مدخل
يُحكى أن فلاحًا صينيًّا فقدَ حصانه الوحيد الذي يساعده في أعمال الحقل. فجاء إليه جيرانه في العشية يواسونه في مصيبته قائلين: أية مصيبة حلَّت بك! هزَّ الفلاح رأسه قائلًا: ربما، مَن يدري؟! في اليوم التالي رجع الحصان إلى صاحبه ومعه ستة جياد برية أدخلها الفلاح إلى حظيرته. فجاء إليه الجيران يهنئونه قائلين: أي خير أصابك! هزَّ الفلاح رأسه قائلًا: ربما، مَن يدري؟! في اليوم الثالث عمد الابن الوحيد للفلاح إلى أحد الجياد البرية فأسرجه عنوة واعتلى صهوته، ولكن الجواد الجموح رماه عن ظهره فوقع أرضًا وكُسِرت ساقه. فجاء الجيران إلى الفلاح يواسونه قائلين: أية مصيبة حلَّت بك! فهز الفلاح رأسه قائلًا: ربما، مَن يدري؟! في اليوم الرابع جاء ضابط التجنيد في مهمة من الحاكم لسَوْق شباب القرية إلى الجيش، فأخذ مَن وجدهم صالحين للخدمة العسكرية وعفَّ عن ابن الفلاح بسبب عجزه. فجاء الجيران إلى الفلاح يهنئونه قائلين: أي خير أصابك! فهز الفلاح رأسه قائلًا: ربما، مَن يدري؟!
يقوم التفكير الصيني منذ أقدم الأزمنة على النظر إلى الحياة والإنسان، والوجود بأكمله، على أنه نتاج حركة قوتين ساريتين في كل مظاهر الوجود، هما اﻟ «يانغ» واﻟ «ين»: الموجب والسالب، المذكَّر والمؤنث. وهاتان القوتان على تعارضهما متعاونتان ولا قيام لإحداهما في معزل عن الأخرى، فهما أشبه بالقطب السالب والقطب الموجب في قضيب المغناطيس وفي التيار الكهربائي. وإذا غلب اﻟ «يانغ» في دورانه على اﻟ «ين» نجمَ عن ذلك كل ما له صفة الموجب، وإذا غلب اﻟ «ين» نجمَ عن ذلك كله ما له صفة السالب. وهكذا تقف الأقطاب في تقابُل: الخير والشر، النور والظلام، الحياة والموت، الذكر والأنثى، السماء والأرض، العلو والانخفاض، الحرارة والبرودة، الجفاف والرطوبة، الحركة والسكون، الحظ الطيب والحظ العاثر … إلخ. هذه الأقطاب ليست في صراع مع بعضها من أجل سيادة واحدها على الآخر وإلغائه (كما هو الحال في الفكر الثنوي الشرق أوسطي؛ حيث يتصارع الحياة والموت، الخير والشر، الرحمن والشيطان، سيت وحورس، بعل وموت، أهورا مزدا وأهريمان …) بل إنها تنشأ معًا، ويتخذ كلُّ ضد معناه من ضده، حيث لا نور بلا ظلام، ولا خير بلا شر، ولا حياة بلا موت، وحيث الوجود وكل مظاهره في حالة تناوب تلقائي، فإذا بلغ اﻟ «يانغ» أعلى قمة له في الارتفاع تحوَّل إلى اﻟ «ين»، حتى إذا بلغ اﻟ «ين» أعلى قمة له في الانخفاض تحوَّل إلى اﻟ «يانغ» مرة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية في دورة دائبة. من هنا، فإن الحكيم هو الذي يُدرك قطبية وجوده ووجود العالم، وصيرورة الأحداث فيه، ويرى في كل مظهر ﻟ «اليانغ» بذرة «الين» تنمو في أعماقه، وفي كل مظهر ﻟ «الين» بذرة «اليانغ».
وهذا هو مغزى حكاية الفلاح الصيني من وجهة نظر الحكمة التاوية. ذلك أن فن الحياة ينبغي ألا يقومَ على طلب اﻟ «يانغ» واستبعاد اﻟ «ين»، بل على الحفاظ على حالةٍ من التوازن بين القطبين، لأنه لا قيام لأحدهما إلا بوجود الآخر.
وقد تمَّ تمثيل قوتي اﻟ «يانغ» واﻟ «ين»، بصريًّا، على شكل دائرة تحتوي على مساحتين واحدة مظلمة والأخرى مضيئة، فالدائرة هي المبدأ الأول قبل ظهور الموجودات، وهي القاع الكلي الثابت قبل ظهور التغيرات؛ لأنه لا بد لكل متغير من مرجعية ثابتة تعمل على إظهاره، وتكون بمثابة الخلفية التي تنتظم فوقها المظاهر المتحولة وتتبادل فيما بينها العلائق. أمَّا المساحتان المظلمة منها والمضيئة، فقد صُوِّرَتا في وضع دوراني يدل على التناوب الأبدي بينهما، وهو التناوب الذي أظهر الموجودات من حالة اللاتمايز والسكون إلى عالم الشكل والحركة. إن الخط الفاصل بين المساحتين داخل الدائرة يعبر عن ظهور الأقطاب إلى حيِّز الوجود. فهذا الخط هو الذي أحدث شرخًا في الفراغ المتماثل وقسَّمه إلى أعلى وأسفل، إلى يمين ويسار، إلى أمام وخلف، وانحلت الوحدة السابقة إلى مظاهر ذات قوًى متعارضة ومتجاذبة في الآن نفسه. وبما أن اﻟ «يانغ» لا يتجلَّى في حالته الصرفة، ولا اﻟ «ين» كذلك، فقد صور القسم المظلم من الدائرة وفيه بقعة صغيرة بيضاء وصور القسم المضيء وفيه بقعة صغيرة سوداء. لأن في كل إيجاب بعضًا من السلب، وفي كل سلب بعضًا من الإيجاب. تُدعى هذه الدائرة بدائرة التاو، وتتخذ مكان البؤرة في التفكير الصيني.
فإذا جرَّدنا مفهوم اﻟ «تي يين»، أو قوة السماء، حتى من القبة الزرقاء التي اعتُبرت أحيانًا مظهرها المرئي، فإنها تلتقي مع مفهوم التاو الذي لعب الدور الأهم في تاريخ الفكر الديني والفلسفي الصيني منذ البدايات المبكرة لتاريخ الصين.
وإلى كل زوج من هذه الأزواج جرى إضافة خط ثالث، الأمر الذي أنتج المجموعات الأساسية الثماني، وهي كل الاحتمالات الممكنة لاجتماع ثلاثة خطوط:
المجموعة | اسمها | خصيصتها | صورتها | علاقتها العائلية |
---|---|---|---|---|
المبدع | القوة | السماء | الأب | |
المتلقي | الانقياد | الأرض | الأم | |
الموقظ | الحركة المحرضة | الرعد | الابن الأول | |
العميق | الخطر | الماء | الابن الثاني | |
المستقر | الثبات | الجبل | الابن الثالث | |
الرقيق | النفاذ | الهواء | الابنة الأولى | |
الممسك | وهب النور | النار | الابنة الثانية | |
البهيج | البهيجة | البحيرة | الابنة الثالثة |
من منظور التغيرات، فإن هذه المجموعات الثلاثية في صور لكل ما يجري في السماء وعلى الأرض. وفي الوقت نفسه فإنها دائمة التحول، يصير واحدها إلى الآخر مثلما تصير الظاهرة إلى الأخرى في العالم الطبيعي. هنا نضع اليد على المفهوم الأساسي في كتاب التغيرات. فالأشكال أو المجموعات الثلاثية تشير إلى أوضاع متبدلة ومتحوِّلة. إنها صور في حالة تبدل دائم. ولذا ينبغي على الذهن ألَّا يركز على الأشياء كوجود ثابت بل على صيرورتها، على حركتها وتبدلها. إن المجموعات يجب ألَّا ينظر إليها بالمعنى الحرفي بل بالمعنى المجرد، حيث يمثل كلُّ عضوٍ في هذه العائلة قوة ووظيفة، لا شخصية إلهية محددة.
ثم التقت هذه المجموعات الثلاثية كل اثنتين في واحدة تحتوي على ستة خطوط، ونجم عن كل الاحتمالات الممكنة لاجتماعها بهذه الطريقة أربعة وستون رمزًا يحتوي كل منها على خطوط سالبة متقطعة وخطوط موجبة متصلة. إن كل خط من هذه الخطوط قابل للتغير، فإذا انقلب خط واحد سالب إلى آخر موجب في المجموعة، وقع التغيير في الحالة التي تمثلها المجموعة. ولنأخذ على سبيل المثال المجموعتين الآتيتين:
تحتوي المجموعة الأولى أعلاه على ستة خطوط سالبة «ين». فهي تمثِّل الأرض المتلقية، كما تمثِّل فصل الخريف عندما تكون قوى الحياة في حالة الراحة. فإذا تحول الخط السالب السفلي في هذه المجموعة إلى خطٍّ موجب، حصلنا على المجموعة الثانية التي تمثل الرعد، والحركة المحرضة التي تثير الحياة في باطن الأرض عند تحول الفصول.
يمكن للخبير بهذه الأمور أن يستخدم عددًا من عيدان نبات الألفية، فيبعثرها على الأرض لتعطيه تشكيلًا للعيدان يقابل رمزًا من الرموز الأربعة والستين. وهذا الرمز يقابل بدوره حالة الشخص الذي يستخير الكتاب. على أن هذا النوع من التنبؤ الذي يستخدم رموز التغيرات، يتعدى وصف الحالة إلى وصف الفعل الذي يجب أن يترافق مع معرفة الحالة، وذلك قبل أن تستفحل وتغدو قضاءً مبرمًا لا يمكن رده. فنبوءة التغيرات هي نبوءة إيجابية لا سلبية. وقيام المستخير بالسؤال عمَّا يستطيع القيام به لمواجهة الأوضاع المرتقبة، يجعل من التغيرات كتابًا في الحكمة لا كتابًا في العرافة.
تقوم حكمة التغيرات على عدد بسيط من المفاهيم الأساسية. فلدينا أولًا مفهوم التغير، الذي يشكِّل الأرضية العامة لفلسفة الكتاب. فكل شيء يجري ويجري دون توقُّف كماء النهر، على حدِّ قول كونفوشيوس. ولكن التغير يحدث على أرضية ثابتة غير متغيرة، وإلا لما كان هناك نظام كوني، ولانحلَّ كل شيء إلى فوضى مطلقة. هذه الأرضية الثابتة هي التاو، الوحدة الكامنة خلف الكثرة المتبدية. فمَن أدرك التغير ومعانيه صرف النظر عن الأعراض الزائلة في الأشكال المتنوعة وثبت قلبه على المبدأ غير المتغير.
إضافة إلى مفهومي التغير والثبات، لدينا مفهوم ميتافيزيكي أساسي يدور حول الأفكار. فالمجموعات الموضَّحة أعلاه ليست صورًا وتمثيلات لموضوعات، بل صور لأحوال مُتغيِّرة. وكل حادث في المستوى المرئي للعالم يتم بتأثير صورة (أو فكرة) في المستوى غير المرئي. وعليه، فإن ما يجري على الأرض هو نسخة لاحقة زمنيًّا عن أمر جرى في مستوى يقع وراء إدراكنا الحسي. والحكيم الذي يكون في تواصل مع المستوى الخفي للوجود يُتاح له الاطلاع على الأفكار من خلال حدسه المباشر، ويصبح بالتالي في وضع يسمح له بالتدخل في الأحداث الجارية في العالم.
وبهذه الطريقة يغدو الإنسان مرتبطًا بالسماء التي تؤلف عالم الأفكار فوق الحسي، وبالأرض التي تؤلف عالم المادة الحسي، ويُشكِّل معهما مثلث قوة. إن نظرية الأفكار المتضمنة في كتاب التغيرات تطبق في اتجاهين. فالكتاب ينبئ عن صور الأحداث، كما ينبئ في الوقت نفسه عن تحققها التدريجي في الزمن. ولهذا فإن الاستعانة به في استبصار بذور الأمور المقبلة، من شأنها أن تنير لنا المستقبل من جهة وتجعلنا نفهم الماضي من جهة أخرى، وبذلك نتكيَّف مع مجرى الطبيعة.
لقد عرف كونفوشيوس كتاب التغيرات وكرَّس قِسمًا كبيرًا من وقته لدراسته والتعليق عليه خصوصًا في سنوات شيخوخته. وهناك قسم مهم من ملاحق الكتاب يحتوي على شروحات على المتن، تُعزى إلى كونفوشيوس وإلى بعض تلامذته. كما أن الكتاب كان المصدر الرئيسي لإلهام الحكيم لاو تسو، مؤسس التاوية ومعاصر كونفوشيوس، وواضع كتاب تاو تي تشينغ؛ أي رسالة في التاو وقوته. وهو الصرح الثاني في الفكر الصيني بعد كتاب التغيرات.
لقد صاغ كل من كونفوشيوس ولاو تسو تعاليمهما بطريقة حكموية بعيدة عن الطابع الديني الذي يميِّز تعاليم أصحاب الرسالات الدينية، كما أن أيًّا منهما لم يعتبر نفسه رسولًا من قِبَل السماء يوصل مشيئتها إلى عالم البشر، بل إنسانًا يعمل على التلاؤم مع النظام الكوني الذي يعكس المشيئة التلقائية للسماء. فالإنسان ليس كائنًا مستقلًّا عن الطبيعة وعن الكون، وما عليه لكي يحيا حياة متزنة سعيدة إلا أن يتلمَّس النظام الكوني ويسلك في اتفاق معه. وعند هذه النقطة يختلف المعلمان. فبينما يركز كونفوشيوس على القانون الأخلاقي في المجتمع باعتباره صورة عن القانون الكوني، وعلى ضرورة إدراك القواعد الأخلاقية وتلقينها للأجيال، فإن لاو تسو يركِّز على ضرورة إدراك النظام الخفي الكون، وكيفية انسحاب هذا النظام على الإنسان والكائنات الحية طرًّا، لأن مثل هذا الإدراك من شأنه أن يضع الفرد، والمجتمع بالتالي، في حالة تناغم تامة مع الكون والطبيعة، وهذا ما يهيئه لتبني السلوك الأخلاقي بشكلٍ تلقائيٍّ ومن غير حاجة إلى تلقين أو اتباع لوائح أخلاقية موضوعة. من هنا، فإن التاوية الحكموية التي أسس لها لاو تسو تخلو من العبادات ومن الطقوس بشكلها المتعارف عليه. وفيما عدا التأمل الباطني الذي يحاول الإنسان من خلاله التواصل مع منبع الحقيقة، فإن التاوي حرٌّ من أية فروض طقسية أو تشريعية.
على أن طريق الحكمة الذي أسس له المعلم الأول لاو تسو، وطوره تلامذته من بعده، وأهمهم شارحه الرئيسي تشوانغ تزو الذي عاش في القرن الرابع ق.م.، قد تحوَّل بمرور الوقت إلى طريقة دينية طقسية تبنت العديد من الممارسات اليوجية الهادفة إلى السيطرة على الجسد واكتساب القوى الخارقة، كما داخلتها ممارسات وأفكار خيميائية وسحرية. وهذا ما تعرضت له أيضا الكونفوشية الحكموية التي تحولت أيضًا إلى طريقة دينية طقسية، عقب ظهور الكونفوشية الجديدة في القرن الثاني عشر الميلادي، والتي تبنَّت العديد من العناصر التاوية والبوذية والكونفوشية الحكموية القديمة إضافة إلى عناصر من الموروث الصيني القديم. ورغم ذلك فقد بقيت كلمات المعلم الأول لاو تسو فاعلة في الحياة الفكرية والروحية للشعب الصيني عبر العصور، وساهمت بشكلٍ فعَّالٍ في تكوين موقف الإنسان الصيني من الكون والمجتمع والحياة. يُضاف إلى ذلك أن تعاليم لاو تسو قد استمرت بكامل زخمها القديم من خلال بوذية اﻟ «شان» (أو اﻟ «شي آن» كما يكتبها الباحثون الغربيون) التي بدأت بالتشكل تدريجيًّا منذ القرن السابع الميلادي، عن طريق التوفيق بين العناصر البوذية والعناصر التاوية الحكموية في تركيبٍ واحدٍ. وما زالت هذه الطريقة البوذية، التي تحمل طابع المعلم الأول للتاوية، منتشرة على نطاق واسع في اليابان والعديد من أقطار الشرق الأقصى تحت اسم بوذية اﻟ «زن»، والتي تلقي اليوم اهتمامًا واسعًا على النطاق العالمي وتنتشر مدارسها في أوروبا وأمريكا الشمالية.
«يفرِّق مفكِّرو ما وراء الطبيعة بين معنيين لكلمة خلق، فهي يمكن أن تعبر عن فعل حدث في لحظة محدَّدة من الزمن، هي الزمن صفر من عمر الكون. ويمكن أن تعبِّر أيضًا عن فعلٍ أبديٍّ يقع فيما وراء الزمن الذي احتوى العالم في الوجود، على حدِّ تعبير توما الإكويني. ينطبق هذا المعنى الثاني على كون ذي بداية تاريخية، كما ينطبق أيضًا على كون موجود منذ الأزل وسيظل موجودًا إلى الأبد. هذه التفرقة يمكن أن توضح فصولًا حديثة من علم الكون المعاصر. فلقد نشر العديد من العلماء وصفات لكيفية نشوء الكون: كيف تنشأ عوالم متعددة انطلاقًا من لا شيء. إن هذه الأفكار، رغم الاختلافات الواسعة حولها، مبنية على أسس فيزيائية صحيحة، ربما تكون قد لعبت دورًا في ميلاد الكون الوحيد الذي نعرفه، وهو كوننا. ولكن ثمة ملاحظة تفرض نفسها مع ذلك، فهذه الوصفات تقوم أساسًا على التسليم بالوجود المسبق لقوانين الطبيعة، تلك التي أتاحت لنا الاختبارات العلمية صياغتها، وهي تستلزم أن هذه القوانين موجودة قبل وفيما وراء هذه الأكوان. في هذا السياق فإن السؤال الميتافيزيكي للفيلسوف ليبنتز يطرح نفسه: لماذا يوجد هناك شيء بدلًا من لا شيء؟ وهذا يقودنا إلى السؤال الآخر: لماذا توجد قوانين بدلًا من لا قوانين؟ وهكذا فإن مشكلة الخلق ستتحوَّل بالتالي إلى مشكلة الأصل اللازماني للقوانين التي تُسير الكون، والتي ربما كانت السبب في ظهوره قبل خمسة عشر مليارًا من السنين. فيما يتعلَّق بهذا الأصل، نحن في حالة جهل تام.»
«لقد تمكَّن العلم مُستخدِمًا طريقته التقليدية المثمرة، أي الحوار بين المفاهيم الرياضية والملاحظة العلمية، من أن يستجوب الطبيعة ويستطلع تركيب الكون. ويمكن وصف النتائج بأنها رائعة، على أقل تقدير، وتنضوي على مفاجآت. المفاجأة الأولى هي أن الكون ليس ساكنًا بل في حالة تطوُّر ويهيمن عليه التغيُّر. والمفاجأة الثانية هي أن هذه الصورة لكون متطوِّر، قد نجمت عن كون بدئيٍّ سديمي بلا شكل وبدون تنظيم، أخذ بالتشكُّل تدريجيًّا. أمَّا العناصر المنظمة فيه فهي تلك القوى الطبيعية الخاضعة لقوانين كونية دقيقة. إن تاريخ الكون هو تاريخ تنامي التعقيد على المستوى الكوني. وأمَّا المفاجأة الثالثة، فهي أن هذه القوانين تبدو وقد ضُبِطت بدقة لكي ترقى إلى مستوى هذا التعقيد، وكان لديها بالفعل. ومنذ اللحظات الأولى، القدرة على إنتاج التعقيد، على إنتاج الحياة والوعي.»
هذه الأفكار التي يقدِّمها علم الفيزياء الكونية بلسان أحد أقطابه، تضعنا في حالة فكرية ملائمة للولوج إلى كتاب تاو تي تشينغ. لأننا نجد في تلك القوانين، التي يرى هوبرت ريفز أنها سابقة على ظهور الكون وفاعلة فيه منذ لحظة الانفجار الكبير، مفهومًا يقرِّبنا كثيرًا من مفهوم التاو: المبدأ الضمني الذي يفعل من داخل مظاهر الكون والطبيعة. يقول لاو تسو:
أي إن الأشياء في المفهوم التاوي تنشأ تلقائيًّا وبشكلٍ متزامن معًا في معزل عن مبدأ السببية. وكل عنصر في هذا العالم يبدو وكأنه مركز للعالم، تمامًا كما هو الحال في سطح الكرة حيث تتخذ كل نقطة عليه دور المركز. فلا حاكم ولا محكوم، وكل عنصرٍ يحدث من تلقاء ذاته وفي ارتباط وثيق مع حدوث الآخَر. إن أية نملة صغيرة تدب على الأرض هي مركز الكون، فلكي تعيش هذه النملة تحتاج الْتقاط ما يتساقط على التربة من حبوب، والحبوب تحتاج إلى التربة ودورة الفصول، ودورة الفصول تحتاج إلى الشمس، والشمس إلى المجرة، والمجرة إلى بقية النظام الكوني، والعكس صحيح تمامًا. فمنذ اللحظات الأولى للانفجار الكبير الذي أدَّى إلى ظهور الكون يبدو لنا أن تنامي التعقيد على المستوى الكوني يسير في اتجاه إنتاج الحياة، وبالتالي إلى إنتاج هذه النملة الصغيرة، إن حياة أصغر الكائنات على الأرض تتطلب كونًا بأكمله ليسندها، وهذا الكون كان موجهًا منذ البداية لإنتاج هذه الحياة.
ولدينا نصٌّ للمعلِّم الأول لاو تسو، يعبِّر بشكل جميل عن النظرية التاوية في النشوء التزامني للأشياء، ووحدة الأضداد عند المستوى التحتي للوجود، حيث يقول:
«تونغ كاو تزو سأل تشوانغ تزو: أين يوجد ذاك الذي تدعوه بالتاو؟ فأجاب تشوانغ تزو: إنه في كل مكان. فقال تونغ كاو: أين بالتحديد؟ فأجاب تشوانغ تزو: إنه في النملة. فقال تونغ كاو: كيف له أن يوجد في هذه الدرجة السفلى؟ فتابع تشوانغ تزو قائلًا: إنه في بلاطة الأرض هذه. فقال تونغ كاو: إن هذا لعمري أدهى وأمَرُّ. فتابع تشوانغ تزو قائلًا: إنه حتى في الرَّوَث. وهنا سكت تونغ كاو ولم يُجِب ببنت شفة. فأردف تشوانغ تزو شارحًا وجهة نظره: إن أسئلتك هذه لا تنفع في اكتناه جوهر التاو. عليك ألا تسأل عن أشياء محدَّدة يوجد فيها التاو، لأنه لا وجود لأي شيءٍ بدون التاو».
فإذا كان التاو هو الخلفية الساكنة للوجود، والمبدأ السابق على مظاهر الكون والطبيعة، والمطلق الحر من شروط المكان والزمان، فإنه في الوقت ذاته مصدر عملية الخلق الدائمة التي تنطلق منه وتعود إليه فهنا يتخلَّل التاو جميع مظاهر الكون، ويتحوَّل إلى ما لا يحصى من الأشياء والأجزاء المتكثرة، المستقلة من حيث ظاهرها والمتوحِّدة عند جذورها في المطلق الساكن الذي نشأت عنه، وبذلك تنحلُّ الوحدة إلى كثرة وتَئُول الكثرة إلى وحدتها الأصلية، أو كما يقول تشوانغ تزو أيضًا: «إذا نظرنا إلى الأشياء من ناحية فروقها واختلافها فإننا نجد كل ما حولنا متباعدًا مستقلًّا، حتى إن المسافة بين أجهزتنا الداخلية تبدو أبعد من المسافة بين دولتي تشو ويوهي، أمَّا إذا نظرنا إلى الأشياء من ناحية تماهيها وتطابقها، فإن كل هذه الأشياء تبدو لنا على حقيقتها مندغمة في واحد.»
إن كل مظهر، كل حدث في الكون وفي الطبيعة يلعب دوره ويتخذ أهميته من علاقته بكلِّ ما عداه، وإذا تركت الأشياء والأحداث حرَّة في مسارها، تحقق الانسجام على مستوى الكون؛ لأن أي عملية من عمليات الكون لا تسير قدمًا إلا في علاقتها بالعمليات الجارية الأخرى، وبتعبير آخَر فإن نظام العالَم هو نظام الطبيعة التي لا تعرف القانون المفروض من الخارج بل تسير وفق قوانينها الضمنية الذاتية، حيث مسار أي شيءٍ متطابق ومنسجم مع مسار العالم بأكمله، مع طريق التاو. هذه القوانين الضمنية الذاتية تُشبه النظام العضوي الذي نجده في مقطع الشجرة وفي شكل وخارطة أوراقها، وفي بلورات الكريستال وما إليها، فهذا النظام العضوي لا تناظري، غير متكرِّر، ولا يتبع قاعدة ثابتة أو خطة مسبقة، وهذا ما نجده في جريان الماء وفي أشكال وجذوع الشجر وفي تشكُّل السحب، وتكوُّن بلورات الثلج، وتوزُّع الحصى على شاطئ البحر.
إن النظرة التاوية إلى الكون ليست تأمُّلًا ميتافيزيكيًّا صرفًا بل هي خبرة داخلية تجعل صاحبها في تواصل مع منبع الحقيقة، وهذا التواصل ينعكس على خبرة التاوي العملية في الحياة، ويزوده بمرجعية للسلوك مع نفسه ومع الآخَرين، مما سأتعرَّض له بالتفصيل في ثنايا الشروح والتفسيرات المقبلة على المتن، فکتاب تاو تي تشينغ ليس مجموعة تأملات حکموية في أمور ما وراء الطبيعة فقط، بل إنه في الوقت ذاته دليل حياة وعمل، يساعد التاوي على التوافق مع نفسه ومع الآخَرين ومع صيرورة النظام العضوي على المستوى الأعلى، إضافة إلى كونه دليل عمل ناجع في أمور الحكم والسياسة.
لقد حاولت في البداية تقريب مفهوم التاو إلى ذهن القارئ عن طريق بسط بعض المفاهيم العلمية التي تدور حول القوانين الناظمة لصيرورة الكون، ولم يكُن ذلك إلا مزدلفًا سهلًا يساعدنا على الإحاطة بمفهوم التاو قبل تقليب صفحات متن الكتاب، وما أود قوله الآن هو أن الفرق شاسع بين مهمة العلم ومهمة الحكمة، فبينما يهدف العلم إلى معرفة ممَّ يتكون العالم وكيف يعمل، فإن الحكمة تهدف إلى معرفة كيف نستطيع العيش في هذا العالم، المعرفة العلمية مكتفية بذاتها والعرفان الحكموي يؤدي إلى موقف وإلى سلوك، وهذا ما يتضمَّنه المعنى اللغوي لكلمة التاو، فالتاو في اللغة الصينية يعني الطريق، ولكن ليس بالمعنى الضيِّق المحدد الذي يرى في الطريق خطأً يصل بين مكانين محدَّدين، وإنما بالمعنى الشمولي الذي يدل جوهر صيرورة عمليات الكون والطبيعة، إنه الطريق الخفي الذي تطرقه كل حركة في تناوبها، وكل سلوك إنساني في سعيه للتناغم مع منبع الحقيقة، كما تؤدِّي كلمة تي المرتبطة بالتاو (تاو تي تشينغ) معنى مكملًا لمعنى كلمة التاو، فاﻟ «تي» هي التاو متحقِّقًا في الكون وفي الإنسان، وعندما يدرك الفرد صِلته العضوية بالتاو، إدراكًا ضمنيًّا حدسيًّا لا ذهنيًّا، فإن ذلك الإدراك ينعكس على سلوكه العام الذي يتخذ طابع التلقائية والعفوية، والانسجام مع طريق السماء بدلًا من الزوغان عنه.
أخيرًا، لا بد لي من إيراد بعض الملاحظات حول كيفية تعامل القارئ مع هذا النص، فكتاب التاو هو نص في الحكمة لا في الفلسفة، والكاتب لا يطرح مقدمات منطقية ثم يعمل على تطويرها بشكل مضطرد وصولًا إلى النتائج، وإنما يترك أفكاره تنبثق بشكل تلقائيٍّ ثم يصوغها في اختزال واختصار شديدين يؤدِّيان في كثير من الأحيان إلى غموض شديد في المعنى، إنه أسلوب الشعر الذي يقصد إلى الإيجاز لا إلى بَسْط الأفكار ومناقشتها والإقناع بها، وهذا ما يقود إلى فقدان الارتباط الظاهر بين فقرات بعض الفصول، وإلى تكرار بعض الأفكار والصيغ الكلامية، على ما هو مألوف في كتب الحكمة وفي الكتب المقدسة بشكل عام.
ويتعلَّق بمسألة الشكل هذه مسألة أخرى في المضمون، فهنالك أكثر من مستوى للمعنى في نصِّ لاو تسو. المستوى الأول ميتافيزيكي والثاني أخلاقي اجتماعي والثالث سياسي، فقد يتم الانتقال من المستوى الأول إلى الثاني إلى الثالث في الفصل الواحد، وقد تحمل الفقرة الواحدة أكثر من مستوى للمعنى، ويمكن فهمها بشكل ميتافيزيكي وأخلاقي وسياسي في آنٍ معًا، ويتبع ذلك أن بعض التعابير التي يستخدمها الكاتب تحمل أكثر من دلالة، من ذلك مثلًا تعبير «الحكيم» الذي يدل على الشخص الذي انكشفت بصيرته على التاو، كما يدلُّ أيضًا على السياسي أو الحاكم الذي يرى لاو تسو ضرورة ارتقائه إلى مرتبة الحكيم ليستطيع حكم الدولة وفق النظام الطبيعي الذي يسير الكون، ومن ذلك أيضًا تعبير «المملكة» الذي يدل على الدولة بمفهومها السياسي، كما يدل على العالم بالمفهوم الشمولي.
وبما أني قد فصلتُ متن النص عن شروحاته، وأفردتُ لكلِّ جزء فصلًا خاصًّا به فإن القارئ مخيَّر بين قراءة متصلة للنص، أو قراءة مقرونة بالعودة إلى الشرح، رغم أني أنصح بالاستعانة بالشرح في قراءة الفصول الأولى على الأقل، لأنها تتضمَّن الأفكار الرئيسية للاو تسو، ولأن عدم وضوح هذه الأفكار منذ البداية سوف يقود القارئ من لغز إلى آخَر، ويؤدِّي إلى سوء الفهم والتأويل.
Larousse Encyclopedia of Mythology, Hamlyn, London 1977, p. 380.
-
The I. Ching, or Book of Changes, the Richard Wilhelm Translation Renderd into English by Cary Baynes, Princeton University Press 1977.