الفصل الخامس

تعليقات تاريخية على مشكلة العقل/الجسم

(٤٣) تاريخ صورتنا عن العالم

الفكر البشري بعامة، والعلم بخاصة، هما نتاجان للتاريخ البشري. وهما، من ثَم، يعتمدان على مصادفاتٍ كثيرة، فلو كان تاريخنا مختلفًا، لكان تفكيرنا الحالي وعِلمُنا الراهن (إنْ وُجِد) مختلفين أيضًا.

مثل هذه الحجج قد أدت بالكثيرين إلى نتائج نسبية١ أو شكية. غير أن هذه النتائج كان منها ألفُ بُد. فنحن قد نسلِّم بوجود عناصر عَرَضية (ولا عقلانية بالطبع) في تفكيرنا كحقيقة واقعة، غير أننا نرفض النتائج النسبية بوصفها مبطِلةً لذاتها٢ وبوصفها انهزامية؛ إذ إن بوسعنا أن نثبت أننا يمكن أن نتعلم من أخطائنا، وأننا أحيانًا نتعلم منها بالفعل، وأن هذه هي الطريقة التي يتقدم بها العلم. ومهما يكن من خطأ بداياتنا فإن بالإمكان تصحيحها ومن ثَم تجاوزها، وبخاصة إذا كنا نسعى بوعيٍ إلى ضبط أخطائنا بواسطة النقد، مثلما نفعل في العلوم. هكذا يتسنى للفكر العلمي أن يكون تقدميًّا (من وجهة نظرٍ عقلانية) بِغَض النظر عن نقاط بدايته العَرَضية بدرجة أو بأخرى. وبمقدورنا أن نُصلِح مساره بالنقد، فنقترب أكثر من الحقيقة. وإن نظرياتنا العلمية الراهنة لهي النتاج المشترك لتحيزاتنا العَرَضِية بعض الشيء (وربما المحتَّمة تاريخيًّا) ولِعملية الإقصاء النقدي للخطأ. وإن مظهر صدقها لَيميل إلى الازدياد تحت حافز النقد وحافز إقصاء الخطأ.

وربما ينبغي عليَّ ألا أقول «يميل»؛ لأن ازدياد مظهر الصدق ليس ميلًا متأصلًا في نظرياتنا أو فرضياتنا؛ بل هو بالأحرى نتيجة لموقفنا نحن النقدي، الذي لا يقبل بفرضية جديدة إلا إذا بدت له تَحسُّنًا على سابقاتها. ونحن نتطلب في الفرضية الجديدة ما يلي قبل أن نسمح لها بأن تحل محل سابقتها:

  • (١)

    يجب أن تَحل المشكلات التي كانت تحلها سابقتُها بنفس الدرجة من النجاح على أقل تقدير.

  • (٢)

    يجب أن تسمح باستنباط تنبؤات ليست مستنبَطة من النظرية القديمة؛ وحبذا لو كانت هذه التنبؤات مناقِضة للنظرية القديمة، أي تُمثِّل تجاربَ فاصلة. فإذا استوفت النظرية الجديدة الشرطين (١)، (٢) فإنها تمثل تقدمًا ممكنًا. وسيكون التقدم فعليًّا إذا شهدت التجربةُ الفاصلةُ لمصلحةِ النظرية الجديدة.

النقطة (١) مطلبٌ ضروري، ومطلبٌ محافِظ. وهي تمنع التراجع. والنقطة (٢) اختيارية ومرغوبة. وهي مطلب ثوري. وليس كل تقدم في العلم له صبغة ثورية، رغم أن كل اختراق مهم في العلم هو شيء ثوري. واجتماع المطلبين معًا يضمن عقلانية التقدم العلمي، أي، يضمن زيادة مظهر الصدق verisimilitude.
هذه النظرة إلى التقدم العلمي تبدو لي معارِضة تمامًا للمذهب النسبي (النسبوية relativism) وحتى لأغلب صور المذهب الشكي. إنها نظرة تتيح لنا أن نميز العلم من الأيديولوجيا، وأن نأخذ العلمَ مأخذَ الجِد، دون مبالغة في تقدير، أو إضفاء طابعٍ جَزْمِي على، نتائجه التي كثيرًا ما تكون مُبهِرة.

بعض نتائج العلم ليست مبهرة فحسب بل غريبة وغير متوقعة على الإطلاق. إنها تبدو منبِئة لنا بأننا نحيا في عالم فسيح، يتكون كليًّا تقريبًا من فضاء خالٍ من المادة وممتلئ بالإشعاع؛ ولا يحتوي على غير القليل من المادة، معظمها في حالة اهتياجٍ عنيف، مع كمية صغيرة تكاد لا تَبِين من المادة الحية، وكمية، بعدُ، أصغر من المادة الحية التي أُسبِغَ عليها الوعي.

ليس هناك فقط امتدادات هائلة من المكان الخالي من أية مادة حية، وفقًا للرؤى العلمية الراهنة، بل أيضًا آمادٌ هائلة من الزمان. يمكن أن نعلم من البيولوجيا الجزيئية أن منشأ الحياة من المادة غير الحية لا بد أنه حدثٌ على أقصى درجة من عدم الاحتمال، فحتى تحت الظروف المواتية جدًّا — وهي ذاتها غير محتملة (improbable) — يبدو أن الحياة لم يمكن نشوءُها إلا بعد سلاسل من الأحداث طويلة وتفوق الحصر، كلٌّ منها ناجح بالتقريب وليس بالكلية في إنتاج الحياة.
لا يمكن للمرء أن يقول إن صورة العالم هذه التي يرسمها العلم المعاصر تلفتنا كشيء مألوف أو كشيء مُرضٍ تمامًا من الجهة الحدسية (وإن يكن بالتأكيد مثيرًا فكريًّا وحدسيًّا). ولكن لماذا يتوجب عليها ذلك؟ فقد يحق أيضًا، أو يقترب من الحقيقة، أننا ينبغي أن نكون قد تعلمنا الآن أن الحقيقة، في أكثر الأحيان، غريبة. وإلا فقد تكون بعيدة عن الصدق، لعلنا، على نحو غير متوقع، قد أسأنا قراءة القصة كلها، أو بالأحرى ما نَعده الدليل المؤيد لقصتنا. ولكن يظل من غير المحتمل٣ أنه لم تكن هناك زيادة في مظهر الصدق في التطور الحاسم للقصة. ثمة، كما يظهر، المادة غير الحية، والحياة، والوعي. وإن مهمتنا أن نفكر في هذه الثلاث، وفي علاقاتها المتبادلة، وبخاصة في مكان الإنسان في العالم، ومكان المعرفة البشرية.
وقد أذكر في هذا المقام أن غرابة الصورة العلمية عن العالم تبدو لي مفنِّدةً للنظرية الذاتية (والإيمانية) في الاحتمال، وأيضًا للنظرية الذاتية في الاستقراء، أو، بمعنى أدق، في «الاعتقاد المحتمَل» probable belief. فبحسب هذه النظرية فإن الشيء المألوف، الشيء الذي تعوَّدناه، ينبغي أيضًا أن يكون الشيء المقبول عقليًّا وعلميًّا، بينما ما يحدث في حقيقة الأمر هو أن تطور العلم يصحِّح المألوفَ ويستبدل به غيَر المألوف.
إن الأمور الكوزمولوجية وفقًا لأحدث نظرياتنا لَتبدو أبعد ما تكون عن المألوف؛ الأمر الذي يثبِت، بالمناسبة، كم ابتعد العلم، تحت ضغط النقد، عن بداياته في الأساطير الأنثروبومورفية.٤ إن العالم الفيزيائي لَيحمل، أو هكذا يبدو، آثارًا عديدة، مستقلة ومتسقة، تدل على أنه نشأ عن انفجارٍ عنيف؛ «الانفجار العظيم الأول». كما أن أفضل نظرياتنا المعاصرة، فيما نرى، تتنبأ بانهياره في النهاية، بل إن هذين الحدثين الطرفيين قد تم تفسيرهما على أنهما بداية ونهاية المكان والزمان، وإن كان من البين أننا حين نقول بمثل هذه الأشياء قلما نكون على فهمٍ لما نقول.
وقد عَرَض أرسطو لغرابة النظرية العلمية مقارنةً بالنظرة الأكثر سذاجة، فقال، ملمِحًا إلى برهان اللامقايسة بين قطر المربع وضلعه: «ينبغي أن يؤسِّس اكتسابُ المعرفة حالةً ذهنية معاكِسةً للحالة التي بدأنا منها بحثَنا في الأصل … إذ لا بد أن يبدو عَجَبًا لدى أولئك الذين لم يدركوا السبب بَعدُ – أن يكون هناك شيءٌ ما (أي قطر المربع) لا يمكن قياسه، ولا حتى بأصغر وحدة» (Metaphysics 983a11). الشيء الذي لم يَرَه أرسطو، فيما يبدو، هو أن «اكتساب المعرفة» قد يكون عملية لا نهاية لها، وأننا قد نظل في دَهَشٍ «دائم» من جراء تقدم المعرفة.
وليس ثمة مثال أدل على ذلك من قصة تطور نظرية المادة. فقد تقدمنا من «الهيولى» hulé اليونانية، التي نترجمها ﺑ «مادة»، والتي كثيرًا ما تعني حطب الوقود عند هوميروس، إلى ما وصفتُه في قسم ٣ سابقًا بتجاوز المادية لنفسها، بل إن بعض كبار علماء الفيزياء قد أوغل حتى أبعد من هذا في تفكيك فكرة المادة (ولست مستعدًا لمتابعتهم في هذا). وتحت تأثير ماخ، وهو عالم فيزياء لم يعتقد في المادة ولا في الذرات، والذي اقترح نظرية في المعرفة تذكرنا بمثالية باركلي الذاتية، وكذلك تحت تأثير أينشتين — الذي كان ماخِيًّا في صِباه — قدم بعض كبار رواد ميكانيكا الكوانتم تفسيرات مثالية وحتى أنا وَحدية لميكانيكا الكوانتم؛ وبخاصة هيزنبرج وفيجنر. «لقد تَبَخَّر الواقع الموضوعي»، هكذا كتب هيزنبرج (١٩٥٨م). وعلى حد تعبير برتراند رسل (١٩٥٦م، ص١٤٥): «فقد بدأ يظهر أن المادة، شأنها شأن قطة تشيشاير، ما تفتأ تَشِفُّ رويدًا رويدًا حتى لم يبق منا غيرُ ابتسامة، ربما أثارها الضحك من أولئك الذين ما زالوا يظنون أنها موجودة.»٥
ستكون ملاحظاتي في تاريخ الفكر موجزة جدًّا؛ ولعله أمر لا مناص منه حتى لو كان سرد القصة هو مطلبي الرئيسي، ولكنه ليس مطلبي. إنما غرضي الرئيسي هو جعل الموقف الإشكالي الحالي المتعلق بعلاقة العقل والجسم مفهومًا على نحو أفضل، وذلك بتبيان كيف نجم عن محاولات أسبق لحل مشكلات، وليس فقط مشكلة العقل-الجسم. ولا يفوتني أن أنوه بأنه يجب أن يكون مثالًا موضِّحًا لأطروحتي (انظر بخاصة 1972(a) الفصل ٤) القائلة بأن التاريخ ينبغي أن يُكتب على أنه تاريخ مواقف إشكالية.

(٤٤) مشكلة يُلتمَس حلُّها فيما يلي

من أهدافي الرئيسية من الكتابة في التاريخ القديم لمشكلة العقل-الجسم هو أن أبين أنه لا أساس للمذهب القائل بأن هذه المشكلة ما هي إلا جزء من أيديولوجيا حديثة وأنها لم تكن معروفة في الزمن القديم. هذا المذهب فيه تحيز دعاويٌّ. يقال إن الإنسان الذي لم يتم غسل دماغه بعقيدة أو فلسفة ثنائية سوف يتقبل المذهب المادي على نحو طبيعي. ويقال إن الفلسفة القديمة كانت مادية، وهو قول لا يخلو، رغم أنه مضلِّل، من مسحة صدق. ويقال إن المشغوفين منا بالعقل وبمشكلة العقل-الجسم قد تم غسيل دماغهم بواسطة ديكارت وأتباعه.

شيءٌ من هذا القبيل أشيرَ إليه في السِّفر الرائع والقيِّم «مفهوم العقل» لجلبرت رايل (١٩٤٩م)؛ بل وأشير إليه بقوة أكبر في برنامج إذاعي (١٩٥٠م) تحدث فيه رايل عن «أسطورة المسرحَين» (ص٧٧) التي يصفها بأنها a fairly new fangled legend. ويقول أيضًا: «إنما يقع المَلام في المصطلحات العامة التي وضع بها العلماء (يلمح إلى شيرينجتون ولورد أدريان) مشكلاتهم عن العقل والجسم، إنما يقع علينا نحن الفلاسفة بالدرجة الأساس» (ص٧٦). وعلى المرء أن يقرأ هنا بدلًا من «نحن الفلاسفة»: «ديكارت والفلاسفة بعد-الديكارتيين».
مثل هذه الآراء لا تجدها فقط عند فيلسوف بارز (وتلميذ لأفلاطون وأرسطو) مثل رايل، وإنما هي آراء واسعة الانتشار. فهذا وليام ف. ر. هاردي، مؤلف «دراسة في أفلاطون» (١٩٣٦م) و«نظرية أرسطو الأخلاقية» (١٩٦٨م)، يناقش في مقال حديث (١٩٧٦م) في دورية Mind كتابَين وثمانية مقالات عن أرسطو، يقول عنها: «في معظم هذه المقالات (والكتب) فإن ما يقال وما يشار إليه بطرقٍ مختلفة هو أن أرسطو، لحسن الحظ أو لسوئه، لم يكن لديه مفهوم للوعي أو مفهوم للوعي مطابق لمفهومنا على نحو وثيق.» يناقش هاردي باهتمام كبير أفضل المقالات ويَخلُص — ليس بعيدًا تمامًا عن التوقع — إلى أن أرسطو لم يكن ديكارتيًّا. غير أن هاردي يبين بوضوحٍ أنه «إذا كان امتلاك الوعي أو امتلاك عقل هو الذي مَيَّزَ الحيوانات عن النباتات أو ميَّزَ البشر عن بقية الحيوانات، فإذن أرسطو الذي أعطانا المصطلحات [«علم النفس» (سيكولوجيا)، «نفسي»، «سيكوفيزيقي»، «نفسجسمي» (سيكوسوماتي)] التي نستخدمها لنرسم هذا التحديد، لا يمكن أن يقال إنه «أغفل» هذا التحديد. وبتعبير آخر فرغم أن أرسطو ربما لم يكن لديه مصطلح مطابق بدقة لمصطلح «الوعي» عندنا بمعناه الشديد الاتساع والذي لا يخلو من الغموض، فإنه لم يجد صعوبة في الحديث عن شتى ضروب الأحداث الواعية.»

ولم يكن لدى أرسطو أيضًا أي شك في أن الجسم والعقل يتفاعلان، وإن اختلفت نظريته في هذا التفاعل عن التوسع المفصَّل العبقري ولكن غير المتساوق (والمتهافت بالتالي) الذي قدمه ديكارت لمذهب التفاعل.

سأحاول في المخطط التاريخي المختصر الذي يشكِّل هذا الفصل أن أُحاجَّ في مصلحة الآراء التالية:

  • (١)

    الثنائية في صورة الشبح في الآلة (أو بالأحرى، الشبح في الجسم) قديمة بقدر ما يصل أي دليل تاريخي أو أثري، وإن كان من غير المرجح أن الجسم كان يعتبر آلة قبل أصحاب المذهب الذري.

  • (٢)

    جميع المفكرين الذين نعرف عنهم ما يكفي لأن نقول أي شيء محدد عن موقفهم، وصولًا إلى ديكارت (وبما فيهم ديكارت) كانوا تفاعليين ثنائيين.

  • (٣)

    هذه الثنائية محددة جيدًا على الرغم من أن ميولًا معينة متأصلة في لغتنا البشرية (التي يبدو أنها لم تكن في الأصل ملائمة إلا لوصف الأشياء المادية وخواصها) تميل بنا، فيما يبدو، إلى الحديث عن العقول أو النفوس أو الأرواح كما لو كانت نوعًا خاصًّا (أشبه بالغاز) من الجسم.

  • (٤)

    يؤدي اكتشاف العالم الأخلاقي إلى إدراك الطبيعة الخاصة للعقل؛ كما هو الحال عند هوميروس (انظر الإلياذة ٢٤ التي تروي، كذروة للقصيدة كلها، زيارة بريام لأخيل، حيث تلعب الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية دورًا حاسمًا)، وكما هو الحال عند ديمقريطس، وعند سقراط.

  • (٥)

    في فكر الذريين يجد المرءُ المذهب المادي، ومذهب التفاعل، وأيضًا إدراك الطبيعة الأخلاقية الخاصة للعقل؛ ولكنهم لم يتقصوا، فيما أعتقد، نتائج تمييزهم الأخلاقي، هم أنفسهم، بين العقل والمادة.

  • (٦)
    حاول الفيثاغوريون، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، أن يتجاوزوا الطريقة «المادية» materialist في الحديث عن العقل: لقد أدركوا «الصبغة غير المادية للنفس» وحاولوا أن يعبروا عن هذا التصور الجديد. يتناول حديث مهم يَنسبه أفلاطون إلى سقراط في محاورة فيدون (انظر قسم ٤٦ لاحقًا) على نحو صريح التفسير الأخلاقي للفعل البشري بلغة الغايات والقرارات، ويقارن بين هذا وبين تفسير السلوك الإنساني بلغة العلل الفيزيولوجية.
  • (٧)

    لم تظهر بدائل لمذهب التفاعل إلا بعد ديكارت. وقد ظهرت بسبب المصاعب الخاصة لمذهب التفاعل المعقد لديكارت وتضاربه مع نظريته عن العِلِّيَّة في الفيزياء.

    هذه النقاط السبع ترسم وجهة نظر مختلفة جدًّا عن وجهة النظر السائدة جدًّا، فيما يبدو، في الوقت الحالي. إلى هذه النقاط السبع سأضيف نقطةً ثامنة.

  • (٨)
    نحن نعلم أن — ولكن لا نعلم «كيف» — يتفاعل العقل والجسم؛ على أن هذا ليس عجيبًا ما دمنا لا نعرف، في واقع الأمر، على وجه التحديد كيف تتفاعل الأشياء المادية. ولا نحن نعرف كيف تتفاعل الأحداث العقلية ما لم نعتقد في نظرية في الأحداث العقلية وتفاعلها هي زائفة بالتأكيد، وهي نظرية الترابطية associationism. نظرية الترابطية هي نظرية تعامل الأحداث والعمليات العقلية معاملة الأشياء (الأفكار، الصور)، وتعزو تفاعلها إلى شيء ما أشبه بقوة جاذبة. ومن ثَم فالترابطية ربما لا تعدو أن تكون واحدة من تلك الاستعارات المادية التي نستخدمها بصفة شبه دائمة عندما نحاول الحديث عن أحداثٍ عقلية.

(٤٥) الكشف قبل التاريخي للنفس وللعالم ٢

يختلف تاريخ نظريات النفس أو العقل اختلافًا كبيرًا عن تاريخ نظريات المادة. وإن المرء ليجد انطباعًا بأن أعظم الكشوف تمت في الأزمنة قبل التاريخية، وبواسطة المدارس الفيثاغورية ومدرسة أبقراط. وفي أزمنة أحدث جرى نشاط نقدي كبير، ولكنه لم يُفْضِ إلى أفكارٍ ثورية كبيرة.

إن أعظم إنجازاتٍ للبشرية إنما يقع في الماضي. تشمل هذه الإنجازات ابتكار اللغة واستخدام أدوات صناعية لصنع منتَجاتٍ أخرى، واستعمال النار كأداة، واكتشاف الوعي بالنفس وبالنفوس الأخرى، ومعرفة أننا جميعًا يجب أن نموت.

ويبدو أن الكشفَين الأخيرَين من هذه الكشوف يعتمد على ابتكار اللغة، وربما كذلك الكشوف الأخرى. تبدو اللغة بالتأكيد هي أقدم هذه الإنجازات، وهي الإنجاز الأعمق تجذرًا في تركيبنا الجيني (وإن تَطَلَّب الأمر بالطبع اكتساب لغة محددة من الموروث).

ولا بد أن اكتشاف الموت، والإحساس بالفقدان، وبالثكل، هو أيضًا قديم جدًّا. ومن عادات الدفن القديمة التي تعود إلى إنسان نياندرتال، ينساق المرء إلى الحدس بأن هؤلاء الناس لم يكونوا على وعي بالموت فحسب، بل كانوا أيضًا يعتقدون في البقاء. فقد كانوا يدفنون مع موتاهم عطايا، أغلب الظن أنها عطايا كانوا يرونها مفيدة في الرحلة إلى عالم آخر أو إلى حياة أخرى. وفضلًا عن ذلك يروي ر. س. سوليكي (١٩٧١م) أنه وجد في كهف شانيدار في شمال العراق مقبرة لإنسان نياندرتال (ربما لعديد منهم) يظهر أنه دُفِنَ على فراشٍ من أغصان مزينٍ بالأزهار.٦ ويروي أيضًا أنه وجد هيكلين عظميين لإنسانين عجوزين، أحدهما «معوَّق جدًّا»، والآخر هو «حالة تأهيل» (سوليكي ١٩٧١م، ص٢٦٨). ومن الظاهر أن عائلتهما أو جماعتهما كانت تحتملهما بل كانت أيضًا تساعدهما. ويبدو أن الفكرة الإنسانية في مساعدة الضعيف قديمة جدًّا، وأن علينا أن نعيد النظر في أفكارنا عن بدائية إنسان نياندرتال المفترض أنه عاش في الفترة من ٦٠٠٠٠–٣٥٠٠٠ سنة مضت.

يبدو أن الشواهد الكثيرة تعضد الحدس بأن فكرة البقاء بعد الموت تستلزم صنفًا ما من ثنائية الجسم والعقل. ولا شك أن الثنائية لم تكن ديكارتية؛ فكل شيء يشير إلى فكرة أن الروح كانت تُعتبَر ممتدة، طيفًا أو شبحًا، ظلًا ذا شكل فيزيائي مماثل للجسم. هذه على كل حال هي الفكرة التي نجدها في أقدم مصادرنا الأدبية، وبخاصة عند هوميروس، وفي القصص البطولي القديم، وفي حكايات الأشباح (وأيضًا عند شكسبير).

إنها بمعنى ما شكلٌ من المادية، وبخاصة إذا قبلنا الفكرة الديكارتية القائلة بأن المادة تتصف بالامتداد (الثلاثي الأبعاد). ورغم ذلك فإن صبغتها الثنائية واضحة: فالروح الشبيهة بالشبح مختلفة عن الجسم، وهي أقل مادية من الجسم، وهي أرق، وهي إلى الهواء أشبه، كالبخار، كالنفَس.

وعند هوميروس نجد كثرةً من الألفاظ للعقل أو للروح، ولوظائفه، أو كما يسميها ر. ب. أونيانز (١٩٥٤م) «عمليات الوعي»: الشعور، الإدراك، التفكير، الازدراء، الغضب … وهكذا.

وسأشير هنا إلى ثلاثة فقط من هذه الألفاظ٧ (استخدامها مماثلٌ عند هيزيود).
أهمها جميعًا عند هوميروس هي لفظة ثايموس thymos، قِوام الحياة، الروح النفَس البخاري، المادة النشطة الفعالة الشاعرة المفكرة المرتبطة بالدم.٨ وهي تتركنا حين يُغمَى علينا أو مع نفَسنا الأخير عندما نموت. وفيما بعد أصبح هذا المصطلح في الأغلب مقيدَ المعنى، لِيَعنِي الشجاعة، الطاقة، الحيوية، القوة. وفي المقابل نجد أن لفظة سايكي psyche عند هوميروس (رغم أنها أحيانًا ما تستعمل كمرادف لثايموس) قلما تكون مبدأ الحياة كما صارت عند كتَّاب لاحقين (بارمنيدس، أمبدوقليس، ديمقريطس، أفلاطون، أرسطو). وإنما هي عند هوميروس البقية التعِسة التي تبقى عندما نموت، الظل البائس غير المفكر، الشبح الذي يبقى بعد موت الجسد: إنها «غير ذات صلة بالوعي العادي»؛ إنها ذلك الذي «يدوم، من غير وعي عادي (أو حياة عادية)، في منزل هاديس، … ذلك الشبيه المرئي ولكن غير الملموس لما كان يومًا جسدًا حيًّا.»٩ هكذا عندما زار أوديسيوس، في الكتاب الحادي عشر من الأوديسة، العالم السفلي، منزل هاديس المظلم والموحِش، وجد أن أشباح الموتى لا حياة فيها تقريبًا إلى أن غذاها بالدم، المادة التي لها القدرة على استعادة شبه حياة إلى الشبح، السايكي. والمشهد هو مشهد حزن أعظم، وحسرة يائسة على الحال التي يبقى فيها الموتى. إذن عند هوميروس ليس نَفسًا واعيةً بالتمام إلا الجسدُ الحي.
واللفظة الثالثة «نوس» noos (أو nous، في الفقرة القاطعة الأهمية من الأوديسة ٢٤٠، ١٠ التي نَعرِض لها الآن) تترجَم عادةً ترجمةً جيدة تمامًا إلى الإنجليزية ﺑ mind (العقل) أو understanding (الفهم). وهي عادة عقل ذو قصد أو غرض (بالألمانية Absicht؛ انظر الأوديسة ٤٧٤، ٢٤). ويحدده أونيانز على نحو موفق ﻛ «وعي ذي غرض» (١٩٥٤م، ص٨٣). وهو يشمل، كقاعدة عامة، فهمًا لموقف، وهو يعني أحيانًا عند هوميروس الذكاء الواعي، أو حتى الوعي الذكي بالنفس.

وبالنظر إلى واقعة أنه قد تم في بعض الأحيان إنكار، أو ما يتضمن إنكارًا، لأن تكون فكرة (ثنائية) للعقل قائمة قبل ديكارت، الأمر الذي من شأنه أن يجعل عَزوِي هذه الفكرة لهوميروس منافية للتاريخ بشدة، أود أن أشير إلى فقرة (الأوديسة ٢٤٠، ١٠) تبدو لي حاسمة تمامًا في إثبات أن مشكلة العقل-الجسم تعود إلى ما قبل التاريخ، وإلى التاريخ المبكر.

إنها قصة تحولٍ سحري للجسم، مَسخ metamorphosis، يترك العقل كما هو، وهو من أقدم موضوعات حكايا الأشباح والفلكلور وأكثرها شيوعًا. في هذه الوثيقة الأدبية، أقدم الوثائق الأدبية الباقية تقريبًا في الحضارة الغربية، يُذكَر صراحةً أن التحول السحري للجسم يترك الهوية الذاتية للعقل، للوعي، سليمةً لم تُمَس.
تصف الفقرة، في الكتاب العاشر من الأوديسة، كيف سَحَرَت كِيركِي (الساحرة الشريرة) بعضَ رفاق أوديسيوس بعصاها: «فصار لهم رأس، وصوت، وشعر، وبدن (ديماس)١٠ خنزير، بينما بقي عقلُهم (النوس) كما كان من قبل، لم يتغير. لذا فقد حُبِسوا هناك في الحظيرة، يبكون …» من الواضح أنهم فهموا موقفَهم المرعب، وبقوا واعين بهويتهم الذاتية.١١

أعتقد أن هذا واضح بما فيه الكفاية، وأن لدينا كل الحق في أن نؤوِّل التحولات السحرية الكثيرة للعصر الكلاسيكي القديم، ولِحكايات الأشباح، وفقًا لذلك. وهكذا يتبيَّن أنَّ النفس الواعية ليست صنيعة الأيديولوجيا الديكارتية؛ إنها الخبرة العمومية للجنس البشري، مهما يَقُل مناهضو ديكارت المعاصرون.

وما إن ندرك هذا حتى ندرك أيضًا أن ثنائية العقل-الجسم واضحة جلية في كل المواضع عند هوميروس،١٢ وبالطبع عند مفكرين يونانيين لاحقين. هذه الثنائية هي صِبغة الميل القديم جدًّا إلى التفكير في حدود أضدادٍ قطبية مثل نقيضة «فانٍ-خالد».١٣ يقول أجممنون عن كريسيس Chryseis (الإلياذة ١، ١١٣–١١٥): «أتدري أني أفضلها على كليتمنسترا، زوجتي الشرعية، فهي لا تقل عنها مثقال ذرة، لا في الجسم أو سَمْتِه، ولا في عقلها١٤ أو مآثره.» إن تضاد، أو ثنائية، الجسم والعقل طابعٌ جِد مميز لهوميروس؛ وحيث إن العقل يدرَك عادةً كشيء مادي، فليس ثمة أي حائل يحول دون المذهب الواضح في تفاعل العقل-الجسم.
وبالنسبة للثنائية فيجب أن يكون واضحًا أنه ينبغي عدم المبالغة في تضاد، أو قطبية، الجسم والعقل: فمن الوارد تمامًا أن يأتي لفظَا «عقلي» و«جسمي» كمرادفَين للفظ «شخصي»، رغم أنهما قلما يرادف أحدُهما الآخر. مثال ذلك قد نجده عند سوفوكليس، حين يقول أوديب: «إن عقلي (psyche) لَيَحمل ثقلَ أحزاني وأحزانِها.» وفي موضعٍ آخر: «إنه (كريون) كان يتآمر بمكرٍ ضد جسدي (soma).» في كلتا الحالتين يمكن لكلمة my person (شخصي) (أو ببساطة I) الإنجليزية أن تقوم نفسَ المَقام، أو حتى أفضل؛ بينما لا يمكننا، لا في اليونانية ولا في الإنجليزية، أن نُحِل أحد التعبيرين (soma)، في أيٍّ من الحالتين، محل الآخر (psyche).١٥ يسري ذلك١٦ على هومر وعلى سوفوكليس وعلينا.
وبالنسبة لما كنتُ أقوله للتو عن مذهب التفاعل — تفاعل روحٍ مادية مع جسمٍ مادي — لا أريد أن يُفهَم من ذلك أن التفاعل كان متصوَّرًا بطريقة آلية؛ فالتفكير الآلي المتسق لم يتبلور إلا لاحقًا جدًّا، مع الذريين، ليوسيبوس وديمقريطس، رغم وجود الكثير بالطبع من المستخدمين المهرة للميكانيكا قبل ذلك. كان هناك الكثير مما لم يتم فهمه، لا في حدود ميكانيكية ولا في غيرها، في الأزمنة الهومرية ولأحقابٍ طويلة بعدها. وكان يجري تأويل ذلك بطريقة «إحيائية» animistic خرقاء، من مثل صاعقة زيوس. كانت العلة مشكلة، وكانت العلة الإحيائية شيئًا يتاخم الإلهي. وكان هناك فعلٌ إلهي على الأجساد والعقول معًا. وكانت الفتنة، مثل فتنة هيلين، والغضب الأعمى، والعناد، مثل عناد أجممنون، يُعزَى إلى الآلهة، كان «حالة غير سوية تتطلب تفسيرًا فوق السواء»، على حد تعبير إ. ر. دودز (١٩٥١م، ص٩).
هناك وفرة من الأدلة الهامة التي تؤيد الفرضية القائلة بأن الاعتقادات الثنائية والتفاعلية بخصوص الجسم والعقل قديمة جدًّا؛ قبل تاريخية وبطبيعة الحال تاريخية. وبمعزل عن الفلكلور وحكايات الأشباح فإن هذه الفرضية يؤيدها كل ما نعرفه عن الدين البدائي، والأسطورة، والاعتقادات السحرية. هناك مثلًا الشامانية بمذهبها المميز القائل بأن روح الشامان يمكن أن تترك الجسم وتذهب في رحلة؛ وفي حالة الإسكيمو يمكن أن تذهب حتى إلى القمر؛ في الوقت الذي يُترَك فيه الجسم في حالة نومٍ عميق أو غيبوبة ويبقى حيًّا بدون طعام. «وفي هذه الحال لا يقال، كما في حالة البيثيا (كاهنة دلفي) أو في حالة الوسيط الروحي في زمننا الحديث، إنه تَلَبَّسَته روحٌ غريبة، بل يقال إن روحه تغادر الجسم …» (دودز ١٩٥١م، ص١٤٠). يقدم دودز قائمةً طويلة من الشامانات الإغريق قبل التارخيين والتاريخيين؛١٧ لم يبقَ من قبل التاريخيين إلا أساطير، ولكنها دليل كافٍ على الثنائية. وربما تندرج قصة النائمين السبع من إفيسوس في هذا التقليد، وربما أيضًا نظرية الميتامورفوسِس (المَسخ/التحول) أو التناسخ reincarnation (يسلك دودز كلًا من فيثاغوراس وأمبدوقليس في عِداد الشامانات التاريخيين).
ومن الشائق من وجهة نظري ذلك التمييز، الذي يُعزَى إلى الأنثربولوجي إ. إ. إيفانز-بريتشارد (١٩٣٧م)، بين السحرة (الذكور والإناث) والمشعوذين. لقد ساقه تحليل أفكار أزاند إلى أن يميز السحرة من المشعوذين وفقًا لما إذا كان هناك قصد واعٍ يلعب دورًا. يذهب زاند إلى أن السحرة قد ورثوا قوًى معينة فطرية خارقة للطبيعة قادرة على إيذاء الآخرين، إلا أنهم غير واعين على الإطلاق بإمكاناتهم الخطِرة (قد تكون العين الشريرة evil eye مثالًا لهذه الإمكانات). أما المشعوذون، في المقابل، فقد اكتسبوا طرائق لتناول المواد والتعاويذ بحيث يمكنهم إلحاق الأذى بالآخرين عن نية وقصد. ينطبق هذا التمييز، فيما يظهر، على العديد من، وإن لم يكن جميع، الثقافات الإفريقية البدائية.١٨ وهذا الانطباق يبين وجود تمييز بدائي شائع بين الأفعال القصدية الواعية وبين التأثيرات غير الواعية وغير المقصودة.
الأساطير والمعتقدات الدينية هي محاولات لتفسير العالم الذي نعيش فيه لأنفسنا نظريًّا، بما في ذلك العالم الاجتماعي بطبيعة الحال، وكيف يؤثر فينا هذا العالمُ وفي طرائق معيشتنا. ومن الواضح أن التمييز القديم بين الروح والجسم هو مثال من أمثلة هذا التفسير النظري. ولكن ما يفسره هو خبرة الوعي، خبرة الذكاء، والإرادة، والتخطيط، وتنفيذ الخطط، خبرة استخدامنا لأيدينا وأقدامنا كأدوات، واستخدام الأدوات الصناعية المادية، وخبرة تأثرنا بها. هذه الخبرات ليست أيديولوجيات فلسفية. ومذهب وجود روح جوهرية (أو حتى مادية) الذي قد تُفضِي بنا إليه يجوز جدًّا أن يكون خرافة. وأنا أحدس حقًّا بأن نظرية الجوهر بحد ذاتها هي خرافة. غير أنها إذا كانت خرافة فإن لنا أن نفهمها على أنها نتاج لعملية فهم الواقع وفاعلية الوعي وفاعلية إرادتنا، وإن فهم واقعيتها ليفضي بنا أولًا إلى أن نتصور الروح كشيء مادي، كأرهف مادة، وأن نتصورها لاحقًا ﻛ «جوهر» substance غير مادي.
ولعلي ألخص في النهاية الاكتشافات الكبرى في هذا المجال التي يظهر أنها من عمل الإنسان البدائي وإنسان ما قبل التاريخ (وبعضها من عمل إنسان نياندرتال الذي يصنَّف عامةً كإنسان سابق على جنسنا نحن ومتميز عنه، ويُحدَس الآن بأنه قد مَزَجَ دمَه بدم «الإنسان العاقل» homo sapeins).
ويُكتشَف الموتُ وحتميتُه، وتُقْبَل النظرية القائلة بأن حالات النوم وفقدان الوعي مرتبطة بالموت وأن الوعي أو الروح أو العقل (thymos) هو ما «يفارقنا» عند الموت. وينشأ مذهب واقعية، ومن ثَم مادية وجوهرية، الوعي — الروح (أو العقل) — ثم مذهب تَعَقُّد الروح أو العقل: وتتميز الرغبة، الخوف، الغضب، الفكر، العقل أو التبصر (النوس)؛ ويُتعرَّف على خبرة الحلم وحالات الإلهام الإلهي والمَس وغيرها من الحالات غير العادية، وكذلك الحالات العقلية اللاإرادية واللاشعورية (مثل حالات «السحرة»). وتُعَد الروح هي «محرِّك» الجسم الحي، أو مبدأ الحياة. وكذلك تُفهم مشكلة عدم مسئوليتنا عن الأفعال غير القصدية أو الأفعال التي تُرتكَب في حالات غير سوية (من الاهتياج). وتُطرَح مشكلة موضع الروح في الجسم، ويُجابُ عنها عادةً بنظرية أنها تتخلل الجسم غير أنها تتمركز في القلب أو الرئتين (انظر دودز ١٩٥١م، الفصل الأول ص٣، عن دفاع أجممنون (الإلياذة ١٩، ٨٦ وما بعدها)، وقارن سوفوكليس، أوديب في كولونوس ٩٦٠ وما بعدها).
بعض هذه المذاهب هي بغير شك تشييئات (أقنمة) hypostatizations، وقد تم تعديلها، أو قد ينبغي أن يتم، بواسطة النقد؛ والبعض الآخر مغلوط. غير أنها أقرب إلى الآراء الحديثة والمشكلات الحديثة من النظريات قبل الأيونية وحتى النظريات الأيونية في المادة،١٩ وإن كان هذا في الحقيقة قد يعود إلى الطابع البدائي لآرائنا الحديثة عن الوعي.

(٤٦) مشكلة العقل-الجسم في الفلسفة اليونانية

يقال أحيانًا إن الإغريق كانوا على دراية بمشكلة الروح-الجسم، ولكن ليس بمشكلة العقل-الجسم. وهذا القول يبدو لي إما مغلوطًا وإما تلاعبًا بالألفاظ. في الفلسفة اليونانية كانت الروح تلعب دورًا شبيهًا جدًّا بدور العقل في الفلسفة بعد-الديكارتية. كانت الروح كيانًا، جوهرًا، يجمع الخبرة الواعية للنفس (قد يقال إنها تشييء (أَقْنَمة) hypostatization، لا مفر منه وربما له ما يبرره). وفضلًا عن ذلك فنحن نجد في زمن مبكر كزمن فيثاغوريةِ القرن الخامس مذهبًا في لا جسمية الروح؛ ومفاهيم عديدة (مثل اﻟ nous واﻟ psyche) عند عديد من المفكرين تنطبق بدقة شديدة على المفهوم الحديث للعقل (تذكَّر أيضًا أن المفهوم الإنجليزي mind كثيرًا ما تتعيَّن ترجمته إلى الألمانية ﻛ «seele» التي هي أيضًا ترجمة soul (الروح)؛ الأمر الذي يكشف أن mind (العقل) وsoul (الروح) ليسا بتلك الدرجة من الاختلاف التي تشير إليها الدعوى الواردة في مستهل هذا القسم). ورغم أن استخدام ألفاظ معينة كثيرًا ما يكون مشيرًا إلى النظريات المعتنَقة، فإن الأمر ليس كذلك على الدوام؛ فالنظريات الوثيقة الشبه أو حتى المتطابقة تصاغ أحيانًا في مصطلحاتٍ جِد مختلفة. ومن الحق أن بعض التغيرات الرئيسية بعد هوميروس بشأن العقل والجسم هي تغيرات مصطلحات، ولا تجري في توازٍ مع تغيرات في النظرية.٢٠

فيما يلي سأرسم مخططًا تقريبيًّا مختصرًا لتاريخ:

  • (١)

    الروح المادية من أنكسيمينيس إلى ديمقريطس وأبيقور (شاملًا مسألة موضع العقل).

  • (٢)

    نزع الصبغة المادية عن العقل وإضفاء الصبغة الروحية عليه، من الفيثاغوريين وأنكسوفان إلى أفلاطون وأرسطو.

  • (٣)

    التصور الأخلاقي للروح أو العقل، من فيثاغوراس إلى ديمقريطس وسقراط وأفلاطون.

I

كانت الروح المادية للجسم هي نفَسٌ بخاري (ليس من الواضح تمامًا كيف كانت هذه الروح-النفَس ترتبط بالذكاء أو الفهم أو العقل). وفي التراث الفلسفي الأيوني من أنكسيمينيس نُزُلًا إلى ديوجينيس الأبولوني بقيت على ما هي عليه تمامًا تقريبًا؛ فالروح تتكون من هواء (يقول لنا أرسطو إن «القصائد المعروفة بالأورفية تقول إن الروح، المولودة بواسطة الرياح، تدخل من الكل إلى داخل الحيوانات عندما يتنفسون).٢١
وكما يوضح جوثري (١٩٦٢م، ص٣٥٥) فإن psyche كانت تعني لمفكر القرن الخامس ق.م. «ليس فقط a soul بل soul، أي أن العالم متشرب بنوعٍ من الخامة الروحية يُفَضَّل أن يشار إليها بحذف أداة التنكير.» يصدق هذا بالتأكيد على المفكرين الماديين لهذا الزمن؛ فقد اعتبروا الروح هواءً (والروح كجزء من الهواء) لأن الهواء هو الأرهف والأخف من الأشكال المعروفة للمادة.
وكما يعبر أنكساجوراس، الذي ربما لم يعد يعتقد في عقلٍ مادي، (DK 59 B12) فإن «العقل (النوس) … هو أكثر الأشياء تخلخلًا وأكثرها نقاءً؛ إن لديه كل المعرفة المتصلة بكل شيء، ولديه أكبر نفوذ. وكل ما هو ذو حياة (psyche)، الأكبر (الكائنات العضوية) والأصغر، كل أولئك إنما يحكمه العقل». وسواء أكان أنكساجوراس يعتقد في عقل مادي أم لا فإنه بالتأكيد كان يميز تمييزًا حادًّا بين العقل وبين جميع الجواهر (المادية) الموجودة الأخرى. العقل عند أنكساجوراس هو مبدأ الحركة والنظام، ومن ثَم مبدأ الحياة.
وحتى قبل أنكساجوراس كان هناك تأويل أكثر إثارة، وإن كان بَعدُ ماديًّا، لمذهب الروح — الخامة الروحية — قدمه هيرقليطس، المفكر الذي كان ربما أبعد الماديين جميعًا عن المادية الميكانيكية، لأنه فَسَّرَ الجواهر المادية جميعًا وبخاصة الروح ﻛ «عمليات مادية» material processes؛ فالروح نار. كان القول بأننا لهب، وأن نفوسنا هي عمليات، فكرة مدهشة وثورية. كانت هذه الفكرة جزءًا من كوزمولوجيا هيرقليطس؛ فجميع الأشياء المادية هي في تدفقٍ دائب، هي جميعًا عمليات، شاملةً العالم كله. وكل شيء يحكمه القانون (اللوجوس). «لن يتسنَّى لك أن تكتشف حدود الروح، حتى لو ترحلتَ في كل طريق: ما أعمقَه قانونها (اللوجوس)» (DK B45). والروح، شأنها شأن النار، يقتلها الماء:» إنه موتٌ للأرواح أن تصبح ماءً (DK B36). والنار بالنسبة لهرقليطس هي الأفضل والأقوى والأنقى (والأرهف أيضًا بدون شك) بين العمليات المادية.

كانت جميع هذه النظريات المادية ثنائية بقدر ما أَوْلَت الروحَ مكانةً خاصة جدًّا واستثنائية داخل العالم.

كانت مدارسُ المفكرين الطبيين بالتأكيد أيضًا ماديةً وثنائية بالمعنى الموصوف هنا. ويبدو أن ألكميون من كروتون Alcmaeon of Croton، الذي يُعَد فيثاغوريًّا في العادة، كان أول مفكر إغريقي يحدد مكان الإحساس والفكر (اللذين كان يميز بينهما، فيما يبدو، تمييزًا حادًّا) في الدماغ. يروي ثيوفراسطس أنه «تحدث عن مسارات (poroi) تؤدي من أعضاء الحس إلى الدماغ» (Guthrie, 1962, p. 349; DK A5, p. 212, line 8)؛ وقد خلق بذلك تقليدًا تمسكت به مدرسة أبقراط، وأفلاطون؛ ولكن ليس أرسطو، الذي تمسك بتعليمٍ أقدم فاعتبر القلب هو الجهاز الحسي العام، وبالتالي هو مركز الوعي.
وتعد رسالة أبقراط الطبية «عن المرض المقدس» On the Sacred Disease هي الأكثر إثارة للاهتمام في هذا الشأن؛ فهي لا تقرر فحسب، بتوكيدٍ كبير، أن الدماغ «يُخبِر الأعضاءَ كيف تعمل»، بل تقرر أيضًا أن الدماغ هو «الرسول إلى الوعي (sunesis) وينبئه بما يحدث». وبالطبع يمكن لكلمة sunesis المترجمة هنا إلى «الوعي» أن تترجَم أيضًا إلى «الذكاء» أو «الحكمة» أو «الفهم». غير أن المعنى واضح، وواضحة كذلك حقيقة أن مؤلف الرسالة قد ناقش بإسهابٍ ما يجب أن نسميه مشكلة العقل-الجسم، وتفاعل العقل-الجسم (انظر بخاصة فصل XIX وXX). وهو يفسر تأثير الدماغ بواقعة أن «الهواء هو الذي يمنحه ذكاء» (فصل XIX)؛ وبذلك يفسَّر الهواء على أنه روح، كما هو الحال مع الفلاسفة الأيونيين. وتفسير ذلك أنه «عندما يأخذ إنسانٌ نفَسًا إلى داخله، فإن الهواء يصل أولًا إلى الدماغ» (قد يكون جديرًا بالذكر أن أرسطو، الذي كان متأثرًا بشدة بالتراث الطبي إلا أنه تخلى عن الارتباط بين الهواء والروح، قد أبقَى على الارتباط بين الهواء والدماغ، واعتبر الدماغ آلية للتبريد بواسطة الهواء، كنوع من الرادياتور المبرِّد بالهواء).

كان الأعظم والأكثر اتساقًا بين المفكرين الماديين هو ديمقريطس. فَسَّرَ ديمقريطس جميع العمليات الطبيعية والسيكولوجية تفسيرًا ميكانيكيًّا، بواسطة حركة الذرات واصطدامها، وبواسطة اتحادها أو انفصالها، تركيبها أو تفككها.

في مقال بارع بعنوان «الأخلاق والفيزياء عند ديمقريطس» الذي صدر أول مرة في ١٩٤٥-١٩٤٦م يناقش جريجوري فلاستوس (١٩٧٥م) بتفصيل كبير مشكلة العقل-الجسم في فلسفة ديمقريطس. وهو يبيِّن أن ديمقريطس، وهو نفسه كاتب رسائل طبية، كان يُحاجُّ ضد الميل المهني إلى جعل «الجسم هو المفتاح إلى صلاح كل من الجسم والروح»؛ ويبيِّن أن هناك شذرة مشهورة لديمقريطس (DK B 187) يجب أن تفسَّر بهذا المعنى. تقول الشذرة: «من الملائم للبشر أن يصنعوا «لوجوسًا» (= قانونًا، أو نظرية) عن الروح أكثر مما هو عن الجسد. لأن كمال الروح يُصلِح عيوبَ الجسد، ولكن القوة الجسدية بدون تعقل لا تُصلِح الروح.»

يبيِّن فلاستوس أن «البديهية الأولى لهذا اللوجوس الخاص بالروح» هو مبدأ المسئولية؛ فالروح، وليس الجسد، هي الفاعل المسئول. وهذا يترتب على مبدأ الفيزياء القائل بأن «الروح تحرك الجسد».

في الفيزياء الذرية لديمقريطس تتكون الروح من أصغر الذرات. وهي (بحسب قول أرسطو في كتاب «في النفس» De anima 403 b31) نفس الذرات التي للنار (من الواضح أن ديمقريطس كان متأثرًا بهيرقليطس). هي مستديرة و«قادرة تمامًا على الانسياب خلال أي شيء وعلى تحريك الأشياء الأخرى بحركتها هي.»
تتوزع ذرات الروح الصغيرة في كل مكان من الجسم بحيث تتعاقب ذرات الروح وذرات الجسم (انظر لوكريتيوس: «في طبيعة الأشياء» De rerum natura III, 371–73). وبتحديدٍ أدق، فإن «للروح جزئين، الأول وهو الجزء العاقل (logicos) موقعه في القلب، بينما يتفرق الجزء غير العاقل في الجسم كله» (DK A105). وهذه بلا شك محاولة لحل جوانب معينة من مشكلة العقل-الجسم.
فمثلما كان سقراط يُعَلِّم: «اعتنوا بأرواحكم» (قارِن محاورة الدفاع)، كذلك كان المادي الميكانيكي ديمقريطس: «لا ينال البشر السعادة من أجسامهم أو من المال، بل من الفعل القويم والتفكير الرحيب» (DK B40). ويقول في شذرة أخرى: «من اختار خيرات الروح فقد اختار ما هو أكثر ألوهةً، ومن اختار خيرات الجسد فقد اختار ما هو أكثر بشريةً.» (DK B37; cp. Vlastos, 1975, pp. 382 f). ومِثلَ سقراط (معاصرِه) يُعَلِّمُ ديمقريطس: «مَن يرتكب ظلمًا هو أكثر تعاسةً ممن يقع عليه الظلم.»
بوسع المرء أن يصف ديمقريطس بأنه لم يكن ماديًّا فحسب بل كان ذريًّا واحديًّا monistic atomist. غير أنه بفضل تعليمه الأخلاقي كان أيضًا نوعًا من الثنائيين. فرغم أنه يلعب دورًا كبيرًا في تاريخ النظرية المادية للروح، فإنه يلعب أيضًا دورًا مهمًّا في تاريخ التصور الأخلاقي للروح واختلافها عن البدن، وهو ما سنتناوله لاحقًا تحت III. وسأكتفي هنا بأن أذكر باختصار نظرية ديمقريطس، وأبيقور، ولوكريتوس، في الأحلام (في طبيعة الأشياء De rerum natura IV)، التي ندرك منها أن النظرية المادية للروح لم تهمل الخبرة الواعية؛ فالأحلام ليست معطاة بواسطة الآلهة، ولكنها تتألف من ذكريات إدراكاتنا فقط.

II

رأينا للتو أن الفكرة الهومرية عن الروح بوصفها نَفَسًا؛ هواءً، أو نارًا؛ جوهرًا جسميًّا شديد الرهافة، بَقِيَت لزمنٍ طويل. لذا لم يكن أرسطو مصيبًا تمامًا عندما قال عن سابقيه (De anima 405b11): «كلهم تقريبًا يميزون الروح بثلاثٍ من صفاتها: (القدرة على) الحركة، والإحساس، واللاجسمية». واللفظة الأخيرة ينبغي أن تخفَّف إلى «لاجسمية نسبية» لكي تَصِح؛ فقد كان بعض سابقيه يرى أن الروح هي جسم لطيف.
ومع ذلك فإن زَلة أرسطو يمكن اغتفارُها. فحتى الماديون، فيما أرى، الذين دأبوا على مقارنة الروح بالجسم كانوا ثنائيين. وأرى أنهم جميعًا رأوا في الروح أو في العقل «ماهية» essence الجسم.

من الواضح أن هناك فكرتين عن الماهية؛ ماهية جسمية وأخرى لا جسمية. كان الماديون، نُزُلًا إلى ديمقريطس ووراءه، يعتبرون الروح أو روح الإنسان أشبه بروح النبيذ، أو روح النبيذ أشبه بروح الإنسان. هكذا نخلص إلى جوهر (مادي) للروح يشبه الهواء. ولكن كانت هناك فكرة أخرى. أظن أنها تعود إلى فيثاغوراس أو إلى فيلولاوس الفيثاغوري، تقول بأن ماهية الشيء هي شيء ما مجرد (كالعدد أو نسبة الأعداد).

وربما على نحو مؤقت، أو داخل بالفعل في مذهب اللاجسمية، نجد واحدية زينوفان. يؤكد زينوفان، الذي جلب التراث الأيوني إلى إيطاليا، أن العقل أو فكر الله هو الماهية الإلهية، وإن كان إلهه لا يُتصوَّر في شكل الإنسان (DK B23–26):
إلهٌ واحد، مفرد بين الآلهة ومفرد بين البشر، هو الأعظم
لا يشبه الفانين لا في جسدٍ ولا في عقل
مقيم في مكانٍ واحدٍ على الدوام؛ لا يتحرك على الإطلاق
ولا هو بلائقٍ له التطواف ها هنا وهنا
يدير العالمَ دون لُغوبٍ بمجرد الفكر أو القصد
كلُّه بصرٌ وكله علم وكله سمع.
العقل هنا متماهٍ مع الإدراك،٢٢ ومع الفكر، ومع قوة الإرادة، ومع قوة الفعل.
في النظرية الفيثاغورية عن الماهيات الخفية اللامادية، تأخذ الأعداد، والعلاقات بين الأعداد ﻛ «النِّسَب» ratios أو «التآلفات» harmonies، تأخذ مكان «المبادئ» الجوهرية في الفلسفة الأيونية: الماء عند طاليس، اللامحدود عند أنكسيماندر، هواء أنكسيمينيس، نار هيرقليطس. هذا تغيُّر لافتٌ جدًّا، وأفضل تفسير له هو الافتراض القائل بأن فيثاغوراس نفسه هو الذي اكتشف النسب العددية المبطِّنة للمسافات الموسيقية المتوافقة concordant:٢٣ على المِصوات (المونوكورد)، وهو آلة موسيقية ذات وتر واحد، يمكن تعديل نغمه بواسطة جسرٍ متحرك، يمكن للمرء أن يبيِّن أن الأوكتاف يناظِر النسبة ١ :٢ من طول الوتر، والخامس يناظر النسبة ٢ :٣، والرابع يناظر النسبة ٣ :٤.
بذلك تكون الماهية الخفية للتوافقات اللحنية والهارمونية هي النسبة القائمة بين أعدادٍ بسيطة معينة ١ :٢ :٣ :٤ — وإن كان من الواضح أن التوافق أو الهارموني المدرَك ليس أمرًا كميًّا بل كيفيًّا. كان هذا اكتشافًا مدهشًا. ولعله كان شيئًا أبلغ تأثيرًا حتى من هذا عندما اكتشف فيثاغوراس أن الزاوية القائمة (من الواضح أنها شيء كيفي أيضًا) ترتبط بالنِّسب ٣ :٤ :٥؛ فأي مثلث هذه نِسَبُ أضلاعه فهو مثلث قائم الزاوية.٢٤ إذا كان فيثاغوراس نفسه هو صاحب هذا الاكتشاف، مثلما يبدو، فمن المرجح أن تَصْدُق الروايةُ القائلة بأن «فيثاغوراس أوقف معظمَ وقتِه على الجوانب الحسابية للهندسة» (Diogenes Laertius VIII, 11 f).
هذه الروايات تفسر خلفية النظرية الفيثاغورية القائلة بأن الماهيات الخبيئة لكل الأشياء مجردة. إنها أعداد، ونِسَب عددية لأعداد، و«تآلفات» harmonies. وبحسب تعبير جوثري (١٩٦٢م، ص٣٠١) فإنه «بالنسبة للفيثاغوريين فإن» كل شيء «هو تجسيد لعدد؛ بما في ذلك ما يجب أن نسميه تجريدات كالعدل، المزج، الفرصة …». ولعله من المثير أن يكتب جوثري هنا «تجسيد» embodiment. فالحق أننا ما نزال نشعر أن علاقة الماهية بالشيء الذي هي ماهيتُه تشبه علاقة الروح أو العقل بالجسم.
وقد اقترح جوثري (انظر أيضًا المقال البارع لشارلس ﻫ. كان Charles H. Kahn، ١٩٧٤م) أنه كان هناك في الحقيقة نظريتان للروح اندرجتا تحت اسم «فيثاغورية»؛ الأولى، وهي النظرية الأصلية، ربما تعود إلى فيثاغوراس نفسه، أو ربما إلى فيلولاوس الفيثاغوري، تقول بأن الروح الخالدة للإنسان هي تآلف أو تناغُم أعدادٍ مجردة. هذه الأعداد وعلاقاتها الهارمونية سابقة على الجسد وباقية من بَعدِه. والنظرية الثانية، التي وضعها أفلاطون على لسان سيمياس، وهو من تلامذة فيلولاوس، فتقول بأن الروح هي تآلُف أو تناغم للجسد، مثل تآلف أو تناغم (دَوزَنة) قيثارة (علينا أن نلاحظ أن القيثارة ليست مجرد موضوع للعالم ١ بل هي أيضًا موضوع للعالم ٣، وكذلك تناغمها أو تآلفها الصحيح)، ولا بد أن تفنى مع الجسد، كما أنه لا بد أن يفنى تآلف القيثارة مع القيثارة. وقد راجت النظرية الثانية، وناقَشَها باستفاضة كلٌّ من أفلاطون وأرسطو.٢٥ ومن الواضح أن رواجها يعود إلى أنها تقدم نموذجًا سهل الفهم لتفاعل العقل-الجسم.

ها نحن بصدد نظريتين مرتبطتين ولكنهما مختلفتان اختلافًا دقيقًا؛ نظريتين قد تُفسَّران على أنهما تصفان «نوعين من الروح» (جوثري، ١٩٦٢م، ص٣١٧): نوعًا خالدًا أعلى، ونوعًا فانيًا أدنى، وكلتاهما تَآلُفٌ. وثمة أدلة تاريخية على وجود كلتا النظريتين، نظرية فيثاغوراس ونظرية سيمياس. ولكن لم يسبق التمييز بينهما بوضوح، على حد علمي، قبل بحث جوثري وعرضه الرائع لفيثاغوراس والفيثاغوريين.

والسؤال الذي ينبغي طرحه هو كيف تَتَصَوَّر النظريةُ التي قد نصفها مع جوثري بأنها نظرية فيثاغوراس (على النقيض من نظرية سيمياس) كيف تتصور علاقةَ الروح (تآلف، نسبة أعداد) بالجسم.٢٦ وقد نَحدِس بأن الجواب عن هذا السؤال ربما كان شبيهًا بنظرية — نظرية فيثاغورية — يمكن أن تجدها في محاورة طيماوس لأفلاطون؛ حيث الجسد المشَكَّل أو المصوَّر هو نتاجُ صورة مسبقة تطبع نفسَها على مكانٍ غير مشَكَّل أو غير محدَّد (مُناظِرٍ للمادة الأولى عند أرسطو).٢٧ هذه الصورة قد تكون لها طبيعةُ عددٍ ما (أو نسبة عددية، أو مثلث). قد نستنتج من هذا أن الجسم المنظَّم قد يكون منظَّمًا بواسطة تآلف مسبق لأعداد، والذي من ثَم يمكنه أيضًا أن يدوم بعد فناء الجسم.

يشمل الفلاسفة الذين اتبعوا الفيثاغوريين (بمن فيهم سيمياس) في اقتراح نظرية في الروح و/أو العقل تفسرهما كماهيتين لاجسميتين، يشملون ربما سقراط، وبالتأكيد أفلاطون وأرسطو. وقد اتبعهم لاحقًا الأفلاطونيون المحدثون، والقديس أوغسطين وغيره من المفكرين المسيحيين، وديكارت.

اقترح أفلاطون، في أوقاتٍ مختلفة، نظريات في العقل مختلفة بعض الشيء، لكنها كانت دائمًا مرتبطة بنظريته في الصور أو الأفكار (المُثُل) بطريقة تشبه الطريقة التي ارتبطت بها نظرية فيثاغوراس في العقل بنظريته في الأعداد أو النِّسَب. يمكن لنظرية فيثاغوراس في الأعداد ونِسَبِها أن تُؤوَّل كنظرية في الطبيعة الحقيقية للأشياء أو ماهية الأشياء بعامة، وكذلك الأمر بالنسبة لنظرية أفلاطون في الصور أو الأفكار. وبينما الروح عند فيثاغوراس هي نسبة أعداد، فإن الروح عند أفلاطون — رغم أنها ليست صورة أو فكرة — هي «قريبة» للصور أو الأفكار. إن القرابة وثيقة جدًّا؛ فالروح هي، تقريبًا جدًّا، ماهية الجسم الحي. ونظرية أرسطو هي أيضًا مماثلة. فهو يصف الروح على أنها «كمالٌ أول» first entelechy للجسم الحي؛ والكمال الأول هو، تقريبًا، صورته أو ماهيته. والفرق الرئيسي بين نظريتَي أفلاطون وأرسطو في الروح، في اعتقادي، هو أن أرسطو متفائلٌ كوزمولوجيٌّ، بينما أفلاطون متشائم. فعالَمُ أرسطو غائيٌّ في صميمه: كل شيء يسعَى نحو الكمال. أما عالم أفلاطون فقد خلقه الله وهو، عندما خُلِقَ، أفضل عالم؛ فهو لا يسعَى نحو شيءٍ أفضل. وبنفس القياس، فإن الروح عند أفلاطون ليست تقدمية، وإن كان لها أن تتصف فهي محافِظة. أما إنتلخيا أرسطو فهو تقدمي، إنه يكدح تجاه غاية، تجاه هدف.
يبدو لي محتمَلًا أن هذه النظرية الغائية — كدح الروح إلى غاية — تعود إلى سقراط الذي كان يُعَلِّم أن العمل من أجل أفضل غرضٍ، ولِأفضل هدف، يترتب بالضرورة على معرفة ما هو الأفضل، وأن العقل أو الروح يسعى دائمًا إلى الفعل بحيث يجلب ما هو أفضل (انظر أيضًا ملاحظات سقراط الأوتوبيوجرافية في محاورة فيدون 96aff.، وبخاصة 97d التي أميل إلى اعتبارها تاريخية، متبعًا في ذلك جوثري ١٩٦٩م، الجزء الثالث، ص٤٢١ وما بعدها).٢٨

إن مذهب أفلاطون عن عالم الماهيات — نظريته في الصور أو الأفكار — هو أول مذهب فيما أسميه العالم ٣. ولكنْ (كما أوضحت في قسم ١٣ سابقًا) هناك فروق كبيرة بين نظريتي عن العالم ٣، عالم منتجات العقل البشري، ونظرية أفلاطون في الصور. ومع ذلك فقد كان أفلاطون واحدًا من أوائل (ومعه، ربما، بروتاجوراس وديمقريطس) مَن قَدَّروا أهمية الأفكار — أو «الثقافة»، باستخدام مصطلحٍ حديث — في تكوين عقولنا.

أما عن مشكلة العقل-الجسم فإن أفلاطون ينظر إليها بالأكثر من زاوية أخلاقية. وهو — شأنه شأن التعليم الأورفي-الفيثاغوري — يعتبر الجسد بمثابة سجن للروح (لعله من غير الواضح تمامًا كيف يمكننا تفادي ذلك من خلال التناسخ). ولكن وفقًا لسقراط وأفلاطون فإن الروح، أو العقل، «ينبغي» أن يكون الحاكم على الجسم (وعلى الأجزاء الدنيا من الروح: الشهوات، التي هي أقرب إلى الجسم، وعرضة لأن يحكمها الجسم). وكثيرًا ما يُثبت أفلاطون توازيات بين العقل والجسم، غير أنه يسلِّم بمذهب تفاعلي بين العقل والجسم كشيء طبيعي: وهو — مثل فرويد — يؤيد النظرية القائلة بأن العقل له ثلاثة أجزاء:

  • (١)
    العقل reason.
  • (٢)
    النشاط أو الطاقة أو الحيوية (thymos التي كثيرًا ما تترجَم بالروح spirit، أو بالشجاعة).
  • (٣)
    الشهوات (الدنيا). وهو — مثل فرويد — يفترض نوعًا من الصراع الطبقي بين الأجزاء الدنيا والأجزاء العليا من الروح؛ ففي الأحلام قد تخرج الأجزاء الدنيا عن السيطرة؛ مثال ذلك أن شهواتنا قد تجعل إنسانًا يحلم (الجمهورية، بداية الكتاب التاسع، 271 d ff.) بزواجه بأمه، أو بأي فَعلة قتل شريرة (مثل قتل أحد الوالدين أو الأقارب الأدنين – يضيف جيمس آدم). من الواضح أن هذا يتضمن أن مثل هذه الأحلام تنجم من فعل أجسادنا على «الجزء البهيمي والهمجي» من الروح، وأن مهمة العقل reason أن يَرُوض هذه الأجزاء، وبذلك يحكم الجسم. ويعود التفاعل بين العقل والجسم إلى قُوًى يعتبرها أفلاطون هنا، وفي بعض المواضع الأخرى، أشبه بالقُوى السياسية منها بالقُوى الميكانيكية، وهو بالتأكيد إسهامٌ مثير إلى مشكلة العقل-الجسم. ويصف أفلاطون العقلَ أيضًا بأنه رُبَّان الجسد.
وأرسطو أيضًا له نظرية في الأجزاء الدنيا (غير العاقلة) والأجزاء العليا (العاقلة) من الروح. غير أن نظريته تستلهم البيولوجيا وليس السياسة أو الأخلاق. (إلا أنه يقول في «الأخلاق النيقوماخية» 1102 b 6 ff.، ربما مُلمِحًا إلى فقرة الأحلام عند أفلاطون، إن «أحلام الأخيار من الناس أفضل من أحلام العاديين منهم».)
تستبق أفكارُ أرسطو، من نواحٍ عديدة، التطورَ البيولوجي. وهو يميز الروح الغاذية (الموجودة في جميع الكائنات العضوية بما فيها النبات) من الروح الحاسة، والروح التي هي مصدر الحركة (لا توجد إلا في الحيوانات)، والروح العاقلة (النوس) التي لا توجد إلا في الإنسان، والتي هي خالدة. وهو يؤكد مِرارًا أن هذه الأرواح المتعددة هي «صور» forms أو «ماهيات» essences. غير أن نظرية أرسطو في الماهية تختلف عن نظرية أفلاطون؛ فماهيات أرسطو لا تنتمي، شأن ماهيات أفلاطون، إلى عالم منفصل من الصور أو الأفكار؛ وإنما ماهياتُه متأصلة في الأشياء الفيزيقية. (في حالة الكائنات الحية قد نقول إنها تحيا في الكائن، بوصفها مبدأ حياته). وقد نقول إن الأرواح أو الماهيات غير العاقلة عند أرسطو هي استباقات لنظرية الجِين الحديثة؛ فهي مثل الدنا DNA تخطط أفعال الكائن العضوي وتقوده إلى غايته telos، إلى كماله.

أما الأجزاء أو الإمكانات غير العاقلة لأرواح أرسطو الحاسة والمتحركة فلها أوجه شبه كبيرة بالميول (الاستعدادات) إلى السلوك عند رايل. وهي، بطبيعة الحال، فانية، وهي مماثلة كليًّا ﺑ «تآلف (هارمونية) الجسم» عند سيمياس (وإن كان لأرسطو الكثير مما يقوله في نقد نظرية التآلف). ولكن الجزء العاقل، الجزء الخالد من الروح، شيء مختلف.

الروح العاقلة عند أرسطو هي بالطبع واعية بذاتها، شأن الروح عند أفلاطون. (انظر مثلًا الأنالوطيقا الثانية 99 b 20 حتى النهاية، مع مناقشة «النوس» الذي يعني هنا الحدس الفكري). وحتى شارلس كان (١٩٦٦م)، الذي لا يتردد في توكيد الفروق بين الفكرة الأرسطية عن الروح والفكرة الديكارتية عن الوعي، يصل، بعد بحثٍ بارع ودقيق، إلى نتيجة (أعتبرها واضحة للغاية) أن سيكولوجيا أرسطو لا تملك فكرة الوعي بالنفس.٢٩
في هذا السياق سأشير فقط إلى فقرة مهمة واحدة تبيِّن في الوقت نفسه إدراك أرسطو للتفاعل بين أعضاء حسنا الجسمية وبين وعينا الذاتي. في كتاب أرسطو «في الأحلام» 461 b 31، نقرأ: «إذا كان إنسانٌ على غير دراية بأن إصبعه تنضغط تحت عينه، فلن يبدو له الشيء شيئين فحسب، بل قد يعتقد أنه اثنان. أما إذا كان غير غافل (عن انضغاط الإصبع تحت عينه) فسيظل الشيء يبدو اثنين إلا أنه لن يعتقد أنه اثنان.» هذه تجربة كلاسيكية للبرهنة على واقعية الدراية الواعية، وعلى أن الإحساس ليس نزوعًا إلى الاعتقاد.٣٠

III

في عملية تطور النظرية الخاصة بالروح أو العقل أو النفس يلعب تطور الأفكار الأخلاقية دورًا عظيمًا. وبصفة عامة، تُعَد التغيرات في نظرية بقاء الروح هي الأكثر أهمية وجذبًا للانتباه.

يجب أن نسلِّم بأنه عند هوميروس وفي بعض أساطير هاديس الأخرى لا سبيل دائمًا إلى اجتناب مشكلة ثواب الروح وعقابها على ما اجترحته من مكارم ومن آثام. على أنه عند هوميروس فإن وضع الروح الباقية للعاديين من الناس الذين لم يُسرِفوا في الإثم قَط هو وضعٌ فظيع ومحبِط. ووالدة أوديسيوس واحدة من هؤلاء؛ فهي لا تُعاقَب على أي جُرم؛ وإنها لَتُعاني لا لِشيءٍ إلا لأن المعاناةَ جزءٌ من حالة كونها ميتة.

وقد أدت ديانة إلوسيس السرية (وربما ما يسمى «الديانة الأورفية») إلى تغير في هذا الاعتقاد. فها هنا وعدٌ بعالمٍ أفضل يأتي إذا ما اتُّخِذَ الدينُ الحق والطقوس الصحيحة.

وبالنسبة لنا نحن «بعد-الكانْتيين» post-Kantians فإن هذا النوع من الوعد بثواب لا يبدو لنا دافعًا أخلاقيًّا. ولكن ما من شك في أنه كان الخطوة الأولى على الطريق إلى وجهة النظر السقراطية والكانْتية حيث الفعلُ الأخلاقي يُؤتَى من أجل ذاته فحسب؛ حيث هو ثوابُ ذاتِه وليس استثمارًا جيدًا، أو ثمنًا يُدفَع من أجل مقابلٍ موعودٍ في حياة قادمة.

إن المراحل (الخطوات) في هذا التطور يمكن رؤيتها بوضوح. وتطور فكرة روح، نفس، هي الشخص الفاعل المسئول، تلعب دورًا بالغ الأهمية في هذا التطور.

وربما تحت تأثير الأسرار الإلوسية وتأثير «الأورفية»، كان فيثاغوراس يعلِّم بقاءَ الروح وتناسخها، أو مسخها: فالروح تُكافَأ أو تعاقَب على فعلها بواسطة نوعية (النوعية الأخلاقية) حياتها القادمة. هذه هي الخطوة الأولى في اتجاه فكرة أن الخير ثوابُ ذاتِه.

وكان ديمقريطس، الذي تأثر في نواحٍ كثيرة بمعتقدات الفيثاغوريين، يُعَلِّم — مثل سقراط (كما رأينا آنفًا في هذا القسم) — أن ارتكاب الظلم أسوأ حالًا من معاناته.٣١ لم يكن ديمقريطس، المادي، بالطبع يعتقد في البقاء؛ وكان سقراط فيما يبدو لاأدريًّا بخصوص البقاء بحسب محاورة «الدفاع» وإن لم يكن بحسب محاورة «فيدون»؛٣٢ وكان كلاهما يُحاجُّ بصيغة الثواب والعقاب، وهي صيغة لا تقبلها صرامة أخلاقية من صنفٍ كانْتي. ولكن كليهما تجاوَزَ بشوطٍ بعيد الفكرةَ البدائية لمذهب اللذة؛ فكرة «مبدأ اللذة» pleasure principle (Cp. Phaedo 68e-69a.). كلاهما كان يُعَلِّم أن المرء إذ يرتكب فعل الظلم إنما يُحَقِّر روحَه، بل يعاقب نفسَه في حقيقة الأمر. وكلاهما حقيقٌ بأن يقبل المبدأ البسيط لشوبنهاور «لا تؤذِ أيَّ شخص، بل أعِنْ كلَّ شخصٍ جهدَ ما تستطيع» (Neminem leds; imo omnes, ut potes, juva!)، وكلاهما حقيقٌ بأن يناصر هذا المبدأ بما هو في جوهره مناشدة باحترام الذات واحترام الأشخاص الآخرين.

ومثل كثير من الماديين والحتميين، لا يبدو أن ديمقريطس كان يرى أن المادية والحتمية غير متوافقتَين في الحقيقة مع تعليمهما الأخلاقي المستنير والإنساني. لم يكن هؤلاء يرون ذلك، حتى إذا نظرنا إلى الأخلاقية لا باعتبارها معطاة من الله بل صنيعة الإنسان، أي كجزء من العالم ٣، أي كنتاجٍ مستقل جزئيًّا للعقل الإنساني. كان سقراط هو أول من أدرك هذا بوضوح.

ثمة تعليقان هما الأهم بالنسبة لمشكلة العقل-الجسم؛ ويُحتمَل أنهما سقراطيان أصيلان، وَرَدا في محاورة «فيدون»، المحاورة التي يصف فيها أفلاطون الساعات الأخيرة لسقراط في السجن وموته. والتعليقان اللذان ألمح إليهما يَرِدان في تلك الفقرة من «فيدون» (96a-100d) المشهورة باحتوائها على بعض الملاحظات الأوتوبيوجرافية من جانب سقراط.٣٣ التعليق الأول (96b) هو واحد من أدق صيغ مشكلة العقل-الجسم وأشدها تحديدًا في تاريخ الفلسفة كله. يروي سقراط أنه عندما كان صغيرًا كان مشغوفًا بأسئلة مثل هذه: هل الحار والبارد يُحدِثان تَعَضِّي٣٤ الحيوانات بواسطة عملية التخمر؟ هل نفكر بدمنا، أم بالهواء، أم بالنار؟ أم ليس بأيٍّ من ذلك بل بالدماغ الذي يُنتِج الإحساسات؛ السمع، والبصر، والشم؛ وهل الذاكرة والرأي يصدران من هذه الإحساسات؟ وهل المعرفة البرهانية (الإبستيمي) تنشأ عن ذاكرة ورأيٍ مؤسَّسَين برسوخ؟ يبيِّن سقراطُ بوضوح أنه سرعان ما نبذ كلَّ هذه التأملات المادية، وخَلَصَ إلى أن الذهن أو الفكر أو العقل يسعى دائمًا إلى هدف، إلى غاية، يسعى دائمًا إلى غرض، فاعلًا ما هو أفضل. ولدَى سماعه بأن أنكساجوراس قد كتب كتابًا يعلِّم فيه أن العقل (النوس) «يضبط ويسبب جميع الأشياء» كان سقراط متلهفًا جدًّا إلى قراءة الكتاب؛ غير أنه أصيب بإحباطٍ شديد، لأن الكتاب لا يفسر «الأغراض» أو «الأسباب» المبطِّنة لنظام العالم، بل يحاول أن يفسر العالمَ على أنه آلة تدفعها عِللٌ ميكانيكية خالصة. يقول سقراط في التعليق الثاني، (فيدون 98c-99a): «إنه كما لو أن شخصًا يريد في البداية أن يقول بأن سقراط يفعل بعقلٍ أو ذكاء، ثُم لكي يفسر العلل فيما أفعله الآن، يجب أن يقول بأني الآن جالسٌ هنا لأن جسمي مكوَّن من عظامٍ وأعصاب؛ … وأن الأعصاب، بانبساطها وانقباضها، تجعلني أَثنِي أطرافي الآن، وأن هذا هو علة جلوسي هنا مُنثَنِي الرِّجلين … ولكن العلل الحقيقية لجلوسي هنا في السجن هي أن الأثينيين قد قرروا إدانتي، وأنني قد قررتُ أنه … أَلْيَق بي أن أَبقَى هنا وأتلقَى العقوبة التي فرضوها عليَّ. وإلا فبحق الكلب … إن عظامي هذه كانت حقيقة أن تكون في ميجارا أو بوئتيا منذ وقتٍ طويل … لو لم أكن أعتقد أن الأفضل والأنبل أن أتحمل أية عقوبة تُوقِعها بي مدينتي، لا أن أَفِر وأُوَلِّي الأدبار.»
يطلق جون بيلوف (١٩٦٢م، ص١٤١) على هذه الفقرة، بحق، «توكيد جليل للحرية الأخلاقية في وجه الموت». غير أن المقصود بالفقرة أن تكون بيانًا يميز تمييزًا حادًّا بين تفسيرٍ بلغة العلل الفيزيائية (تفسير عِلِّي لعالم ١) وتفسير بلغة المقاصد والأهداف والغايات والدوافع والمبررات والقيم المرجوة (تفسير لعالم ٢، يتضمن أيضًا اعتبارات لعالم ٣؛ رغبة سقراط في ألا يُنتهَك النظام القانوني لأثينا).٣٥ تُبيِّن الفقرة بوضوح أن كلا النوعين من التفسير قد يكون صحيحًا، ولكن ما دمنا بصدد التفسير القائم على فعلٍ مسئولٍ وغرضي فإن النوع الأول (التفسير العِلِّي لعالم ١) يغدو خارجًا، بسخفٍ، عن الموضوع.

في ضوء بعض التطورات الحديثة يحق لنا القول بأن سقراط يضع هنا بالاعتبار نظريات هوية وتوازٍ معينة، وأنه يرفض الدعوى القائلة بأن التفسير المادي العِلِّي أو التفسير السلوكي للفعل البشري يمكن أن يكون مكافِئًا لتفسيرٍ بلغة الغايات والأغراض والقرارات (أو لتفسيرٍ بلغة المنطق الخاص بموقفه). إنه يرفض التفسير المادي لا باعتباره غير صادق بل باعتباره غير كامل ويفتقد أية قيمة تفسيرية. فهو تفسيرٌ يُلغِي كلَّ ما له صلة: الاختيار الواعي للغايات والوسائل.

نحن هنا بإزاء تعليق ثانٍ ومختلف جدًّا على مشكلة العقل-الجسم، بل أهم من التعليق الأول. إنه عبارة بلغة الأفعال البشرية المسئولة: عبارة داخل سياقٍ أخلاقيٍّ صميم. إنه يوضِّح أن الفكرة الأخلاقية عن نفسٍ أخلاقية مسئولة قد لعبت دورًا حاسمًا في المناقشات القديمة٣٦ المتصلة بمشكلة العقل-الجسم، والوعي بالذات.
والموقف الذي يتخذه سقراط هنا هو موقف يتعين أن يُقِر به كلُّ تفاعلي؛ فبالنسبة لأي تفاعلي لا يمكن حتى لتفسيرٍ كامل للحركات الجسمية البشرية، إذ تؤخذ كحركاتٍ فيزيائية خالصة، أن يقدَّم في حدودٍ فيزيائية خالصة؛ فالعالم ١ الفيزيائي ليس مكتفيًا بذاته، بل هو مفتوحٌ عِلِّيًّا على العالم ٢ (ومن خلاله على العالم ٣).٣٧

(٤٧) التفسير الحدسي الافتراضي مقابل التفسير النهائي

من الضروري حتى لأولئك الذين لا يهتمون بالتاريخ بل يعنيهم بصفة رئيسية فهمُ الموقف الإشكالي المعاصر، من الضروري حتى لهؤلاء الرجوع إلى وجهتَي نظرٍ متعارضتين في العلم وفي التفسير العلمي، واللتين يمكن تبيان أنهما جزء من تعليم المدرستين الأفلاطونية والأرسطية.

يمكن وصف التراثَين الأفلاطوني والأرسطي بأنهما ذوا نزعة موضوعية وعقلية (بخلاف المذهب الحسي أو التجريبي الذاتي، الذي يتخذ من الانطباعات الحسية نقطةَ بدئِه ويحاول أن «يُشَيِّد» منها العالم الفيزيائي). كان جميع أسلاف أفلاطون وأرسطو عقلانيين بهذا المعنى: أنهم كانوا يحاولون تفسير الظواهر الخارجية للعالم بالتسليم بعالمٍ خفي، عالمٍ من الوقائع الخبيئة وراء العالم المشهود. ولقد كانوا على حق.

كان أنجح هؤلاء الأسلاف بطبيعة الحال هما الذرِّيَّان ليوسيبوس وديمقريطس، اللذان فسَّرا الكثير من خواص المادة، كالانضغاطية والمسامية والتحولات من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية، وإلى الحالة الصلبة (وبالعكس).

يمكن أن نسمي منهجهم «منهج الحدس الافتراضي أو الفرضية» method of conjecture or hypothesis أو منهج «التفسير الحدسي الافتراضي» conjectural explanation. تجد تحليلًا لهذا المنهج بشيء من التفصيل في محاورات أفلاطون «الجمهورية» (مثلًا 510b-511e) و«مينون» (86e-87c) و«فيدون» (85c-d). وهو يتألف أساسيًّا من وضع فرضية ما (قد لا يكون لدينا ما يؤيدها) ورؤية ما يترتب عليها. أي أننا نختبر فرضيتنا أو حدسنا الافتراضي عن طريق استكشاف نتائجه، ونحن على إدراك بحقيقة أننا إذ نفعل ذلك لا يمكننا تأسيس الفرضية على الإطلاق. قد تروقنا الفرضيةُ حدسيًّا أو لا تروق؛ فالحدس مهم ولكنه (داخل هذا المنهج) غير قاطع. من الوظائف الرئيسية لهذا المنهج أن نفسر الظواهر، أو «أن ننقذ الظواهر».٣٨،٣٩
المنهج الثاني الذي ينبغي في رأيي أن نميزه تمييزًا حادًّا من منهج الحدس الافتراضي أو الفرضية هو منهج «الفهم الحدسي للماهية» intuitive grasp of the essence، أي منهج «التفسير الماهوي» essentialist explanation، يسمَّى حدس الماهية في الألمانية Wesensschau، وهو مصطلح هُسِرل.٤٠ هنا يتضمن «الحدس» (النوس، الحدس الفكري) استبصارًا معصومًا من الخطأ، إنه يضمن الصدق. ما نراه أو نفهمه حدسيًّا هو (بهذا المعنى للحدس) الماهيةُ نفسُها. (انظر على سبيل المثال محاورة «فيدون» لأفلاطون، 100c، والتحليلات الثانية لأرسطو وخاصة 100b). يتيح لنا التفسير الماهوي أن نجيب عن سؤال «ما هو؟» و(وفقًا لأرسطو) أن نعرض الجواب في «تعريف للماهية»، صيغة الماهية (تعريف ماهوي، تعريف حقيقي). وباستخدام هذا التعريف كمقدمة يمكننا عندئذٍ أن نحاول ثانيةً أن نفسر الظاهرة استنباطيًّا؛ أن ننقذ الظاهرة. ورغم ذلك، فإذا لم ننجح فالخطأ لا يمكن أن يكون خطأَ مقدمتِنا؛ فالمقدمة لا بد أن تكون صادقة إذا كنا قد قبضنا على الماهية على نحو صحيح. كما أن التفسير بواسطة حدس الماهية هو تفسير نهائي (جوهري) ultimate explanation؛ لا هو يحتاج، ولا هو يحتمل، أي تفسير إضافي. وفي المقابل، فإن أي تفسير حدسي افتراضي يمكن أن يُفضِي إلى مشكلة جديدة، إلى طلبٍ جديدٍ لتفسير؛ فأسئلة «لماذا؟» يمكن دائمًا أن تُعاوِد، كما يعلم حتى الأطفال الصغار (لماذا لم يرجع أبي إلى البيت للغداء؟ لأنه اضطُرَّ إلى الذهاب لطبيب الأسنان. لماذا اضطر إلى الذهاب لطبيب الأسنان؟ لأن لديه ضرسًا تالفًا. لماذا لديه ضرسٌ تالف؟) وهذا يختلف عن أسئلة «ما هو؟» فالجواب ها هنا قد يكون نهائيًّا.
آمُلُ أن أكون قد أوضحتُ الفرقَ بين التفسير الحدسي الافتراضي (الذي يظل دائمًا اختباريًّا tentative حتى إذا كان مسترشِدًا بالحدس) وبين التفسير الماهوي أو النهائي (الذي إذا استرشد بالحدس — بمعنًى آخر للحدس — لا يمكن أن يخطئ).
هناك، بالمناسبة، منهجان مناظِران لنقد عبارة ما أو تقرير assertion. المنهج الأول («النقد العلمي») ينقد العبارة باستخلاص مُعَقِّباتٍ٤١  consequences منطقية منها (ربما منها وهي مقترنة بعبارات أخرى غير إشكالية)، ومحاولة العثور على معقبات غير مقبولة. والمنهج الثاني («النقد الفلسفي») يحاول أن يثبِت أن العبارة (التقرير) في الحقيقة غير قابلة للبرهان: أي لا يمكن أن تكون مشتقة من مقدماتٍ يقينية حدسيًّا، وأنها هي نفسها غير يقينية حدسيًّا.

جميع العلماء تقريبًا ينقدون العبارات بالطريقة الأولى؛ وتقريبًا كل النقد الفلسفي الذي أعرفه يمضي بالطريقة الثانية.

والشائق في الأمر أن التمييز بين المنهجين في التفسير يمكن أن تجده في أعمال أفلاطون وأرسطو: هناك وصف نظري لكلا المنهجين، وهناك أيضًا استخدامهما في أمثلة عملية. أما الشيء المفقود، منذ أفلاطون وحتى يومنا هذا فهو الوعي التام بأنهما منهجان اثنان؛ أنهما يختلفان اختلافًا أساسيًّا؛ بل وأهم من ذلك أن المنهج الأول فقط، أي التفسير الحدسي الافتراضي، هو الصحيح وهو العملي، بينما الثاني هو مجرد سراب وأمل خادع.

والفرق بين المنهجين أكثر جذرية من فرقٍ بين منهجين يُفضِي إلى ما صار يُعرَف ﺑ «دعاوى معرفة» knowledge claims؛ ذلك أن المنهج الثاني فقط هو ما يؤدي إلى دعاوى معرفة؛ أما المنهج الأول فيؤدي إلى «حدوس افتراضية» conjectures أو «فرضيات» hypotheses. ورغم أن هذه قد توصَف بأنها تندرج في «المعرفة» بمعنًى موضوعي أو بمعنًى يخص العالم ٣، فهي لا يُدَّعَى أنها معروفة أو أنها صادقة. نعم قد يُحدَس افتراضيًّا أنها صادقة، ولكن هذا شيء مختلف تمامًا.
صحيح أن هناك حركة تراثية قديمة ضد التفسير الماهوي، تبدأ من قدامَى الشكاك، وتَأَثَّرَ بها هيوم وكِرشوف وماخ وكثير غيرهم؛ إلا أن أعضاء هذه الحركة لا يميزون بين النوعين من التفسير، ويوحِّدون بين «التفسير» وبين ما أسميه «التفسير الماهوي» وهم لذلك يرفضون التفسير برمته، ويوصون بدلًا من ذلك أن نعتبر «الوصف» description هو المهمة الحقيقية للعلم.

وبتبسيطٍ زائد للأمور (مثلما نُضطَر دائمًا في التاريخ) يمكن أن نقول إنه بالرغم من وجود النوعين من التفسير، وتَبَيُّنِهما بوضوح في بعض المواضع من جانب أفلاطون وأرسطو، فهناك اقتناع عام تقريبًا، حتى بين الشكاك، بأن الصنف الماهوي وحده من التفسير هو ما يُعَد تفسيرًا بحق، وأنه هو وحده ما ينبغي أن يؤخَذ مأخذَ الجِد.

أظن أن هذا الموقف لا مفر منه تقريبًا في غياب تمييز واضح بين العالم ٢ والعالم ٣. فما لم نضع بوضوحٍ هذا التمييز فلن تكون هناك «معرفة» إلا بالمعنى الذاتي أو بالمعنى الخاص بالعالم ٢. لن يكون ثمة حدوس افتراضية أو فرضيات، لا نظريات اختبارية tentative ومتنافسة. لن يكون ثمة إلا شك ذاتي، لايقين ذاتي، الذي هو نقيض «المعرفة» تقريبًا. لن يمكننا أن نقول عن نظريتين إن إحداهما أفضل من الأخرى، يمكننا فقط أن نعتقد في إحداهما ونشك في الأخرى. قد يكون هناك بالطبع درجات مختلفة من الاعتقاد الذاتي (أو من الاحتمالية الذاتية subjective probability)، ولكن ما دمنا لا نتبين وجود عالم ٣ موضوعي (ووجود أسباب موضوعية تجعل إحدى النظريات المتنافسة مفضلةً موضوعيًّا على نظرية أخرى أو أقوى موضوعيًّا منها وإن لم تكن، ربما، أيٌّ منهما تُعرَف بأنها صادقة) فلن يمكن أن تكون هناك نظريات أو فرضيات مختلفة على درجات متفاوتة من الاستحقاق أو الأفضلية الموضوعية (دون الصدق أو الكذب التام). وعلى ذلك فبينما النظريات من زاوية العالم ٣ هي فرضيات حدسية، فعند أولئك الذين يؤوِّلون النظريات والفرضيات في حدود اعتقادات العالم ٢ فإن هناك انقسامًا حادًّا بين النظريات والفرضيات؛ فالنظريات معروفة بأنها صادقة، بينما الفرضيات شيء مبدئي (مؤقت) ولم يُعرَف صدقها بعدُ على كل حال (وحتى وليم هيوِل العظيم — الذي يقترب بشكلٍ ما من وجهة الرأي التي نؤيدها هنا — اعتقَدَ في الفرق الجوهري بين فرضية وبين نظرية تامة التأسيس، وهي نقطة التقاء بين هيوِل وجون ستيوارت مِل).
من المثير أن أفلاطون يؤكد دائمًا، عندما يأتي إلى رواية أسطورية، أن للأسطورة مظهرَ صدق verisimilitude فحسب، لا صدقًا. غير أن هذا لا يثنيه عن الاعتقاد بأن ما نطلبه هو اليقين، وأن اليقين يجب أن يُلتمَس في الحدس الفكري للماهيات. وهو يتفق مع الشكاك في أن هذا قد لا يُدرَك (أو لا يُدرَك دائمًا). إلا أن منهج الحدس الافتراضي، فيما يبدو، يُعَد من جانب جميع الأطراف لا كشيء اختباري فحسب بل كبديلٍ مؤقت مبدئي لشيءٍ أفضل.
من أكثر المصادفات طرافةً في تاريخ العلم أن هذا الرأي قد اعتُنِقَ حتى من جانب نيوتن. وفي اعتقادي أن كتابه «المبادئ» Principia يمكن أن يوصف كأهم جميع أعمال التفسير الحدسي أو الافتراضي في التاريخ؛ وكان نيوتن على إدراك واضح بأن نظرياته الخاصة في «المبادئ» لم تكن تفسيرات ماهوية. ومع ذلك فهو لم يرفض قَط، وقَبِلَ ضِمنيًّا، فلسفةَ الماهوية essentialism. وهو لم يقل فحسب «أنا لا أختلق الفرضيات» (جائز جدًّا أن تكون هذه الملاحظة الخاصة قد أُخِذَت بمعنى «أنا لا أقدم تأملات نظرية speculations حول التفسيرات النهائية الممكنة، مثلما يفعل ديكارت») لم يقل هذا فقط بل وافق على أن التفسيرات الماهوية يجب أن يُبحث عنها، وأنها إذا عُثِرَ عليها ستكون نهائيةً، وأفضلَ من فكرته في الجذب عن بُعد. ولم يخطر له قَط أن يتخلى عن اعتقاده في أفضلية تفسيرٍ ماهوي على نوعيته هو من التفسير (التي كان يَعتقد خطأً أنها قائمة على الاستقراء من الظواهر وليس على فرضيات). وعلى النقيض من بعض أتباعه فقد كان يسلم بأن نظريته ليست تفسيرًا؛ كل ما في الأمر أنه ادَّعَى أنها «أفضلُ وآمَنُ منهجٍ لبحث خواص الأشياء بِكدٍّ أولًا … وبعدئذٍ فقط لالتماس فرضياتٍ لتفسيرها.»٤٢ وفي الطبعة الثالثة من «المبادئ» (١٧٢٦م) أضاف نيوتن إلى مستهَل كتاب III في نهاية «قواعد الاستدلال في الفلسفة»: «لا أني أَجزِم بأن الجاذبية جوهرية للأجسام»، مُنكِرًا بذلك أن قوة الجاذبية يمكن أن تؤخذ كتفسيرٍ ماهوي.»٤٣
جملة القول إن نيوتن، ولعله أعظم أستاذ ظهر في منهج التفسيرات الحدسية الافتراضية التي «أَنقَذَت الظواهر»، كان على صواب طبعًا في الاحتكام إلى الظواهر. وقد اعتقد خطأً أنه قد تجنَّبَ الفرضيات وأنه استخدم الاستقراء (البيكوني). لقد أصاب إذ اعتقد أن نظريته قد تفسَّر بواسطة نظريةٍ أعمق، ولكنه أخطأ إذ اعتقد أن هذه (الأخيرة) ستكون تفسيرًا ماهويًّا. وقد أخطأ أيضًا إذ اعتقد أن العَطالة (القصور الذاتي) inertia جوهرية للمادة، ميلٌ صميمٌ للمادة إلى أن تبقَى في مكانها ما لم تؤثر عليها قوى خارجية (ستجد في قسم ٥١ لاحقًا شرحًا إضافيًّا وتكميليًّا لنظرية نيوتن وعلاقتها بالماهوية).
قبل أن نتقدم إلى ديكارت وتفسيره الماهوي للمادة وللعقل، سأبْسُط فقط بإيجاز اعتقادي بأن معظم مصاعبنا تعود إلى أننا ميالون لم نزل إلى أن نسأل أسئلة «ما هو؟» أننا نأمل أن نكتشف يومًا ما هو العقل في الحقيقة. وضد هذا الاتجاه أود أن أبيِّن أننا لا نعرف ما هي المادة وإن كنا الآن نعرف الكثير عن البنية الفيزيائية للمادة. فنحن لا نعرف (مثلًا) ما إذا كانت «الجسيمات الأولية» التي تدخل في هذه البنية هي «أولية» elementary، أم لا، بأي معنًى ذي صلة بهذا اللفظ.
وبنفس المقياس فرغم أننا لا نعرف شيئًا عن ماهية العقل فنحن نعرف الكثير عن بنيته؛ نعرف شيئًا عن اليقظة والنوم، ونعرف الكثير عن نشاطه الغرضي، وعن نشاطه في حل المشكلات، وعن نشاطه الدائر حتى أثناء النوم وحتى لاشعوريًّا، وعن الفضائل والبطولة، وإنكار الذات، والاستعداد لبذل التضحيات، وعن الرذائل، والأنانية، والتمركز على الذات، وبالإجمال عن ثراء الشخصية الإنسانية وتنوعها. ونحن نعرف الكثير، وإن كان هذا جِد قليل، عن التقاليد الاجتماعية والثقافية للإنسان، وعن الطريقة التي تُرسَى بها عقولنا في العالم ٣. هذه هي «الظواهر» phenomena (بالمعنى الخاص بنيوتن)، ونحن بشكلٍ ما نبحث، مثل نيوتن، عن تفسير نهائي؛ مخطئين في ذلك بغير شك، بل نحن قد لا نوغِل بعيدًا مع التفسير الحدسي الافتراضي. ولكن لا غرابة في ذلك؛ فالعقل هو عملية، أو ظاهرة، من الحياة؛ حياة الكائنات العضوية العليا. ورغم أننا نعرف كثيرًا جدًّا عن الكائنات العضوية، وبخاصة عن حقيقة موحِّدة عظيمة — الشفرة الجينية — فإن كل ما نعرفه تقريبًا هو أقل توحُّدًا حتى من معرفتنا، التعددية في الصميم، عن المادة. ورغم أن علينا أن نحاول الوصول إلى أقصى توحيد ممكن، فيجب ألا نتوقع جوابًا ماهويًّا أو موحَّدًا بالمثل على مشكلاتنا.

(٤٨) ديكارت: تحوُّل في مشكلة العقل-الجسم

«أرى أن النفس والجسد يؤثر كلٌّ منهما في صاحبه فأيُّما تغيرٍ يعتري حالة النفس فإنه يُفضِي إلى تغير في شكل الجسد، والعكس صحيح؛ فأي تغيُّر في شكل الجسد يُفضي إلى تغير في حالة النفس.»

أرسطو
هذه العبارة الجامعة التي وردت في مستهل الفصل الرابع من كتاب «الفراسة» Physiognomics (Minor Works, 808 b 11)، والتي تُعزَى إلى أرسطو، ليس يعنيني في غرضي الحالي إن كانت لأرسطو حقًّا أم لواحدٍ من تلامذته (قد يكون ثيوفراسطس). وغرضي الحالي هو أن أبيِّن أن مشكلة العقل-الجسم والحل المقترح لها بواسطة التأثير المتبادَل (التفاعل) كانا هاجسين عامين لمدرسة أرسطو. لقد كان أعضاء هذه المدرسة الذين أخذوا بالمذهب القائل بأن العقل لا مادي يأخذون أيضًا، ضمنيًّا ولكن بشكلٍ واضح، بفكرة أن علاقة العقل-الجسم تقوم على التفاعل المتبادل الذي درجوا على اعتباره تفاعلًا غير ميكانيكي. كانت هذه الطريقة كما قلت آنفًا، هي الحل الذي أخذ به جميع المفكرين في هذا العصر، باستثناء الذريين atomists الذين قالوا بالتفاعل الميكانيكي.
والدعوى التي أطرحها في هذا القسم هي دعوى بسيطة. وبادئ ذي بدء أود أن أؤكد أنه كانت هناك أرضية مشتركة بين أرسطو وديكارت فيما يتعلق بمذهب لامادية النفس ومذهب التفاعل المتبادل، وأيضًا فيما يتعلق بأخذهما بفكرة التفسير الماهوي. إلا أن ديكارت قد صادف مصاعب معينة بصدد مشكلة التفاعل، فأصبحت المشكلة لديه هي كيف يتسنى لنفسٍ غير مادية أن تؤثر على عالم مادي يعمل بآلياتِ عملِ الساعة، وكل ما فيه من عِلِّيَّة فيزيائية إنما تقوم بالأساس وبالضرورة على الدفع الميكانيكي٤٤  mechanical push. الذي أريد أن أطرحه هنا هو أن ديكارت، حين حاول أن يجمع بين مذهب لامادية النفس وتفاعلها المتبادل وبين مبدأ ميكانيكي وواحدي في العِلِّية الفيزيائية، قد خلق مشكلةً جديدة تمامًا وبلا داعٍ على الإطلاق. أدت هذه المشكلة إلى تحول جديد في مشكلة العقل-الجسم (وأفضت لدى خلفاء ديكارت إلى مذهب التوازي parallelism بين العقل والجسم، وبعد ذلك إلى دعوَى الهوية identity).
كان ديكارت، كما قلتُ، من القائلين بمذهب الماهية essentialism، وكانت أفكاره الفيزيائية قائمة على فكرة حدسية عن ماهية الجسم.٤٥ وهو يؤسِّس صدقَ هذا الحدس على الضمان الإلهي. حاول ديكارت أن يثبِت، بحججٍ تبدأ من «أنا أفكر إذن أنا موجود» أنَّ الله موجود، وأنه بحكم كمالِه لا يمكن أن يسمح بأن ننخدع عندما يكون لدينا حدسٌ أو إدراك واضح ومتميز. إذن وضوحُ الإدراكات (وبعض الأفكار الذاتية الأخرى) وتَميُّزُها، هما عند ديكارت معاييرُ للحق (الصدق) criteria of truth موثوقٌ بها.
يُعَرِّف ديكارت الجسم (المادة) بأنه شيء «ممتد» في المكان الثلاثي الأبعاد. الامتداد إذن هو ماهية الجسم أو المادة (لم يكن هذا يختلف كثيرًا عن نظرية أفلاطون في المكان في محاورة طيماوس، أو عن نظرية أرسطو عن المادة الأولى). كان ديكارت يشارك كثيرًا من المفكرين السابقية عليه (أفلاطون، أرسطو، القديس أوغسطين)٤٦ رأيَهم بأن العقل والوعي بالذات هما شيئان غير ماديين. وبما أنه قد أخذ بأن الامتداد هو ماهية المادة، فلم يكن بُدٌّ له من أن يقول بأن النفس، ذلك الجوهر اللامادي، غير ممتدة (وقد أدى هذا بالفيلسوف ليبنتز إلى القول بأن الأرواح هي نقاطٌ إقليدية غير ممتدة، أي «مونادات» monades). ماهية النفس إذن، وفقًا لديكارت، هي أنها جوهر «مفكر».٤٧ ومن الواضح أنه يعني بالتفكير هنا شيئًا مرادفًا للوعي أو الشعور. هذا التعريف للمادة أو الجسم كشيء «ممتد» هو ما أدى بديكارت مباشرةً إلى صيغته الخاصة من النظرية الآلية للعِلِّيَّة، وهي النظرية القائلة بأن كل عِلِّيَّة في العالم ١ إنما تتم بواسطة الدفع (push).

كانت هذه نظريةً قديمةً نوعًا ما. إنها نظرية المحارِب الذي يستخدم السيف أو الرمح ويحمي نفسَه بالدرع والخوذة. وهي نظرية الحِرفي الصانع: الخزَّاف أو بَنَّاء السفن أو الحَدَّاد (من الصعب أن تكون نظريةَ صاهر البرونز أو الحديد؛ لأن استخدام الحرارة يُسَخِّر عاملًا عِلِّيًّا مختلفًا عن مجرد الدفع؛ ولا هي نظرية الكيميائي القديم أو الحديث؛ ولا نظرية الشامان أو العَرَّاف أو المنجِّم. غير أن الدفع، بطبيعة الحال، أمرٌ عمومي تقريبًا وداخل في خبرة أي فرد منذ الطفولة).

كان ديمقريطس هو أول فيلسوف جعل الدفع هو القوة الشاملة (تقريبًا). فحتى اتحاد الذرات هو في نظره يتم (جزئيًّا) بواسطة الدفع، حين تشتبك خُطَّافاتُ الذرات بعضها ببعض. وهو بهذه الطريقة «يرد» reduce الجذبَ إلى الدفع.

وفي المقابل، رفض ديكارت المذهب الذري. فقد كان توحيده بين الامتداد الهندسي وبين الجسمية أو المادية يحُول بينه وبين قبول المذهب الذري. وقد أدى به هذا التوحيد إلى حجتين ضد الذرية؛ فمن الممتنع أن يكون هناك خلاء أو فضاء فارغ؛ لأن المكان الهندسي هو امتداد، أي هو نفس ماهية الجسم أو المادة. ومن الممتنع أن يكون هناك حد نهائي لقابلية الانقسام، لأن المكان الهندسي قابل للانقسام إلى ما لا نهاية. وعلى الرغم من ذلك فقد قبل ديكارت، بغض النظر عن نظرية الدفع، كثيرًا من الأفكار الكوزمولوجية للذريين (كما فعل أفلاطون وأرسطو من قبل). أولها جميعًا نظرية الدوامات. فلم يكن له بدٌّ من قبول هذه النظرية بحكم تعريفه لماهية المادة. فحيث إن هذا التعريف يحتم عليه القول بأن المكان مليء، فكل حركة لا بد أن يكون لها، من حيث المبدأ، طبيعة الدوامة، مثل حركة أوراق الشاي في الفنجان.

والكوزمولوجيا الديكارتية، شأنها شأن كوزمولوجيا الذريين، ترى إلى العالم بوصفه آلة ميكانيكية أوتوماتيكية ضخمة ذات تروس، دوامات مُعَشَّق بعضُها ببعض ويدفع بعضُها بعضًا. وجميع الحيوانات هي جزء من هذه الآلية الميكانيكية الضخمة. كل حيوان هو آلة ميكانيكية تحتية، مثل الدُّمَى الأوتوماتيكية التي تعمل بالماء والتي كانت في زمنه موضةً سائدة تزدان بها بعض حدائق النبلاء.

والجسد الإنساني ليس استثناءً لهذه القاعدة، فهو أيضًا آلة ذاتية الحركة، باستثناء حركته الإرادية، فهاهنا يوجد الاستثناء الوحيد في العالم كله؛ فالعقل الإنساني اللامادي قادر على أن يسبب حركات الجسم الإنساني. وبمقدوره أيضًا أن يَعِي بعض الانطباعات الميكانيكية التي تُحدِثها القُوى الفيزيائية، الضوء والصوت واللمس، في الجسم الإنساني.

من الجَلِي أن هذه النظرية في التفاعل المتبادل بين العقل والجسم لا تنسجم تمامًا مع كوزمولوجيا هي، فيما عدا ذلك، ذات آلية كاملة.

ولكي نلمس ذلك يكفينا أن نقارن بين كوزمولوجيا ديكارت وكوزمولوجيا أرسطو.

فالنفس الإنسانية اللامادية والخالدة في فلسفة ديكارت شبيهة غاية الشبه بالنفس العاقلة أو العقل (النوس) في فلسفة أرسطو. فمن الواضح أن كلتيهما قد وُهِبَت ملَكةَ الوعي بالذات، وأن كلتيهما لامادية وخالدة، وقادرة على السعي نحو هدف ما عن وعيٍ ودراية، وأن تستخدم الجسم كأداة أو عضو يحقق غاياتها.

والنفس النامية (النباتية) والنفس الحاسة (والنفس الشهوية والمتحركة) عند أرسطو تناظر ما يسميه ديكارت «الأرواح الحيوانية» animal spirits. وبعكس الانطباعات الأولى التي تعطيها لفظة «روح» فإن الأرواح الحيوانية عند ديكارت هي جزء من الجهاز الجسمي الميكانيكي المحض. إنها سوائل — سوائل من صنفٍ نادر جدًّا — تقوم في الحيوانات جميعًا وفي الإنسان بالكثير من العمل الآلي للدماغ، وتربط الدماغ بأعضاء الحس وبالعضلات والأطراف. وهي تنتقل في الأعصاب (ومن ثَم فهي استباقٌ من ديكارت للإشارات الكهربية العصبية).

حتى الآن لا يوجد فرقٌ يُذكر بين نظريات أرسطو ونظريات ديكارت. غير أن التفاوت سيغدو هائلًا إذا ما نظرنا إلى الصورة الكوزمولوجية ككل، يرى أرسطو إلى الإنسان بوصفه حيوانًا راقيًا. ولكن جميع الحيوانات والنباتات، وحتى الكون الجمادي كله، هو عنده يسعى نحو أهداف وغايات. وما النباتات والحيوانات إلا درجات (بل ربما تكون درجات تطورية) تُفضِي من الطبيعة الجامدة إلى الإنسان، فأرسطو إذن من القائلين بالغائية.

أما عالم ديكارت فمختلف عن ذلك تمام الاختلاف. إنه عالم يتألف على وجه الحصر تقريبًا من عُدد ميكانيكية لا حياة فيها، فجميع النباتات والحيوانات هي آلات من هذا الصنف. والإنسان وحده هو مَن يتمتع بحياة حقيقية، هو الحي بِحَق. كانت هذه الصورة للعالم غير مُتَقَبَّلة عند الكثيرين، بل صادمة لهم. وقد جعلتهم يشُكُّون في صدق ديكارت وفيما إذا كان في حقيقة أمره ماديًّا متخفِّيًا أدخل فكرةَ النفس في نظامه لخوفه من الكنيسة الكاثوليكية وليس لأي سببٍ آخر (والدليل على أنه كان يخشى الكنيسة أنه أحجم عن نشر كتابه الأول «العالم» عندما سمع بمحاكمة جاليليو وإدانته).

قد يكون هذا الشك لا أساس له. ومع ذلك فمن الصعب تجاهله. لقد أخذ ديكارت بالنظام الكوبرنيقي، وبالعالم اللانهائي لجيوردانو برونو (لأن المكان الإقليدي لا نهائي). لعل الاستثناء الفريد الذي جُعِلَ للإنسان في كوزمولوجيا سابقة على كوبرنيقوس كان أمرًا مفهومًا؛ غير أنه لا ينسجم في إطار الكوزمولوجيا الكوبرنيقية.

وإذا كانت النفس عند ديكارت غير ممتدة فهي رغم ذلك متموضعة في المكان. وهي من ثَم تقع في نقطة إقليدية غير ممتدة في المكان. وديكارت في ذلك لا يبدو أنه استنتج هذه النتيجة من مقدماته (مثلما فعل ليبنتز مثلًا). غير أن ديكارت حدد موضع النفس بالفعل داخل عضو ضئيل جدًّا، هو الغدة الصنوبرية. وقال بأن الغدة الصنوبرية هي العضو الذي تحركه النفسُ الإنسانية بشكلٍ مباشر. والنفس بدورها تؤثر على الأرواح الحيوانية تأثيرًا أشبه بتأثير صمامٍ في مكبِّرٍ كهربائي؛ فهي توجِّه حركات الأرواح الحيوانية ومن خلال هذه الحركات توجه حركة الجسم.

وبعدُ فقد أدت هذه النظرية إلى صعوبتين خطيرتين. وأخطر الاثنتين هي هذه؛ فالأرواح الحيوانية (التي هي ممتدة) تحرك الجسمَ بواسطة الدفع. والأرواح الحيوانية هي بدورها محرَّكة بالدفع؛ فهذه من المترتبات الضرورية عن نظرية ديكارت في العِلِّية. ولكن كيف لنفسٍ غيرِ ممتدة أن تمارس أي شيء يشبه الدفع على جسمٍ ممتد؟ ها هنا يكمن «عدم اتساق» inconsistency.
كان عدم الاتساق هذا هو بعينه الدافع الرئيسي وراء تطور المذهب الديكارتي. فقد قام ليبنتز بإزالته في النهاية كما سوف أبيِّن. وكان في هذا الحل للمشكلة متأثرًا بتوماس هوبز الذي يُعَد مستبِقًا له في ذلك بمعنًى ما.٤٨
أما الصعوبة الثانية فهي أقل خطرًا. فقد ذهب ديكارت إلى أن تأثير النفس على الأرواح الحيوانية هو بتغيير اتجاه حركتها، واعتقَدَ أن هذا يمكن أن يتم بدون خرقٍ لأي قانون فيزيائي ما دامت «كمية الحركة» (الكتلة مضروبة في السرعة) باقية (ثابتة). وقد أثبت ليبنتز أن هذا خطأ. فقد اكتشف قانون «بقاء كمية الحركة» (الكتلة مضروبة في الحركة في أي اتجاه معطًى)، وأكد مِرارًا أن قانون بقاء كمية الحركة يقتضي أن كمية الحركة momentum، ومن ثَم اتجاه الحركة، يجب أن تكون باقية.

وبينما تُعَد هذه ضربةً قوية ضد رأي ديكارت الخاص، فلستُ أرى قوانين البقاء الفيزيائية تشكل أي خطورة على من يقول بمذهب التفاعل. ويمكننا توضيح ذلك بحقيقة أن بوسع أي مركبة أو عربة أن تُقاد من الداخل دون خرق لأي قانون فيزيائي (ويمكن أن يتم ذلك بقوًى طفيفة من مثل الإشارات اللاسلكية). كل ما هو مطلوب هو:

  • (١)

    أن تحمل المركبةُ معها مصدرًا للطاقة.

  • (٢)

    أن يكون بقدرتها، لكي تغير اتجاهها، أن تُعادِل التغيرَ بدفع كتلة ما — كالأرض مثلًا أو كمية ما من الماء — في الاتجاه المضاد (بوسع المرء أيضًا أن يقول: إذا صح وجود صعوبة كبرى هنا إذن لما كان بوسعنا أبدًا أن نغير اتجاهنا نحن؛ فكيفما كان اتجاهنا فإننا حين ننهض من الكرسي نقوم بدفع الأرض كلها في الاتجاه المضاد، وإن يكن ذلك دفعًا بالغ الضآلة: وهكذا يظل قانون بقاء كمية الحركة مصونًا).

وإذا قمنا، فضلًا عن ذلك، بتفسير مذهب ديكارت الميكانيكي عن الأرواح الحيوانية، لا تفسيرًا ميكانيكيًّا بل فيزيائيًّا، بوصفها ظواهر كهربية، فسوف تغدو عندئذٍ هذه الصعوبة الخاصة برمتها غيرَ ذاتِ بال، حيث إن كتلة التيار الكهربي المغيِّر لاتجاهه تساوي صفرًا تقريبًا، ومن ثم لا توجد مشكلة في معادلة النقلة (التحويلة) التي تُغَيِّر اتجاهَ التيار.

وجملة القول أن الصعوبة الكبرى في نظرية ديكارت في التفاعل المتبادل بين العقل والجسم إنما تكمن في نظرية ديكارت في العِلِّيَّة الفيزيائية، والتي تقتضي أن كل فعل فيزيائي لا بد أن يكون بواسطة الدفع الميكانيكي.

(٤٩) من مذهب التفاعل إلى مذهب التوازي: أصحاب مذهب التوازي وسبينوزا

رفض معظمُ المفكرين المهمين الذين اتبعوا ديكارت مذهبَ التفاعل. ولكي نفهم لماذا كان ذلك فإن علينا أن نلقي نظرة سريعة إلى الوراء على ديكارت.

كان ديكارت، كما قد رأينا، ماهَوِيًّا essentialist. وقد وجَّه ضده منتقدو آرائه الاعتراضَ القائل بأنه ما دامت الروح والجسم جوهرين ذَوَي طبيعتين مختلفتين تمامًا، فإن من غير الممكن أن يكون بينهما تفاعل. وقد احتج ديكارت نفسه ضد هذا: «وأنا أؤكد … (أن هذا) افتراض زائف لا يمكن إثباته بأي وسيلة كانت … أنه إذا كانت الروح والجسم جوهرَين من طبيعتَين متباينتَين، فإن هذا يَحول دون أن يكون بوسعهما أن يؤثر أحدهما في الآخر.»٤٩ وأنا أوافق على أن مجرد تباين الطبيعة أو الماهية لا يخلق صعوبة. ورغم ذلك فإذا قَبِلَ المرءُ نظرية ديكارت الماهوية في العِلِّية الفيزيائية بالإضافة إلى رأي ديكارت الماهوي في الروح والجسم، فسوف يبدو من الصعب حقًّا أن يفهم كيف أمكن لهذا التفاعل أن يحدث. وهذا يفسِّر الرفض الواسع النطاق للتفاعل في المدرسة الديكارتية.
هذا كله مفهوم بما يكفي كنقطة تاريخية؛ ولكن ما قد يدعو إلى الاندهاش هو أن الارتياب في مذهب التفاعل على أساس تباين الجوهرَين لا يزال موجودًا. إن الطعن في مذهب التفاعل على أساس تباين الجسم والروح ليؤخذ بكل جدية من جانب فلاسفة معاصرين ذوي جدارة واضحة.٥٠

غير أني أرى أن الأمر الذي خلق مشكلة خطيرة لديكارت ليس فكرة اختلاف الجوهرين، اختلافًا أساسيًّا، بل هو فقط تصوره عن العِلِّية الفيزيائية (الذي استمده ديكارت حقًّا من الخاصية الأساسية للجوهر المادي). فحتى لو كان علينا أن نسلِّم بفكرة تفسير نهائي قائم على جوهرين ماهويين نهائيين؛ حتى في هذه الحالة فلن يخلق تمايز الجوهرين بالضرورة حجة ضد إمكان التفاعل؛ على أنه من وجهة نظر التفسير الحدسي الافتراضي فإن هذه الصعوبة، ببساطة، لا تنشأ.

والحق أننا في الحالة الراهنة للفيزياء (التي تعمل بالتفسيرات الحدسية الافتراضية) لسنا بإزاء كثرة من الجواهر، بل كثرة من شتى أنماط القُوَى، أي كثرة من شتى المبادئ التفسيرية المتفاعلة.٥١
لعل أوضح مثالٍ مضادٍ للدعوى القائلة بأنه لا يؤثر على الشيء إلا شيءٌ مثله هو هذا: في الفيزياء الحديثة نجد أن تأثير الأجسام على الأجسام تتوسطه مجالات (حقول) fields، مجالاتٌ جاذبية وكهربية. وهكذا فالشبيه لا يؤثر على شبيهه، بل إن الأجسام تؤثر أولًا على المجالات وتُعَدِّلها، وعندئذٍ يؤثر المجالُ (المعدَّل) على جسمٍ آخر.٥٢

وهكذا فالصعوبة الخاصة بتفاعل العقل-الجسم لا تنشأ إلا كشيء مترتب بالضرورة عن نظرية ديكارت الماهوية في العِلِّيَّة.

يعود أول حل مقترَح لهذه الصعوبة إلى بعض الديكارتيين: جلوبِرج، كورديموي، دي لا فورج، مالبرانش: وهي مجموعة اكتسبت اسم «أصحاب مذهب المناسبة».

ومذهب المناسبة occasionalism هو النظرية القائلة بأن كل حالة هي معجزة؛ فالرب يتدخل بمناسبة كل حالة معينة من حالات الفعل أو التفاعل العِلِّي. والمناسباتيون الديكارتيون يطبقون هذا الرأي بخاصة على فعل العقل على الجسم وفعل الجسم على العقل.

وإن نظريتهم القائلة بأن الرب يتدخل في هذه المناسبات لها سندٌ في جزء هام من نظرية ديكارت نفسه؛ فقد التجأ ديكارت إلى صدق الرب، الذي لا يمكن أن يخدعنا، عندما كان يحاجُّ بأن الأفكار الواضحة والمتميزة لا بد أن تكون صادقة. يتضمن هذا (أ) أن الإدراكات الحسية الواضحة والمتميزة صادقة (ب) أن الرب يتدخل، ويشارك على الأقل في المسئولية، في وضع هذه الإدراكات في عقولنا في المناسبات الصحيحة؛ أي في جميع المناسبات التي تؤثر فيها الموضوعات الفيزيائية المدرَكة على أعضاء حسنا الجسمية.

يبيِّن هذا أن أصحاب مذهب المناسبة كانوا ديكارتيين صادقين، لقد أفادوا من جزء أساسي من نسق ديكارت الفلسفي لكي يعدِّلوا جزءًا آخر تَبَيَّن أنه مغلوط وأنه حقًّا غير متسق مع تعريفات ديكارت نفسه الماهوية للعقل والجسم.

هكذا كان أصحاب مذهب المناسبة هم أول من رفض «مذهب التفاعل» interactionism السيكوفيزيقي، الذي كانت له الكلمة العليا حتى ذلك الوقت ولم يكن محل شك، واستبدلوا به مذهب «التوازي» parallelism السيكوفيزيقي: ليس ثمة تفاعل بين العقل والجسم، بل هناك توازٍ هو الذي يخلق مظهر التفاعل؛ ففي كل مناسبة عندما يود العقل، الإرادة، أن يحرك طرفًا بطريقة واعية، فإن الطرف يتحرك كما لو كان ذلك مسبَّبًا بالإرادة، والعكس بالعكس ففي كل مناسبة عندما يُنبَّه عضوٌ حسي جسمي فإن العقل يَخبُر إدراكًا حسيًّا كما لو كان مسبَّبًا بعضو الحس. ولكن في واقع الأمر ليس هناك عِلِّيَّة. لقد كان التوازي إعجازيًّا: كان بسبب تدخل الرب، كان بسبب صدق الرب وفضله.

غير أن هذا الصنف من المعجزة لم يكن مقنِعًا، لا للمؤمن التقليدي بالمعجزات وبالمسيحية، ولا للعقلاني الحصيف، ناهيك بالشكاك (فإذا كنا نعيش في عالم من المعجزات الدائمة، المعجزات التي تحدث في أتفه المناسبات، فإن ذلك يجرد المعجزات الجوهرية للإيمان المسيحي من جزء من طابعها الإعجازي وجزء من قيمتها).

لا غرو، أخذ الفلاسفة المسيحيون يفتشون عن صيغة لمذهب التوازي غير مناسباتية، كيما يحتفظوا بمزايا مذهب المناسبة دون عيوبه الظاهرة.

تعود الصيغة الأولى لهذه النظرية في التوازي إلى سبينوزا، الذي كان يعد نفسه ديكارتيًّا. وتعود الصيغة الثانية، والأهم في رأيي، إلى ليبنتز.

تهيب نظرية سبينوزا، مثلما فعلت نظرية المناسبة، بملاحظة لديكارت: فقد وصف ديكارت العقل والجسم على أنهما «جوهران»، غير أنه قال أيضًا إن الرب وحده هو من يستحق أن يوصف بأنه جوهر بالمعنى الدقيق؛ فالجوهر، كما يقول ديكارت في التأمل الثالث، يجب أن يعرَّف بأنه «شيءٌ يوجد دون أن يعتمد من أجل وجوده على أي شيء آخر»، وهذا، بمعناه الدقيق، لا ينطبق إلا على الرب.

هذا «الجوهر» substance الواحد، الرب، له «صفات» attributes لانهاية لها (هذا المصطلح أيضًا attribute (صفة) قد استعمله ديكارت بمعنًى مماثل) (المبادئ -١، ٥٦). من هذه الصفات اللانهائية لا يستطيع الفكر البشري أن يستوعب إلا اثنتين: cogitatio، الفكر، الوعي، العقل؛ وextensio، الامتداد، الجسمية. وحيث إن كلتيهما مجرد صفتين للرب، فمن الممكن تفسير توازيهما دون لجوء إلى معجزات مناسباتية. وهما تجريان متوازيتَين لأنهما وجهان مختلفان لنفس الكيان التحتي الواحد، وجهان للجوهر الواحد: الرب.
يرى المرء أن، ولماذا، سبينوزا لا بد أن يكون a pantheist (من القائلين بوحدة الوجود؛ البانتِيزم)؛ فبما أنه لا توجد ماهية أو جوهر آخر في العالم سوى الرب، فلا بد أن الرب متماهٍ مع ماهية أو جوهر العالم، متماهٍ مع الطبيعة.
يرى المرء أيضًا أن، ولماذا، سبينوزا لا بد أن يكون a panpsychist (من القائلين بشمول النفس)؛ فالعقل صفة، ووجه، للجوهر الواحد، ومن ثم فهناك أوجه عقلية تجري في كل مكان موازية للأوجه المادية جميعًا.

(٥٠) نظرية ليبنتز في العقل والمادة: من مذهب التوازي إلى مذهب الهوية

أعتقد أن أفضل طريقة لفهم ليبنتز هي أن نعده ذلك الديكارتي الذي بينما كان يقتفي أثر غيره من عظام الديكارتيين كان ناقدًا لديكارت. كان ليبنتز انتقائيًّا ناقدًا، متأثرًا كثيرًا بأفلاطون وأرسطو والقديس أوغسطين، وكذلك بجميع فلاسفة زمنه المنتجين العظام: ديكارت؛ هوبز٥٣ وجَسِّندي؛ جيولنكس ومالبرانش؛ سبينوزا وأرنولد (وقد قرأ لوك ونَقَدَه؛ ولكن يبدو أنه لم يقرأ قَط «مبادئ» نيوتن). وكان ليبنتز، مثل سبينوزا، من أصحاب مذهب التوازي؛ وقد نَقَدَ مِرارًا سبينوزا وأصحاب مذهب المناسبة وبخاصة مالبرانش. ورغم ذلك فإن نظريته في توازي العقل-الجسم مشابه بشكلٍ لافت لكل من مذهب المناسبة ومذهب سبينوزا. وقد تخلى، مثل أصحاب مذهب المناسبة، عن تفاعل العقل-الجسم واستبدل به فِعلَ الرب. واجتنب، مثل سبينوزا، اللجوء إلى معجزة إلهية عند كل مناسبة مفردة. غير أنه اجتنب أيضًا بانتِيزم سبينوزا وصورته من الواحدية. أما تفسير ليبنتز لتوازي العقل-الجسم فيتمثل في مذهبه الشهير في «الانسجام المقدَّر» pre-established harmony: فحين خلق الرب العالمَ رأى كل شيء مسبقًا وقَدَّرَه مسبقًا؛ وبذلك قَدَّرَ لكل روحٍ أن أفكارها (إدراكاتها الحسية، خبراتها الذاتية) سوف تعكس على نحو صحيح (وإن يكن غامضًا في كثير من الأحيان) أحداثَ العالم الفيزيائية من وجهة نظرها الخاصة؛ من النقطة التي تحتلها في العالم. ومن ثَم فإن إدراكاتنا الحسية (بقدر ما تكون واضحة ومتميزة) صادقة، وهذا لا يقتضي تدخلًا خاصًّا من الرب في كل مناسبة معينة؛ وبالمثل، عندما نقرر أن نحرك طرفًا من أطرافنا، فإن هذا يتبعه كلٌّ من إدراك حركة الطرف، والحركة الفيزيقية للطرف بطبيعة الحال.
وكان ليبنتز، مثل سبينوزا، شمولي النفس من نوعٍ معين، هناك وجهٌ داخلي لكل مادة، خبرة تشبه الروح؛ غير أنه اختلف عن سبينوزا بطريقتَين على الأقل تتعلقان بعلاقة العقل-الجسم. فبينما كان سبينوزا واحديًّا، يرى أن ليس هناك سوى جوهرٍ واحد هو الرب، كان ليبنتز يأخذ بمذهب الكثرة pluralist وبالمذهب الفردي individualist هناك كثرة لا متناهية من الجواهر، كلٌّ منها مناظِرٌ لنقطة في المكان، وكل منها شبيه بالروح، وإن لم تكن منها سوى قلة نسبية — أرواح الحيوان — هي التي وُهِبَت إدراكًا حسيًّا وذاكرة، وعددٍ بَعدُ أقَلَّ من الأرواح البشرية أو العقول، هي التي وُهِبَت عقلًا أيضًا. ولما كانت كل من هذه الأرواح أو الجواهر الشبيهة بالروح تختلف في درجة وضوح الوعي، وتناظِر نقطةً في المكان، فقد أسماها ليبنتز «المونادات» monads (monas عند إقليدس = وحدة أو نقطة).
هناك فرقٌ آخر بين كوزمولوجيا ليبنتز وكوزمولوجيا سبينوزا؛ ففي حين أن الروح والجسم في نظرية سبينوزا هما مجرد «صفتين» attributes للجوهر الواحد، الرب، فإن ليبنتز يُعَلِّم أن كل واحدة من المونادات الكثيرة جوهر حقيقي. ووفقًا للمصطلح الكانْتي فإن كلًّا منها «شيء في ذاته» thing in itself حقيقي؛ بينما المادة هي مجرد «المظهر» appearance الجيد التأسيس من الخارج، لأكداس وامتدادات هذه «الأشياء في ذاتها» الجوهرية («جيد التأسيس» بمعنى أنه رغم أن وحدة الجسم هي وهْمٌ فإن استمراريته وامتداده في المكان ليسا وهمًا). والرب، بصفة أكثر خصوصية، لا يبدو كمادة مثلما يبدو في نسق سبينوزا، ولكنه روح، مونادة، شيء في ذاته، وإن كان مختلفًا طبعًا عن جميع المونادات في شمول علمه وشمول قدرته. وهو خالق المونادات الأخرى، خلقها على صورته، ووهبها درجات متفاوتة من المعرفة والقوة (وهو ليس خالق المادة ما دامت هذه مجرد المظهر الخارجي لأكداس المونادات).

ونظرية ليبنتز في العقل (في المونادات) وفي المادة تأخذ التعريف الديكارتي للعقل مأخذًا حرفيًّا على أنه جوهريًّا غير ممتد، وللمادة على أنها جوهريًّا ممتدة: العقل، لكونه غيرَ ممتد، لا بد أن يكون، معتبَرًا من الخارج، نقطة غير ممتدة في المكان (كما ذكرنا آنفًا، لا يقول ديكارت نفس الشيء تمامًا، فالعقل غير الممتد، عند ديكارت، مركَّز بصفة رئيسية في الغدة الصنوبرية. وكونه غيرَ ممتد وذا موضعٍ معًا يبدو أنه يتضمن مذهب ليبنتز بأن الروح محتواة في نقطة من المكان). ومن الجهة الأخرى فكل قطعة من المادة لا بد، لكونها ممتدة في المكان، أن تتكون من عدد لامتناهٍ من النقاط، وبالتالي عدد لا متناهٍ من المونادات؛ فالمادة غير الحية تتكون من مونادات بدون أفكار واضحة ومتميزة وبدون ذاكرة، والمادة الحية تتكون من مونادات ذات أفكار (إدراكات حسية) واضحة ومتميزة نوعًا ما وشيء من الذاكرة، والعقل يتكون من مونادات ذات أفكار واضحة ومتميزة وذاكرة.

هكذا يقبل ليبنتز هنا بعض الأفكار الديكارتية الأساسية. غير أنه يختلف عن ديكارت في توكيده على أن المادة ليست جوهرًا (أو شيئًا في ذاته) بل مجرد مظهر. وهو يسلِّم أيضًا بمتَّصَلٍ من المراحل من المونادات غير العاقلة وغير الحية إلى الحيوانات ثم إلى الأرواح العاقلة البشرية.

يخلص ليبنتز بهذه النتيجة عن طريق نقدٍ (موجَّه) لديكارت.

يتضمن الامتداد — الامتداد الهندسي — (كما هو عند ديكارت) «القابلية للانقسام» divisibility. ومن ثَم لا يمكن أن يكون هناك ذرات ممتدة غير قابلة للانقسام (كان ديكارت يقول بنفس الشيء). غير أن كل شيء ممتد يتكون من عددٍ لامتناهٍ من الجواهر غير الممتدة. إذن كل جوهر غير ممتد لا بد أن يكون قوة (شِدة، كثافة) intensity متحيزة في نقطة.

وقد صادف ليبنتز من قبل مثل هذه الكثافات المتموضعة في نقطة في حساب التفاضل الخاص به؛ فالقوة مثلًا هي كثافة غير ممتدة متموضعة في نقطة. وبما أن القوة هي كثافة غير ممتدة، فإن القسمة الثنائية الديكارتية (العقل = غير ممتد، والمادة = ممتدة) تثبت أن القوة لا بد أن تكون شيئًا عقليًّا. كان هذا على توافق مقبول مع الاستعمال الشائع جدًّا للتصور الديكارتي للجوهر المفكر؛ فالتفكير كان يعني عند ديكارت أي شيء من الإدراك الحسي والشك إلى التخطيط، والقصد، والإرادة، إلى خبرة الشهوات والدوافع. كل هذه الكثافات، والشهوات والدوافع لا تختلف عن القُوى.

تتألف ميكانيكا ديكارت من مادة (امتداد) في حالة حركة. وهي لا تعمل بفكرة القوة. وقد انتقد ليبنتز هذا الأمر في وقتٍ مبكر. فقد بَيَّنَ أن الامتداد، وإن كان مميزًا للمادة، فهو غير كافٍ (كما ظن ديكارت) كتفسيرٍ للمادة، وللعِلِّيَّة بالدفع، لأنها لا يمكنها أن تؤسس الصفة الهامة للمادة، صفة عدم قابلية الاختراق impenetrability («صَدها»٥٤  antitypy أو قوتها الطاردة). إن ما يميز المادة من الخيال (الشبح) أو من الظل هو هذه اللااختراقية أو الصد. ولكن هذه قوة مقاوَمة — مقاومة للَّمس مثلًا — ومن ثَم هي قوة. إذن المادة هي امتداد مليء بالقوة، بالكثافات.

هذه هي حجة ليبنتز التي أدت به، إلى النتيجة، ذات الأهمية الكبرى لنظريته في مشكلة العقل-الجسم، القائلة بأن المادة هي امتداد مليء بجواهر شبيهة بالعقل.

تعود فكرة التوحيد بين المفهوم العقلي للكدح (النزوع، السعي، الإرادة) وبين فكرة قوة فيزيائية متموضعة ولكن غير ممتدة؛ تعود في الماضي إلى هوبز. ولا بد أن هوبز قد تشَجَّعَ كثيرًا عندما وجد أن حساب التفاضل يؤيد هذه الفكرة تأييدًا قويًّا: فالقوة = العجلة × الكتلة، والعجلة تَفاضلٌ ثانٍ لحركةِ نقطة: ومن الواضح أنها كثافة متموضعة، ومن الواضح أنها غير ممتدة، وأنها من ثَم، وفقًا لديكارت، عقلية.

هذه هي خلفية كوزمولوجيا ليبنتز، نظريته في عالم الجواهر العقلية أو المونادات؛ مونادولوجيا ليبنتز. وقد أضاف لاحقًا٥٥ مذهب الانسجام المقدَّر. كان هذا، أولًا، انسجامًا، وُضِعَ عند خلقها، بين الكثافات (الإدراكات والنزوعات المختبَرة) الخاصة بشتى الجواهر العقلية الفردية، المونادات. وكنتيجة لهذا وَجَبَ أن يكون هناك أيضًا انسجامٌ بين الجواهر الفردة والمظاهر (التي هي أكداس الجواهر كما تُرَى من الخارج).
من النتائج المترتبة على مذهب الانسجام المقدَّر هذه النتيجة: حيث إن كل الخبرة، وبخاصة أيضًا الإرادة والإدراك الحسي (وأيضًا الإدراك الواعي apperception، أي الوعي، التفَكُّر، انظر جيرهارت IV ص٦٠٠) هي مقدَّرة مسبقًا في المونادات، فهي لا تحتاج إلى أية «نوافذ» أو أجهزة حسية لملاحظة العالم، إنها تعكِس العالمَ المتغيرَ فحسب (المنظر الخارجي لأكداس المونادات) لأن هذه الملَكة مبيَّتة فيها بواسطة الرب في البداية.

هكذا ليس ثمة تفاعل بين المونادات؛ وإنما يسلك العالم الفيزيائي كما لو كان هناك تفاعل ميكانيكي بواسطة الدفع.

يترتب على هذا نتيجة أخرى مهمة؛ توازٍ بين عالم الخبرة العقلية — عالم الأغراض، والغايات، والإرادة — وعالم المظاهر الفيزيائي، عالم العِلِّيَّة الميكانيكية، عالم المادة. يؤكد ليبنتز مِرارًا أن نظريته في الانسجام المقدَّر تحل الصياغة الثانية لمشكلة العقل-الجسم السقراطية كما وردت في الفقرة الأوتوبيوجرافية من محاورة «فيدون» (انظر نهاية القسم ٤٦ آنفًا). تبيِّن نظريةُ ليبنتز أن هناك تفسيرًا بلغة الأسباب (العقلية) reasons أو الأغراض، بالإضافة إلى تفسيرٍ بلغة العِلَل causes الميكانيكية أو الدفع. وهي تبيِّن أن التفسير الأول حيثما أمكن تطبيقه هو أنسب وأوثق صلةً لأنه يخص الجواهر، العالم الغائي للعقول التي هي أشياءُ في ذاتها، بينما التفسير بلغة الدفع يخص المظاهر الفيزيقية فقط.
ونتيجة أخرى مهمة تترتب على النظرية هي مذهب «الفردية المطلقة» absolute individuality للمونادت، الجواهر العقلية، بخواصها الباطنية intrinsic، أفكارها (الإدراكات الحسية مثلًا). فحيث إن كل مونادة جُبِلَتْ على أن تعكِس العالمَ من زاوية مختلفة، فمن غير الممكن أن يكون هناك جوهران متساويان باطنيًّا. يُفضِي هذا إلى مذهب ليبنتز في «هوية اللامُتَمايزات» identity of the indiscernibles: فأيُّما جوهرين غير متمايزين باطنيًا فمن غير الممكن أن يكونا اثنين حقًّا، بل هما الشيء نفسه، وهذا يتعارض مع النظرية الحديثة في الجسيمات الأولية التي هي بالطبع مختلفة خارجيًّا أو موضعيًّا ولكنها غير متمايزة باطنيًّا على نحو جِد مهم. وبوسع المرء أن يقول إن نيوتن تَوَقَّعَ هذا وأن ليبنتز لم يتوقعه.٥٦

من المهم أن نتذكر أن نظرية ليبنتز تعددية، بالمقارنة بواحدية سبينوزا؛ فهي تشتمل على كثرة لامتناهية من الجواهر الفردة المختلفة باطنيًّا. غير أنها أيضًا ثنائية بمعنًى معين، فهي تميز تمييزًا حادًّا بين العقول (الجواهر الحقيقية) والأجسام (المظاهر). وهي حتى واحدية بمعنًى آخر؛ فلا جواهر ولا وقائع ولا أشياء في ذاتها إلا هي شبيهة بالعقل. وتختلف العقول أو الأرواح في أفكارها لا عَرَضيًّا بل جوهريًّا؛ لأن حمل الأفكار هو ماهيتها التي غرسها الرب فيها، والتي تميز بين أفرادها.

ومن الشائق أن تقارن بين نظرية ليبنتز وبين النظريات القديمة لفيثاغوراس وسيمياس (انظر القسم ٤٦ سابقًا)، وبينها وبين نظريات الهوية الحديثة لشليك، ورسل، وفايجل (انظر قسمي ٢٢، ٢٣ سابقًا وقسم ٥٤ لاحقًا).

نظرية فيثاغوراس في الروح اللامادية تصف الروح على أنها تَآلُف؛ تَآلُفُ علاقاتٍ عددية. ويصف ليبنتز العلاقات بين الأرواح على أنها تآلف: والمتآلِف هو الأفكار، المحتويات المغروسة إلهيًّا لشتى الأرواح الفردة. وهكذا فإن «الروح» بعامة، عالم الأرواح كشيء متميز عن الأرواح الفردة، متآلِف.

ويصف سيمياس (أفلاطون في محاورة «فيدون») الروحَ على أنها تآلُف للجسم (جسم كائن عضوي حي). ووفقًا لليبنتز فإن جسم الكائن العضوي الحي يتكون من تراكم أرواحٍ في تَآلُف، حيث إحداها مسيطِرة، وتحكم الكائنَ العضوي.

من الواضح أن هذه الروح المسيطِرة هي في تآلف مع الجسم، أي مع العدد اللامتناهي من الأرواح التي تشكِّل الجسم.

وتصف نظريات الهوية الحديثة لشليك ورسل وفايجل؛ تصف «العقلي» the mental على أنه رؤية داخلية (معرفة بالاتصال المباشر knowledge by acquaintance) لبعض العمليات الدماغية. ووفقًا لنظرية ليبنتز فإن هذه الرؤية الداخلية هي «واقعية» real؛ إنها رؤية ﻟ «شيء في ذاته» a thing in itself. والعملية الدماغية المناظِرة هي «مظهر» appearance خارجي للشيء نفسه («معرفة بالوصف» knowledge by description). ليس شليك ورسل وفايجل شموليي النفس عن قصد، وهم، بَعدُ، أبعد عن أن يكونوا واحديين روحيين. ومع ذلك فمن غير المستبعد أنهم ملتزمون بنظرية لا تختلف عن مونادولوجيا ليبنتز إلا لفظيًّا. (بالطبع ليس «العقلي» في نظرية ليبنتز في هوية مع أي شيء «فيزيقي» أو «ممتد»؛ غير أنه في هوية مع عنصرٍ محجوبٍ لشيٍ ما «فيزيقي» أو «ممتد»).
وفي النهاية تنبغي ملاحظة أن فكرة ليبنتز عن المونادة بوصفها قوة monad as a force أحيانًا ما تأتي قريبة جدًّا من فكرة «المونادة بوصفها عملية monad as a process»، وهي فكرة تم التوكيد عليها، بطريقة مختلفة بعض الشيء، من جانب هويتهد Whitehead.

(٥١) نيوتن، بوسكوفيتش، مكسويل: نهاية التفسير النهائي

لو كان تاريخ الفكر الإنساني أكثر خضوعًا للعقل، إذن لكانت فكرة التفسير النهائي (اللجوء إلى البديهيات الواضحة بذاتها، أو إلى الأفكار الواضحة والمتميزة؛ انظر قسم ٤٧ آنفًا) لكانت قد نُبِذَت بعد صدور الطبعة الأولى من «مبادئ» Principia نيوتن عام ١٦٨٧م، أو على أقل تقدير بعد التقبل شبه العام لنظرية نيوتن، ولنقلْ بعد ٥٠ سنة مثلًا. فكتاب «المبادئ» لنيوتن، كما رأى نيوتن وليبنتز وباركلي وكل شخص تقريبًا، يتعارض مع فكرة التفسير الماهوي أو النهائي؛ فالتفسيرات النهائية في الفيزياء ينبغي أن تكون قد قامت على ماهية المادة، على خاصيتها الباطنية أو الجوهرية — الامتداد — الذي يفسر الدفع، الاندفاع، الصد؛ بينما عمل نيوتن بالشد الجاذبي.

أَدَّى هذا الموقف المشكِل إلى أربعة مواقف ممكنة:

  • (١)

    أن نرفض نظرية نيوتن، وكان هذا موقف ليبنتز.

  • (٢)
    أن نؤَوِّل الجذب عند نيوتن على أنه خاصية متأصلة أو جوهرية جديدة للمادة (وأن نَدَّعِي لها، على نحو تحايلي ad hoc، وضوحًا ذاتيًّا حدسيًّا). وقد تم اقتراح ذلك بفتور من جانب كوتِس Cotes، وأيضًا، كما سنبين لاحقًا، من جانب نيوتن، وإن سَحَبَ اقتراحَه للتو تقريبًا.
  • (٣)

    أن نرفض مذهب الماهية، ونؤَوِّل نظرية نيوتن على أنها تفسير حدسي افتراضي. وهذا في رأيي هو الموقف الصحيح. وقد يبدو للوهلة الأولى أنه كان موقف باركلي الذي أنكر وجود عالم حقيقي من الماهيات الفيزيائية وراء عالم المظاهر، غير أن باركلي ظَل ماهويًّا (وبخاصة بخصوص العقل، أو الروح، والرب)، بل إن آراءه لَتوصف على نحو أدق كموقفٍ رابع.

  • (٤)
    أن نتبنى تفسيرًا أداتيًّا instrumentalist لنظرية نيوتن.
وهذا الموقف يجب أن يُمَيَّز بوضوح من (٣)؛ فبينما (٣) ينظر إلى نظرية نيوتن على أنها حدسٌ افتراضي يمكن أن يكون صادقًا، فإن (٤) ينظر إليها على أنها مجرد أداة للتنبؤ (قال باركلي أيضًا [مجرد] «فرضية رياضية») لا يمكن أن تكون صادقة وإن أمكن أن تكون نافعة، للتنبؤ على سبيل المثال.٥٧
كان موقف نيوتن نفسه، فيما أظن، غير مستقر بعض الشيء. فهو لم يتخلَّ قَط عن المذهب الماهوي، ثم هو لم يتخلَّ تمامًا عن اعتراضاته على النظر إلى الجاذبية كعِلَّة ماهوية مقبولة. ولا هو تخلَّى تمامًا عن الأمل في أن يجد، هو أو أحد من اللاحقين، العلة الماهوية للجاذبية، فيمكنه بذلك أن يقدم تفسيرًا نهائيًّا لقانون التربيع العكسي للشد الجاذبي. ولم يُحاج إلا في الطبعة الرابعة من «البصريات» Optics الذي صدر بعد ثلاث سنوات من رحيله، على هيئة تساؤلات (تساؤل ٣١)، لإثبات ما يمكن في رأيي أن يؤَوَّل كاقتراحٍ بأن الشد (الجذب) attraction قد يكون، بعد كل شيء، كالصد («فعالية الصد») «فعاليةً» a Virtue أو خاصيةً متأصلة للأجسام، وبالتالي «تفسيرًا نهائيًّا». ورغم ذلك، وحتى بعد تقديم هذا الاقتراح، فإنه يحمي نفسه بتكرار تعبيراته المتواترة ضد استخدام «الفرضيات» أو «الكيفيات الغامضة» occult qualities التي «تضع عائقًا في طريق تقدم الفلسفة الطبيعية». ولكن (كما قال من قبل) «أن تشتق مبدئين أو ثلاثة للحركة من الظواهر» هو «خطوة كبيرة جدًّا في الفلسفة، وإن كانت العلل (الماهوية) لهذه المبادئ غير مكتشَفة».

إذن موقف نيوتن الذي قدم كتابُه «المبادئ» بوضوحٍ ما أسميتُه «تفسيرات حدسية افتراضية» هنا أيضًا على درجة كبيرة من الأهمية.

  • (أ)

    فقد اعتقد أن قوانينه في الحركة قد استُخلِصت بالاستقراء من الظواهر.

  • (ب)

    وقد اعترف أن الاستقراء ليس برهانًا صائبًا.

  • (جـ)

    واعتقَدَ أن من حقه في هذه الحالة الخاصة لقوانين الحركة أن يدعي صدقها الوقائعي، وإن لم يكن من حقه أن يدعي صفتَها ﻛ «علل» أو كتفسيرات (لم يجرؤ في التساؤل الأخير في «البصريات» على اقتراح أن قانون الجاذبية قد يكون مقبولًا بعد كل شيء كعلة ماهوية). وفي ظني أن كل هذا كان بسبب اعتقادٍ راسخ في الماهوية، اعتقادٍ حاول أن يستبدل به، دون جدوى، التجاءات إلى الظواهر، وإلى الاستقراء من الظواهر.

إذا كنتُ مُصيبًا في هذا التحليل فإن هذا لَيجعل إنجازات نيوتن أكثر إبهارًا؛ فلقد أُنجِزَت ضد تحيز اعتقادات ميثودولوجية زائفة. وفي حين كان يعتقد، مخطِئًا، ومتواضعًا، أن ما قدمه ليس الأفضل، بل أقل درجة، فقد أَنجز على نحو سديدٍ أفضلَ نظرية كان بالإمكان إنجازُها في ذلك الوقت، وبأفضل طريقة ممكنة. (مَن يمكنه أن يقول إن نوبات اكتئابه لا تعود، أو لا تعود جزئيًّا، لماهويتِه الموروثة؟)

كان نيوتن ذَرِيًّا atomist، ومن المعجبين بقُدامَى الذريين، ولكن ليس فيما يتعلق بمشكلة العقل-الجسم، فهنا اتبع ديكارت، والتعاليم اللامادية الأفلاطونية والأرسطية (البصريات، التساؤل ٢٨، ٣١).

بوسعنا أن نقول إن روجر جوزيف بوسكوفيتش، الفيزيائي والفيلسوف اليوغوسلافي العظيم، واحد من أعظم النيوتونيين، إن لم يكن أعظمهم. وقد جمع بطريقة مبتكرة، بين إحدى أفكار ليبنتز وبين الكثير من أفكار نيوتن، وبخاصة مذهب نيوتن الذري. والفكرة التي أخذها بوسكوفيتش عن ليبنتز هي لا امتدادية الذرات: فذرات بوسكوفيتش، شأنها شأن مونادات ليبنتز، هي غير ممتدة، هي نقاط هندسية في المكان، ومراكز قوة. غير أن مونادات بوسكوفيتش (وأيضًا مونادات كانْت التي نشأت متعاصرةً مع بوسكوفيتش ومستقلة عنه) كانت مختلفة تمامًا في جميع النواحي الأخرى عن مونادات ليبنتز.

مونادات ليبنتز مُعبَّأَة بكثافة (أو باستمرارية بمعنًى أدق) في المكان؛ فلكل نقطة في المكان الثلاثي الأبعاد ثمة مونادة مناظِرة، مونادة غير مادية لأنها غير ممتدة. ومن جهة أخرى فأي تراكم ممتد ثلاثي الأبعاد في المكان يظهر كمادة، كجسم: «يظهر»؛ لأنه في الواقع يتألف من جوهر غير ممتد وغير مادي؛ يظهر كمادة أو كجسمٍ لأنه ممتد، لأنه يملأ جزءًا ممتدًا من المكان الثلاثي الأبعاد. إذن ليس ثمة خواء، ليس ثمة مكانٌ فارغٌ بين المونادات المعبَّأة بإحكام.

أما نظرية بوسكوفيتش (وكانْت أيضًا) فشيءٌ مختلف.٥٨ كان هو وكانْت من الذريين؛ أي كانا يعتقدان في ذراتٍ وخلاء؛ وكانَت ذراتهما نقاطًا، مونادات. غير أنها ليست معبأةً بإحكام؛ بل، على العكس، لا يمكن لمونادتين ذريتين أن تتلامسا؛ إذ تَحُول دون ذلك «قوًى طاردة» repulsive forces تتزايد مع تناقص المسافات الفاصلة، وتقترب من اللاتناهي مع لا تناهي الاقتراب بين المونادتين. المونادات إذن متباعدة؛ وكما أوضح كانْت بصفة خاصة فإن القُوى المنطلقة من المونادات تملأ الخلاء، بشدة أو كثافة متفاوتة.

ووفقًا لبوسكوفيتش فإن القُوى المنطلقة من المونادات تتغير مع المسافة كما يلي: كلما قصرت المسافة ازدادت القوة الطاردة، ومع زيادة المسافات يتناقص الطرد بسرعة إلى الصفر، ثم تتحول القوة إلى قوة جاذبة. وهذا يفسر تماسك الجسيمات (أو ربما القُوى الكيميائية بين الذرات، التي تكوِّن الجزيئات). وعندئذٍ تصبح صفرًا مرة أخرى، ثم تصبح طاردة. وبسبب القُوى الطاردة تملأ الذرات المكان. المادة إذن ممتدة غير أنها تظل دائمًا قابلة للانضغاط، وإن تعذَّر المزيد من الانضغاط، بسبب القُوى الطاردة، إلا إذا كانت القُوى الضاغطة كبيرة جدًّا.

هذه النظرية هي، بمعنًى ما، تأملية خالصة، أو عقلية خالصة، هي نتاج تشييد نقدي عقلي لنموذج، ونتاج نقد النماذج السابقة (مثل نماذج ليبنتز والذريين الأوائل). وهي بطبيعة الحال حدسية افتراضية: هي نموذج إرشادي (باراديم) لتفسيرٍ حدسي افتراضي. ومن المثير أن نلاحظ، بِغَض النظر عن الافتراض القائل بأن الذرات الأساسية نقاطٌ غير ممتدة، أن نظرية تغير القُوى الطاردة والجاذبة كان قد أرهص بها نيوتن الذي كتب في «البصريات» (تساؤل ٣١) عن القُوى الكيميائية الجاذبة: وكما في الجبر؛ حيثما تتلاشى الكميات الموجبة وتتوقف هنالك تبدأ الكميات السالبة، كذلك الحال في الميكانيكا؛ حيثما يتوقف الجذب، هنالك ينبغي أن تَتْبَعه «فعالية طاردة» (يشير بوسكوفيتش إلى فقرات عديدة من تساؤل ٣١).

ومن المثير من وجهة نظرنا أن بوسكوفيتش، مثل ديكارت ونيوتن، مؤمن بالتفسير الماهوي أو النهائي؛ وهي يستخدمه صراحةً لكي يؤسس تفاعل العقل والجسم. أما عن نظريته الفيزيائية الخاصة فإن موقفه هو تقريبًا نفس موقف نيوتن، وإن كان من الواضح أنه أقل انزعاجًا بالمشكلة الميثودولوجية من نيوتن.

وحيث إن بوسكوفيتش يقترح نظريةً دينامية في المادة، كشأن نظرية ليبنتز، فإن عليه بوصفه تفاعليًّا أن يبين بوضوح أن موناداته ليست أرواحًا ليبنتزية، وأن مادته تتفاعل مع الروح أو العقل، ولا تجري متوازيةً معه في انسجامٍ مقدَّر. يقول بوسكوفيتش، ١٧٦٣م، مقال ١٥٧: «يمكن لنظريتي هذه أن تقترن على نحو ممتاز بلامادية الأرواح. تعزو النظريةُ للمادة خصائص العَطالة، وعدم القابلية للاختراق، والحساسية (وهي نتيجة مترتبة على عدم الاختراق باللمس)، وعدم القدرة على التفكير؛ وتعزو للأرواح عدم القدرة على التأثير في حواسنا من خلال عدم الاختراق، وملَكتَي التفكير والإرادة. الحق أني أفترض عدم القدرة على التفكير والإرادة في التعريف نفسه (التعريف الماهوي) للمادة ذاتها وللجوهر الجسمي … إذا قبلنا هذا التعريف فمن الواضح أن المادة لا يمكنها أن تفكر. وهذا صنفٌ من النتيجة الميتافيزيقية يترتب بيقينٍ مطلقٍ عن قبول التعريف». هكذا يلمس المرءُ خطرَ التعريفات الماهوية حتى على رجلٍ في عَظَمة بوسكوفيتش. ورغم ذلك فهو على حقٍّ في تحصين نفسه ضد الشك بأن قبول الكثافات الدينامية غير الممتدة مثل مونادت ليبنتز يُلزِمه بقبول موقف ليبنتز تجاه مشكلة العقل-الجسم.

هكذا لم يُنسَخ مذهب الماهية، لا كنتيجة لنظرية نيوتن ولا لنظرية بوسكوفيتش. غير أنه نُسِخَ كنتيجة لنظرية المجال (الحقل) لمكسويل Maxwell في الكهربية المغناطيسية. حاول مكسويل أولًا أن يؤسس نظريته على نموذجٍ ميكانيكي للأثير (كان هذا لا يزال نزعةً ماهوية). كان هذا النموذج الميكانيكي في البداية مُسعِفًا جدًّا لصياغة وتأويل معادلاته (التي وَصَفَت الاعتماد المتبادل بين القُوى الكهربية والمغناطيسية). ولكن النموذج الماهوي الميكانيكي غدَا متعثرًا جدًّا، وغدا في النهاية غير متسق؛ لقد انهار. كانت المعادلات، من الجهة الأخرى، متسقة، وقابلة للاختبار. وقد اختبرها هينريش هيرتز Hienrich Hertz.

ها نحن بإزاء نظرية فيزيائية ناجحة ومهمة للغاية قد تبدد جوهرها الميكانيكي. كانت هذه نهاية الماهوية. لم يعد بوسع أحد أن يسأل أي حدسٍ واضح بذاته يقبع «وراء» المعادلات، تقرر المعادلات ببساطة قوانين التفاعل الكهرومغناطيسي، وبذلك تفسر الظواهرَ المعنِية، تمامًا كما قررت معادلات نيوتن قوانين الميكانيكا وفسَّرَت بذلك الظواهر، كما كان يؤكد دائمًا.

هكذا مع نيوتن، والآن مع مكسويل بشكلٍ واضح، نُسِفَت فكرة أنه يجب أن تكون هناك مبادئ نهائية واضحة بذاتها حدسيًّا (مثلما يُزعَم عن المبادئ الخاصة بآلية عمل الساعة) وراء التفسير. لقد تحطمت الحدوس «الواضحة بذاتها» المتعاقبة بخصوص «الطبيعة الحقيقية» للمادة. لذا أصبح من الممكن لدى كل تفسيرٍ مقترَح أن نسأل: «هل يمكن لهذا أن يُفسَّر مزيدًا من التفسير؟» أو ببساطة أكثر: «لماذا؟» (وما دام هذا ممكنًا دائمًا، فمن المتعذر الحصول على تفسيرٍ نهائي). وكل ما كان ذا قيمة في الماهوية — الرغبة في كشف «البناءات» وراء المظاهر، والبحث عن نظريات «بسيطة» — تم استيعابُه بالكامل بواسطة منهج التفسير الحدسي الافتراضي.

أدى نجاح نظرية مكسويل لفترة من الزمن إلى قلب الموائد، فبدلًا من تفسير ميكانيكي للكهرومغناطيسية، فقد لاقت نظرية كهرومغناطيسية للمادة وللميكانيكا لفترة من الزمن (وبخاصة بعد ﻫ. أ. لورنتز)٥٩ قبولًا عامًّا. والحق أن ميكانيكا الكوانتم بدأت سيرتَها كجزء من هذه النظرية الكهرومغناطيسية في المادة. ولكن هذه النظرية الكهرومغناطيسية قد انهارت أيضًا (مع نظرية ياكاوا في القُوى النووية غير الكهربية).

بهذه الطريقة أصبحت الفيزياء الحديثة غير ماهوية، وتعددية. ومن المتيقن تقريبًا أن هذه التعددية ليست الكلمة الأخيرة؛ فهناك القانون (المعمَّم) لبقاء الطاقة وكمية الحركة، وهذا فيه وعدٌ بتبسيطٍ واحدي. مثل هذا التبسيط الواحدي لنظريات المادة وشتى أنواع القُوى حقيق بأن يكون نجاحًا هائلًا، وهو الآن قيد المحاولة. إلا أني أحدس بأن السؤال الماهوي «ما هو»، سوف يزول، عاجلًا أو آجلًا، إلى الأبد.

لزمنٍ طويل كانت الماهوية لدى جميع الأطراف، بمن فيهم معارضوها الوضعيون، مطابِقة للنظرة القائلة بأن مهمة العلم (ومهمة الفلسفة) هي الكشف عن الواقع الخبيء النهائي وراء المظاهر. ولقد تَبيَّن أنه رغم وجود مثل هذه الوقائع الخبيئة، فلا شيء منها نهائي، وإن كان بعضها على مستوًى أعمق من بعض.٦٠

(٥٢) ترابط الأفكار بوصفه تفسيرًا نهائيًّا

كان ديكارت تفاعليًّا. ولكنه كان ثنائيًّا أيضًا؛ والأسئلة المتعلقة بالجوهر الممتد، المادة أو الجسم، قد توحِي بأسئلة مماثلة تتعلق بالجوهر غير الممتد، العقل. العقل والمادة يتفاعلان؛ ولكن من وجهة نظرٍ كونية فإنه لَأهم حتى من هذا أن المادة (الأحداث الجسمية، الحركات الجسمية) قد تتفاعل مع المادة (بواسطة الدفع عند ديكارت كما نعلم). هكذا يبرز السؤال: ماذا عن تفاعل العقل مع العقل، أي الأحداث العقلية مع الأحداث العقلية؟

هناك إجابة عن هذا السؤال كان لها نفوذ كبير، وهي نظرية قد تضاهِي في بساطتها الحدسية وقوة إقناعها نظريةَ أن الأجسام يدفع بعضها بعضًا ميكانيكيًّا. إنها النظرية القائلة بأن الأفكار (باعتبارها عناصر الجوهر العقلي) يجذب بعضها بعضًا ميكانيكيًّا (إلى داخل بؤرة الوعي). كان لهذه النظرية في آلية عمل العقل نفوذٌ هائل. تبدأ النظرية في اعتقادي مع أرسطو، وتكتسب أهمية عند ديكارت وسبينوزا،٦١ وأهمية أكثر حتى من ذلك عند مدرسة التجريبيين الإنجليز، لوك وباركلي وهيوم (وبخاصة عند معاصره الأصغر هارتلي الذي صدر كتابه الرئيسي، ١٧٤٩م، بعد عشر سنوات من «رسالة» هيوم)، وحققت شيئًا أشبه بالهيمنة مع بنتام وجيمس مِل، ومع هربرت، وظلت عنصرًا قويًّا في التحليل النفسي لفرويد، وحتى في مدرسة الجشطلت (رغم أنها كانت تنتقد بشدة مذهب الترابط associationism). غير أن جون ستيوارت مِل، 1865 b, p. 190، فيما أظن، كان أول من قال صراحةً ما كان ضمنيًّا منذ سبينوزا على الأقل في دعاوى أصحاب مذهب الترابط: إن «قوانين الترابط» تمثل آليةً لعمل العقل مماثِلة، ومساوية في الأهمية، لقوانين حركة الأجسام الفيزيائية (وقوانين الجاذبية في ميكانيكا نيوتن). «الأفكار» — البسيطة والمركبة — هي ذرات وجزيئات العقل، الخاضعة لميكانيكا ترابطية، ومركباتُها، الممسوكة بواسطة الترابط، خاضعة ﻟ «كيمياء عقلية».

(هذا كله، فيما أرى، هو المذهب الأشد تضليلًا الذي نَجَمَ عن ثنائية ديكارت تحت تأثير أفكار التوازي اللاحقة. ولا يمكن، في رأيي، أن يكون هناك ما هو أبعد عن الحقيقة، فالقول بأن الأفكار بمثابة جسيمات العقل والآليات العقلية، كل هذا بعيد جدًّا عن الواقع، أبعد ما يمكن أن يكون. الكائنات العضوية تحب وتكره، تحل المشكلات، تختبر التقييمات. العالم ٢، حقًّا، مختلف جدًّا عن العالم ١.)

من المثير أنه بالضبط مثلما أن نظرية الدفع كان المقصود بها أن تكون تفسيرًا نهائيًّا بِلُغة ماهية الأجسام (الدفع هو بسبب الامتداد)، فإن نظرية ترابط الأفكار يمكن أن تقدَّم كتفسيرٍ نهائي بلغة ماهية العقل: التفكير، الذي هو ربط الأفكار.٦٢
قد يُعَد لوك شاكًّا في التفسير النهائي وفي مذهب الماهية (Essay III, vi, 3) بصفة عامة والنظرية الديكارتية في الامتداد والدفع بصفة خاصة (II, xiii, 11). ولكن على الرغم من ذلك فإن نظريته عن التفكير — عن العرفان، عن الحكم — يمكن أن تُفهَم على أنها «نظرية نهائية وماهوية في التفكير بواسطة الترابط» (II, xxxiii, 5 ff)؛ فالتفكير هو، ماهويًّا، جمع أو تفريق أفكار (IV, v, 2; IV, i, 2 & 5; etc). وكما في قضايا الموضوع-المحمول الأرسطية الحملية، تُضَم الفكرتان (إنسان وفانٍ مثلًا) أو تُفصَلان بواسطة فعلٍ رابط copula (الإنسان يكون فانيًا؛ الإنسان لا يكون فانيًا)؛ فالرابط هو علامة «الارتباط» association الموجب أو السالب (Cp. IV, v, 5). وهكذا فقوانين التفكير (أو التفكير وفقًا لأرسطو) هي قوانين ترابط الأفكار، حيث «الأفكار» هي «حدود» terms أرسطية. لقد حوَّل لوك منطقَ الموضوع-المحمول الأرسطي إلى نظرية سيكولوجية.
لننظر باختصار إلى التاريخ الأقدم للترابطية associationism.
عند أفلاطون لا تُعَد الصور forms أو الأفكار ideas بالطبع موضوعات عقلية (أو موضوعات عالم ٢) بل موضوعات عالم ٣ موجودة بمعزِل عن فهم أي شخصٍ لها. وفهم فكرة ليس، بدوره، يُسَمَّى «فكرة». وبالمثل عند أرسطو، تُعَد الصور أو الأفكار أو الماهيات متأصلة في الأشياء؛ التمثال الحجري يتكون من مادة وصورة، والصورة أو الفكرة المتأصلة هي ماهيته.

ولكن الأفكار عند ديكارت وسبينوزا ولوك هي في العقل، وهي ذرات أو عناصر العمليات الفكرية: إنها التصورات أو الانطباعات العقلية التي نستخدمها في التفكير في الخواص الجوهرية للأشياء؛ إنها عناصر التفكير. هكذا تَبْرُز المشكلةُ التاريخية: كيف حدث التحول الذي يؤدي إلى نظرية «ترابط الأفكار»؟ (أغفلتُ عن عمدٍ، بين أشياء أخرى، تاريخ نظرية التذكر بواسطة التشابه — القائلة بأن المعرفة = تَعَرُّف = تَذَكُّر — التي تعود بالطبع إلى أفلاطون في محاورة «مينون» و«فيدون»).

ولأرسطو (On Memory 451 b 12-452 b 7) نظرية ترابطية في التذكر. وهي لا يتحدث فيها عن الترابط بين «أفكار»، غير أني أعتقد أن أرسطو هو أول من وضع الأفكار (الصور، الماهيات) — التي، بحسب قوله، تتأصل عادةً في موضوعات العالم ١ — وضعها في عقولنا (ولكن ليس بوصفها ذرات أو عناصر أو خبرات أولية). حدث ذلك، إن لم أكن مخطئًا، كما يلي.
وفقًا لأرسطو (De anima 430 a 20) «المعرفة الحقيقية مطابقة لموضوعها» (Cp. My (1966) vol. I, p. 314; also Theophrasus: De sensu 1: DK 28 A 46). وهو يفسر على نحو أكثر اكتمالًا (Metaphysics 1075 a 1) أن المعرفة مطابقة لصورة موضوعها أو ماهيته مسقِطًا المادةَ من حسابه. أو كما يضع المسألة (De anima 431 b 26-432 a 1): «يجب أن تكون محتويات الجهاز الحسي ومحتويات الفهم العلمي للروح إما مطابقة للأشياء نفسها وإما لصورها أو ماهياتها. ولكنها ليست مطابقة للأشياء، لأن الحجر لا يوجد في الروح بل صورته فقط أو ماهيته أو فكرته». بهذه الطريقة نجد أن الأفكار الأفلاطونية التي لا توجد عند أفلاطون إلا في العالم ٣، والتي هي عند أرسطو متأصلة في العالم ١، تصبح موجودة بالنسبة لأرسطو في العالم ٢. وأنا أشتبه بأن هذه هي الخطوة التي تُحوِّل مصطلح idea (فكرة) إلى مصطلحٍ سيكولوجي أو عقلي. وهي تفسر استخدامه السيكولوجي عند ديكارت وسبينوزا ولوك والمحدثين (ذلك الاستخدام الذي اعترض عليه شوبنهاور — مخطئًا فيما أعتقد — بالنظر إلى استخدام أرسطو). وبمجرد أن أصبح المصطلح الهام idea مصطلحًا لشيءٍ ما محتوًى في العقل، فليس من المستغرب أن الأفكار أصبحت العناصر الرئيسية أو حتى الوحيدة للعقل، وأن نظريةً في العقل قد نتجت مثل تلك التي أيدها هيوم في بعض الأحيان، والتي تقول بأنْ ليس ثمة عقول بل أفكار فحسب، وحُزَمٌ من الأفكار.

(٥٣) الواحدية المحايدة neutral monism

بينما يمكن أن يوصف مذهب التوازي السيكوفيزيقي لأصحاب مذهب المناسبة، وأيضًا لسبينوزا وليبنتز، بأنه مذهب توازٍ ميتافيزيقي، فإن مذهب من يقال لهم الواحديون المحايدون (ممثلوهم الكلاسيكيون هم هيوم وماخ ورَسِل، في مرحلة من مراحلهم) قد يوصف بأنه مذهب توازٍ إبستمولوجي. وسوف أقدم هذا الرأي دون أن ألتزم بدقة بالأشكال التاريخية الحقيقية التي عُرِضَت بها من جانب ديفيد هيوم ومن جانب إرنست ماخ. كما في حالة مذهب التوازي الميتافيزيقي، يقدم لنا أنصار هذا المذهب نظريةً مريحة غير تفاعلية في العلاقة بين العقل والجسم.

وفقًا للواحدية المحايدة ليس ثمة جسمٌ أو عقلٌ بالمعنى الذي يتصورهما به الفلاسفةُ الميتافيزيقيون. ليس هناك عالم فيزيائي، أو عالم عقلي. الذي هناك حقًّا هو تنظيم فيزيائي للأشياء أو الأحداث (المحايدة) وتنظيم عقلي لنفس الأشياء أو الأحداث. أي أن الأشياء أو الأحداث تُعتبَر «فيزيائية» أو «عقلية» بحسب السياق الذي ندركها فيه. بوسع الواحدي المحايد أن يُحاجَّ بأن الأمر لا بد أن يكون هكذا لأن «فيزيائي» تعنى، بطريقة أو بأخرى، شيئًا ما يسنح داخل مجال النظرية الفيزيائية؛ «فيزيائي» هو شيء ما يمكن أن يُفهَم أو يفسَّر أو يُتناوَل بواسطة نظرية فيزيائية بمفاهيمها للفعل الفيزيائي، والتفاعل الفيزيائي، وهكذا. وبالمثل، «عقلي» هو ذلك الذي يمكن أن يفسَّر بمساعدة نظريات نعتقدها عن العقل؛ نظريات السيكولوجيا، وعن الفعل الإنساني. نحن لدينا إذن حقلان من النظريات — نظريات فيزيائية ونظريات سيكولوجية — أو نظامان لترتيب الأشياء. النظريات الفيزيائية تنظم الأشياء فيما يمكن أن نسميه تنظيمًا فيزيائيًّا أو تأويلًا فيزيائيًّا، والنظريات العقلية تنظم نفس الأشياء في تنظيمٍ عقلي أو تأويلٍ عقلي. أن نسمي شيئًا ما فيزيائيًّا أو عقليًّا سوف يعتمد إذن على التنظيم الذي فيه ندركه. ثمة بسائط معينة، أو عناصر بمعنًى أخص، قد تؤوَّل على أنها تنتمي لمركبات فيزيائية أو لمركبات عقلية. غير أن العناصر نفسها يُفترَض أنها محايدة بالضبط لأنها قد تصبح، تبادليًّا، أجزاءً إما لمركبات فيزيائية أو لمركبات عقلية.

نحن في وضع الأشياء على هذا النحو لم نقدم أي إشارة على الإطلاق لما تكونه في الحقيقة هذه العناصر المفترَض أنها محايدة. ومع ذلك فقد اعتبر الواحديون المحايدون العناصر شيئًا ما شبيهًا بالانطباعات أو الأفكار أو الإحساسات. ومصطلح ماخ Empfindungen — وهو لفظُه الذي استخدمه لهذه العناصر — ربما يمكن ترجمته إلى «إحساسات» (أو ربما إلى «مشاعر»). وأفضل طريقة لوصف الواحدية المحايدة (إذا شئنا أن نبدأ من العناصر لا من النظريات) هي هذه.
قد تؤخذ العناصر كبيانات data أو كمُعطًى given. هذه البيانات قد تُحزَم معًا أو تُكَوَّم معًا بطريقتَين مختلفتَين، كما سنبين باستخدام شكلٍ ثنائي الأبعاد. فلنمثِّل العناصر كنقاطٍ على سطح (ممثلة بصلبان)؛ أما الطريقتان لحزمها معًا فيمكن عندئذٍ أن تُمثَّلا برسم عمودين رأسيٍّ وأفقي خلال السطح؛ تُمثَّل العقول المختلفة بأعمدة رأسية مختلفة، والأشياء المادية المختلفة بأعمدة أفقية مختلفة.

في هذا الشكل ينتمي كل عنصر إلى كلا الترتيبين؛ ولكن هذا بالطبع تبسيط مفرط؛ لأن عنصرًا ما وإن يكن منتميًا إلى عقلٍ فقد لا ينتمي إلى جسم — مثلًا إذا كان هذا العنصر هو شيء ما مثل شعور بالاسترخاء أو شعور بالبهجة. ومن الجهة الأخرى فإن عنصرًا ما وإن يكن منتميًا إلى جسمٍ فيزيائي فقد لا ينتمي إلى أي عقل (وإن يكن من الصعب على الواحدي المحايد أن يسلِّم بهذا الاحتمال). أو قد ينتمي إلى حدثٍ فيزيائي ليس بالضرورة جسمًا، ومضة برقٍ على سبيل المثال. النقطة الرئيسية في النظرية هي أن العالم الفيزيائي والعالم العقلي كليهما بناءان نظريان مشيَّدان من خامة مُعطاة، وأن الكيانات المختلفة المنتمية إلى هذين العالمين هي أيضًا بناءات نظرية مشيَّدة من هذه الخامة المعطاة.

نفس فريدي نفس جيريمي نفس توم نفس كارل نفس جاك
× هذه الطاولة
× × × ×
× × × هذا الكتاب
×
× جسم جاك
×× × ×
× قلم جاك
× × ×
× × × جسم كارل
× ×× جسم توم
×
× × × × بيبة توم
× جسم جيريمي
× ××
×
× × جسم فريدي
×
× قلم رصاص فريدي
× ×
والآن كيف تبدو مشكلة العقل-الجسم في هذه النظرة؟ مثلما هو الحال في مذهب سبينوزا، لدينا هنا رؤية هي في الأساس واحدية: فهي لا تعرف إلا نوعًا أساسيًا واحدًا من الواقع. ولكن في حين أن هذا الواقع الأساسي في نظرية سبينوزا هو الرب، فإنه في الواحدية المحايدة هو «المُعطَى» the given. وفضلًا عن ذلك، فبينما يقول سبينوزا إن الجسم والعقل هما صفتان لِواقعِه الأساسي، فإن الجسم والعقل في الواحدية المحايدة هما بناءان constructs مشيَّدان من المعطَى. وعند سبينوزا لدينا عِلِّيَّة حقيقية، تفاعلٌ عِلِّي للأجسام مع الأجسام وللعقل مع العقل، ولكن لا تفاعل بين العقل والجسم. أما في الواحدية المحايدة فلدينا نظريات فيزيائية، أي نظريات تفسِّر كيف تتفاعل البناءات الفيزيائية مع بناءات فيزيائية أخرى؛ ولدينا نظريات عقلية، أي نظريات تفسر كيف تتفاعل بناءات عقلية مع بناءات عقلية أخرى. أما السؤال عن تفاعل بين البناءات العقلية والبناءات الفيزيائية فليس مطروحًا؛ لأن الفعل ورد الفعل هما مفهومان نظريان بينما كل من النظريتين الفيزيائية والعقلية مكتفية بذاتها؛ وما من تفاعلٍ بينهما ينشأ ما لم نُدخِل نظرية (لا لزوم لها) جديدة؛ ومثل هذه النظرية سوف تعنِي، من وجهة النظر الواحدية المحايدة، أنه لن يكون ثمة نظريتان فحسب بل نظرية أخرى أيضًا؛ نظرية من نمطٍ أعلى، تربط بين النظريتين لا بين العناصر — المعطَى.

ولكن في الواحدية المحايدة لا محل لمثل هذه النظرية التفاعلية: فالتفاعل يمكن أن، ومن ثَم يجب أن، يُجتنَب. هكذا تصبح العلاقةُ بين العقلي والجسمي علاقةَ توازٍ. ويمكن أن نصفها بأنها مذهب توازٍ إبستمولوجي، كمقابلٍ للتوازي الميتافيزيقي لسبينوزا وليبنتز، من حيث إن الواقع الذي تبدأ منه يُفترَض أنه شيء ما نهائي، أو «مُعطًى»، إبستمولوجيًّا.

وقد اقتُرِحَت النظرة القائلة بأن الأشياء الفيزيائية بناءات، أول ما اقتُرِحَت، من جانب الإبستمولوجيا الحسية sensationalist أو الظواهرية٦٣  phenomenalist، التي حاولت أن ترد كل معرفتنا التجريبية إلى إحساسات أو «انطباعات» impressions. ومن وجهة نظر هذه الإبستمولوجيا لا تكون الواحدية المحايدة مجرد نظرية مريحة في العلاقة بين العقل-الجسم بل طريقة عبقرية وطبيعية في النظر إليها.
ما الذي يشهد لمصلحة الواحدية المحايدة؟ من الحق، في اعتقادي، أن كل الأشياء تقريبًا التي قد تعتبرها النظرةُ الساذجة موجودةً ببساطة هي بمعنًى ما تأويلاتٌ أو بناءاتٌ نظرية. ورغم ذلك، ففي حين تبدو الواحدية المحايدة نظرية جذابة، وبخاصة للتجريبي الخالص، فلستُ أعتقد أنها نظرية شافية. فما العناصر المزعوم حيادُها إلا عناصر «محايدة» اسمًا: إنها، حتمًا، «عقلية»، وعقلية أيضًا بشكلٍ واضحٍ عملية «بناء» الأشياء الفيزيائية. هكذا فالواحدية «المحايدة» غير محايدة إلا في الاسم. فهي، في حقيقة الأمر، مثالية ذاتية subjective idealism على طريقة باركلي إلى حد كبير.٦٤

(٥٤) نظرية الهوية بعد ليبنتز: مِن كانْت إلى فايجل

في نظرية ليبنتز تُعَد الأشياء في ذاتها مونادات؛ والمونادات هي جوهريًّا، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة، عقول أو أرواح. إنها جواهر مفكرة، يتفاوت تفكيرها في درجة الوضوح والتميز، وفي درجة الوعي والدراية. وبحسب درجة وضوح وتميز حالة وعيها تندرج الجواهر في تراتبٍ هرمي. أما الكائنات العضوية فلكلٍّ مونادة حاكمة أو مهيمنة؛ هي روحُه. وأما الأشياء الدنيا كالحجارة فقد لا تكون لها حتى مونادة مهيمنة. من الواضح أن هذه النظرية شكلٌ من مذهب شمول النفس panpsychism، بكل مصاعبه. وهي أيضًا نظرية تأخذ الأشياءَ في ذاتها على أن لها طابعًا عقليًّا أو طابعًا روحيًّا (والعكس بالعكس). وهي تأخذ المادة على أنها المظهر الخارجي (الجيد التأسيس) لتجمعات أو تراكمات أشياء في ذاتها شبيهة بالعقل. وإذا نحن أخذنا رأي ليبنتز في العالم الفيزيائي كما عَدَّله وأوضحه بوسكوفيتش وكانت (انظر القسم ٥١ سابقًا)، مع رأي ليبنتز بأن المونادات (الذرات) شبيهة بالعقل، لوصلنا إذن إلى موقف شبيه جدًّا، إن لم يكن مطابقًا، لشكلٍ حديث من نظرية الهوية. يمكن أن نجد هذه النظرية عند الكثير من الفلاسفة الألمان، من كانْت وهربرت وفيخنز إلى موريتز شليك، وفي أعمال برترند رسل وبيرنهارد رينش، وكذلك هربرت فايجل فيما أعتقد. وقد عرضنا ذلك ونقدناه في قِسمَي ٢٢، ٢٣ سابقًا.
وباعتبارها تعديلًا لوجهة نظر ليبنتز، فإن نظرية الهوية هي، باختصار، أن المونادات، الكيانات الشبيهة بالعقل — أو ربما الخبرات والإحساسات والأفكار — هي الأشياء في ذاتها. نحن نعرف أنفسنا، أو خبراتنا («المشاعر الخام» raw feels، كما يسميها فايجل، متَّبِعًا تولمن) مباشرةً ﺑ «الاتصال المباشر» by acquaintance. هذه الخبرات إذ تُرَى من خارج — أو ربما تؤخذ كأساسٍ لبناءاتٍ منطقية — هي أشياء العالم الفيزيائي النظري: عالم الأشياء الفيزيائية الذي لا نعرفه مباشرةً أو بالاتصال المباشر، بل «بالوصف» by description، من خلال بناءاتنا النظرية. من الواضح أن هذا العالم الخاص بالجسيمات والذرات والجزيئات الفيزيائية هو بناؤنا، اختراعنا النظري. يَسرِي هذا أيضًا على الكائنات العضوية وأجزائها، مثل الدماغ.
نظرية الهوية كما تُرسَم هنا لا بد، لأسبابٍ واضحة، أن تَقبل وتَدمِج فيها نظريةً فيزيائية؛ النظرية الفيزيائية الراهنة؛ ذلك لأن هذه النظرية هي التي تشيِّد العالم الفيزيائي، وفقًا لنظرية الهوية. بهذا المعنى يمكن أن توصف نظرية الهوية بأنها «فيزيائية النزعة» physicalistic. غير أنها من الممكن أن توصف بنفس الدقة، بل بدقة أكبر، بأنها شكل من أشكال المذهب الروحي spiritualism أو العقلي mentalism ما دامت تعتبر العقل والكيانات الأخرى الشبيهة بالعقل أشياء حقيقية (واقعية)، أو أشياء في ذاتها.

انقسمت فلسفة كانْت الناضجة، قسمةً غريبة، إلى جزئين: فلسفة نظرية أو تأملية، وفلسفة عملية أو خُلُقية. تَضَمَّن الأول، الفلسفة النظرية، أننا لا نملك أن نقول شيئًا عن الأشياء في ذاتها، لا نملك أن نثبِت أو ننكر طبيعتَها الروحية. أما الثاني، الفلسفة الخُلُقية أو العملية فقد أقرَّت أن الأخلاقية تجعلنا نؤمن بالرب وبروحٍ خالدة، وتجعلنا نؤمن بأن الأرواح هي أشياء في ذاتها (وتترك مسألة هل جميع الأشياء في ذاتها أرواحٌ مسألةً غير محسومة). هكذا فرغم أن إبستمولوجيا كانت جِد مختلفة عن إبستمولوجيا ليبنتز، فإن فيزياءه وكذلك نظريته في الروح (القائمة على الأخلاق) تقترب اقترابًا وثيقًا من نظرية ليبنتز؛ أوثق ربما مما كان يدرك هو نفسُه.

ومهما يكن من أمر هذه المسألة، فإن العديد من الفلاسفة بعد الكانْتيين في ألمانيا قد تخلوا عن دعوى كانْت بأن معرفة الأشياء في ذاتها (أي المعرفة النظرية) مستحيلة؛ وجعل معظمُهم الأشياءَ في ذاتها شبيهة بالروح؛ وزعموا — ضد ما قاله كانْت — أن بإمكاننا تحصيل بعض المعرفة (المعرفة بالاتصال المباشر) بشيءٍ في ذاته — أي بذاتنا — بواسطة الخبرة الذاتية المباشرة (عن طريق «المشاعر الخام»).

كان نتاج كل هذا، بصفة عمومية، نظريتَين، نظرية واحدية بوسعنا القول بأنها تعود رُجُعًا إلى سبينوزا، ونظرية تعددية pluralist وفردية individualist بوسعنا القول بأنها تعود إلى ليبنتز. الأولى تفترض أن الفردية هي مسألة مظهر لا مسألة واقع، وأهم ممثليها بين تابعي كانْت هو شوبنهاور.٦٥ والثانية تفترض أن الفردية واقعية، وأن الأشياء في ذاتها أفراد (ويبدو أن هذا كان رأي كانْت نفسه). كانت هذه هي وجهة نظر فيخنز، وأيضًا لوتز؛ وكانت، أساسيًا، وجهة نظر شليك، ووجهة نظر رسل. كل هؤلاء كانوا متأثرين إلى حد كبير بليبنتز (من المثير للاهتمام أن شليك، ١٩٢٥م، ص٢٠٩؛ ١٩٧٤م، ص٢٢٧، يلفت الانتباه إلى تأثير ليبنتز على رسل).
في زمننا الراهن تجددت النظرية، وعُرِضَت بدقة وحياد من جانب هربرت فايجل، الذي كان تلميذًا وصديقًا قريبًا لشليك. قام فايجل بتحديث النظرية، وقَرَنَها بموقفٍ فيزيائي.٦٦ وقد بذل الكثير على طريق تدعيمها بحججٍ جديدة. وهو على دراية بالتشابهات بينها وبين آراء ليبنتز وآراء كانْت، وإن كان فيما يبدو يعتقد أن هذه التشابهات عَرَضية جزئيًّا (وهو رأي لا يسعني أن أوافقه عليه). يتصل هذا باعتقاده عن نفسه أنه مادي أكثر مما هو روحي.
وقد قدمنا سابقًا في قسم ٢٣ بعض الانتقادات المفصَّلة لنظرية الهوية بوصفها نظرية فيزيائية physicalist. وقد أُوجِزُ اعتراضي عليها كنظرية عقلية mentalistic فيما يلي؛ فهي لا تتفق مع ما تقدمه لنا الكوزمولوجيا الراهنة كواقعة، عالم لم يكن فيه لدهورٍ خَلَت أثر لحياة أو عقل، انبثقت فيه حياة أولًا وعقل لاحقًا، بل حتى عالم ٣. أعترف بأن هذا كله يمكن أن يكون مردودًا عليه، ولكني أشعر أنه يجب أن يؤخذ كنقطة بدءٍ لمشكلة العقل-الجسم. وأنا أسلِّم بالجاذبية الفكرية للمذهب الواحدي؛ وأسلِّم أيضًا بأن صورةً ما من الواحدية قد تصير مقبولةً يومًا ما؛ ولكني أرى ظهور هذا الموقف احتمالًا بعيدًا.

(٥٥) مذهب التوازي اللغوي

ثمة نظرية أخرى تتجنب التفاعل، وقد تُعتبَر توازيًا سيكوفيزيقيًّا، هي نظرية اللغتين. وفقًا لهذه النظرية ليس ثمة غير عالمٍ واحد، غير واقعٍ واحد. ولكن هناك طريقتين للحديث عن هذا الواقع الواحد؛ إحدى الطريقتين للحديث عنه أن نعامله كشيء فيزيائي، والأخرى أن نعامله كشيء عقلي. هذه وجهة من الرأي قريبة جدًّا من الواحدية المحايدة. فبدلًا من النظريتين أو الطريقتين في ترزيم العناصر معًا في مذهب الواحدية المحايدة، تضع هذه النظرية لغتين أو نسقين لغويين أو طريقتين في الحديث عن الواقع. النظريات والأنساق اللغوية بطبيعة الحال على ارتباط شديد الوثوق، وهذا يشير إلى العلاقة الوثيقة بين التوازي اللغوي والتوازي الإبستمولوجي. بوسع مذهب التوازي اللغوي أن يتخذ أشكالًا مختلفة وفقًا لما نعنيه بقولنا إن هناك لغتين نتحدث بهما عن الواقع نفسه.

وفقًا للصيغة الأولى، نعني باللغتين، ببساطة، نوعَين مختلفَين من المفردات اللغوية. قد يُستعمل كلا النوعين في نفس اللغة، إلا أننا نميز بوضوحٍ بين فئتَين من الكلمات، أي الكلمات العقلية، والكلمات الفيزيائية.

ووفقًا للصيغة الثانية، لدينا معجمان لفظيان لأن لدينا نظريتَين اثنتَين، ولدينا داخل هاتين النظريتَين مجموعتين من المفاهيم لا تتحليان بالمعنى إلا داخل سياقاتها النظرية الخاصة بها.

ووفقًا للصيغة الثالثة فالموقف مختلف قليلًا. في هذا التأويل يؤخذ الحديث عن لغتين كنوعٍ من الاستعارة لكي يشير إلى أنه إذا تحدث شخصٌ عن أجسامٍ وتحدث آخر عن عقولٍ فلا يمكن قَط في واقع الأمر أن يتواصل أحدهما مع الآخر. فهما أشبه برجلٍ صيني ورجل إنجليزي لم يتعلم أيٌّ منهما لغةَ الآخر قَط. هكذا فاستحالة التواصل العابر بين لغة عقلية ولغة فيزيائية هي النقطة الرئيسية هنا؛ فهذه النظرية تعادل القول بأن ها هنا لغتين لا يمكن التواصل بينهما. ولكن، قد يسأل المرء، لماذا يتعذَّر التواصل؟ فبعض الإنجليز على أية حال قد تعلَّموا الصينية، وعدد أكبر من الصينيين قد تعلموا الحديث والكتابة بالإنجليزية. فإذا كانت هاتان اللغتان تشيران إلى نفس العالم — إذا كان الشخصان يتحدثان لغتين مختلفتين ولكن يعيشان في نفس العالم — فينبغي إذن أن يتسنى لهما أن يؤسسا نوعًا ما من التواصل الأساسي، نوعًا ما من الترجمة من إحدى اللغتين إلى الأخرى، مهما اختلف تأويلاهما للعالم في البداية.

هذه هي الصيغ الثلاث التي أعرفها عن وجهة نظر اللغتين أو عن مذهب التوازي اللغوي. وموقف التوازي اللغوي تجاه مشكلة العقل-الجسم هو أيضًا استحالة التفاعل طبعًا. وهو غير ممكن لأن الفعل العِلِّي يجب أن يوصف بلغة، ونحن غير متاح لنا سوى لغتَين، فإما لغة فيزيائية وإما لغة عقلية. تميل هذه الوجهة من الرأي، كشأن الواحدية المحايدة، إلى أن تحل مشكلة العقل-الجسم بإثبات عدم وجود ما كان يُعَد، حتى زمن ديكارت شاملًا إياه، واقعةً واضحة — واقعة التفاعل — عن طريق إثبات أن هذه الواقعة الواضحة ليست واقعة بل إساءة تأويل. وهي، وفقًا لهذه الوجهة من الرأي، إساءة تأويل للغة.

ما سر جاذبية مذهب التوازي اللغوي؟ أولا وقبل كل شيء لأنه يمثل نوعًا معينًا من الحل لمشكلة جِد مستعصية، عن طريق إثبات أن المشكلة في الحقيقة غير قائمة أو أنها تنشأ عن إساءات فهمٍ لغوية. لذا فإن هذه النظرة ذات جاذبية بصفة خاصة للمدرسة اللغوية في الفلسفة، ولا سيما لأولئك التحليليين اللغويين الذين لا يزالون يقولون بأن المشكلات الفلسفية بصفة عامة إنما تنشأ عن إساءات فهم لغوية. وسببٌ ثانٍ لما تتمتع به هذه النظرة من جاذبية هو أن بها عنصرًا من الحق بدون شك. يؤكد مذهب التوازي اللغوي على وجهة النظر القائلة بأن جميع أفكار التفاعل تنشأ عن خلطٍ غير مقبول بين لغتين. فأنت، وفقًا لهذه النظرة، حين تخلط لغتين فقد لا تحصل على مجرد لغة أخرى، بل على شيء أشبه بعباراتٍ زائفة لا معنى لها. هكذا يمكن القول بأن سقراط قد أومأ (انظر قسم ٤٦ آنفًا) إلى أنه من غير المقبول أن تقول بأنه مكث في السجن لأن ساقَيه لم تأخذاه بعيدًا.

والآن آتي إلى نقدي لمذهب التوازي اللغوي. وسأبدأ بالصيغتين الأولى والثانية، أي بالصيغتين اللتين فيهما اللغتان معجمان أو مجموعتان من المفاهيم متصلة بواسطة نظريات أو ذات معنًى داخل السياق الخاص بنظرياتٍ معينة. وتعليقي هنا هو أن هذا قد يكون هكذا. ولكني أود أن أسأل: كيف أو على أي نحو يُفترَض أن تكون هذه النظريات غير متصلة (بعضها ببعض)؟ خذ مثلًا المفاهيم الخاصة، أو المفردات المميِّزة، لنظريات ثلاث مثل البصريات، والصوت، والميكانيكا. لديك هنا ثلاث نظريات مختلفة، كلٌّ بمفرداتها الخاصة ولغتها الخاصة. ولكن هذا لا يمنع علماء الفيزياء من محاولة توحيد هذه النظريات. قد يحاول علماء الفيزياء مثلًا أن يفسروا الصوتيات ميكانيكيًّا، أو أن يُنشِئوا نظريةً في الإشعاع (نظرية بصرية) مرتبطة بميكانيكا الذرة. وأكثر من هذا، لقد وُصِلَت البصريات بتأثيرات ميكانيكية، مثل ضغط الضوء. والصوت أيضًا بطبيعة الحال له تأثيرات ميكانيكية (الرنين على سبيل المثال)، كما أن بإمكاننا أن نحدِث تأثيرات صوتية بوسائل ميكانيكية. ويمكننا أيضًا أن ننتِج حرارةً إشعاعية، وبالتالي شيئًا داخلَ مجال البصريات، بوسائل ميكانيكية.

كل هذا يبيِّن أن لدينا أسبابًا وجيهة تدعونا إلى أن نحاول إنشاء روابط بين نظريات قد تكون نشأت مستقلة في بادئ الأمر، وتستخدم لغاتٍ مختلفة، ويبين أن استخدام لغات مختلفة لا يثبت أن ليس هناك تفاعل أو اتصال بين الكيانات التي تتعامل معها هذه النظريات المختلفة.

وسأناقش الآن الصيغة الثالثة لمذهب التوازي اللغوي. كانت النقطة الأساسية هنا هي أن اللغتين يُفترض أنهما (تقريبًا) غير قابلتين للترجمة. لقد أشرت للتو إلى أن لديَّ انتقادات معينة لهذه الدعوى، خاصةً إذا كانت اللغتان تشيران إلى نفس العالم أو نفس الواقع، وإذا كان للمتحدثين باللغتين أهداف أو مشكلات مشتركة معينة. ولكن لنضع جانبًا هذه التحفظات، ونعمل بافتراض أن اللغتين غير قابلتين للترجمة المتبادلة.

إنه لمن الواضح ما يعنيه هذا بالنسبة لمشكلة العقل-الجسم. فعباراتٌ بإحدى اللغتين مثل «أنا أشعر بالبرد»، وباللغة الأخرى مثل «إن دماغي في حالة معينة»، يُفترَض أنها غير قابلة للترجمة المتبادلة. ما من ثنائيٍّ، فيما أعتقد، سيعترض على هذا.

غير أن بإمكاننا أن ننشئ روابط بين هذين الصنفَين المختلفَين من العبارات. فقد نكتشف مثلًا أن هناك ارتباطًا عموميًّا بين حالة دماغية معينة (أو صنفٍ معين من الحالات الدماغية) وبين صنف معين من الألم. لا أحد (باستثناء ربما أحد الماديين) سيود أن يقترح بأننا بفعلنا هذا قد ترجمنا العبارتَين إحداهما إلى الأخرى. إن ما فعلناه هو بالأحرى أننا قد أنتجنا نظريةً بدائية عن التفاعل السيكوفيزيقي. لقد فعلنا بالضبط ما كان يحاول مذهب التوازي اللغوي أن يتجنبه.

ولنضعْ هذه النقطةَ بطريقة أخرى: إذا كانت لغتان غيرَ قابلتين للترجمة، وبخاصة إذا أُخبِرنا (كما يخبرنا أصحاب مذهب التوازي اللغوي) أن كلتيهما تشيران إلى نفس الواقع، فمن الواضح أنه سيكون مثيرًا أن نسأل ماذا تكون العلاقات — إن وُجِدت — بين «الوقائع» الخاصة باللغتين المختلفتين. وهذا بدوره سيؤدي بنا إلى أن نحاول أن ننشئ لغةً يمكننا أن نتحدث بها عن وقائع كلا النوعين، ونطرح مشكلات عن علاقاتها المتبادلة الممكنة.

أن ننكر كل هذا ونُصِرَّ على الإبقاء على مذهبٍ في التوازي، هو شيءٌ يبدو لي ظلاميًّا obscurantist. انظر مثالًا: خذ حالة شخصٍ ما أُصِيب بالتسمم مصادفةً، كنتيجة لأكل نوعين من الطعام تَصادَفَ احتواؤهما على مواد حافظة تتفاعل معًا لتنتِج مادةً سامةً ما. إذا أراد المحقِّقُ مثلًا أن يتقصَّى الحالة فسوف يتحدث بلغة كل من النظرية الكيميائية (نظرية عن العالم ١) والجوانب الإنسانية لها (عالم ٢) والجوانب القانونية لها (عالم ٣)، وعن العلاقات المتبادلة بين كل أولئك. إن مزج هذه اللغات، وهو بعيد عن خلق صنفٍ ما من الاضطراب، هو نفسه سوف يقدم بيانًا عن الحدث المَعنِي. ولكن حتى الوصف الكيميائي الخالص لا يمكن أن يقدَّم إلا إذا سمحنا له أن ينطلق من، وأن يظل مسترشِدًا ﺑ، الجوانب «الإنسانية» والقانونية للمشكلة؛ ذلك لأنه ليس هناك، من وجهة نظرٍ علمية صارمة، ما يُنبئ الكيميائيَّ «أي» من التفاعلات الكيميائية المختلفة العديدة الجارية في المنطقة المَعنِيَّة من المكان والزمان هي «ذات الصلة» هنا بالمشكلة، أي النتيجة المُمِيتة، وأيُّها غير ذلك.
سأذَّكر أننا قلنا بأن مذهب التوازي اللغوي جذاب لأن هناك بعض الحالات قد تنشأ فيها مشكلات زائفة بسبب خلطٍ للغات. هذه الواقعة، رغم ذلك، قابلة تمامًا للتفسير، حتى إذا رفضنا تأويلَ اللغتين؛ ذلك لأن مثل هذه الحالات تنشأ عن تشوش في النظريات، أو عن طرح أسئلة مُشوَّشة. إنه لمن الأفضل أن نَطَّرِح مثلَ هذه المشكلات احتياليًّا ad hoc كلما ظهرت، مِن أن نشيِّد نسقًا فلسفيًّا بهدفٍ مريبٍ هو مَنعُها من الظهور.

(٥٦) نظرة أخيرة إلى المذهب المادي

إن عرضي لمذهب التوازي اللغوي يعيدنا بشكلٍ طبيعي تمامًا إلى الأفكار التي أطلقتُ عليها آنفًا «المادية الجِذرية» و«المادية الوعدية». فإنها لَخطوة بسيطة تمامًا أن نمضي من نظرية اللغتين لنقترح ما يلي:

ثمَّة لغتان، لغة «عقلية» ولغة «فيزيائية». غير أننا قد يكون بوسعنا أن «نستبعِد» (نُقصِي/نحذف) eliminate اللغة العقلية، بواسطة التحليل الفلسفي والتحليل العلمي، إما الآن («المادية الجذرية») وإما في وقتٍ ما غير محدد في المستقبل («المادية الوعدية») (وبدورِه طبعًا قد يقترح صاحب المذهب العقلي mentalist أو صاحب المذهب الروحي spiritualist برنامجًا مماثلًا لاستبعاد اللغة الفيزيائية).
لستُ مأخوذًا جدًّا بمثل هذه الاقتراحات، لأسبابٍ بَيَّنتُها في الفصل الثالث، وإن كنتُ أحبذ فكرة أننا يجب أن نحاول اختزالات (ردودًا reductions) علمية.

ومع ذلك، فلنأخذ نظرةً نهائية موجزة إلى المذهب المادي، وتاريخه بعد ديكارت.

كان ديكارت ميكانيكيًّا وماديًّا إذا اتصل الأمرُ بالعالم بدون الإنسان؛ فالإنسان وحده، عند ديكارت، ليس مجرد آلة، لأنه يتكون من جسد وروح.

كان لأولئك الذين أحسوا أن هذا النوع من التفكير يبالغ في توسيع الهوة بين الإنسان والحيوانات؛ كان لهم طريقتان لرد الفعل. كان بوسعهم القول، كما يقترح أرنولد في كتابه «اعتراضات على تأملات ديكارت»، بأن الحيوانات أكثر من مجرد آلات، وأن لهم أرواحًا، أي ضربًا ما من الوعي.٦٧ أو كان بوسعهم أن يكونوا أكثر جذرية من ديكارت وأن يقولوا بأن الإنسان آلة ما دام هو حيوانًا.
غير أن المرء لن يتوقع من أحدٍ يعتقد في تفوق الإنسان على جميع الحيوانات أن يقول بكلا الرأيين معًا: أن «الحيوانات أكثر من آلات» وأن «الإنسان آلة». غير أن هذا كان الموقف الذي اتخذه، اختباريًّا (tentatively)، بيير بايل، واتخذه من بعده جوليان أوفري دي لامتري المؤلف المشهور لكتاب «الإنسانُ آلةً» (١٧٤٧م). وأقل اشتهارًا أن لامتري أصدرَ بعد عامين كتابًا تحت عنوان «الحيوانات أكثر من آلات».
من الضروري إذن أن ننظر بدقة أكثر قليلًا إلى مادية هذا الأشهر بين الماديين. لقد تَبَيَّنَ أنه بالتأكيد كان يُعَلِّم أن الروح تعتمد على الجسم. ولكنه لم ينكر الوعي (مثلما أنكره ديكارت على الحيوانات) لا على الحيوانات ولا على البشر. والحق أنه اقترح شيئًا أشبه بنظرة تجريبية وطبيعانية naturalistic تشتمل على انبثاقٍ تطوري (ربما يوصف رأيه بأنه يقارب مذهب الظاهرة المصاحبة). وقد سمح بالنشاط الغرضي للحيوانات والبشر. وكانت الدعوى الرئيسية عنده هي أن حالة الروح تعتمد على حالة الجسم.٦٨
ورغم أن تأثير لامتري في نشوء نظرية مادية في الإنسان-آلة كان عظيمًا جدًّا بالتأكيد، فإنه لم يكن هو نفسه ماديًّا جذريًّا، لأنه لم ينكر وجود الخبرة الذاتية. ومن المثير أن نلاحظ أن كثيرًا من أولئك الذين يسمون أنفسهم ماديِّين أو فيزيائيِّين ليسوا ماديين جذريين، لا هِكِل ولا شليك ولا أنتوني كوينتون ولا هربرت فايجل، ولا، حقًّا، «الماديين الجدليين» dialectical materialists. ولا، في اعتقادي، أولئك الذين أنكروا فحسب (كما أميل أيضًا إلى أن أفعل) وجودَ العقول المتحررة من الجسد، ولا أولئك الذين يؤكدون أن العقل هو نتاج الدماغ، أو نتاج التطور، ولا أولئك الذين يقترحون أن المادة إذا كانت على تنظيمٍ عالٍ فإنها يمكن أن تفكر. ليس معنَى ذلك أني أعتبر كل هذه الآراء مقبولة (كما بينتُ في الفصل الثالث). أعتقد، بالأحرى، أن من المهم أن نتذكر أن أنصار مثل هذه الآراء، بينما يسمون أنفسهم أحيانًا ماديين، يقبلون وجود الوعي، وإنْ كانوا يقللون من أهميته.

من الصعب أن نقول بأن نظريات ديمقريطس وأبيقور يصح وصفها بالمادية الجذرية. إنهما، فيما يبدو، ماديان جذريان في برنامجهما، ولكنهما ليسا كذلك في تنفيذه. لقد كانا يعتقدان في وجود الروح، التي حاولا مثل كثير قبلهما أن يفسراها كمادة لطيفة جدًّا. ولكني أعتقد (كما أشرتُ في قسمَي ٤٤، ٤٦ آنفًا) أنهما كانا ينسبان إلى العقل وضعًا أخلاقيًّا مختلفًا عن وضع الجسم.

هناك في الحقيقة ثلاثة أنواع فقط من المادية المعروفة لي تُنكر بالفعل وجودَ الوعي: نظريات مفكرين من مثل كواين الذي يتبنى صراحةً شكلًا من السلوكية الجذرية، ونظرية أرمسترونج وسمارت (عُرِضَت سابقًا في قسم ٢٥)، وما أسميتُه «المادية الوعدية» (انظر قسم ٢٨). أما النظرية الأخيرة فتبدو لي غيرَ جديرة بمزيدٍ من المناقشة. وأما النظريتان الأُولَيان فقد وصف شوبنهاور مثل هذه المادية الجذرية بأنها «فلسفة الذات التي نَسِيَت أن تحسب نفسَها في حسابها.» ورغم أن هذه ملاحظة جيدة إلا أنها لم تُوغِل بما يكفي؛ لأن (كما رأينا في قسم ٢٨) هناك اطرادات موضوعية تمامًا قابلة للاختبار بواسطة سلوكٍ بينذاتي intersubjective يميل الماديون الجذريون والسلوكيون الجذريون إلى نسيانه، أو إلى تِبيان عدم وجوده، بطريقة مُتَمَحَّلَة بعض الشيء.
إن الدوافع الرئيسية وراء جميع النظريات المادية هي دوافع حدسية. أحد هذه الدوافع الحدسية قد ذكرتُه ونقدتُه باختصار في قسم ٧. إنه الاعتقاد الردِّي reductionist بأنه يمكن ألا يكون ثمة «عِلِّيَّة هابطة» downward causation. والدافع الآخر هو الحدس بالانغلاق العِلِّي للعالم ١ الفيزيائي، وهو رأي غلَّاب حدسيًّا، والذي أظن أني فنَّدته بواسطة إنجازات الجنس البشري التقنية والعلمية والفنية؛ وبتعبير آخر، بواسطة وجود العالم ٣. وحتى أولئك الذين يعتقدون أن العقل «مجرد» النتاج العِلِّي لمادة منظِّمة لذاتها لا بد أنهم يشعرون أن من الصعب النظر إلى السيمفونية التاسعة بهذه الطريقة، أو إلى مسرحية «عطيل»، أو نظرية الجاذبية.
لم أَقُل شيئًا حتى الآن عن سؤالٍ طال الجدلُ فيه كثيرًا: هل سنشيِّد يومًا ما آلةً يمكنها أن تفكر؟٦٩ وقد نوقِشَ هذا السؤال كثيرًا تحت عنوان «هل يمكن للحواسيب أن تفكر؟» أود أن أقول دون تردد إنها لا تستطيع، رغم احترامي غير المحدود لتورنج A. M. Turing الذي رأى العكس. إننا ربما نكون قادرين على أن نُعَلِّم شمبانزي أن يتكلم، بطريقة بدائية جدًّا؛ وإذا طال بقاء الجنس البشري بما يكفي فقد نستبق حتى الانتخاب الطبيعي ونربي بواسطة الانتخاب الصناعي نوعًا معينًا قد ينافسنا نحن. وربما نكون قادرين في النهاية أن نخلق كائنًا عضويًّا دقيقًا صناعيًّا قادرًا على التكاثر بنفسه في بيئة من الإنزيمات جيدة الإعداد. كم من شيء لا يصدَّق قد حدث، بحيث يكون من التهور أن نقول بأن هذا مستحيل. ولكني أتنبأ بأننا لن نكون قادرين على تشييد حواسيب إلكترونية لها خبرة ذاتية واعية.
وكما كتبتُ منذ سنوات عديدة، 1950(b) & (c)، في البداية الأولى للجدل حول الحواسيب، إن الحاسوب ما هو إلا قلم مُعظَّم. وقد قال أينشتين مرةً «إن قلمي أمهرُ مني». ولعله كان يعني الآتي: حين نتسلح بقلمٍ فنحن نستطيع أن نكون ضِعف ما نحن عليه من المهارة بدونه. وحين نتسلح بحاسوب (موضوع نموذجي لعالم ٣)٧٠ ربما يمكننا أن نكون أكثر مهارة مائة مرة مما نحن عليه بدونه؛ ومع تحسين الحواسيب فلا مكان لحدٍّ أعلَى لذلك التحسن.

وقد قال تورنج (١٩٥٠م) شيئًا شبيهًا بهذا: حَدِّد لي الطريقة التي تعتقد بها أن الإنسان أعلى من الحاسوب ولسوف أشيِّد حاسوبًا يفنِّد اعتقادَك. إن علينا ألا نقبل تحدي تورنج؛ لأن أي تحديد دقيق دقةً كافية يمكن أن يُستخدَم من حيث المبدأ لبرمجة حاسوب. كما أن التحدي كان في سلوك — شاملًا حقًّا السلوكَ اللفظي — وليس في خبرة ذاتية (مثال ذلك أنه لَيكون من السهل أن تبرمج حاسوبًا بطريقة من شأنها أن تجعله يستجيب بأي عبارة مرغوبة للمؤثِّر الخاص بشكل ١، ٢، ٣ في قسم ١٨ الذي يوضح الخدع البصرية).

لستُ أعتقد حقًّا أننا سوف ننجح في خلق حياة صناعيًّا؛ ولكن بعد أن وصلنا إلى القمر وأنزلنا سفينة فضاء أو اثنتين على المريخ، فأنا على إدراك بأن هذا الإنكار من جانبي لا يعني إلا أقل القليل. غير أن الحواسيب مختلفة كليًّا عن الأدمغة التي وظيفتُها الأساسية ليست أن تحسب بل أن توجِّه وتوازِن كائنًا عضويًّا وتساعده في أن يبقى حيًّا. إنما لهذا السبب كانت الخطوة الأولى للطبيعة تجاه عقلٍ ذكي هو خلق الحياة، وأعتقد أننا إذا شئنا أن نخلق صناعيًّا عقلًا ذكيًّا سيكون علينا أن نَتَّبِع نفسَ الطريق.

١  نسبوية relativistic. (المترجم)
٢  النسبيون دائمًا عُرضة لخطرٍ مهني هو نَشْر الغصنِ نفسِه الذي يجلسون عليه! يمثل «الدحض الذاتي» self-refutation مشكلة عامة تنال جميع صور النسبية. فإذا ادَّعى النسبي أن كل تبرير أو عقلانية هي منسوبة لإطارٍ معين فإنه يعرض نفسه لردٍّ «من جنس الدعوى نفسها»: أي إن دعواه ذاتها هي في أفضل الأحوال مبررة بالنسبة لإطاره الخاص … ومعقولة بالنسبة لمعاييره الخاصة … وأنها «تشييد اجتماعي» social construction ككل شيء آخر مثلما يقول النسبي ويُلِح في قوله (انظر فصل «تفنيد النسبية» من كتابنا «صوت الأعماق»، مرجع سابق). (المترجم)
٣  غير محتمل (improbable) بالمعنى الذي أوردتُه بكتابي 1972(a)، ص١٠١–١٠٣.
٤  الأنثروبومورفيزم anthropomorphism هو تشبيه غير الإنساني بالإنساني، أي إضفاء الخصائص البشرية على الطبيعة، أو الآلهة، أو الكائنات الأخرى … (المترجم)
٥  قطة تشيشار هي قطة ذات ابتسامة عريضة قابلها أليس في «أليس في بلاد العجائب» للويس كارول. تميل هذه القطة للاختفاء أو التلاشي، تاركةً ابتسامتَها معلقة في الهواء. (المترجم)
٦  تم تحليل عينات من التربة بعد ثمانية أعوام من الاكتشاف. قام بذلك عالِمٌ في علم النبات الحفري متخصص في تحليل اللَّقاح، هو Mme Arlette Leroi-Gourhan الذي قام بهذا الكشف المذهِل.
٧  من أجل معرفة كلمتَين أخريَين (phrēn أو phrēnes، وeidōlon) انظر الحاشيتين ١٩٦، ٢٠٠ لاحقًا.
٨  Onians (1954; p. 48).
٩  Op. cit., p. 94.
١٠  ديماس demas عند هوميروس (سوما soma في الأغلب عند الكتاب اللاحقين، منذ هزيود وبندار فمن يلي)، أي الجسم، هيئة البشر أو قوامهم، كثيرًا ما يقابل العقل، الذي تستخدم له ألفاظ عديدة، مثلًا phrenes؛ انظر حاشية ١٤ لاحقًا، وانظر الإلياذة ١، ١١٣–١١٥؛ قارن أيضًا الأوديسة ٥، ٢١١–٢١٣. انظر أيضًا الإلياذة ٢٤، ٣٧٦-٣٧٧، حيث مقارنة الجسم (ديماس) والعقل (نوس)؛ الأوديسة ١٨، ٢١٩ وما بعدها، حيث مقارنة حجم الجسم (ميجيثوس، تستخدم هنا كمرادف لديماس، كما يمكن أن تجده من ٢٥١)؛ والعقل (فرينيس)؛ الأوديسة ١٧، ٤٥٤، حيث شكل الجسم (إيدوس) مقارَن بالعقل (فرينيس). وفي الأوديسة ٤، ٧٩٦، تجد أن الفانتوم phantom (إيدولون، شبيه ﺑ psyche عند هوميروس) تُسبَغ بواسطة الإلهة على الجسم (ديماس). قارن تقابُل الفانتوم أو العقل (إيدولون) والجسم (سوما) عند بندار مقتبسًا في حاشية ٢٠ لقسم ٤٦؛ وكتابي 1974(z4)، ص٤٠٩ وما بعدها.
١١  يصور الفيلسوف الروماني بوئثيوس هذا الموقف في قصيدة يذيِّل بها القسم الثالث من الكتاب الرابع من «عزاء الفلسفة» يقول فيها:
«لم يَعُد شيءٌ كالذي كان
تَغَيَّرَ الصوتُ والشكل
وحدَه العقلُ بَقِيَ سليمًا
يأسَى على مأزقهم البشِع
ولكن السم الأنقع حقًّا
هو ذلك الذي يَنفُذ إلى العقل والروح
فيسلب الإنسانَ من نفسه
إنه يترك الجسمَ على حالِه
بينما يصيب العقلَ بجُرحٍ بليغ.» (المترجم)
١٢  من الفقرات الشائقة من الإلياذة التي تدل على الثنائية (ثنائية مادية بالطبع)، نجد على سبيل المثال الفتيات الروبوتات الذهبية (انظر حاشية ٤ لقسم ٢ سابقًا) اللائي يُوصفن بوضوح على أنهن روبوتات واعية: إن لديهن فهمًا أو عقلًا (نوس) في قلوبهن (قارن الإلياذة ١٨، ٤١٩). انظر أيضًا الإلياذة ١٩، ٣٠٢؛ ١٩، ٣٣٩؛ و٢٤، ١٦٧؛ فقرات يوضع فيها الكلام الصريح في مقابل الفكر المخفي؛ وأيضًا ٢٤، ٦٧٤، حيث بريام والحاجب سينامان في الفناء الأمامي لكوخ أخيل و«عقلهما مثقل بالهموم». (إ. ف. ريو، في طبعة Penguin Classics، يترجمها بتصرف كبير ولكن بإجادة كبيرة إلى with much to occupy their busy minds).
١٣  Cf. G. E. R. Lloyd (1966).
١٤  هنا كلمة «فرينيس» (تعني في الأصل عند هومر، وفقًا لأونيانس، الرئتين والقلب) تستخدم للعقل؛ انظر أونيانس (١٩٥٤م) فصل ٢.
١٥  انظر سوفوكليس، الملك أوديب، سطر ٦٤ و٦٤٣؛ قارن إ. ر. دودز (١٩٥١م)، ص١٥٩، حاشية ١٧.
١٦  أي عجزنا دائمًا عن أن نفعل ذلك.
١٧  انظر أيضًا K. Meuli (١٩٣٥م).
١٨  س. ف. نادِل (١٩٥٢م).
١٩  انظر كتابي 1963(a)، الفصل الخامس.
٢٠  عند هوميروس psyche (أو إيدولون) تعني شبحًا أو ظلًا؛ أما psyche فيما بعد فتأخذ معنًى قريبًا من thymos عند هوميروس: النفس الواعية النشِطة، النفس الحية والمتنفسة. بهذه الطريقة تصبح اﻟ psyche أو الإيدولون هي مبدأ الحياة، بينما عند هوميروس (وعند بندار من بعده أحيانًا) فيبدو أنها تنام عندما يكون الشخص حيًّا ويقظًا، وتستيقظ عندما يكون الشخص نائمًا أو فاقد الوعي أو ميتًا (لا أن قواعد الاستخدام هذه كان يلتزم بها أي مؤلف باتساق تام). هكذا نقرأ عند بندار (Fragment 116 Bowra = 131 Sandys (Loeb)): «يُلبي جسدُ كل إنسان نداءَ الموت الجبار؛ ورغم ذلك يُترَك حيًّا شبحٌ أو صورة (إيدولون) من زمن حياته، والتي هي وحدها الصادرة من الآلهة. وهي تنام عندما تكون أعضاؤه ناشطة؛ ولكن عندما ينام فإنها كثيرًا ما تعلن في الأحلام قرار «الآلهة» بسعدٍ قادمٍ أو شقاء». نحن نرى أن الشبح الهومري «سايكي»، الذي هو إسقاط لكل مخاوف الزمن السحيق وقد تجاوزت قبور أهلها ودامت بعدهم زمنًا طويلًا، نرى أنه قد فقد شيئًا من طابعه المروِّع والشبحي، رغم وجود آثارٍ متبقية من الاستخدام الهومري.
٢١  DK 1 B 11 = De anima 410b28. (DK = Diels & Kranz, 1951-2).
٢٢  قارن بهذا أيضًا Epicharmus, DK B12: «وحدَه العقلُ يرى، وحدَه العقل يسمع، كل ما عدا العقل هو أصم وأعمى.»
٢٣  جمهورية أفلاطون 530c-531c قد تؤخذ دليلًا على أن الاكتشاف قام به أحد الفيثاغوريين. عن الاكتشاف ونسبته إلى فيثاغوراس نفسه انظر جوثري (١٩٦٢م، ص٢٢١ وما بعدها). انظر أيضًا ديوجينيس لائرتيوس viii, 12.
٢٤  عن تعميم هذه المشكلة انظر فصل ٢، قسم ٤، من كتابي 1963(a).
٢٥  انظر أفلاطون، محاورة «فيدون» 85e ff.، وبخاصة 88c-d؛ وأرسطو، «في النفس» 407b 27 «… يعتبرها الكثيرون أوثقَ النظريات جميعًا»؛ وانظر ص٢١ من مجلد XII (شذور مختارة) من طبعة أكسفورد ﻟ «أعمال أرسطو» التي حررها وترجمها سير ديفيد روس، ١٩٥٢م، حيث يصف ثيميستيوس النظرية بأنها رائجة جدًّا.
٢٦  أَدِين بهذا السؤال لجيريمي شيرمر، الذي اقترح أيضًا أن العلاقة قد تكون مثل علاقة الأفكار الأفلاطونية بالمادة.
٢٧  انظر كتابي 1963(a)، الفصل الثالث، ص٢٦ وحاشية ١٥.
٢٨  قراءة جوثري (١٩٦٩م، المجلد الثالث)، الذي أعتبر كتابَه أفضلَ عرضٍ أعرفه لسقراط، قد أقنعني بأن ملاحظات سقراط الأوتوبيوجرافية في محاورة «فيدون» لأفلاطون، 96a ff. من المحتمل أن تكون تاريخية. لقد قبلتُ في البداية نقد جوثري (p. 423, n. 1) لكتابي «المجتمع المفتوح» (المجلد الأول، ص٣٠٨) دون إعادة قراءة ما كنتُ كتبتُه. وفي إعداد الفقرة الحالية نقَّبتُ في كتابي «المجتمع المفتوح» المجلد الأول مرة ثانية، ووجدتُ أني في ص٣٠٨ لم أحاجَّ ضد تاريخية الفقرة الأوتوبيوجرافية (فيدون 96a ff.)، بل ضد تاريخية محاورة فيدون بعامة، وفيدون 108d ff. بخاصة، بعرضها الجازم والدوجماتي نوعًا ما لطبيعة الكون، وبخاصة الأرض. هذا العرض ما زال يبدو لي غير متوافق مع محاورة «الدفاع».
٢٩  انظر أيضًا ملاحظات على و. ف. ر. هاردي (١٩٧٦م) في قسم ٤٤ سابقًا.
٣٠  قارن قسم ٣٠ سابقًا، متن الحاشية ٢٠.
٣١  See Diels-Kranz (1951-2) Democrit B 45, Cp. Also B 187.
٣٢  بخصوص عدم توافق أجزاء معينة من «فيدون» (وبخاصة فيدون 108 d ff.) مع محاورة «الدفاع» لأفلاطون انظر حاشية ٢٨ لهذا القسم سابقًا، وكذلك ص٣٠٨ من كتابي 1966(a), volume i.
٣٣  يدافع جوثري دفاعًا مقنِعًا عن تاريخية هذه الفقرة الأوتوبيوجرافية (١٩٦٩م) مجلد iii، ص٤٢١–٤٢٣؛ انظر أيضًا حاشية ٢٨ سابقًا.
٣٤  organization.
٣٥  أصبح التمييز بين الأسباب (العقلية) والعِلل (الطبيعية) reasons/causes مفهومًا راسخًا في الخطاب الفلسفي المعاصر. وهو يعكس تمييزًا بين صنفين من التفسيرات الخاصة بالسلوك الإنساني؛ فهناك تفسيرات تقوم على الأسباب أو الدواعي أو المبررات العقلية reasons، وأخرى تستند إلى العلل الطبيعية causes. ونحن بالتأكيد قد اعتدنا أن نفسر أفعال الناس بمحاولة تصوُّر الأسباب (العقلية) التي دفعتهم إلى التصرف بهذه الطريقة أو تلك. وكذلك يتحدث الفلاسفة عن «عزو» أو «نسبة» attributing أسباب (عقلية) إلى فاعلي الفعل. غير أن هذا لا يفيد إلا بقدر ما يكون هؤلاء الفاعلون عقلاء مدركين؛ وهو شرط قلما نلتفت إليه ونقدره حق قدره. يرى البعض أن التفسيرات بالأسباب (العقلية) لا تنجح إلا إذا كانت «الأسباب» «عللًا»، وهي بذلك تدرجها في عِداد التفسيرات العِلية بعامة. ويرى البعض الآخر أنه لا يمكن رد «الأسباب» إلى «علل»، ولا يُشترَط وجود علل لكي تعمل التفسيرات بالأسباب عملها بنجاح. وبعبارة أخرى أن التفسيرات بالأسباب مستقلة مكتفية بذاتها (William James Earle, Introduction to Philosophy, McGraw-Hill, Inc., 1992, pp. 75-76).
يفيد الرأي القائل باستقلال الأسباب أن الرابطة بين الفعل وسببه هي رابطة منطقية وليست رابطة علية؛ فما كان للفعل أن يكون ما هو لو لم يتخذ هويته من مكانه في خطة قصدية للفاعل (بل سيكون مجرد جزئية سلوكية غير قابلة لأي تفسير عقلي على الإطلاق)؛ فالأسباب والأفعال ليست أحداثًا سائبة منفصلة تمسكها العلاقات العِلِّية معًا أو تلصقها سويًّا. أما الرأي المضاد، والذي قال به الفيلسوف الأمريكي دونالد هربرت دفيدسون، فيذهب إلى أن وجود سبب هو حدث عقلي، وما لم يرتبط هذا الحدث عِلِّيًا بعملية الفعل لما أمكننا أن نقول إنه السبب الذي يؤدَّى هذا الفعل من أجله. إن الأفعال قد تؤدَّى بباعث من سبب معين وليس بسبب آخر. ذلك أن السبب الذي يفسرها هو ذلك السبب الأقدر «عِلِّيًّا» على إثارة الفعل (Oxford Dictionary of Philosophy, Oxford University Press, 1996, 321). (المترجم)
٣٦  في الأزمنة الحديثة كانت هذه الفقرة الثانية من «فيدون» أفلاطون يُشار إليها مِرارًا من جانب ليبنتز في نقاشاته المتعددة لمشكلة العقل-الجسم. انظر قسم ٥٠ لاحقًا.
٣٧  إذا لم يُصِر المرءُ على هذه النقطة إذا قال مثلًا بأن الحركات الفيزيقية لأجسامنا يمكن من حيث المبدأ تفسيرها في حدود العالم ١ فحسب، وبأن هذا التفسير قد يخطر للمرء في حدود المعاني لا أكثر إذن، يكون المرء فيما يبدو لي قد تبنَّى دون أن يدري شكلًا من مذهب التوازي، تصبح فيه الأهداف والأغراض والحرية الإنسانية مجرد ظاهرة ثانوية (مصاحِبة) ذاتية.
٣٨  هذا المنهج يجب تمييزه بوضوح عن نظرية المذهب الأداتي instrumentalism التي دمجه معها دوهِم Dohem (انظر كتابِي (1963(a))، الفصل الثالث، حاشية ٦، ص٩٩، حيث يمكن أن تجد مراجع لفقرات أرسطية تناقش هذا المنهج، مثلًا: De caelo 293 a 25). الفرق بين هذا المنهج وبين الأداتية هو أننا نعرض صدق تفسيراتنا الاختبارية (tentative) على محك الاختبار لأننا، بالدرجة الأساس، مهتمون بهذا الصدق (مثل صاحب مذهب الماهية، انظر لاحقًا) وإن كنا لا نعتقد أن بوسعنا تأسيس صدقها.
٣٩  الأداتية هي الرأي القائل بأن النظرية العلمية ينبغي أن نتصورها كأداة لإنتاج تنبؤات جديدة أو تقنيات جديدة للتحكم في الأحداث، دون أن تُعد بذاتها قادرة على تأسيس صدق أو كذب بالمعنى الحرفي. ومن خلال تقبل بوبر لنظرية التناظر correspondence في الصدق، يمكن القول بأنه «واقعي ميتافيزيقي» metaphysical realist، أي أنه يرى أن نظرياتنا، إن صدقت، تشير إلى واقع مستقل عن العقل ومستقل عن نظرياتنا. وعلى الرغم من ذلك، فهو لا يسمح لهذه الواقعية الميتافيزيقية أن تأخذنا بعيدًا، أو أن تكون أكثر من «فكرة تنظيمية». فلا يزال علينا أن نقرر متى تكون نظرياتنا متطابقة مع الأشياء كما هي عليه بالفعل، ونحن لا يسعنا أن ننظر «من خارج» نظرياتنا إلى الواقع، ولا نملك إلا أن نعده واقعًا ذلك الذي تخبرنا أفضلُ نظرياتنا، في ضوء النقد والاختبار الجاريين، أنه الواقع. ويذهب بوبر إلى أنَّ من غير المحتمل أننا سنكتشف «الحقيقة» عن العالم أبدًا. وبوبر مناوئ في العلم للنزعة الأداتية القائلة بأن النظريات العلمية لا تشير إلى كيانات حقيقية تفسر مسار ملاحظاتنا، بل هي بالأحرى «أدوات» أو «وسائل» نافعة تقدم كل ما هو مطلوب، دون جزم بواقعيته، من أجل التنبؤ الدقيق عن مسار خبرتنا. تُعَد القوانين العلمية، وفقًا لهذه الوجهة «الأداتية» من الرأي، قواعدَ لا حقائق. وبوبر مناوئ أيضًا لمذهب الماهية essentialism الذي يقول إن بإمكاننا أن نكتشف واقعًا نهائيًّا نفسر في ضوئه كل شيء آخر. ويرى بوبر أن هذا الموقف يُسَفِّه مساعينا الدائمة نحو تفسيرات أفضل. إنما يتخذ بوبر خطًّا وسطًا يكون العلم بمقتضاه هو محاولة أصيلة لتفسير بعض الأشياء الحقيقية التي نعرف أو نفترض أنها حقيقية بواسطة أشياء أخرى مجهولة وتتطلب الكشف ويمكن اختبار صدقها بمعزل عن الظواهر المطلوب تفسيرها؛ ولكن لا نهاية للعمق الذي يمكننا أن نوغل فيه التماسًا للتفسيرات (انظر فصل «مذهب التكذيب» falsificationism، من كتابنا «كارل بوبر مائة عام من التنوير ونصرة العقل، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٢م). (المترجم)
٤٠  انظر كتابي «المجتمع المفتوح»، المجلد الثاني، ص١٦.
٤١  نتائج مترتِّبة، عواقب. (المترجم)
٤٢  نيوتن، خطاب إلى أولدِنبرج، الثاني من يونيو ١٦٧٢م (قارن Newton’s Opera, ed. S. Horsley, vol. IV, pp. 314 f).
٤٣  قارن أيضًا رسائل إلى ريتشارد بنتلي، ١٧ يناير و٢٥ فبراير ١٦٩٢-١٦٩٣م. انظر كتابي 1963(a) حاشية ٢٠ و٢١ للفصل الثالث (والمتن)، وNewton’s Opticks, query 31، حيث يذكر نيوتن إمكانية أن الجاذبية «قد تتم بواسطة الاندفاع impulse، أو بأي وسيلة أخرى غير معروفة لنا.»
٤٤  تُترجِم إحدى رسائل الأميرة إليزابيث أميرة بوهيميا إلى ديكارت عام ١٦٤٣م هذه المشكلةَ التي يتحتم أن يصطدم بها كلُّ من يفكر داخل إطار الجوهرين والعِلِّية الميكانيكية. تقول الأميرة في رسالتها: «كيف يتسنى للروح البشرية أن تحدد حركة الأرواح الحيوانية في الجسم بحيث يؤدي الأفعال الإرادية، وهي التي لا تعدو أن تكون جوهرًا واعيًا؛ فتحديد الحركة يبدو أنه لا يتأتَّى على الإطلاق إلا بدفع الجسم المتحرك، وأنه يعتمد على صنف الدفع الذي يستمده مما يحركه، أو، مرة أخرى، على طبيعةِ سطح هذا الشيء الأخير وعلى شكلِه. أما الشرطان الأولان فيتضمنان التلامس، وأما الثالث فيتضمن أن الشيء الدافِع لديه امتداد؛ غير أنك تنفي الامتداد تمامًا من فكرتك عن الروح، والتلامس يبدو لي غير متوافق مع كونِ شيءٍ ما لا ماديًّا.» (Anscombe, Elizabeth and Peter Geach, Descartes: Philosophical writings, Indianapolis: Bobbs-Merrill Company, 1954, pp. 174-5). (المترجم)
٤٥  يَعنِي ديكارت بالماهية الخواص الجوهرية أو الثابتة للجوهر (عن فكرة ديكارت عن الجوهر انظر حاشية ٤٩ لقسم ٤٩ لاحقًا) على نحو شبيهٍ جدًّا بأرسطو، أو بنيوتن (الذي قال إن الجاذبية لا يمكن أن تكون جوهرية للمادة لأنها تتناقص بالبُعد).
٤٦  من المثير أن حجة ديكارت الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجود» كانت مستبَقة من جانب القديس أوغسطين في كتابه «في حرية الإرادة» De libero arbitrio، كما بيَّنَ أرنولد لديكارت (انظر هالدن وروس، ١٩٣١م، المجلد الثاني، ص٨٠ و٩٧). وكانت مستبَقة أيضًا (بحسب برترند رسل ١٩٤٥م، ص٣٧٤) في «مناجَيات» Soliloquia القديس أوغسطين. عن العلاقة بين العقل والجسم يمكن أن تجد الكثير في «اعترافات» أوغسطين (مثلًا X, 8) وفي كتابه «في عظمة النفس» De quantitate animae.
٤٧  عن فكرة الجوهر عند ديكارت انظر حاشية ٤٩ لقسم ٤٩.
٤٨  انظر الإشارة إلى جون و. ن. وتكينز في حاشية ٥٣ لقسم ٥٠.
٤٩  انظر هالدن وروس (١٩٣١م)، المجلد الثاني، ص١٣٢. يوغِل تاريخ مفهوم الجوهر في القِدَم حتى «المبادئ» الأيونية القديمة: الماء، أو اللامحدود (الأبيرون)، أو الهواء، أو النار. وهو يقال ليشير إلى ذلك الذي يبقى هو هو ذاته عندما يتغير شيءٌ؛ أو ليشير إلى الشيء الذي هو حامل لخواصه أو صفاته (التي قد تتغير). وفي «التأملات» يستخدم ديكارت لفظة «جوهر» مِرارًا كمرادف ﻟ «شيء». ولكنه في «المبادئ» يقول أولًا (i, 51)، كما يفعل أيضًا في التأمل الثالث، إن الجوهر هو ذلك الشيء الذي لا يعتمد على أي شيء من أجل وجوده، مضيفًا أن الله وحده هو جوهر بحق (وهو الرأي الذي سيتبناه سبينوزا فيما بعد)؛ غير أنه سرعان ما يقول بعد ذلك (i, 52–54) إنه يمكننا أيضًا أن نسمِّي الروح والجسم جوهرين، أي جوهرين مخلوقين: وحيث إن الله خلقهما فلا يمكن أن يدمرهما سوى الله. ومن الواضح أن لوك كان في ذهنه ديكارت عندما كان يشكو من الفكرة المضطربة للجوهر (Essay ii, xxiii). وبصفة عامة فإن الاستخدام الشائع ﻟ «الجوهر» هو في درجة وضوح الاستخدام الديكارتي على أقل تقدير (انظر أيضًا كوينتون ١٩٧٣م، Pt. i.).
٥٠  قارن جون باسمور (١٩٦١م)، ص٥٥.
٥١  ناقَش ج. أ. ويزدم (١٩٥٢م) الكهرومغناطيسية، واقترح أن الاعتماد المتبادل بين القُوى الكهربية والمغناطيسية قد يفيد كنموذج لتفاعل العقل-الجسم. انظر أيضًا وتكينز (١٩٧٤م، ص٣٩٤-٣٩٥). وجيريمي شيرمر أيضًا قد لفت انتباهي إلى ما أورده بيلوف (١٩٦٢م، ص٢٣١) من أن سير سيريل برت قد حاجَّ بأن «أصحاب المذهب الفيزيائي ينبغي أن يكونوا أكثر تسامحًا … تجاه … الثنائية نظرًا لأن الفيزياء نفسها، كما يتم فهمها حاليًّا، تعددية». وفي العِلية انظر أيضًا كتابي 1967(k); 1974(c), pp. 1125–39.
٥٢  انظر وتكينز ١٩٧٤م، ص٣٩٥.
٥٣  كان اعتماد ليبنتز على هوبز ونظريته في النزوع conatus (المحاولة أو التوق أو السعي أو الإرادة) كان ملحوظًا لدى الجميع، وإن كانت دلالتها التامة، على حد علمي، غير ملحوظة إلا عند جون و. ن. وتكينز (١٩٦٥م)، (١٩٧٣م).
٥٤  انظر رسالة ليبنتز إلى ثوماسيوس، إبريل ٢٠ /٣٠، ١٦٦٩م (Gerhardt IV (1880), pp. 162 ff., especially pp. 171, 173; Loemker I (1956), pp. 144 ff., especially pp. 148–160).
٥٥  في «نظام جديد للطبيعة وتواصل الجواهر»، ١٦٩٥م، جيرهارت IV, 477 وما بعدها؛ لومكر ii, 740 وما بعدها.
٥٦  انظر «مجموعة أوراق بحثية مرت بين السيد المتفقِّه ليبنتز المتأخر ود. كلارك في عامي ١٧١٥ و١٧١٦م» (لندن ١٧١٧م)؛ لومكر ii، ص١٠٩٥ وما بعدها.
٥٧  عن هذا الموقف انظر فصل ٦ (عن باركلي) و٣ من كتابي 1963(a).
٥٨  نشر كانْت كتابه Monadologica Physica في ١٧٥٦م، قبل عامين من نشر الطبعة الأولى من الكتاب العظيم لبوسكوفيتش Theoria Philosophia Naturalis، فينا، ١٧٥٨م. غير أن بوسكوفيتش كان قد نشر سابقًا بعض أفكاره الرئيسية في أطروحة، De Viribus Vivis، في ١٧٤٥م، وفي De Lege Virium in Natura existentium، في ١٧٥٥م.
٥٩  يمكن أن تجد ملاحظات إضافية على هذه التطورات في المتن التالي لحاشية ٨ لقسم ٣ سابقًا.
٦٠  انظر أيضًا كتابي 1963(a)، الفصل الثالث، ص١١٤–١١٧، وكتابي 1972(a)، الفصل الخامس، ص١٩٦–٢٠٤.
٦١  حاول ديكارت نفسه أن يفسِّر الذاكرة والترابط تفسيرًا فسيولوجيًّا (انظر قسم ٤١ سابقًا). لم تكن لدى سبينوزا مثل هذه النظرية. في كتابه «الأخلاق» II، قضية ٧، يؤسس سبينوزا مبدأ التوازي «ترتيب وارتباط الأفكار هو نفس ترتيب وارتباط الأشياء (الفيزيائية)» وفي II، قضية ١٨، يصوغ مبدأ الترابط بواسطة تزامن الأحداث.
٦٢  كما ذكرتُ في حوار VIII، فإنَّ تبنِّي العِلِّية بالدفع في العالم الفيزيائي والعِلِّية بالترابط في العالم العقلي قد دَعَّمَ نظريةَ التوازي السيكوفيزيقي.
٦٣  «مذهب الظواهر» phenomenalism: مذهب يقصر المعرفةَ على مجرد الظواهر. وهو ينكر وجود «الأشياء في ذاتها» أو «النومين» الذي قال به كانْت (المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، مصر، ١٩٧٩م، ص١٧٧). (المترجم)
٦٤  في كتابه «رسالة في مبادئ المعرفة البشرية» يذهب جورج باركلي إلى أن العالم المادي ليس له وجود مستقل عن العقل الذي يدركه، وأن العقول وما تشتمل عليه من أفكار هي وحدها الحقيقة؛ فوجود العالم الخارجي متوقف على وجود العقل الذي يدركه، فإن لم يكن عقلٌ مدرِك لما كان هناك عالم مادي. إن وجود الشيء هو كونه مدرَكًا esse is percipi. يقول باركلي إن ما يُقال عن الوجود المطلق لأشياء غير مفكرة وبلا أي علاقة بكونها مدرَكة هو بالنسبة لي شيء لا يمكن فهمه على الإطلاق، ولا هو بممكن أن يكون لها أي وجود خارج العقول أو الأشياء المفكِّرة التي تدركها. إن الرأي السائد بأن المنازل والجبال والأنهار وكل الموضوعات المحسَّة لها وجود واقعي بمعزِلٍ عن كونها مدرَكة إنما ينطوي على تناقض واضح. فماذا عساها أن تكون تلك الموضوعات غير الأشياء التي ندركها بالحس؟ وماذا ترانا ندرك غير أفكارنا نحن وإحساساتنا؟ كل أشياء الوجود ليس لها ديمومة بدون عقل يُدرِكها. والقارئ يكفيه للاقتناع بذلك أن يتأمل ويحاول في فكره أن يفصل وجود شيء محسوس عن كونه مدرَكًا. مما سبق يتضح أنه لا يوجد أي جوهر سوى الروح أو ذلك الذي يدرِك. ولإكمال البرهان على هذه النقطة دعونا ننظر في الكيفيات المحسَّة مثل اللون والشكل والحركة والرائحة والطعم … إلخ، أي الأفكار المدرَكة بالحواس. والآن، أن توجد فكرة ما في شيء لا يدرِك هو تناقض واضح؛ لأن امتلاك فكرة هو إدراك. إذن حيثما وُجِد اللون والشكل … إلخ، فثم بالضروة مَن يدركه. وعليه فمن الجلي أنه لا يمكن أن يكون هناك جوهر غير مفكر تتعاقب عليه هذه الأفكار. ولعلك تقول: حسن ولكن رغم أن الأفكار نفسها لا توجد بدون العقل فليس ما يمنع أن تكون هناك أشياء شبيهة بها، أشياء تكون هذه الأفكار نسخًا أو تمثيلات لها، وأن هذه الأشياء موجودة بمعزل عن العقل في جوهر غير مفكِّر. وللرد على ذلك أقول إن الفكرة لا تشبه إلا فكرة، اللون أو الشكل لا يمكن أن يشبه إلا لونًا آخر أو شكلًا آخر. فإذا أنعمنا النظر في أفكارنا سنجد أن من المحال علينا أن نتصور تشابهًا إلا فيما بين أفكارنا. وإنني لأتساءل مرةً ثانيةً فيما يتعلق بالأشياء الأصلية أو الخارجية التي يفترض أن هذه الأفكار تمثيلات لها، هل هذه الأشياء ذاتها قابلة للإدراك أم لا؟ فإذا كانت كذلك فقد صح قولي بأنها أفكار، أما إذا قلت بأنها غير قابلة للإدراك فإنني أناشدك بالله كيف يكون هناك معنًى لأن نقرر أن لونًا ما يشبه شيئًا لا تمكن رؤيته، أو أن شيئًا صلبًا أو لينًا يشبه شيئًا لا يمكن لمسه … إلخ، وحتى الصفات الأولية كالامتداد والشكل والحركة والسكون والصلابة وعدم قابلية الاختراق والعدد، تلك الصفات التي يفرقونها عن الصفات الثانوية الذاتية ويرون أنها صور أو نماذج للأشياء موجودة بمعزل عن العقل في جوهر غير مفكِّر يسمونه «المادة» حتى هذه الأفكار الأولية ليست، في ضوء ما أثبتناه سابقًا، غير أفكار موجودة في العقل، والفكرة لا يمكن أن تشبه إلا فكرة أخرى؛ وبالتالي فلا هي ولا نماذجها الأصلية يمكن أن توجد في جوهر غير مدرِك. وعليه فمن الواضح أن الفكرة ذاتها الخاصة بما يُسمَّى «المادة» أو «الجوهر الجسمي» تنطوي في داخلها على تناقض. (المترجم)
٦٥  في قسم ١٨ من المجلد الأول من «العالم إرادةً وتمثُّلًا» يقترح شوبنهاور نظرية هوية («عمل الإرادة وفعل الجسم … هما شيء واحد وإن قُدِّمَ لنا بطريقتين مختلفتين تمامًا») ليس هذا فحسب بل إنه لَيستخدم لفظة «هوية» identity؛ إنه يتحدث عن «هوية الجسم والإرادة».
٦٦  Physicalist (فيزيائي النزعة أو المذهب). (المترجم)
٦٧  انظر هالدن وروس (١٩٣١م)، المجلد الثاني، ص٨٥ (رد ديكارت في ص١٠٣ وما بعدها). ومن المثير أنه في «منطق بور رويال» (Pt iii, end of chapter xiii) يقدم أرنولد قياسًا يثبت أن روح الحيوان لا تفكر. وهكذا فهو لم يُلزم نفسَه بفكرة حيوان بلا روح، بل فقط بروح حيوان لا تفكر، متيحًا ربما مجالًا للإدراك (انظر ليونوردو س. روزنفيلد، ١٩٤١م، ص٢٨١).
٦٨  بوسع المرء جدًّا أن يؤوِّل لامتري على أنه تفاعلي (على نقيضٍ من مالبرانش مثلًا) وأنه حيوي vitalist من جهة فيزيولوجيا الحيوان (على نقيض من ديكارت). يشير لامتري نفسه إلى كلود بيرول وتوماس ويليس كسَلَفَين له (انظر طبعة ١٩٦٠م من «الإنسان آلةً»، ص١٨٨)، غير أن هذين كانا إحيائيين animists بطريقتين مختلفتين.
٦٩  يُعَد مقال الفيلسوف الأمريكي جون سيرل John R. Searle «العقول والأدمغة والبرامج» المنشور عام ١٩٨٠م في مجلة «العلوم السلوكية وعلوم الدماغ» يعد أبرز المقالات في بابه، ومحورًا يدور حوله كثير من الجدل الراهن حول تفكير الآلة. ينفي سيرل نفيًا قاطعًا إمكان أن يكون للحواسيب المتطورة قدرة عقلية كالتي يتمتع بها الإنسان. وترتكز فكرة سيرل، التي عرضها فيما يُسمَّى «حجة الحجرة الصينية» Chinese Room Argument، على واقعة أن أداء الحواسيب صوري formal تراكيبي syntactical فحسب، بينما أداء العقل البشري يمتلك الدلالة semantics. انظر مقال سيرل John R. Searle, Minds, Brains and Programs, in The Behavioural and Brain Sciences, vol. 3, Cambridge University Press, 1980، وانظر، من أجل عرض تفصيلي لهذا الموضوع، فصل «هل العقل برنامج كمبيوتر»، من كتاب «فلسفة العقل: دراسة في فلسفة جون سيرل»، للدكتور صلاح إسماعيل، دار قباء الحديثة، القاهرة ٢٠٠٧م، ص١٠٧–١٤١. وانظر أيضًا لجون سيرل كتاب «العقل: مدخل موجز»، ترجمة د. ميشيل متياس، عالم المعرفة، الكويت، عدد ٣٤٣، سبتمبر ٢٠٠٧م، ص٧٦–٧٨. ومن أجل عرض مبسط وموجز انظر مقال «بين العلم والعالم: حجرة اللغة الصينية» من كتابنا: صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس، دار النهضة العربية، بيروت ٢٠٠٤م، ص١٧–٢٨. (المترجم)
٧٠  «العقل» reason الذي يحسه المبرمِج وفني الذكاء الصناعي في الحاسوب إنما وُضِع فيه بواسطتنا نحن؛ فإذا كان بوسع الحاسوب أن يعمل أكثر مما يسعنا عمله فإن مرد ذلك إلى أننا وضعنا في الحاسوب مبادئ عاملة قوية؛ مبادئ من عالم ٣ قائمة بذاتها في حقيقة الأمر. (انظر قسم ٢١ سابقًا، وانظر أيضًا كتابي 1953(a))

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤