الفصل العشرون

(٤٥) لكي نفهم قول لاو تسو هنا: تخلَّ عن المعرفة تدع الهم والقلق، نعود مرة أخرى إلى المقارنة بين الكونفوشية والتاوية في نظرتهما إلى المعرفة. فالكونفوشية تشغل نفسها بمسائل الأخلاق والتشريعات والتربية والطقوس، وبشكلٍ عامٍّ كل ما يُشكل معرفة تقليدية. أمَّا التاوية، فإنها تنبذ هذا النوع من المعرفة، وتركز بالمقابل على المعرفة غير التقليدية التي لا تأتي عن طريق دراسة التعاليم وتطبيقها، بل عن طريق استلهام الطبيعة الأصلية للإنسان. من هنا فإن الجهل بالمفهوم التاوي هو جهل بفقه المتفقهین وحذلقة المشرعين، واستبعاد لأية سلطةٍ معرفيةٍ غير سلطة الإدراك الحسي السليم. إنه أشبه بالمفهوم السقراطي للجهل.

وهناك نوعان آخران من المعارف التقليدية التي تنبذها التاوية؛ الأول هو البحث الميتافيزيكي الفلسفي في مسائل ما وراء الطبيعة اعتمادًا على المنهج العقلي في البحث والبرهان، فمثل هذا البحث جهدٌ لا طائل من ورائه بالنسبة للتاوي، لأنه لا يرى في العقل المنطقي الوسيلة المناسبة للخوض في مثل هذه المسائل، بل الأحرى بها أن تُترك لمَلَكات الإنسان الحدسية وعرفانه الباطني. أمَّا النوع الثاني فهو الانكباب على الطبيعة من أجل فهمها وتمحيصها والكشف عن حقيقتها باتباع المنهج العلمي التجريبي الذي يشكو من علة التجزئة. فنحن عندما ندرس ظاهرة ما من الظواهر الطبيعية نقوم بعزلها عن محيطها وتجزئتها وتحليلها، وكأن هذه الظاهرة تحدث بشكلٍ مُستقلٍّ عن بقية ما لا يُحصَى من الحدوثات.

إن العالم يحدث كله دفعة واحدة وفي ترابط تام، في الوقت الذي نقوم فيه بدراسة واحد من أحداثه وكأنه الحدث الوحيد. مثل هذه المعرفة أمر نسبي وعرضة للتغير والتبدل، لأننا كلما استطعنا ربط مجموعة أكبر من الأحداث كلما تغير فهمنا للحدث موضوع الدراسة. ولكننا لن نستطيع قط التوصل إلى فهمٍ كاملٍ للحدث المعزول، لأن الأشياء تنشأ في تواقت معًا وبشكلٍ تزامني كما قال المعلم في فصل سابق، ويتبع ذلك أن فهم كل ما يحدث في العالم هو فوق أية إمكانية بشرية. هذا الجدار المصمت قد وصلت إليه الفيزياء الحديثة الكوانتية في بحثها عن مكونات المادة وبنيتها. فقد اكتشفت أنه على مستوى الجزيئات الصغرى لا توجد حركة بالمعنى الذي نعرفه، ولا توجد مكونات أساسية للمادة يتمتع كل منها بوجودٍ مستقلٍّ، وأن أصغر أجزاء المادة ليس إلا تجريدًا وعرضًا من أعراض الكل الكبير.

على أنه يجب التوكيد هنا على أن التاوية ليست ضد المعرفة العملية التي تتيح للإنسان التعامل مع عالمه اليومي وتطوير أفضل الأساليب التي تحقق له توازنًا تامًّا مع بيئته. ومعرفته العملية هذه تختلف عن المعرفة النظرية التي تستخدم المناهج العلمية في سبيل فهم وكشف أسرار الطبيعة، لأن التاوي يقف عند حدِّ وصف الظواهر وتصنيفها وتبويبها دون أن يعتقد بإمكانيته على فهمها وفهم طبيعة مجرياتها والكشف عن أسرارها الدفينة. وبتعبيرٍ آخر، فإن الحقيقة ليست موضوعًا للمعرفة التقليدية ولا تستطيع اختراقها متسلحًا بالمناهج العقلية التجريبية. يقول حكيم الزن بو تشانغ، مؤلف كتاب رسالة في أساسيات مبدأ العقل، عام ٨٥٠ ميلادية: «لقد أسماه الحكماء القدماء بالتاو. ولكنكم يجب أن لا تبنوا أي مفهوم حول الاسم. وهذا معنى القول المأثور: الشبكة للإمساك بالسمك، فإذا أخذت السمك انسَ الشبكة، عندما يحقق العقل والجسم التلقائية نصل إلى التاو ونفهم العقل الكوني … أهل الأيام السالفة تركوا التعلم وثبتوا في التلقائية. أهل هذه الأيام يحشون أنفسهم بالمعلومات ويتكلون على الشروحات المكتوبة، ثم يدعون ذلك ممارسة روحية.»

(٤٦) صاحب هذه المعرفة ينفذ من الثنائيات المتبدية في عالم الظواهر إلى الوحدة الجوهرية التي تئول إليها. وهذا معنى قول المعلم:

بين النعم واللا هل هنالك من فرق؟
بين الخير والشر كم بعيدة هي المسافة؟
وكان المعلم قد عالج هذه الفكرة في الفصل الثاني عندما قال:
الوجود واللاوجود ينجم بعضهما عن بعض
القَبل والبَعد يتبع بعضهما بعضًا.

كما عالجها تشوانغ تزو في مقطع اقتبسناه سابقًا يقول فيه: «النفي ينشأ عن الإثبات، والإثبات ينشأ عن النفي، من هنا فإن الحكيم يصرف نظره عن الفوارق ويستمد رأيه من السماء.»

(٤٧) لأن الحكيم يستمد رأيه من السماء فإنه مستقلٌّ في وجهات نظره ولا يأبه لما هو مؤسس ومتعارف عليه بين الناس. إنه يعتمد على المصدر الثابت للحقيقة، لا على اجتهادات الفقهاء والمُشرِّعين. وهذا معنى قوله:

ما يخافه الآخرون، عليَّ أن أخافه أيضًا!
إنه لأمر سخيف.

(٤٨) جموع الناس تروح وتجيء كأنها في عيد أو احتفال، ولكنها في حقيقة الأمر تسعى محمومة وراء الكسب المادي، واكتساب رموز التفوق والجاه في المجتمع. الأغنياء يكدسون ما لا حاجة لهم به، والفقراء یکدون من أجل خبز يومهم، فإذا أسعد واحدهم الحظ حاول التشبه بالأغنياء وسلك سلوكهم. أمَّا الحكيم الذي عرف القناعة والرضى فخامل لا تصدر عنه إشارة في مواجهة هذا السعي المجنون. يزداد دون أن يصل إلى الامتلاء، رغم أنه لا يمتلك شيئًا ولم يختزن أو يكدس شيئًا. الساعون في دروب الحياة يتمتعون بطمأنينةٍ زائفة تزودهم بها المعارف التقليدية، أمَّا الحكيم فهائمٌ على وجهه كمَن لا بيت عنده يئوب إليه، لأنه اتخذ من نفسه المرجعية المعرفية الوحيدة. عامة الناس تتباهى بالذكاء ومعرفة من أين تُؤكل الكتف، وتتنافس لإثبات نفسها في كل مجال، والحکيم خامل وهامل وغافل، ساکن مثل صَفْحة الماء الهادئ، يرضع من نبع الحقيقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤