الفصل الحادي والأربعون

(٩٠) إن الخبرة التاوية بالعالم، هي أقرب إلى النتيجة منها إلى المقدمة، وما يحصله التاوي من هذه الخبرة/النتيجة، ليس خطوة أولى في سلسلة خطوات من التفكير المنطقي نحو تحقيق فَهْم عامٍّ متكامل، بل هو المقدمة والنتيجة معًا في خطوة أو قفزة واحدة، الْتِماعة حدسية تضعك أمام الكل دفعة واحدة، فيذوب الفارق بين العارف وموضوع معرفته.

فإذا أردنا التشبيه الحسي، قلنا إن هذه الالْتِماعة الحدسية تُشبه إلى حدٍّ كبير انفجارنا بضحكة عالية تهز كياننا عقب الاستماع إلى نكتة، نحن نفهم النكتة في كليتها ودون بذل جهد في تحليلها وتفسيرها وصولًا إلى إدراك الطرافة فيها، من هنا يقول لاو تسو في هذه الفقرة: إن التلميذ النجيب المتمرِّس بالتفكير المنطقي يُعمِل في التاو بحثًا وتمحيصًا، على أنه مفهوم فلسفي يتوجب عليه دراسته من أجل استيعابه، أمَّا التلميذ العادي الذي لم تُفسِد المعارف التقليدية كلَّ تلقائيته، فإنه يتعامل مع التاو بطريقة توسط المنطق والحدس معًا، وأمَّا التلميذ الغبي، ويقصد به لاو تسو الإنسان الذي لا يُعوِّل على المعارف التقليدية، فإنه يضحك بصوت عالٍ. ويُتبع ذلك بقوله: إذا لم يكُن هناك ضحك، فإن التاو لن يكون ما هو عليه، أي إننا إذا لم ندركه بحدسنا ودون توسيط المنطق التحليلي، فإننا لن ندركه أبدًا.

يفسِّر لنا هذا المقطع المغزى الكامن وراء تمثال بوذا الضاحك، المعروف بأكثر من وضعية وشكل في الفن الصيني والياباني، ففي مقابل الوضعية التقليدية التي تمثِّل البوذا في حالة الاستغراق الباطني العميق، نراه هنا وقد انفجر بضحكة صاخبة برزت فيها أسنانه واندفع رأسه إلى الوراء، وكأن الوجود نكتة ما عليك سوى الإصغاء إليها ليباغتك السر، هذه الصيغة لتمثيل البوذا هي من نتاج بوذية اﻟ «شان»، وريثة التاوية وسليلتها الشرعية، فلقد تبنَّت بوذية اﻟ «شان» طريقة الاستنارة المفاجئة وصارت ركنًا أساسيًّا من أركانها، كما انتقلت إلى بوذية الزن وهي الشكل الياباني ﻟ «الشان» الصينية.

إن الاستنارة بالمفهوم التاوي أشبه بالقفز فوق خندق عميق، عليك أن تقوم بها دفعة واحدة، فإما أن تصل إلى الطرف الآخَر وينفتح عقلك على الحقيقة، أو تبقى في مكانك. وذلك على عكس الاستنارة بالمفهوم البوذي، حيث يتم تدريب المُريد على تحقيقها خطوة خطوة وفق تمرينات يتعلمها من أستاذه، في التاوية، وأشكالها الأخرى، لا يوجد تعاليم نظرية مكتوبة يتوجب على التلميذ دراستها وفهمها، ولا قواعد مرسومة وتمرينات مقررة، وهنا تقتصر مهمة المعلم على الأخذ بيد التلميذ ليكتشف الحقيقة وحده، ومن خلال تجربة خاصة يُعانيها في أعماق ذاته، تقول أبيات من شعر الزن في وصف هذا الطريق:

بدون تعاليم وخارجًا عن التقاليد
غير مُؤسَّس على الحرف والكلمات
يشير إلى العقل بلا واسطة
يدفع إلى رؤيا الطبيعة الداخلية
ومنها إلى تحقيق حالة البوذا١

ومن الوسائل المتبعة في تحريض القوى النفسية الهاجعة لدى المُريد ودفعها نحو تحقيق الاستنارة، يلجأ معلم اﻟ «شان» إلى أسلوب اﻟ «ون-تا»، أو الموندو في الزن الياباني، وهو أسلوب السؤال الواضح المباشر من قِبَل المُريد، والجواب المُلغِز الذي يحرِّض العقل من قِبل المعلم، وصفة «المُلغِز» هنا لجواب المعلم لا تعني تضمنه لرمز مُعيَّن يتوجب على المُريد فهمه وإدراك ما وراءه، بل يعني أن الجواب في حدِّ ذاته متضمن لحقيقة الأمر من دون واسطة، وما على المريد سوى إدراكه في ومضة حدسية بارقة. وفيما يأتي بعض الأمثلة.

تحكي تقاليد اﻟ «شان» عن مؤسسها الأول بودي دهارما القصة الآتية: كان بودي دهارما معتكفًا في كهف جبلي ناءٍ عندما جاءه التلميذ هووي کو يطلب التعلُّم، حاول التلميذ جر الحكيم إلى الحوار، ولكن الحكيم بقي معتصمًا بصمته يحملق في جدار الكهف على عادته منذ تسع سنوات، عندها قبع التلميذ خارج الكهف في وضعية التأمل تحت الثلج أيامًا عديدة، على أمل أن يستجيب له الحكيم ويقبل محاورته، وعندما يئس عَمِد إلى قطع ذراعه الأيمن وقدَّمها إليه عربون رغبته الحقيقية في التعلُّم، عندها الْتفتَ بودي دهارما إلى هووي کو وسأله عن مراده: ما هي بغيتك أيها الغريب؟

– إني أفتقد السكينة في عقلي. أتوسل إليك أن تُحِل السَّكِينة فيه.

– أرني عقلك لأجلب إليه السَّكِينة.

– ولكني عندما أبحث عن عقلي لا أجده!

– إذَن، فقد جلبت السَّكِينة إلى عقلك.

عند ذلك انكشفت بصيرة هووي کو وحصل على الاستنارة. وفيما بعد صار البطريرك الثاني لبوذية اﻟ «شان».٢

ويُحكى عن البطريرك الثالث المدعو سينغ تسا آن ما يأتي: جاء المُريد تاو هسين إلى المعلم سينغ تسا آن يسأله: كيف أجد طريقي إلى التحرُّر؟

– ولكن ما الذي يقيدك؟

– لا أرى شيئًا يقيدني أيها المعلم.

– إذَن، لماذا تبحث عن التحرر؟

عند ذلك انكشفت بصيرة تاو هسین وحصل على الاستنارة. وفيما بعد صار البطريرك الرابع للطريقة.٣
ويُحكى عن تاو هسين هذا، القصة الآتية: زار تاو هسین رجلًا قدِّیسًا يُدعى فا يونغ في معتكفه الجبلي، وعندما كان الاثنان يتمشيان حول المكان، سمع صوت حيوان بري يزأر، فقفز تاو هسين واحتمى بصخرة قريبة، عند ذلك علَّق فا يونغ قائلًا: أرى أنك لم تتخلَّص من ذلك بعد! ويعني بذلك غريزة الخوف الطبيعي عند الإنسان، ثم جلس الاثنان يتجاذبان أطراف الحديث، وعندما قام فا يونغ لشأن ما، عمد تاو هسين إلى كتابة اسم البوذا في مكان جلوس صديقه، عاد فا يونغ وتردد في الجلوس فوق إشارة الاسم المقدس، عند ذلك قال له تاو هسین: أرى أنك لم تتخلص من ذلك بعد! عند ذلك انكشفت بصيرة فا يونغ وحصل على الاستنارة.٤

إن أي تفكر أو تأمل في جواب المعلم وترجمته إلى لغة منطقية واضحة، من شأنه إفساد العملية برُمَّتها وإبقاء التلميذ حيث هو، وهذا ما تُشير إليه القصة الآتية من أدبيات الزن:

الْتحقَ المُريد هسون تزو بدير المعلم فا ين، وأمضى فترة لا بأس بها يعيش مع البقية ويمارس نشاطاتهم اليومية من غير أن يتوجه إلى المعلم بسؤال واحد، وفي أحد الأيام قال له المعلم: لماذا لم تتوجَّه حتى الآن بسؤال حول الزن؟

– لقد توجهت بالسؤال إلى معلم آخَر وحصلت منه على الجواب.

– ماذا سألتَ المعلم الآخر؟

– سألته: ما هو البوذا؟ فأجابني: بينغ تنغ جاء يطلب نارًا.

– جواب ممتاز. ولكني متأكد من أنك لم تفهمه.

– بلى أيها المعلم، لقد فهمته تمامًا.

– حدِّثني إذَن.

– بينغ-تنغ هو إله النار، فكيف يأتي لطلب النار؟ ومعنى ذلك بالنسبة لي هو أن طبيعة البوذا لم تفارقني قط فكيف أسعى لاكتساب طبيعة البوذا؟

– لقد كان ظني في محله. فأنت لم تفهم الجواب.

عند ذلك شَعَر المريد بالحرج والغضب وهجر الدير. ولكنه بعد فترة أحسَّ بالندم وعاد إلى المعلم يطلب الصفح. فقال له المعلم: سَلْني.

– ما هو البوذا؟

– بينغ-تنغ جاء يطلب نارًا.٥

(٩١) عندما تصل الصفة أو الخصيصة أقصى درجات التوكيد تنقلب إلى ضدها، فأقصى درجة للبياض هي السواد، وأقصى درجة للقوة هي التراخي، وأقصى درجة للصفاء هي العَكَر، من هنا فإن الشيء الأمثل هو بلا صفة أو خصيصة، فالمربع الأمثل لا زوايا له، والإناء الأمثل لا يمتلئ، والنغمة المثالية بلا صوت، والصورة المثالية بلا شكل.

(٩٢) التاو بدون خصيصة أو صفة، وكما قال المعلم في الفصل ٣٤:

إنه الصورة التي لا صورة لها
إنه الشكل الذي لا شكل له
إنه بلا تحديد ويتجاوز الخيال.
التاو باطن ومحجوب لكونه بلا اسم، ولكنه وحده الظاهر في كلِّ شيءٍ.
١  Alan Watts, The Way of Zen, p. 108.
٢  Ibid, p. 107.
٣  Ibid, p. 109.
٤  Ibid, p. 110.
٥  Ibid, p. 148.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤