الفصل الرابع

(١١) يورد الفيزيائي البريطاني بول ديفيس في كتابه «المكان والزمان» الملاحظات الآتية حول مفهوم الفراغ (الفضاء، الخلاء، المكان):

كثيرًا ما يفهم من كلمة فضاء، الخلو أو الامتداد أو الحيز، وذلك بمعنى الوعاء الذي تحتله حجوم الأشياء ذات الجسم، وقد اكتسبت الكلمة في لغة اليوم معنى الفضاء الخارجي؛ أي المنطقة التي تقع خارج الكرة الأرضية، إن كلمة فضاء ترسم في الذهن صورة الخلو أي ما يتبقى بعد نزع كل الأشياء الملموسة، وعلى هذا فإن أغلب الناس يفكر في الفضاء وكأنه وعاء يحتوي العالم الكوني أو حلبة لما يحدث فيه … إن هذه النظرة إلى الفضاء التي ترى فيه الخلو من الأشياء، تجعل من الصعب على كثيرٍ من الناس أن يفهموا لماذا يريد العلماء بناء نظرية بخصوصه، فالفضاء هو في نهاية الأمر لا شيء، وإذَن فلا شيء يمكن أن يقال فيه.

«ولكن نظرة العلماء إلى الفضاء تختلف تمامًا عمَّا ذُكر، فأولًا إن النظريات العلمية في موضوع الفضاء ليست نظريات تهتم بالفضاء الخارجي حصرًا، لأن خواص الفضاء خارج الأرض تبقى مماثلة تمامًا لخواص الفضاء عند سطح الأرض … إن العلماء المعاصرين يعتبرون أن الفضاء ذو سويات بنيوية عديدة، وبعض فروع الفيزياء الحديثة توحي فعلًا بأن الأشياء المادية ليست في الحقيقة سوى اضطراب في هذه البنية المستترة، فبدلًا من تصوير العالم الكوني كشيءٍ متضمن في الفضاء، يرى علماء الفلك الحديث أن الأشياء المادية والفضاء تؤلف مع العالم الكوني».١

إذا تأملنا بدقة الجملة التي تقول أعلاه بأن الأشياء المادية ليست سوى اضطراب في بنية الفراغ المستترة، اقتربنا كثيرًا من فهم قول لاو تسو:

التاو فارغ، ولا ينضبه النضح
لا يسبر غوره منشأ الآلاف المؤلفة.

فالتاو هو الفراغ أو اللاوجود أو العدم، ومع ذلك فإنه منشأ كل الظواهر الحية والجامدة، إنه العدم الخلَّاق الذي يحتوي في صميمه على ممکنات الوجود، أو الصفر الرياضي الذي لا تقوم للأعداد قائمة بدونه، فالواحد يليه اثنان ثم ثلاثة، ولكن الواحد لا يوجد إذا لم يكُن مسبوقًا بالصفر.

(١٢) لكي يتماثل الإنسان مع التاو ويتناغم مع حركته عليه أن يفرغ نفسه أيضًا، والنفس الفارغة هي النفس التي خرجت من الإنيَّة (نسبةً إلى الأنا) وحققت ذاتًا منفتحة تعكس الكون برمته، لقد تعودنا أن نطابق بين ذاتنا الحقيقية وفكرتنا عن ذاتنا التي تقود إلى الإحساس بالأنا المستقلة والمنعزلة، والتي تتعامل مع كل ما عداها تعامل الذات مع الموضوع، وعندما نتوقف عن مثل هذه المطابقة ونحس في أعماقنا بتلاشي الحدود بين الذات والموضوع، بين الأنا الفردية وما عداها، نكون قد حقَّقنا التناغم مع التاو، وهذا معنى قوله: ثلِّم الحد، حُل العُقد، خفِّف البريق، تمازَجْ مع التراب.

ثلِّم الحَد: أي افعل من خلال اللافعل، واجهد من خلال اللاجهد، فالحد القاطع يدل على ممارسة القسر في التعامل مع الآخَرين ومع الطبيعة، والحد غير القاطع يدل على الفعل التلقائي المتناغم مع حركة وصيرورة الطبيعة، يقول لاو تسو في الفصل ٥٨:

لذا فإن الحكيم حادٌّ ولكنه لا يقطع
ثاقب ولكنه لا ينفُذ.
حُل العُقد: أي اترك عقلك على سجيته، فالحقيقة الكبرى لا خصائص لها، وليست شيئًا يمكن اختباره بالطريقة التي نختبر بها الأشياء، وبالتالي فإنها ليست موضوعًا للمعرفة التقليدية، بل للمعرفة الحدسية التي تتجاوز العقل التحليلي، وبالمفهوم التاوي فإن الحقيقة الكبرى تُعرف من خلال اللامعرفة. يقول الحكيم سينغ تسي آن، من القرن السادس الميلادي:
«اتبع طبيعتك وتماثَلْ مع التاو. امشِ الهُوَيْنى ودع القلق، إذا كانت أفكارك مُقيَّدة تُتلف ما هو أصيل فيك … الحكيم لا يُجهد نفْسه ويلزم اللافعل، الجاهل يُقيِّد نفسه (بأفكاره). إذا حاولت معرفة عقلك بواسطة عقلك كيف لك أن تنجو من التشوُّش التام؟»٢

خفِّف البريق: أي تجنَّب إظهار نفسك ولا تَزْهُ بإنجازاتك. يقول لاو تسو في الفصل ٥٨ لاحقًا:

الحكيم متسع ولكنه لا يتعدَّى
يلمع ولكنه لا يُبهر.

ويقول في الفصل ٣٩:

الصِّيت الذائع ليس ميزة
فابتعد عن القعقعة والضجيج.

ويقول في الفصل ٢٢:

الحكيم لا يظهر نفسه، ولذا يبدو للنظر
لا يعتبر نفسه على حق، ولذا يحوز المكانة.

تمازَجْ مع التراب: أي كُن أنت وصيرورة الطبيعة شيئًا واحدًا.

(١٣) الفقرة الأخيرة هنا ذات صلة بالفقرة الأولى، فالتاو فارغ ولكن الأخذ منه لا ينقصه، باطنه الفراغ وظاهره ما لا يُحصى من الموجودات، لا نعرف له علَّة ولكنه علَّة كل فعالية وقدرة وطاقة.

١  بول دیفیس: المكان والزمان، ترجمة أدهم السمان، مؤسسة الرسالة، دمشق ١٩٨٨، ص١٣-١٤.
٢  Alan Watts, The Way of Zen, p. 109.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤