الفصل الأول

(١) في الفصل ٦٧ من تاو تي تشينغ يصف لاو تسو التاو بأنه «ليس كمثله شيء». وفي الفصل ١٤ يقول بأنه وراء الشكل والصوت والمادة، ومعنى ذلك أنه لا ينتمي إلى عالم الظواهر رغم حضوره فيه، من هنا فإن اللغة التي نستخدمها لترميز المستوى الظاهر للوجود من أجل التعامل معه ذهنيًّا لغرض استيعابه وممارسة فعالياتنا فيه، لا تصلح لترميز المستوى الخافي للوجود ولا تفيدنا في استيعابه ذهنيًّا. وأول ما يجب استبعاده من عالم الكلمات في مواجهتنا مع المبدأ الكلي هو الأسماء، فالأسماء دلالة على أشياء وما هو وراء الأشياء لا يمكن أن يحمل اسمًا.

فالأسماء تدل على أشياء ذات وجود مادي، وكل ما في عالم الظواهر المُدركة له اسمٌ أو يمكن أن يُطلق عليه الاسم. أمَّا المبدأ الكلي فهو بدون اسم لأنه ينتمي إلى مستوى آخَر للوجود لا إلى عالم الظواهر المادية، وبالتالي فهو عدَمٌ بالنسبة إليها، ولكنه ليس عدمًا مطلقًا؛ لأنه يحتوي في صميمه على كل الموجودات ولكن في حال الكمون، أو حال الوجود بالقوة (بالمصطلح الفلسفي). فإذا انتقلت هذه الموجودات من حال الكمون إلى حال الظهور والتحقُّق، صارت موجودةً بالفعل بعد أن كانت موجودة بالقوة، فهي والحالة هذه نتاج العدم الخلَّاق وتبدیات متجذرة فيه. من هنا يقول المعلم في هذا الفصل الافتتاحي:

التاو الذي يمكن التحدث عنه
ليس التاو السرمدي
والاسم الذي يمكن إطلاقه
ليس الاسم السرمدي.

ثم يقول في الفصل ٢٥:

لا أعرف له اسمًا
فأدعوه بالتاو
لا أعرف له وصفًا
فأقول العظيم.

فمصطلح التاو ليس اسمًا كبقية الأسماء؛ لأنه لا يدل على كينونة محدَّدة بل على حالة وجود، والكلمة في اللغة الصينية تعني الطريق، ولكن لاو تسو لا يرى في الطريق ذلك الدرب الذي يصل بين مكانين، وإنما الطريقة التي ينشط بها المبدأ الكلي باعتباره الثابت الذي تنشأ عنه كل حركة، فالطريق لا ينتقل من مكان إلى آخَر ولكنه يقود الأشياء في حركتها، انظر إلى الدروب الجوية التي تسير عليها الطائرات الحديثة لا تجد لها أثرًا في السماء، ومع ذلك فلا حركة للطائرات بدونها، أو انظر إلى الدروب التي تتبعها أسراب الطيور المهاجرة لا ترى فيها أثرًا لأجنحة الطيور، ومع ذلك فإن كل نوع منها يعرف طريقه بين موطنيه.

(٢) فإذا شئنا استخدام الاسم تاو، لا نكون قد أطلقنا الاسم على المبدأ الكلي في حالته الكمونية قبل صدور الموجودات عنه، بل على المبدأ بعد إنتاجه للموجودات. في الحالة الأولى يرمز الفكر الصيني إلى المبدأ الكلي بدائرة فارغة، وفي الحالة الثانية يرمز إليه بدائرة اليانغ ين، ففي البدء صدرت الحركة عن المطلق العظيم فأنتجت اليانغ أو القوة الموجبة، وعندما وصلت الحركة منتهاها انقلبت إلى سكون أنتج اليِنْ. وبهذه الطريقة أنتجت الحركة والسكون بعضهما بعضًا ودارا على بعضهما فأنتجا العناصر الخمسة، ومن العناصر الخمسة نتجت الآلاف المؤلَّفة من مظاهر الطبيعة، فالدائرة الفارغة تبقى بلا اسم، ودائرة اليانغ ين نطلق عليها الاسم، وهذا معنى قوله:

اللامُسمی هو السابق على السماء والأرض
المُسمى هو أم الآلاف المؤلَّفة.

(٣) الأسرار والتجليات هما وجها التاو. الجوهر والمظهر متطابقان في الحقيقة مستقلان في الظاهر، ولا يدرك تطابق المظهر والجوهر عند الأعماق التحتية للخبرة الوجودية إلا أهل السر وأصحاب الكشف الروحي، عندما تصل إلى هذا المقام تنفتح أمامك بوابة كل الأسرار، وتدرك الوحدة الكامنة خلف الكثرة والثبات الذي يقوم عليه كل تغير. وهذا معنى قوله:

الأسرار والتجليات أمران سيَّان في المنشأ
ولكنهما لا يستويان بالاسم عند صدورهما
استواؤهما أدعوه ظُلمة وخفاءً
ظلمات وراءها ظلمات بوابة كل الأسرار
ولدينا قصة صينية عن وحدة الجوهر والمظهر تُروَى عن الحكيم فا تسانغ من القرن السابع الميلادي، فقد كان الحكيم يُعلم في القصر الملكي حول مسألة وحدة المظهر والجوهر، عندما استنفذ كل شروحاته النظرية وأحسَّ بحاجته إلى مثال حسي يُرسِّخ المقولة في أذهان سامعيه، نظر حوله فرأى تمثالًا من ذهب خالص لأسد رابض، أشار الحكيم إلى التمثال قائلًا: انظروا إلى هذا، إن الذهب فيه يُمثِّل الحقيقة والجوهر، أمَّا الأسد فيُمثِّل الشكل والمظهر، الحقيقة في حدِّ ذاتها بلا شکل، ولكنها تتخذ أي شكل وفقًا للظروف والأحوال، وكذلك الذهب الذي ترونه أمامكم، إنه بلا شكل في طبيعته ولكنه اتخذ هنا من الأسد له شکلًا. ومن ناحية أخرى، فإن الأسد هو مجرد شكل أو مظهر للذهب ولا يتمتَّع بحقيقة مستقلة عنه. عندما نرى الأسد يغيب الذهب عن ناظرنا، وعندما نرى الذهب فإن الأسد يتلاشى من أمامنا. والأمر هو أن ما نراه هنا هو ذهب وأسد في الآن نفسه.١
وبتعبير آخَر، عندما تنفتح العين الداخلية على الحقيقة في تجربة كلانية مباشرة، فإن ازدواجية المظهر والجوهر تذوب لتحل محلها وحدة طرفي الوجود على تمايزهما في الوعي اليومي، وقد عبَّر المتصوف الإسلامي الشيخ عبد الكريم الجيلي عن مفهوم وحدة المظهر والجوهر بطريقة مشابهة رغم استخدامه لمصطلحات مختلفة عندما قال:
«فأول رحمة رحم بها الله الموجودات أنه أوجدَ العالَم من نفسه، ولهذا سرى ظهوره في الموجودات جميعًا، فظهر كماله في كلِّ جزءٍ وكل فرد من أفراد العالم، ولم يتعدَّد بتعدُّد مظاهره، بل هو واحد في جميع تلك المظاهر، أحد على ما تقتضيه ذاته الكريمة في نفسها .. وسر هذا السريان أنَّ الله خلق العالم مِن نفسه وهو لا يتجزَّأ، فكل شيءٍ من العالَم هو بكماله، واسم الخليقة على ذلك الشيء مُعار … فأعار الله حقائقه اسم الخليقة لتظهر بذلك أسرار الألوهية ومقتضياتها من التضاد، فكان الحق هیولى العالم، فمثل العالم مثل الثلج والحق سبحانه وتعالى الماء الذي هو أصل الثلج، فاسم الثلجة على ذلك المُنعقد مُعار واسم المائية عليه حقيقة».٢
١  Chang Chung-yuan, Creativity and Taoism, p. 10.
٢  الشيخ عبد الكريم الجيلي: الإنسان الكامل، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة ١٩٧٠ ص٤٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤