فاتحة

هنالك محطات على الطريق تستوقف الباحث في تاريخ الحياة الروحية للإنسان، فيحط عندها الرحال لينال من فَيْئها ومائها وسكينتها ما يجدِّد نشاطه ويشحذ عزيمته على متابعة السفر، بعضها يغادره دون رجعة، وبعضها يدعوه إلى رجعة أو رجعات، وبعضها يسكن النفس فلا يستطيع منه فكاكًا ويغدو جزءًا من حياته. كتاب التاو تي تشينغ، كان من هذه المحطات الآسِرة. قرأته منذ خمسة عشر عامًا، ولم أغادره إلا لأعود إليه في أكثر من ترجمة ودراسة، مستجليًا غوامضه ومدوِّنًا ملاحظاتي وتعليقاتي على المتن. إلى أن وجدتُني منساقًا إلى ترجمته كاملًا في صياغة عربية تؤلِّف بين الترجمات، وتستعين بما وضح في واحدتها على ما غمض في الأخرى، وذلك اعتمادًا على تحصيلي في مجال الفكر الصيني والفكر الشرق أقصوي، وعلى ما زودتني صحبتي الطويلة للكتاب من ألفة به وتذوق لِلَطائفه. وبما أن ترجمة نص على جانب من الإشكالية مثل كتاب التاو أمر متصل بفهمه وتفسيره، فقد سارت عملية الشرح والتفسير جنبًا إلى جنب مع عملية الصياغة. وهكذا تم إنجاز مؤلَّفي هذا في ثلاثة فصول. الفصل الأول عبارة عن مدخل عام إلى الحكمة التاوية وأصولها البعيدة في الفكر الصيني. الفصل الثاني يتضمَّن النص الكامل للتاو تي تشينغ. الفصل الثالث يحتوي على الشروحات والتعليقات على المتن مُرتَّبة وَفْق تسلسُل فصوله.

يُعزى كتاب التاو تي تشينغ إلى حكيمٍ صينيٍّ غامض السيرة يُدعى لاو تسو، عاش حياته خلال الفترة الواقعة بين أواسط القرن السادس وأواسط القرن الخامس قبل الميلاد. وقد مارس الكتاب تأثيرًا كبيرًا على الحياة الفكرية والروحية للصين، وبما لا يتناسب وحجمه الصغير جدًّا. وهو مكتوب بأسلوب مكثَّف ومختصر حتى بالنسبة للغة الصينية القديمة التي تتميز عن الصينية الحديثة بشدة إيجازها وتكثيفها، الأمر الذي جعل منه نصًّا إشكاليًّا على جانبٍ كبيرٍ من الغموض رغم وضوح أفكاره الرئيسية. أخذ الكتاب بالانتشار في الثقافة العالمية الحديثة منذ عام ١٧٨٨ عندما قُدِّمت إلى الجمعية الملكية بلندن ترجمة له باللغة اللاتينية. وبحلول عام ١٨٤٤ كان مترجمًا إلى اللغتين الفرنسية والألمانية، وورد ذكره في بعض كتابات الفيلسوفين الألمانيين هيجل وشوبنهاور. ثم استمرَّ اهتمام الفلسفة الألمانية به وصولًا إلى مارتن هايدجر الذي طوَّر خلال النصف الثاني من حياته الفكرية نهجًا فلسفيًّا يقوم على الأفكار الرئيسية للتاو تي تشينغ. ومنذ عام ١٨٥٠ وحتى الآن ظهرت ثلاثون ترجمة إنكليزية للكتاب، تتراوح في جودتها بين عمل الهواة الذين فاق حماسهم للموسيقى الشرقية معرفتهم بالفكر الصيني واللغة الصينية، وبين عمل الاختصاصيين المرموقين من غربيين وصينيين.

في صياغتي العربية لنص التاو اعتمدت ثلاث ترجمات إلى الإنكليزية من إعداد باحثين صينيين مرموقين هم Chang Chung-yuan وGia-Fu Fing وD. C. Lau. ورغم اتكائي بشكل أساسي على ترجمة D. C. Lau التي وجدتها الأكثر أمانة والتزامًا بحرفية الأصل، إلا أن ترجمَتَي Chung-yuan Ghang وGia Fu Fing قد ساعدتني على خَلْق فضاء جمالي وموسيقى تفتقر إليه ترجمة D. C. lau وعقب استكمالي للصياغة بشكلها الأخير، قُمت بمقارنة حصيلتي على ترجمة فرنسية للتاو تي تشينغ من إعداد باحث صيني آخَر هو Liou Kia-Hway. ونظرًا لقِصَر باعي في اللغة الفرنسية فقد استعنتُ بصديقي الباحث الشاب ديمتري أفينيروس، الذي تطوَّع للمهمة بروحٍ علمية ورفاقية عالية. ولقد زودتني هذه المقارنة، سواء في نقاط الالتقاء، أم الاختلاف، بالطمأنينة إلى سلامة نصِّي وحُسن تعبيره عن الأصل، وأخيرًا وبعد صدور الطبعة الثالثة للكتاب، قام صديقي الباحث الصيني الدكتور شْوِي تشينغ قوه بمراجعة نصِّي العربي على الأصل الصيني، وقدَّم لي ملاحظاتٍ مفيدة. ثم تعاونَّا معًا على تأليف كتاب في الموضوع نفسه صدر في بكين عام ٢٠٠٩ باللغة العربية تحت عنوان: لاو تسي.

لا يوجد في صياغتي العربية للتاو تي تشينغ ما لا سند له من إحدى الترجمات العالمية التي ذكرتها أعلاه. أمَّا الشروح والتعليقات فإنها مسئوليتي وحدي، ولا أحيل الثناء أو الملامة إلى واحد من مراجعي. لقد اجتهدتُ على قدر ما أسعفَني به البحث والحدس. وفي الاجتهاد خطأ وفيه صواب. وإن لي في خطأ الاجتهاد أجرًا واحدًا ولي في صوابه أجرين، على حدِّ قول الحديث الشريف المعروف.

أتقدَّم بجزيل الشكر إلى الصديق ديمتري أفينيروس على وقته وجهده. كما أتوجَّه بالشكر إلى الصديق العتيق جوزيف بصال في مكان إقامته الحالية بأمستردام؛ لأنه كان أول مَن قدَّمني إلى عالم الحكمة الشرقية عندما كنا على مقاعد الدرس في الجامعة. لقد كان متقدمي على درب المعرفة، وإني لأدين له بأكثر مما يظن.

فراس السواح
إمیسا/حمص. ربيع ١٩٨٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤