الفصل الثالث

(٨) ترتبط هذه الفقرة ارتباطًا وثيقًا بالفقرة الأخيرة من الفصل السادس حيث قرأنا:

العمل يُنجز ثم يُنسى
ولذا فإن أثره لا يفنى.

أي إن المرء في إنجازه لعمل ما ينبغي ألا يفكر فيما يعود عليه من مكافأة مادية أو ثناء أو شهرة، بل أن يقوم به ثم ينساه، ونحن إذا رسَّخنا هذه القيمة في المجتمع، نعمل على كبح السلوك التنافسي حيث يحاول كل فرد توكيد ذاته على حساب الآخَرين، ونشجع السلوك التعاوني، إن عدم تمجيد السباقين والمجلين في شتى مناحي الحياة، يجعل من الإنجاز قيمة في حدِّ ذاته، لا وسيلة لما وراءه، يضاف إلى ذلك أن الإعلاء من شأن أصحاب الثروة والجاه في المجتمعات القديمة والحديثة على حدٍّ سواء، يشجع الأفراد على تكديس الثروات باعتبارها رمزًا للسلطة والتفوق الاجتماعي، ومن دون النظر إلى مشروعية الوسائل المستخدمة في ذلك، وهذا ما يُشير إليه لاو تسو بقوله هنا:

عندما لا نقدر النفائس يختفي المال الحرام
عندما لا نعرض ما يُثير الرغبة نقضي على تبلبل الأذهان.

(٩) في مقابل المجتمع التنافسي التطاحني يطرح لاو تسو تصوره لمجتمع متجانس تسود فيه قيم التعاون بدل التطاحن، ونكران الذات بدلًا عن توكيدها، أمَّا طريق الحاكم لتحقيق هذه الصورة المُثلَى، فيوضحه لاو تسو هنا بأسلوبه الرمزي الذي يستخدم تعابير حسية متطرِّفة تُمثِّل النقيض التام لما يرفضه، فالحكيم الذي صار حاكمًا للناس:

يُفرغ العقول ويملأ البطون
يُضعف المطامع ويقوِّي الأجسام.

أي إن الحاكم يُفرغ عقول الناس من الطمع ومن الرغبة في تكديس الثروات، وذلك عن طريق سد الحاجات الأساسية للجميع، والتقليل من شأن الثروة باعتبارها معيار التفوق والتميز، إن كل رغبة تتطلع إلى ما وراء الحاجات الطبيعية للإنسان في مستواها اللائق العادي، تحمل في ثناياها خطرًا على أمن المجتمع، لأنها تدفع إلى النهب والسرقة واستخدام الوسائل غير المشروعة في تحصيل الثروة.

(٩-أ) إن المعرفة التي يرغب لاو تسو في تحرير الرعية منها ليست المعرفة على إطلاقها، بل ذلك النوع من المعرفة المرتبط بالرغبة، العامل على توسيعها وتأجيجها وخلق رغبات جديدة وحاجات متوهمة لم يكُن الأفراد على دراية بها، ولنا في المجتمعات الغربية الحديثة خير مثال على ذلك، حيث تحوَّل الإنسان إلى عبد للسلعة وإلى أداة لاستهلاك مزيد ومزيد من السلع، وهذا مؤدى قوله:

حتى إذا تحرَّرت الرعية من الرغبة ومن المعرفة
لم يبقَ للمفكرين دور يلعبونه.

ولاو تسو هنا يُميز بين المُفكر المتحذلق الذي يظن أنه اصطاد الكون بشبكة معرفته النظرية الذهنية، وبين الحكيم الذي أفلح في اختراق المظهر إلى الجوهر والبقاء في صميم الحقيقة.

(١٠) إذا أفلح الحاكم في خلق المناخ الملائم الذي يساعد كل فرد على السلوك بحرية وتلقائية، وعلى تحقيق ذاته لا على توكيد ذاته، ساد النظام من تلقاء نفسه وغدا الحاكم نفسه بلا ضرورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤