة، أننا لا نزال «بعيدين عن تلك الحافة النهائية للمعرفة».٤١ كيف انبثق الدماغ؟ لا يسعنا في ذلك إلا الحدس. وحدسي — انظر قسم ٥ سابقًا — أن انبثاق اللغة البشرية هو الذي خلق الضغط الانتخابي الذي تحته انبثق لحاءُ المخ، ومعه الوعي البشري بالذات.

أعتقد أنني قد رددتُ على حجتين من الحجج الثلاث ضد الانبثاق المذكورة في بداية هذا القسم، هما الحجة المستمدة من الحتمية، والحجة المستمدة من المذهب الذري. ولكن يبقى أن نرد على الحجة الثالثة؛ الحجة القائلة بأن الأجزاء المادية المكوِّنة لِبنية جديدة (لِكائنٍ عضوي مثلًا) لا بد أن تمتلك مسبقًا الإمكانية أو القوة أو القدرة على إنتاج البنية الجديدة المذكورة؛ ومن ثَم فإن معرفتنا الكاملة بالإمكانات أو القُوى المسبقة كانت كفيلة بأن تمكننا من التنبؤ بخواص البنية الجديدة التي هي إذن، قابلة للتنبؤ بالضرورة وليست انبثاقية.

الرد على هذا في اعتقادي يمكن أن يواتينا إذا نحن استبدلنا بالأفكار الكلاسيكية عن الإمكان أو القوة أو القدرة صيغتَها الجديدة، الاحتمال أو النزوع. فمثلما رأينا فإن الانبثاق الأول لشيء جديد كالحياة قد يغير الاحتمالات أو النزوعات في العالم. بوسعنا أن نقول إن الكيانات المنبثقة جديدًا، الصغيرة (الميكرو) منها والكبيرة (الماكرو)، تغير النزوعات، الصغيرة والكبيرة، في جوارها. إنها تُدخِل إمكانات أو احتمالات أو نزوعات جديدة في جوارها.٤٢ تخلق حقولًا جديدة من النزوعات، مثلما يخلق نجمٌ جديدٌ مجالًا جديدًا من الجاذبية، فاحتمال أو نزوع كائن عضوي لتمثل مادة غير حية هو صفر إذا كانت المادة خارج مجال الكائن. أما داخل مجالٍ كهذا فإن التمثُّل يصبح عاليَ الاحتمال (كما حاولتُ أن أبين في «1974c»، قسم ٣٧، فإن بإمكاننا أن نقدم تحليلًا صوريًّا للتفسيرات العِلية والاحتمالية للأحداث في حدود النزوعات، مماثلًا للطريقة التي نستخدم بها القُوى — الجاذبية، أو الكهرومغنطيسية — في الفيزياء الكلاسيكية).
ثمة إيضاحٌ لافتٌ للطريقة الجذرية التي ربما يكون التطور المبكر للحياة على الأرض قد غيَّر به شروط واحتمالات ونزوعات وقوع الأحداث التي تشكل التطور اللاحق. إنني أُلمِح إلى نظرة هالدِن J. B. S. Haldane وأوبارين A. I. Oparin التي تقول بأن الأكسجين لم يكن موجودًا في الجو المبكر للأرض وأنه ظهر لاحقًا كنتيجة لنشاط التمثيل الضوئي لجزيئات مثل الكلوروفيل. عندئذٍ قد تحدث أحداث تطورية، غير ممكنة وغير متوقعة سابقًا، كأمر طبيعي.
هذا هو ردي على ادعاء كولر (١٩٦٠م) بأن فكرة التطور ذاتها تتضمن بالضرورة «مصادرة ثبات» postulate of invariance يصوغها كالتالي: «أثناء حدوث التطور، تبقى القُوى الأساسية، والعمليات الأولية، والمبادئ العامة للفعل، كما هي مثلما كانت دائمًا، ولا تزال، في الطبيعة غير الحية. وبمجرد أن تُكتشَف أي عملية أولية أو أي مبدأ جديد للفعل في كائن عضوي ما، فإن مفهوم التطور بمعناه الصارم سيصبح غير قابل للتطبيق.»٤٣ قد يكون ذلك كذلك. وعلى حين أن الثبات قد يبقى صحيحًا بالنسبة للكيانات المادية الأولية (الذرات، البنى غير الحية) بعيدًا بُعدًا كافيًا عن البناءات المنبثقة جديدًا، فإن أنواعًا جديدة من الأحداث قد تصبح هي القاعدة داخل مجالات البِنى المنبثقة جديدًا، لأنه مع هذه تنبثق نزوعاتٌ جديدة، وتفسيرات احتمالية جديدة.٤٤

(٩) اللاحتمية؛ التفاعل (المتبادل) بين مستويات الانبثاق

يبدو أن النظرة «الطبيعية» للعالم هي نظرة لاحتمية: فالعالم هو المنتَج القصدي، الصُّنع، للآلهة، أو للرب؛ وعند هوميروس لآلهة شديدة التعسف. وخالق الكون عند أفلاطون (demiurge) هو صانع،٤٥ وربما تبقَّى هذا بَعدُ في محرك أرسطو الذي لا يتحرك. فما تزال نظرة أرسطو لا حتمية بهذا المعنى. ولهذا الأمر أهمية خاصة؛ إذ كان لأرسطو نظرية مفصَّلة في العلل. إلا أن أهم العلل الأرسطية هي العلة الغائية final cause. لقد كان الغرض هو ما حرك العالم، هو ما جعله يهفو إلى هدفه، إلى غايته، إلى «كماله»، هو ما جعله أفضل. يبيِّن هذا أن الفكرة الأرسطية الخاصة بالعلة الغائية لا يمكن أن نصفها كعلة محتَّمة بالمعنى المتداول لدينا. فمبدأ الحركة إنما هو «روح» soul، إما روح حيوانية أو إنسانية أو سبب إلهي. وما من حركة قانونية وعقلانية على نحو تام إلا حركة السموات. تخضع أحداث عالم ما تحت فلك القمر للتغيرات القانونية للعقل، وإن تكن غير محددة بها تمام التحديد، ولكنها تخضع أيضًا لعلل غائية أخرى؛ وليس ثمة ما يشير إلى أن هذه يمكن أن تجمعها قوانين ثابتة، ولا سيما قوانين ميكانيكية. العلة عند أرسطو ليست ميكانيكية، والمستقبل ليس محددًا تمامًا بقوانين.
كان مؤسِّسا المذهب الحتمي، ليوسيبوس وديمقريطس، أيضًا مؤسسي المذهب الذري والمذهب المادي الميكانيكي. قال ليوسيبوس (DK B2):٤٦ «لا شيء يحدث عشوائيًّا أو بدون عِلَّة، وإنما كل شيء يحدث وفقًا للعقل، وبالضرورة». وبالنسبة لديمقريطس ليس الزمن دوريًّا بل هو لانهائي، وإلى الأبد تأتي عوالم إلى الوجود وترحل: «ليس لعلل الأشياء بداية، بل من زمن لانهائي في الماضي، ومقدَّرة بالضرورة، تكون الأشياء التي وُجِدَت والأشياء الموجودة الآن والأشياء التي سوف توجد» (DK A39). ويروي ديوجينيس لائِرتيوس عن تعاليم ديمقريطس (IX, 45): «جميع الأشياء تحدث وفقًا للضرورة، فالدوامة هي علة تكوين جميع الأشياء، وهذه يسميها الضرورة.» ويتهم أرسطو (De generation animalium, 789b2) ديمقريطس بأنه لم يعرف علةً غائية: «أغفل ديمقريطس العلة الغائية، ولذا فإنه يرد كل عمليات الطبيعة إلى الضرورة.» ويعترض أرسطو (Physics 196a42) مرة أخرى بأنه وفقًا لديمقريطس (لأنه يبدو أن ديمقريطس هو المعنِيُّ) فإن سماءنا وجميع العوالم تحكمها المصادفة (وليس الضرورة فحسب)؛ غير أن لفظة «مصادفة» هنا لا تعني العشوائية، فيما يبدو، بل عدم وجود غرض، عدم وجود علة غائية.٤٧
ذهب ديمقريطس إلى أن جميع الأشياء قد نشأت بواسطة دوامة من الذرات؛ أي الذرات مصطدمًا بعضها ببعض؛ يدفع بعضها بعضًا قُدُمًا، ويجذب بعضها بعضًا أيضًا لأن بعضها له كلَّابات يمكن للذرات من خلالها أن تتشابك وتكوِّن خيوطًا (Cp. DK A66; and Aёtius I 26, 2).٤٨ كانت الرؤية الذرية للعالم ميكانيكية بحتة. ولكن هذا لم يمنع ديمقريطس من أن يكون من عظام المذهب الإنساني (انظر قسم ٤٤، ٤٦ لاحقًا).

ظلت النظرة السائدة للعلم حتى وقتنا هذا نظرة حتمية ذات طبيعة ميكانيكية تقريبًا. من الأسماء الكبيرة التي أخذت بهذا الرأي في أزمنتنا الحديثة هوبز، وبرسلي، ولابلاس، وحتى أينشتين (كان نيوتن استثناءً). ولم تصبح الفيزياء لا حتمية إلا مع ميكانيكا الكوانتم، ومع تفسير أينشتين الاحتمالي لسعة الموجات الضوئية، ومع تفسير هيزنبرج لصِيَغه اللاحتمية، وبخاصة مع تفسير ماكس بورن الاحتمالي لسعة موجات شرودنجر.

ولكي أناقش فكرتَي اللاحتمية والحتمية فقد أدخلت في عام ١٩٦٥م (انظر كتابي 1972a، الفصل السادس) استعارة «السحُب» و«الساعات». فالسحابة بالنسبة للإنسان العادي غير قابلة للتنبؤ إلى حد كبير، ولاحتمية حقًّا: وإن الطقس لمَضرِب الأمثال في كثرة التقلب. وعلى النقيض من ذلك تُعَد الساعة قابلة للتنبؤ إلى حد كبير، والحق أن الساعة المتقنة الصنع هي نموذج لنظامٍ مادي ميكانيكي وحتمي.

يمكننا إذ نأخذ السحب والساعات كنموذجين نبدأ بهما للأنظمة اللاحتمية والحتمية، أن نصوغ وجهة نظر مفكر حتمي، مثل ديمقريطس، كما يلي:

جميع الأنظمة الفيزيائية هي، في الحقيقة، ساعات.

إذن العالم بأسره هو آلية ساعة مكونة من ذرات يدفع بعضها بعضًا مثل أسنان الترس. حتى السُّحب هي أجزاء من الساعة الكونية، رغم أنها، بسبب تعقد الحركات الجزيئية فيها وتعذر التنبؤ بها عمليًّا، قد تخلق فينا التوهم بأنها ليست ساعات بل سُحبًا غير محدَّدة.

ولدى ميكانيكا الكوانتم، وبخاصة في صيغة شرودنجر، أشياء مهمة يمكن أن تقولها في هذه المسألة. إنها حقًّا تقول إن الإلكترونات تكوِّن سحابةً حول نواة الذرة، وإن مواضع وسرعات الإلكترونات المختلفة داخل السحابة هي غير محددة ومن ثَم غير قابلة للتحديد. وفي زمن أحدث شُخِّصَت الجسيمات تحت الذرية كبناءات معقدة. وقد ناقش ديفيد بوم (١٩٥٧م) احتمال وجود ما لا نهاية له من مثل هذه الطبقات التراتبية (المستوى صفر في المخطط ٢ في قسم ٧ قد يكون مؤسسًا على مستويات سالبة). إذا صح هذا فسوف يجعل فكرة كون حتمي تمامًا وقائم على ساعات ذرية فكرة مستحيلة.

وأيا ما كان هذا الأمر فإن تفسير النواة الذرية كمنظومة من الجسيمات في حركة سريعة، والإلكترونات المحيطة بها كسحابة إلكترونية هو تفسير كفيل بأن يقضي على حدس النظرية الذرية القديمة بوجود حتمية ميكانيكية. إن للتفاعل بين الذرات أو بين الجزيئات جانبًا عشوائيًّا، جانبًا اتفاقيًّا، «مصادفةً» ليس فقط بالمعنى الأرسطي الذي يضعها كنقيض ﻟ «الغرض»، بل مصادفة بالمعنى الذي يجعلها خاضعة للنظرية الاحتمالية الموضوعية للأحداث العشوائية، لا لأي شيء من قبيل القوانين الميكانيكية المحددة.

هكذا فإن الدعوى القائلة بأن جميع الأنظمة الفيزيائية، بما فيها السحب، هي في الحقيقة ساعات، قد تبين أنها دعوى خاطئة. وبحسب ميكانيكا الكوانتم فإن علينا أن نستبدل بها الدعوى المقابلة كما يلي:

جميع الأنظمة الفيزيائية، بما فيها الساعات، هي في الحقيقة سحب.

يتبين أن المذهب الميكانيكي القديم هو وهم، خلقته واقعة أن الأنظمة الثقيلة ثقلًا كافيًا (الأنظمة المكونة من بضعة ألوف من الذرات، مثل الجزيئات العضوية الكبيرة، والأنظمة الأثقل) تتفاعل «تقريبًا» وفقًا لقوانين الميكانيكا الكلاسيكية الخاصة بالساعة، شريطةَ ألا تتفاعل مع بعضها كيميائيًّا. فأنظمة البلورات، وهي الأجسام الفيزيائية الصلبة التي نتناولها في أدواتنا المألوفة مثل ساعات يدنا ومنبهاتنا، والتي تكوِّن الأثاثَ الرئيسي لبيئتنا، تسلك بالفعل مثل الأنظمة الميكانيكية تقريبًا (ولكنْ تقريبًا فقط). الحق أن هذه الواقعة هي مصدر أوهامنا الحتمية والميكانيكية.

إن كل ترس من تروس ساعات يدنا هو بناء من البلورات، شبيكة من الجزيئات معلقة معًا، مثل الذرات في الجزيئات، بواسطة قوى كهربية. هذا غريب؛ ولكنه أمر واقع أن الكهرباء هي ما يتبطن قوانين الميكانيكا. وفضلًا عن ذلك فإن كل ذرة تتذبذب وكل جزيء يتذبذب، ذبذبات تعتمد سعة اهتزازها على درجة الحرارة (والعكس صحيح)؛ وإذا سخن الترس فسوف يتوقف عمل الساعة لأن أسنانه تتمدد (وإذا أمعن في السخونة فسوف ينصهر).

والتفاعل المتبادل بين الحرارة وساعة اليد هو أمر شائق للغاية. فمن ناحية يمكننا أن ننظر إلى درجة حرارة الساعة كشيء يحدده معدل سرعة ذراته وجزيئاته المتذبذبة. ومن ناحية أخرى يمكننا أن نسخِّن الساعة أو نبردها بأن نضعها في وسطٍ ساخن أو بارد. وبحسب النظرية الحالية تُعزَى الحرارة إلى حركة الذرات الفردة، وهي في الوقت نفسه شيء يقع على مستوًى مختلف عن مستوى الذرات الفردة المتحركة — مستوًى كلي أو انبثاقي — ما دام يحدده «معدل» سرعة ذراته «جميعًا».

تسلك الحرارة سلوكًا شبيهًا جدًّا بسلوك سائل (caloric)، وبوسعنا أن «نفسر» قوانين هذا السلوك باحتكامنا إلى الطريقة التي ينتقل بها أي ازدياد أو نقصان في سرعة ذرة (أو مجموعة ذرات) إلى الذرات المجاورة. يمكن وصف هذا التفسير على أنه «رد» reduction: إنه يرد الخواص الكلية للحرارة إلى خواص حركة الذرات أو الجزيئات. غير أن الرد ليس كاملًا، لأن علينا استخدام أفكار جديدة؛ أفكار خاصة ﺑ «الاضطراب الجزيئي» وﺑ «أخذ المعدَّل»، وهذه في الحقيقة أفكار على مستوى كلي جديد.٤٩

يمكن للمستويات أن تتفاعل فيما بينها. (هذه فكرة مهمة لمذهب التفاعل بين العقل والدماغ). فعلى سبيل المثال: لا تؤثر حركة كل ذرة فردة على حركات الذرات المجاورة فحسب، بل إن «معدل» سرعة «مجموعة» من الذرات لَيؤثِّر على «معدل» سرعة «المجموعات» المجاورة من الذرات. وهي بذلك تؤثر (وهنا يقع تفاعل المستويات، بما فيه «العِلِّية الهابطة») على سرعات كثير من الذرات الفردة في المجموعة. أية ذرات فردة؟ ذلك شيء لا يمكننا الإجابة عنه دون أن نتفحص تفاصيل المستوى الأدنى.

هكذا سوف يؤثر أي تغير في المستوى الأعلى (درجة الحرارة) على المستوى الأدنى (حركة الذرات الفردة). والعكس أيضًا صحيح. على أنه بطبيعة الحال يمكن لذرة فردة، أو حتى لذرات فردة كثيرة، أن تزيد سرعاتِها دون أن ترفع درجة الحرارة، لأن بعض الذرات الفردة الأخرى المجاورة قد تخفض سرعاتها في الوقت نفسه. يحدث مثل هذا طوال الوقت في الدرجة الثابتة من الحرارة. ها هو ذا مثال يستوِي لدينا على «العِلِّية الهابطة»، أي المستوى الأعلى إذ يؤثر على المستوى الأدنى (انظر أيضًا قسم ٧).

يبدو هذا مثالًا مهمًّا آخر للمبدأ العام القائل بأن المستوى الأعلى قد يمارس تأثيرًا مسيطرًا على المستوى الأدنى.

تعود السيطرة الأحادية الجانب، في هذه الحالة على الأقل، إلى الطبيعة العشوائية للحركة الحرارية للذرات، وبالتالي، في ظني، إلى الطبيعة السحابية للبلورة. فيبدو أنه إذا افترضنا جدلًا أن العالم ساعة حتمية كاملة فلن يكون ثمة إنتاج حراري ولا طبقات، وبالتالي لن يحدث مثل هذا التأثير المسيطِر.

يشير هذا إلى أن انبثاق المستويات أو الطبقات التراتبية، والتفاعل المتبادل بينها، يعتمد على لاحتمية أساسية للعالم الفيزيائي. فكل مستوًى هو مفتوح للتأثيرات العِلية الآتية من المستويات الأدنى ومن المستويات الأعلى.

يتصل هذا بالطبع اتصالًا وثيقًا بمشكلة العقل-الجسم، بالتفاعل المتبادل بين العالم ١ الفيزيائي والعالم ٢ العقلي.

١  Immanuel Kant, 1788, BeschluB, pp. 281–285.
٢  هذه المعرفة، عند كانْت، تلخصها النظريةُ الفلكية: ميكانيكا نيوتن، شاملةً نظرية الجاذبية.
٣  يقول الشاعر العربي في هذا المعنى:
وتَزعمُ أنكَ جِرمٌ صغيرٌ
وفيكَ انطَوَى العالَمُ الأكبرُ (المترجم)
٤  لم ينكر لامتري وجود الخبرة الواعية. وقد رد بقوة على مذهب ديكارت بأن الحيوانات (وليس البشر مع ذلك) هي مجرد آلات ذاتية الحركة. (انظر قسم ٥٦ لاحقًا).
هناك فقرتان في الكتاب ١٨ من الإلياذة يوصف فيهما «هيفايستوس» الحِرفي الشهير بأنه مبتكر آلات شبيهة بالروبوت (كاريل كابِك هو من أدخل مصطلح «روبوت»). في الفقرة الأولى من هاتين الفقرتين نجد هيفايستوس مُكِبًّا على تشييد شيء مثل النُّدُل (waiters) الأوتوماتيكية (أو عربات الشاي). وفي الفقرة الثانية نجده يتلقى المساعدة في عمله من فتيات ماهرات صاغهن من الذهب، ذلك المعدن الذي يمتلك قوى خاصة. تمكن ترجمة الفقرة الأولى (٣٧٣–٣٧٧) كالتالي:
«كان يشيد طاولات ثلاثية الأرجل، مجموعها عشرون
لتحيط بجدار القاعة العامرة. وثَبَّتَ لهذه الطاولات
عجلات من ذهب، بحيث يمكنها أن تتحرك بذاتها إلى مأدبة
الآلهة وفق إرادته وتعود ثانيةً، تاركةً الكلَّ في ذهول.»
وها هي الفقرة الثانية (٤١٧–٤٢٠):
«خادمات مصنوعات من الذهب كانت رهن إشارة سيدها.
تبرهن، وهي أشبه بفتيات حقيقيات، على فطنتها
بحديثها الذكي، بأدائها القدير الماهر.»
(في هذين البيتين الأخيرين ربما يجد المرء آثارًا لقراءة جلبرت رايل لهوميروس).
٥  يُعَد هذا قسمًا مهمًّا وتأسيسيًّ؛ إذ يبين كيف انسلخت النظريةُ الفيزيائية للمادة، خلال البحث الفيزيائي نفسه، من جلدها القديم، فلم تعُد نظريةُ المادة «مادية»! واكتُشِفت كيانات جديدة غير مادية، مثل حقول القُوى، احتلت الجانب الأكبر من رؤيتنا للعالم، ونسخت فكرتنا القديمة عن العِليَّة الميكانيكية. وسيكون لكل هذا أثره في تقريب فكرة بوبر عن تفاعل الذات والدماغ إلى أفهامنا، ونفي الغرابة عن إمكانية تأثير الذات على العمليات الدماغية بواسطة «العِلِّية الهابطة» downward causaliy من أعلى إلى أسفل، مما سيأتينا تفصيلُه في موضعه. (المترجم)
٦  انظر كتابي 1963(a)، ص١٠٦، وقسم ٤٨ لاحقًا.
٧  انظر كتابي 1963(a)، ص١٠٧ (هامش ٢١ للفصل الثالث).
٨  قد تجد المزيد عن دور نظرية نيوتن في أفول المذهب الماهوي في قسم ٥١ لاحقًا.
٩  ثمة بالطبع واقعة أن الفيزياء الراهنة تعمل بحدسِ أن كميةَ الطاقة في نظام مغلق كمية ثابتة. غير أن هذا لا يعني أننا بحاجة في الفيزياء لشيء من قبيل الجوهر: افترضت نظرية بور، وكرامرز وسلاتر، (١٩٢٤م) أن الطاقة باقية في المتوسط الإحصائي فحسب. وقد قدَّم بور اقتراحًا شبيهًا بعد سنوات، قبل حدس باولي بوجود النيوترينو، وأشار شرودنجر أيضًا (١٩٥٢م) بنظرية مماثلة. يبين هذا أن الفيزيائيين كانوا على استعداد تام لنبذ الخاصية الوحيدة للطاقة التي تُشابه فيها الجوهر، وأنْ ليس ثمة ضرورة قَبْلية a priori وراء هذه الفكرة.
١٠  انظر بلاكمور (١٩٧٢م)، ص٣١٩–٣٢٤.
١١  جون أرشيبالد هويلر (١٩٧٣م)، ص٢٣٥. كما يبين هويلر (ص٢٢٩) يمكن أن تعود هذه الفكرة الهامة إلى وليم كنجدون كليفورد (١٨٨٢م)، (١٨٧٩م)، (١٨٧٣م).
١٢  على غير المتوقَّع من أغلب الفلاسفة فقد كان بوبر يبغض أسئلة «ما هو»؛ وذلك من جهتين:
• فهو مناهض ﻟ «مذهب الماهية» essentialism، وسوف يعرض لذلك في غير موضع من الكتاب.
• كما أن به نفورًا، منذ نشأته الفلسفية، من ميل الفلسفة السائدة في عصره (الفلسفة التحليلية) إلى الخوض في الأحاجي الفلسفية، وإلى إنكار المشكلات الفلسفية وتبديدها، بواسطة التحليل اللغوي، على أنها «أشباه مشكلات» pseudoproblems. (المترجم)
١٣  رغم أني أفعل هنا شيئًا أشبه بطرح سؤال من صنف «ما هو»، إلا أني لا أقوم ﺑ «تحليل معنًى». فمن وراء مناقشتي للفظة «واقعي» ثمة «نظرية»: النظرية القائلة بأن المادة موجودة، وأن هذه الواقعة ذات أهمية حاسمة، على أن هناك أشياء أخرى معينة تتفاعل مع المادة، كالعقول مثلًا، هي أيضًا موجودة (انظر أيضًا «أفلاطون»، محاورة «السوفسطائي»، 247 d-e, 248c.).
١٤  هيروشيما ونجازاكي. (المترجم)
١٥  كلما زاد «تعزيز» corroboration إحدى النظريات (أي صمودها لمحاولات مستمرة لتكذيبها باختبارات قاسية) فمن المعقول أن نحزر بأننا نقترب من الحقيقة وندانيها. ويطلق بوبر على درجة اقتراب نظرية ما من الصدق اسم «مظهر الصدق» verisimilitude الخاص بهذه النظرية. وعلى حين أن بإمكاننا أن نبرهن على كذب نظرية ما بشكلٍ حاسم، فنحن، وفقًا لمبدأ «اللامعصومية» fallibilism، لا يمكننا على الإطلاق أن نبرهن على أن نظرية ما هي نظرية صادقة. فمن المتعذر أن نكون على يقين تام بأننا قد عثرنا على الحقيقة. إنما نظرياتنا جميعًا هي افتراضات حدسية وتخمينات مفتوحة دومًا للاختبار. ولعل بإمكاننا إذاك أن نقول إن بعض الحدوس أفضل من بعض لأنها صمدت للاختبارات أكثر من غيرها؛ ومن واجبنا أن نحدد هذه الأفضليات على نحو موضوعي منهجي.
ينطلق العلم، وفقًا لتراث يرتد في الزمن إلى فرنسيس بيكون، من تراكم الملاحظات المستنيرة. فبعد أن يجمع العالِم ما يكفي من البيانات فإنه سيلاحظ أن «نمطًا» معينًا قد بدأ يبزغ. وسيفترض أن هذا النمط يومئ إلى قانون علمي ما. عندئذٍ يحاول أن يؤيد هذا القانون بإيجاد مزيد من الأدلة التي تدعمه. فإذا نجح في ذلك يكون قد «حقق» verified فرضيته؛ يكون قد اكتشف قانونًا جديدًا من قوانين الطبيعة.
يرفض بوبر هذه النظرة ويبدأ من النقطة المنطقية البسيطة التي تفيد بأن العبارة الكلية من مثل «كل البجع أبيض» لا تمكن البرهنة عليها بملاحظة أي عدد كان من البجع الأبيض (فلعلنا فشلنا في اكتشاف بجعة سوداء في مكان ما)، ولكن من الممكن أن تُكَذَّب حالما رأينا بجعةً سوداء واحدة مفردة. يتبين من ذلك أن القوانين العلمية ذات الصياغة الكلية لا يمكن «تحقيقها» على نحو حاسم في حين يمكن دحضها. ولذا فمن الخطأ أن نبدأ بتكديس ملاحظات، ومن الخطأ أن نبحث عن شواهد مؤيِّدة للنظرية، بل ينبغي أن ننطلق من حدوس افتراضية جريئة ثم نحاول تفنيدها. ومن بين أي نظريتين متنافستين نعتبر النظرية التي تعرضت لخطر أكبر من التكذيب ولكن لم يتم تكذيبها هي النظرية الأكثر «تعزيزًا». وليس يعني ذلك أنها صادقة (فقد تُكَذَّب في المستقبل) بل يعني أنها «أقرب إلى الصدق» من منافِستها (أي تتمتع بدرجة أكبر من «مظهر الصدق»). فمن الممتنع في العلم أن نعرف أننا اكتشفنا الحقيقة رغم وجود مثل هذه الحقيقة. إنها «فكرة مرشِدة» أننا نحاول الاقتراب ولكن لا نستطيع التيقُّن من الوصول. (Karl Popper, By Stephen Thornton, in Stanford Encyclopedia of Philosophy, 1997) (المترجم)
١٦  قد تجد إسهامًا مهمًّا في تاريخ فكرة التطور العضوي في الكتاب العظيم لسير أليستر هاردي «التيار الحي» The Living Stream (١٩٦٥م).
١٧  في حين أعتقد شخصيًّا أن الحيوانات والبشر تقيم اختيارات حقيقية، فقد يختار المادي طبعًا أن يفسر تلك الاختيارات على أنها لا تعدو في النهاية أن تكون محصلة العشوائية والتصفيات الانتخابية. غير أني لا يهمني هنا أن أناقش هذا الأمر.
١٨  شارلس دارون (١٨٥٩م)، الفصل السادس، «في أصل، وانتقالات، الكائنات العضوية ذات العادات والبنية الخاصة». والفقرة المقتبسة في النص هي الصيغة التي تجدها في الطبعة الخامسة وما يليها. انظر مورس بيكهام (محرر)، ١٩٥٩م، الفصل السادس، جملة ٩٢ و٩٣ (ص٣٢٢ من هذه الطبعة المُحقَّقة).
١٩  قسم مهم وتأسيسي من أجل فهم نظرية بوبر في النفس؛ فالنفس (الذات) عند بوبر تعتمد اعتمادًا كبيرًا على العمليات الكهروكيميائية للدماغ، غير أنها غير متماهية مع هذه العمليات. وبوسعها رغم ذلك أن تؤثر، في الوقت المناسب، في تلك العمليات الدماغية بواسطة العِلِّية الهابطة (المتجهة من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى). (المترجم)
٢٠  بالألمانية Weltanschauung: النظرة إلى العالم، رؤية العالم: منظور للمرء فلسفي إجمالي إلى جميع الأشياء، طريقة شاملة في فهم الواقع قد تكون مصوغةً على نحو صريح وقد تكون مضمَرة. (المترجم)
٢١  انظر كينيث ج. دينبيج (١٩٧٥م). مصطلح ج. ﻫ. لويس (١٨٧٤–٧٩) هو emerging (منبثِق).
٢٢  أي ذو النزعة الفيزيائية physicalist (وهى الصيغة الحديثة المتطورة للمذهب المادي). وهي صورة من صور الواحدية الميتافيزيقية ترى أن كل الموجودات هي ذات طبيعة فيزيقية، أي هي من الصنف الذي تبحثه العلوم الفيزيائية. وقد اكتفينا بكلمة «فيزيائي» للتخفيف، ثقةً بفهم القارئ وعدم خلطه بين «الفيزيائي» و«الفيزيائي النزعة». (المترجم)
٢٣  «التفسير من حيث المبدأ» عَرَضه ف. أ. فون هايِك (١٩٥٥م) عرضًا نقديًّا؛ انظر كتابه (١٩٦٧م)، ص١١ وما بعدها. و«الرد من حيث المبدأ» هو حالة خاصة منه.
وأنجح رد (بالمقارنة بغيره) أعرفه هو رد بصريات ينج-فريسنيل إلى نظرية مكسويل. ومع ذلك (١) فهذه النظرية نشأت بعد نظرية بصريات ينج-فرينسيل. (٢) لا النظرية «المردودة» ولا النظرية «الرادَّة» كانت كاملة، كانت نظريتا الانبعاث والامتصاص ميكانيكا الكوانتم وكهروديناميكا الكوانتم بعدُ (ولا تزالان جزئيًّا) غائبتَين. ومثال ثانٍ مهم للرد غير الكامل هو الميكانيكا الإحصائية. انظر بحثي 1974(Z2) لِعَرضٍ أكثر إحاطة لموضوع الرد.
٢٤  لوح زجاجي أو معدني مصقول تُحَز على مسطحه خطوطٌ مستقيمة متوازية، يُتَّخذ للحصول على الأطياف استنادًا إلى ظاهرة الحيود. (المترجم)
٢٥  هو «كومة» مثل «كومة الرمل» أو «كومة الحجارة»؛ انظر هامش ٣٣ قسم ٨.
٢٦  للدكتور رسل فيرنالد R. D. Fernald، عالِم الأعصاب في ستانفورد، أبحاث كثيرة مثيرة عن تأثير التغيرات الاجتماعية على خلايا المخ (مثال ساطع على العِلِّيَّة الهابطة). من ذلك أبحاثه الشهيرة على سمك البلطي الأفريقي التي أيدت الرأي القائل بأن كيفية التفاعل الاجتماعي لذَكر السمك تغير خلايا دماغه المسئولة عن حجمه ولونه وقدرته على التكاثر. فقد وجد أن الذكر العدواني المسيطر على منطقة نفوذ كبيرة تكون الخلايا الدماغية في مهاده التحتي hypothalamus أضخم ستة أضعاف من خلايا الذكور الألطف طبعًا. وقد وجد فضلًا عن ذلك أن أبعاد هذه الخلايا ذات «طواعية» plasticity ومرونة: فإذا ما صادف الذكر المسيطر ذكرًا آخر أكبر منه وأشد عدوانية فإن نيورونات (خلايا عصبية) المهاد التحتي للذكر المهزوم سرعان ما تنكمش وكذلك تنكمش خصيه وتقل قدرته على الإنجاب. ومن الممكن إحداث هذه التغيرات في المعمل بدفع الذكر الفرد بيئيًّا إلى اتخاذ الدور المسيطر أو الخاضع، فتتبع ذلك مباشرة تغيرات خلايا الدماغ. لقد تم التحقق بدقة من أن التغيرات السلوكية تحدث أولا وتفضي إلى التغيرات الدماغية (لمعرفة المزيد عن التأثيرات السلوكية على الدماغ انظر بحث د. رسل فيرنالد بالاشتراك مع س. أ. هوايت: Behavioral infuences on the brain, Progress in Hormone Research, 52: 455–474). (المترجم)
٢٧  في مقال بعنوان «الطب النفسي البيولوجي والنزعة الردية» يقول ﻫ. كارليسون، م. كامبينين: «إن فكرة الرد برمتها تتناقض مع فكرة العِلِّية الهابطة … فقد أمكن لباردو وآخرين (١٩٩٣م)، باستخدام التصوير الطبقي بإطلاق البوزيترون (PET)، قياس تغيرات في تدفق الدم المخي المحلي لمتطوعين أسوياء أثناء تكديرٍ ذاتي للمِزاج. كما خلَصَ جابارد (١٩٩٢م) في دراسة أخرى إلى أن المؤثرات السيكولوجية تفضي إلى تغيُّرات وظيفية وتشريحية دالة في الدماغ البشري. وهناك أيضًا بعض الدراسات الإكلينيكية يبدو أنها تدعم الفكرة القائلة بأن العمليات السيكولوجية والاجتماعية تفعل فعلها في الظواهر البيولوجية بمعنًى أكثر شمولًا وكلية. من هذه الدراسات دراسة شبيجل وآخرين (١٩٨٩م) الذين أثبتوا أن العلاج النفسي الاجتماعي قد يطيل بقاء المرضى بسرطان الثدي المنبث. ومنها دراسة فوزي وآخرين (١٩٩٣م) على مرضى الميلانوما الخبيثة والتي خلصت إلى نفس النتيجة. بل لقد اقترح البعض (مول، ١٩٨٧م) في ضوء ما ثبت من التأثيرات السيكوبيولوجية المتبادلة، أن العلاج النفسي ينبغي اعتباره علاجًا بيولوجيًّا. جملة القول إذن أن البحث عن تفسير يتطلب منا أن نتطلع إلى مستويات أخرى بجانب المستوى البيولوجي: المستوى السيكولوجي والاجتماعي» (Hasse Karlsson and Matti Kamppinen: Biologica Psychiatry and Reductionism Empirical Findings and Philosophy, British Journal of Psychiatry (1995), 167, p. 435).
ويقول د. ليون إيزنبرج: «الخبرة تشكل الدماغ في عملية تستمر طوال الحياة. إن تمثيل أصابع اليد في اللحاء المخي هو أكبر على الناحية اليمنى (التي تمثل الجانب الأيسر للجسم) لدى عازفي الكمان المحترفين حيث هو أكبر مما هو لدى بقية الناس (إلبرت وآخرون، ١٩٩٥م)، وهو أيضًا يتضخم لدى القارئين بطريقة بريل (ستير وآخرون، ١٩٩٨م)، وهو ينكمش بعد فص التعصب الوارد (موجيلنر وآخرون، ١٩٩٣م). إن الوظيفة والتركيب البنائي للدماغ هما في جريان دائم.» (Leon Eisenberg: Is psychiatry more mindful or brainier than it was a decade ago?, The British Journal of Psychiatry 2000, 176: p. 2). (المترجم)
٢٨  انظر إرفين شرودنجر (١٩٥٧م، الفصل السادس، ص١٣٣). هذه الملاحظات من شرودنجر مستقاة من محاضرة ألقاها عام ١٩٢٢م. في هذه المحاضرة يقول شرودنجر (ص١٤٢ وما بعدها) إن إكسنر عَرَض هذه الأفكار ربما في محاضرة؟ عام ١٩١٩م. وفي الفصل الثالث من نفس الكتاب (ص٧١) يحدد شرودنجر تاريخ محاضرة إكسنر بعام ١٩١٨م. وفي خطاب شرودنجر (١٩٢٩م) يقول إن إكسنر ناقش المسألة في محاضراته المنشورة عام ١٩١٩م. (عن بيرس انظر كتابي 1972(a)، الفصل السادس، ص٢١٢-٢١٣).
٢٩  Gestalt psychology: تعني كلمة «جشطلت» الألمانية شيئًا قريبًا (وإن لم يكن مطابقًا) ﻟ: شكل، صيغة، هيئة؛ وتستخدم لكي تشير إلى ذلك الكل الموحد الذي لا يُدرَك بتحليل أجزائه التي يتكون منها، بل يُدرَك بحقه الشخصي بوصفه كلًّا موحدًا مختلفًا عن مجموع أجزائه. وعلم نفس الجشطلت مدرسة سيكولوجية تأسست في ألمانيا في العقد الثاني من القرن العشرين كرد فعل ضد البنيويين الذين يذهبون إلى أن الظواهر يمكن أن تُجزَّأ استبطانيًّا إلى عناصر إدراكية أولية. وأهم زعماء هذه المدرسة هم ماكس فيرتيمر، وكورت كوفكا، وفلفجانج كولر. وأشهر إسهاماتهم هي في مجال الإدراك والتعلم. إننا ندرك الكل قبل أن ندرك الأجزاء، وينبغي أن نتعلم الكل قبل الأجزاء. نحن نرى الحركة مثلًا ككل دينامي لا كسلسلة من اللقطات الثابتة. ونحن ندرك اللحن ككل دينامي لا كنغمات منفصلة، ونحن نميزه كيفما كانت تجلياته: سواء كان يُغنَّى أو يُعزَف بشتى الطرق والآلات والسرعات أو بتغيير المفتاح. إن «الكل» هو المهيمن على الإدراك، وإنه لَيُدرَك ككل وليس كحاصل مجموع أجزائه. وإذا كانت المثيرات الواصلة إلى أعضاء الحس غير منظَّمة وغير متضامة فإن الاندفاعات العصبية من أعضاء الحس ما إن تصل إلى الدماغ حتى تتفاعل للتو جاذبة إحداها الأخرى وطاردة، ومن ثَم تنظم نفسها في أنماط أو أشكال كلية. (المترجم)
٣٠  حتى كومة الحجارة لها جشطلت بالمعنى الكولري (وإن كنت لا أعتقد أن كولر كان على دراية بهذه الحقيقة)؛ انظر كتابي (1944b، ص١٢٩)، وكتابي (1965g، ص٨٣)؛ حيث ميزتُ بين الكل بمعنى الجشطلت وبين الكل بمعنى المجموع الكلي totality؛ وأنكرت إمكان معرفة أي موضوع بمعنى معرفة المجموع الكلي لخواصه. انظر أيضًا الحوار ١٠.
٣١  من المثير أن كولر (١٩٦١م، ص٣٢) قد تَأَدَّى قريبًا من مذهب شمول النفس panpsychism، غير أنه خَلَص، صائبًا، إلى أن شمول النفس ليس متوافقًا تمامًا مع موقفه المادي «… إذا كان مذهب شمول النفس صادقًا لكان بَيَّنَ أن العلماء (الفيزيائيين) لم يقدموا لنا وصفًا شافيًا للطبيعة.» (أي، لطبيعة الذرات.)
٣٢  ربما تكون هذه أقوى حجة في مصلحة ما قد أطلقتُ عليه «التفسير النزوعي للاحتمال في الفيزياء». انظر أعمالي 1957(e), 1959(a), and 1967(k)؛ وانظر أيضًا ردي على سابِس في 1974(c). والنزوع هو الاستعداد المقدَّر (Verwirklichungstendenz) لشيءٍ ما في موقفٍ معين إلى أن يتخذ خاصية أو حالة معينة.
كما يبين مثال الأنوية المشعة قد تكون النزوعات غير عكوسة irreversible: قد تحدد النزوعات اتجاهًا للزمن («سهم الزمن»). على أن بعض النزوعات قد تكون أيضًا عكوسة: معادلة شرودنجر (وبالتالي ميكانيكا الكوانتم) عكوسة من ناحية الزمن، ونزوع الذرة في حالة معينة s1 لأن تقوم بنقلة إلى حالة s2 بواسطة امتصاص فوتون سيكون بصفة عامة مساويًا للنزوع لعمل نقلة عكسية بواسطة إطلاق فوتون.
٣٣  انظر مثلًا كتابي 1967(k)، وانظر أيضًا الهامش الأول (والمتن) في هذا القسم.
٣٤  انظر كتابي 1057(e)، حيث يُذكَر هذا المثال في ص٨٩.
٣٥  عامل حفاز catalyst. (المترجم)
٣٦  ثمة خاصية انبثاقية أخرى فيما يبدو هي نزوع جزيئات معينة إلى تكوين بلورات قادرة على أن تعكس الضوء ذا الطول الموجي المعين: انبثاق السطوح الملونة. والنزوعات البصرية لبلورة مركبة لترتيب دوري أو غير دوري معقد وممتد مكانيًّا للجزيئات وبالتالي خواص المحلِّلات الطيفية، قد لا تكون أيضًا قابلة للتنبؤ تمامًا من خواص الذرات والفوتونات مفردة، رغم أن نزوعات البلورت ذات الترتيبات البسيطة والسيمترية قابلة للتنبؤ، ورغم أن بالإمكان استنباط الكثير عن بنية الجزيئات الشديدة التعقيد من صورها الطيفية بأشعة إكس.
٣٧  انظر جاك مونود: ١٩٧٠م، ص١٦٠؛ ١٩٧١م، ص١٤٤؛ ١٩٧٢م، ص١٣٦.
٣٨  هناك أيضًا صيغة شاذة من السلوكية متمركزة على الذات، لا تعترف بالوعي إلا للأنا: إلا لنفس المرء، ولكن ليس لأي شخص آخر: شكل نفساني من الأناوحدية (solipsism). انظر قسم ٩ من كتاب سيدني هوك (١٩٦٠، ١٩٦١م).
٣٩  الأناوحدية solipsism (مذهب الأنا الوحيدة): هو أكثر صور المثالية الذاتية تطرُّفًا. وهو يرى أن العقل لا يستطيع أن يعرف إلا تجاربه الخاصة؛ وبالتالي لا يستطيع إثبات الوجود الموضوعي لأي شيء خارج عن العقل. وعندما يطبق هذا المذهب على الميتافيزيقا، يقول إنه لا توجد إلا ذاتي وحدها (أي عقلي وحده) وإدراكاتها وحالاتها الواعية. فكل الأشياء المادية، فضلًا عن كل الأشخاص الآخرين، يتوقف وجودها على وعيي (هنترميد: الفلسفة أنواعها ومشكلاتها، ترجمة د. فؤاد زكريا، دار نهضة مصر، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٧٥م، ص٤٣٤). (المترجم)
٤٠  يقترح د. نبيل علي لفظة «يطفر» ترجمة للفعل emerge ولفظة «طفور» للمصدر emergence؛ وهو اقتراح وجيه واجتهاد ذكي، لولا أن ترجمتهما إلى «ينبثق»، «انبثاق» قد استتبت في مجال فلسفة العلم منذ عقود؛ و«لا مشاحة في الاصطلاح» كما تقول العرب (انظر «العقل العربي ومجتمع المعرفة»، د. نبيل علي، عالم المعرفة، الكويت، الجزء الأول، العدد ٣٦٩، نوفمبر ٢٠٠٩م، ص٢٤٩). (المترجم)
٤١  مونود (١٩٧٠م)، ص١٦٢؛ (١٩٧١م)، ص١٤٦؛ (١٩٧٢م)، ص٩١-٩٢.
٤٢  قد تجد اقتراحًا مماثلًا لهذا في ر. أ. فيشر (١٩٥٤م)، ص٩١-٩٢.
٤٣  فولفجانج كولر (١٩٦١م)، انظر (١٩٦١م)، ص٢٣ وما بعدها. ومن الشائق أن النقاش كله يبدو أنه يرتد إلى نقاش بدايات القرن التاسع عشر عن مذهب الكارثة catastrophism في الجيولوجيا، الذي كان في خاطر توماس هكسلي، بغير شك، عندما قال بأشياء شبيهة جدًّا بهذه الملاحظات لكولر. انظر كتابه (١٨٩٣م)، ص١٠٣، حيث يقول: «مذهب التطور … يفترض ثبات القواعد التي تعمل بها عِلل الحركة في العالم المادي … فالتطور المنتظم للطبيعة الفيزيائية من أساس واحد وطاقة واحدة يقتضي أن تكون قوانين فعل هذه الطاقة ثابتة ومحددة.» وقد واجهت فكرة ثبات قوانين الطبيعة، في زمنٍ أحدث، مناوأةً من جانب بعض الماديين الجدليين مثل ديفيد بوم (١٩٥٧م).
٤٤  ثمة اعتراض شائق على هذه الحجة أثاره جيريمي شيرمر: حتى لو سلمنا بالنزوعات، فنحن لا نهرب من فكرة التكون المسبق إنما يكون لدينا، فحسب، إمكانات تكوُّن مسبق عديدة بدلا من واحد. ورَدِّي هو أننا قد يكون لدينا «ما لا نهاية» له من الممكنات المفتوحة، وهذا يعني نبذ مذهب التكون المسبق؛ وهذه اللانهاية من النزوعات الممكنة قد تظل تستبعد كثرة لا نهائية من الممكنات المنطقية؛ فالنزوعات قد تُقصِي الممكنات: في هذا تقبع طبيعتها شبه القانونية.
وقد اقترحتُ شيئًا شبيهًا بهذا منذ سنوات عديدة، في محاولة لتفسير رؤية العالم الخاصة بالتفسير النزوعي للاحتمال، في تذييلي (Postscript) الذي لم يُنشَر حتى الآن. إن اللاتناهي من الممكنات أو النزوعات المتأصلة هو من الأهمية بمكان؛ لأن أي مذهب احتمالي للتكون المسبق لا يختلف عدا ذلك اختلافًا يُذكَر عن أي مذهب حتمي للتكون المسبق.
٤٥  عن لا حتمية أفلاطون انظر الفقرة من «فيدون» المقتبسة لاحقًا في قسم ٤٦.
٤٦  DK = Diels & Kranz (1951-2).
٤٧  قارن سيريل بيلي (١٩٢٨م)، ص١٤٠ وما بعدها. أيضًا DK, A69. يُحاجُّ بيلي (ص١٤٢ وما بعدها) يُحاجُّ، ربما صائبًا، بأن «المصادفة» تعني عند ديمقريطس تلك العلل الميكانيكية الموضوعية التي هي، ذاتيًّا، بعيدة عن منال الإنسان (أُدخِلَت العشوائية الموضوعية في المذهب الذري بعد ذلك بكثير، بنظرية أبيقور عن «الانحراف»).
٤٨  انظر ﻫ. ديلز (محرر) Doxographi Graeci (١٩٢٩م).
٤٩  المسألة هي ما إذا كان القانون الثاني (الاحتمالي) للديناميكا الحرارية قابلًا للرد التام إلى تفاعل الذرات والجزيئات الفردة. وجوابي هو: النتائج الاحتمالية تتطلب من أجل اشتقاقها مقدمات احتمالية وبالتالي غير فردية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤