الفصل الحادي والعشرون

(٤٨) يقول الفيزيائي البريطاني المعاصر بول دیفیس في كتابه، The Mind of God، أي عقل الله، ما يأتي:
لقد ناقشت في الفصل الثاني من هذا الكتاب فكرة مفادها أن العالم قادر على خلق نفسه من خلال القوانين الطبيعية، وهذه النتيجة مؤسسة بشكلٍ خاصٍّ على تطبيق الفيزياء الكمية على علم نشوء الكون. مع وجود القوانين لا يغدو وجود العالم معجزة في حدِّ ذاتها. وبتعبيرٍ آخر فإن قوانين الفيزياء هي بمثابة الأساس التحتي للوجود، إنها الحقائق الخالدة التي بُنِي عليها الكون (ص٧٣) … ورغم أن مفهومنا عن العالم باعتباره نظامًا محکومًا بواسطة قوانين طبيعية غير ظاهرة للعيان، هو مفهوم قديم جدًّا، إلا أننا لم نكتشف الوسائل اللازمة للكشف عن النظام الخفي للعالم إلا خلال القرون الثلاثة الماضية. نحن نعرف الآن أن هندسة الكون قد بُنِيت على قواعد شمولية خفية يمكننا أن ندعوها بالشيفرة الكونية (ص٧٩) … تتمتع القوانين الطبيعية بالخصائص الآتية:
  • (١)

    الشمولية: فهي تسري في كل مكان وعبر كل زمان من تاريخ الكون دون استثناء.

  • (٢)

    الإطلاق: أي أنها ثابتة من جهة، ولا تعتمد في فعاليتها على شيءٍ آخر، بينما تعتمد عليها كل المنظومات الفيزيائية.

  • (٣)

    السرمدية: أي إنها لا زمنية. وتنعكس سرمدية ولا زمنية القوانين في البنى الرياضية المستخدمة في وضع نماذج للعالم الفيزيائي.

  • (٤)

    كلية المعرفة والقدرة: أي لا شيء يفلت من سيطرتها، ولا تحتاج إلى تزويدها بالمعلومات من قِبَل أية منظومة فيزيائية عن أحوالها المتغيرة، لكي يقوم القانون بإصدار التعليمات الخاصة بكل حالة (ص٨٢-٨٣).

فإذا كانت الحقيقة الفيزيائية قائمة، فإن هذه القوانين تتمتع بوجود مستقل بمعنى ما … إنها حقائق موضوعية عن العالم تتبدَّى لنا في صِيَغ رياضية (ص٨٤).

والقوانين الطبيعية وحدها لا تصف وتفسر الأحداث الفيزيائية، بل لا بد من عنصر متغير يتعاون معها هو الأحوال الابتدائية للحادثة. فالقانون البسيط مثلًا، الذي يعلمنا أن رمي حجر في الهواء يؤدي إلى رسم قطع ناقص، لا يكفي لوصف شكل القطع الناقص هذا. فهنالك قطع طويل وقطع قصير، قطع عالٍ وقطع منخفض. إن شكل القطع هنا يعتمد على الأحوال الابتدائية للحدث، والتي تتمثَّل هنا بقوة الدفعة الأولى وعدد آخر من المتغيرات. وهكذا نجد أن الأحوال الابتدائية لكلِّ حدث تجد تفسيرها في شبكة من الأحداث السابقة، وفي الأحوال الابتدائية لهذه الأحداث السابقة، ثم إن دائرة السبب والنتيجة تتسع لتشمل الكون بأسره وصولًا إلى لحظة الانفجار البدئي الكبير الذي نشأت عنه المجرات، وأخذت تتباعد عن بعضها منذ ذلك الوقت قبل خمسة عشر مليارًا من السنين. ولكن ما هي الشروط الابتدائية التي سبقت لحظة الانفجار الأعظم؟ في الواقع هذا ما لا يمكننا القول فيه. إلا أن الأحوال الابتدائية للانفجار الأعظم هي «أمر معطى» شأنه في ذلك شأن القوانين؛ لأنه إذا كانت الأحوال الابتدائية لمنظومة فيزيائية ما يمكن البحث عنها في منظومة فيزيائية أخرى، وفي مجال أعلى وأوسع وسابق زمنيًّا، فإن لحظة الانفجار الكوني الأعظم هي اللحظة الأولى التي لا نستطيع البحث وراءها عن منظومة أخرى وفي مجال أوسع وأعلى وسابق زمنيًّا. ذلك أن تلك اللحظة هي الأولى ولا نستطيع البحث وراءها عن منظومة أخرى ومجال أوسع وزمن أبعد (ص٨٧-٨٨). إن التمييز هنا بين القوانين الطبيعية والأحوال الابتدائية يتوقَّف. (ص٩١).

يناقش بعض الفيزيائيين بأن القوانين الطبيعية قد ظهرت إلى الوجود مع ظهور العالم الفيزيائي، فإذا كان الأمر كذلك، فإننا لا نستطيع أن نفسِّر ظهور العالم بواسطة القوانين الطبيعية، لأن هذه القوانين لا تتمتع بوجود سابق على العالم، وبالتالي لا يمكن أن تكون سببًا له، أمَّا إذا كانت القوانين سابقة على العالم، وهو ما يقوم عليه تفسيرنا هنا، إذا كان للقوانين وجود مفارق للعالم، كان لدينا بداية تشرح لماذا هو العالم على ما هو عليه الآن. إن فكرة القوانين المفارقة هي معادل حديث للفكرة الأفلاطونية عن عالم الماهيات، عالم الأشكال الكاملة التي هي بمثابة المخططات الأصلية لعالمنا.١ (ص٩١-٩٢).

هذه المخططات الأصلية التي تنطوي عليها القوانين الطبعية المفارقة، تقرِّبنا من مفاهيم «الصورة» و«الجوهر» و«الماهية الأصلية» المزروعة في صميم التاو، حيث قال لاو تسو في هذا الفصل:

التاو معتم ولا متمایز
ومع ذلك ففي صميمه صورة
معتم ولا متمایز
ومع ذلك ففي صميمه جوهر
معتم ولا متمایز
ومع ذلك في صميمه ماهية أصلية
فيها الحقيقة الناصعة.

(٤٩-أ) يقول لاو تسو في هذه الفقرة:

منذ القِدَم إلى يومنا هذا
لم يفارقه اسمُه
دليلنا إلى مصدر الأشياء طرًّا.

ولكنه يقول في الفصل ٣٢ لاحقًا:

التاو يبقى أبدًا بدون اسم.

قد يبدو في ذلك تناقض للوهلة الأولى. ولكننا يجب أن نتذكر أن كلمة التاو تعني الطريق، والطريق عند لاو تسو هو التيار الكلي الخفي الذي يحرك كل شيءٍ، ويجعل كل الطرق ممكنة رغم أنه ساکن وثابت في جوهره. الاسم يدل على شيء محدَّد معروف وموصوف وثابت، أمَّا التاو فصيرورة دافقة مستمرة. من هنا فإن الاسم تاو لیس اسمًا بالمعنى المُتعارف عليه بل إشارة لِمَا لا يمكن تسميته أو وصفه بكلمات. وضرورته هنا تأتي من أجل توجيه وعي المتأمل إلى الحركة الكلية الكونية التي هي مصدر الأشياء طرًّا، على حدِّ قول النص.

١  Paul Davies, The Mind of God, Penguin Book 1992, pp. 79–91.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤