الفصل الخامس

من هم الإنسانويون الجدد؟

إن ميلاد الإنسان وموته ليس مجرد مسألة إحصائية لدول تعتني جيدًا بتعداد سكانها، وضبط قائمات بمهنهم وطبقاتهم وولاداتهم ووفياتهم؛ لأن من يولَد ثم يحيا ثم يموت ليس مجرد رقم في مكنة الدولة، وليس مجرد قصة قصيرة تمَّحي برحيل صاحبها. لقد قال دريدا الفيلسوف الفرنسي المعاصر ذات نص: «نحن لا نحصي عدد القتلى بنفس الطريقة في كل مكان.» وربما بوسعنا أن نقول في نفس الإيقاع إننا لا نحتفي بالإنسان بنفس الطريقة في كل مكان. بَيد أنه للتفكير بالإنسان سرعة أخرى تضمن له الْتحاقه بمقام الأفكار الكبرى، بوصفها أحداثًا كبرى بكلمة للفيلسوف نيتشه. هل ارتقى الإنسان في ديارنا إلى مقام الفكرة الكبرى، أم لا يزال يتعثر في شواش بيته الداخلي؟ وماذا تبقى من فكرة الإنسان في عصر وُسم بعصر «موت الإنسان»؟

بوسعنا القول إن فكرة الإنسان إنما هي تفترض أركيولوجيا مُثقَلة بالجاهزيات المعرفية، وبتضاريس فكرية معقَّدة رسمها كما ينبغي كتاب الكلمات والأشياء للفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال فوكو، الذي يكتب في نهاية الكتاب بأن «الإنسان اختراع تُظهِر أركيولوجيا فكرنا بسهولة حداثةَ عهده، وربما نهايته القريبة.»١ فماذا يعني أن يكون الإنسان «اختراعًا حديثًا»؟ وهل يعني هذا أن الإنسان فكرة غربية، وعليه، أن كل الثقافات غير الغربية غير معنية بهذه الفكرة؟ وأين بوسعنا العثور على الإنسان في هذا الجدل المتوتر بين الغرب والعرب، وبين بلاد التكنولوجيا المتقدمة وأوطان ما زال فيها المشعوذون والدجالون والمهرجون يملئون الفضاءات صخبًا وضجيجًا؟ هذه الأسئلة ليست مجرد رقص على الكلمات الطائشة، بل في الأمر إحراج فكري عميق جعل من كتاب الكلمات والأشياء صرحًا فلسفيًّا يتطاول في البنيان من أجل خلق باحة من الأسئلة الجديدة حول الإنسان في حفريات استثنائية تخترق لغته وأفعاله، وتمثُّلاته حول نفسه، وكل ذلك في ضرب من المفارقة المفزعة؛ أن الإنسان مجرد اختراع حديث وُلد مع كانط، وافتكَّ فوكو فرصة الإعلان عن موته بوصفه «سيندثر مثل وجه من الرمل مرسوم على حد البحر.»٢ لكن كيف سنملأ فراغ اندثار الإنسان؟ ومن سيحتل تلك الردهة الخطرة من الكينونة المعطوبة؟
لقد وُلد الإنسان ضمن تحليلية التناهي التي رسم معماريتها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وُلد ضمن رابع أسئلة الفلسفة التي صاغها كانط في «دروس في المنطق»، المنشورة بعد موته.٣ وأسئلة الفلسفة مثلما حددها فيلسوف التنوير بامتياز إيمانويل كانط هي التالية؛ أولًا: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وعن هذا السؤال يجيب كتابه الرئيس نقد العقل المحض (١٧٨١م)، فما نعرفه هو ما يدخل ضمن حدود التجربة الممكنة، وعليه، لا يمكن للعقل البشري أن يعرف من الأشياء إلا ما وضعه فيها من حدوسات ومقولات ورسومات ومفاهيم. وإن كل ما يخرج عن حدود عالم الظواهر الطبيعية، مثل ما الْتقطته فيزياء نيوتن، يخرج عن مستطاع العقل البشري، كي يصبح من مشمولات العقل العملي. وهو موضوع السؤال الثاني: «ماذا ينبغي عليَّ أن أفعل؟» وهو سؤال أجاب عنه كتاب نقد العقل العملي لكانط (١٧٨٨م)، بحيث تحولت أسئلة العقل التأملي الميتافيزيقية إلى مسلَّمات عملية ضرورية، من أجل إرساء أسس ميتافيزيقا الأخلاق القائمة على أمر قطعي يقول: «اعمل وكأنك تريد لمسلَّمة عملك أن تتحول إلى قانون كوني.» وهذا الأمر القطعي للواجب الأخلاقي هو الذي يؤسِّس لفكرة ولادة الإنسان الحديث بوصفه «غاية في حد ذاته»، وهو ما يؤسس لصيغة أخرى من القانون الأخلاقي الكوني، أي: «اعمل وكأنك تحمل الإنسانية في شخصك». ولقد صاغ كانط فكرة الإنسانية في كونيتها في معنيين، كان السؤال الثالث هو أفقها العام، أي: «ما الذي يحقُّ لي أن آمل؟» فكان التأسيس لذوق جمالي كوني هو المعنى الأول لتواصل كوني بين الذوات المتذوقة للجميل، وذلك ضمن كتاب نقد مَلَكة الحكم (١٧٩٠م). ثم كانت فرضية الدين العقلي الكوني، ضمن كتاب الدين في حدود مجرد العقل (١٧٩٣م)، هي المعنى الثاني لأن يكون شعب ما جديرًا بالانتماء إلى فكرة الإنسانية التي تؤمن بقدرات العقل، ولا تقبل بأية وصاية عليه معًا. أما السؤال الرابع فهو: «ما هو الإنسان؟» ويقول كانط: «إن هذا السؤال هو السؤال الأساسي، والجامع لجملة أسئلة الفلسفة.» وهذا يعني أن السؤال عن الإنسان، أي: تنزيله منزلة أساسية ضمن الفلسفة الحديثة، قد كان بمثابة المشروع الكبير لفلسفة التنوير التي تراهن على الإنسان بوصفه قادرًا على استعمال عقله استعمالًا حرًّا من أجل بناء مواطنة كونية في العالم.

هكذا انبنَت سردية ولادة الإنسان الحديث على معماريات تتخذ من المعارف العلمية، والقيم الأخلاقية، والذائقة الجمالية، شروطًا ضرورية لأن يكون الإنسان ممكنًا في حضارة ما، بوصفه قد صار سيدًا على الطبيعة بالعلم، وسيد نفسه باحترام القانون الأخلاقي، ومبدعًا لثقافته الجمالية عبر مخيِّلة خلَّاقة وحرة على نحو جذري. فماذا تبقى من ذاك الإنسان في حضارة عولمة السوق، وتحويل كل شيء إلى سلعة؟ هل لا يزال إنسان كانط قادرًا على الصمود في وجه النزعات اللاإنسانية، وما بعد الإنساني، والعابر للإنساني؟ وهل إنسان كانط هو الصيغة الوحيدة الممكنة عن البشر؟

(١) أطروحة موت الإنسان

قبالة هذه الأسئلة الرصينة يأتينا صدى ضحكات ميشال فوكو التي استهلَّ بها كتاب الكلمات والأشياء وختَمه معًا. بحيث نقرأ في بداية الكتاب ما يلي: «لهذا الكتاب مكان ولادة في نص بورخيس، في الضحكة التي تهز لدى قراءته كل عادات الفكر؛ فكرنا الذي له عمرنا وجغرافيتنا، مزعزعةً كل السطوح، وتجعل ممارستنا القديمة للذات وللآخر ترتعش وتقلق لمدة طويلة.»٤ ما الذي يُضحِك الفيلسوف حينئذٍ، هو الموسوم بالحكمة والرصانة؟ ها هنا تأتي الفلسفة من منطقة مغايرة من أجل زعزعة السطوح المطمئنة حول الإنسان والإنسانوية. هناك حيث وُلد الإنسان ثمة مواضع للحفر عميقًا فيما يستحيل تفكيره، أي: فيما بقي خارج دائرة ما يُقال، إن اللامفكَّر فيه هو موضع الكلمات والأشياء التي قد لا تنبئ بأي انسجام بين ما نقوله حول ما يحدث، وبين ما يحدث فعلًا من سياسات لا مرئية للحقيقة.
«ما هو إذن ما يستحيل تفكيره؟ وأي استحالة نعني؟»٥ هكذا يصحِّح فوكو مسار أسئلة الفلسفة، ويغيِّر من عناوينها. ويجيب: «إن ما هو مستحيل ليس تجاور الأشياء، وإنما الموقع نفسه الذي يمكن أن تتجاور فيه.»٦ لكن ماذا سيحدث لو علمنا أن ذاك المكان، حيث تتجاور الكلمات والأشياء، إنما قد أصابه الخراب؟ وأنه ثمة «فوضى أسوأ من فوضى ما غير لائق»؟٧ فوضى مزعجة لثقافة الغرب الذي يستحيل عليه التفكير بغير ذاته، أي: غير تمثُّله لنفسه بوصفه الإنسان الذي يمثِّل الإنسانية جمعاء. إن نص بورخيس عن موسوعة صينية لتصنيف الحيوانات يكشف للثقافة الغربية أنه «قد يكون هناك على الطرف الأقصى الآخر من الأرض التي نسكنها، ثقافة مكرَّسة بأجمعها لتنظيم الامتداد، لكنها لا توزع توالد الكائنات في أيٍّ من الأمكنة التي يسعنا فيها أن نسمي ونتكلم ونفكر.»٨
ينحت ميشال فوكو من أجل الحفر صلب المواقع التي ظهر فيها الإنسان داخل المنظومات المعرفية الحديثة؛ مفهوم الإبستمية الذي نحته صلب نقاش مع نعوم شومسكي قائلًا: «إني أبحث عن إمكانية لإدراك التحولات الطارئة صلب حقل معرفي ما.» وذلك يعني أن إبستمية عصر ما إنما هي نمط تفكيره وكلامه وتمثُّله للعالم، وهو مفهوم يفترض فكرة التمفصل الإبستمولوجي، أي: التأريخ من وجهة نظر ما يحدث في تاريخ ثقافة ما من قطائع إبستمولوجية. ومن أجل التأريخ لولادة الإنسان ضمن الثقافة الحديثة يميز فوكو في كتاب الكلمات والأشياء بين ثلاث إبستميات؛ إبستمية عصر النهضة التي تقوم على التشابه، وتفترض أن الطبيعة كتاب منظم يمكن قراءته. وإبستمية العصر الكلاسيكي، التي تقوم على التمثيل، بحيث تساهم الرياضيات والتصور الآلي للطبيعة في بناء نظام العلامات التي يتم بواسطتها بناء تمثُّل للعالم (وهو ما حدث مع هوبز وليبنتز وديكارت). أما إبستمية العصر الحديث فقد بدأت فلسفيًّا مع كانط واكتشاف تناهي الإنسان، ووجدت تعبيراتها ضمن ظهور البيولوجيا وفقه اللغة والاقتصاد. وحيث تحولت الحياة والعمل واللغة إلى موضوعات للمعرفة، وحيث حل الإنتاج محل التبادل، والحياة محل الكائنات الحية، واللغة محل الخطاب (وهو ما يشتغل عليه الفصل الثامن من الكتاب).
كيف وُلد الإنسان صلب إبستمية العصر الحديث؟ يكتب فوكو مجيبًا ما يلي: «عندما يصبح التاريخ الطبيعي بيولوجيا، ودراسة الثروات اقتصادًا، وبالأخص عندما يتحول التفكير في اللغة فقهَ لغة؛ عندئذٍ يظهر الإنسان في خضمِّ هذا التغير الأركيولوجي، بوضعه الملتبس كموضوع للمعرفة وكذات تعرف.»٩ يولَد الإنسان إذن في وضعية محرجة؛ هو الذي ينتمي إلى العالم المحسوس بجسده، فيكون بمثابة الظاهرة التي تماثل بقية ظواهر الطبيعة، ويكون أيضًا بعقله وروحه ومشاعره وآلامه وذائقته، كائنًا ميتافيزيقيًّا أو رامزًا، فلا يمكن إدراك ما يحدث هناك في عالمه الخاص جدًّا؛ فيمَ يرغب؟ وفيمَ يعتقد؟ وفيمَ يحلم؟ ورغم ذلك يولَد الإنسان ها هنا صلب عالم الحياة التي تخضع لعلم البيولوجيا، وصلب عالم اللغة التي تخضع لفقه اللغة، وصلب عالم العمل الذي يخضع لعلم الاقتصاد. صلب هذه الإبستمية يقف الإنسان، وتلتفُّ حوله كل المعارف من أجل أن تشير إليه في كل مرة، ها هنا يقع تجنيده، وهو «تجنيد قهري يكتنفه الالتباس»،١٠ وذلك يعني أن الإنسان يقف في مأزق ما دام قد وقع اختزاله فيما يقوله حول نفسه، وفي السلع التي يصنعها.
إن كتاب الكلمات والأشياء يشخِّص إذن الإنسان الحديث في ضرب من الوضعية الإبستمولوجية الحرجة، هي وضعية هذا التناهي الذي يغلق على الإنسان دائرة المعارف التي وضعها هو بنفسه من أجل توقيع نهاية الميتافيزيقا، وولادة الإنسان الذي وُلد في أركيولوجيا فوكو، كما وصَّفه بالعبارات التالية، يقول: «فالإنسان خاضع للعمل والحياة واللغة؛ فهي التي تحدد وجوده الواقعي، فلا يمكن الوصول إليه إلا من خلال كلامه، جسده، والسلع التي يصنعها، كما لو أنها هي أولًا التي تمسك بالحقيقة، بينما لا يكتشف الإنسان نفسه، حين يفكر، إلا بصورة كائن، هو في الأعماق الموجودة حتمًا وراء تفكيره، والسابقة له قطعًا، حي ووسيلة إنتاج، وحامل كلمات وُجدت قبله.»١١ كيف يمكن تحرير الإنسان من هذه الإبستمية التي سجن نفسه ضمنها؟ هذا السؤال قد لا يمثِّل مقصد كتاب الكلمات والأشياء، الذي إذ يعيِّن موقع الولادات والتحولات والمنعطفات الطارئة على تاريخ فكرة الإنسان الحديث، ينبِّه فقط إلى أن الإنسان الحديث ليس سوى صورة التناهي التي حصرته ضمن جسده ولغته وسلعه. وهو ما نقرؤه تحت قلم فوكو في آخر الكتاب متسائلًا: «ألا يجدر بالأحرى التخلي عن التفكير بالإنسان؟! ألا يجب التسليم بأنه يتوجب على الإنسان، بما أن اللغة قد عادت من جديد، أن يعود إلى ذلك العدم الهادئ الذي حجرته فيه في الماضي وحدة الخطاب المتسلطة؟ لقد ركَّب الإنسان صورته في فجوات اللغة المقطَّعة الأوصال. ليست هذه بالطبع تأكيدات، بل على الأكثر أسئلة لا يمكن الإجابة عنها، بل يجب أن تُترك معلَّقة حيث تُطرح، مع العلم أن إمكانية طرحها تفتح دون شك أفق فكر مستقبلي.»١٢
خلاصة القول أن القارئ لكتاب الكلمات والأشياء يمكنه أن يظفر بالنتائج التالية:
  • (١)

    أن الإنسان الذي بشَّرت به الحداثة الغربية قد لا يكون سوى التعبيرة القصوى عن الثقافة الغربية، مثلما تسوِّق لنفسها منذ قرنين من الزمن في ضرب من المركزية الثقافية الغربية.

  • (٢)

    ليس الإنسان أقدم إشكالية طرحت ذاتها على المعرفة الإنسانية، بل قد يكون مجرد اختراع حديث سيندثر باندثار المنظومات المعرفية التي أنتجته.

  • (٣)

    بوسع الإنسان أن يعود إلى مسكنه الأصلي، أي: إلى «فجوات اللغة المقطَّعة الأوصال»، في عصر صار فيه كل شيء إلى لغة، وبوسعنا فتح أفق تفكير مستقبلي في لغة متحررة من براديغم التمثيل، ومن سرديات الذات التي لا ترى في الآخر غير حقل لتجريب ما تعتقد أنه الحقيقة.

  • (٤)
    يختتم فوكو الفصل التاسع، قبل الأخير، من الكتاب بضحكة فلسفية قائلًا: «إلى كل الذين يريدون الاستمرار في الكلام عن الإنسان، لا يسعنا إلا الرد بضحكة فلسفية، أي: إلى حد كبير، بضحكة صامتة.»١٣ ربما لا يسعنا أخيرًا إذن إلا التدرب على الضحك من كل أشكال العبث بالإنسان وبالشعوب، في عالم ينحدر كل يوم نحو لاإنسانية الرعب والحرب الدائمة، ضحك لا يشبه البكاء؛ لأن البكاء انفعال حزين يصلح لكتابة القصص فحسب، وحده الضحك بوسعه أن يفكر.

(٢) في الإنسانوية الجديدة

مِن الإنسان العاقل، إلى الإنسان الصانع، إلى الإنسان المزيد، درب طويل، وأرجوحة وجودية طويلة النفس تُقاس بملحمة تاريخ برُمَّته اختلطت فيه أوهام البشر بأحلامهم، وبدمائهم معًا، في ركح غرائبي من عبث الدهر، وسخرية القدر، وبؤس الجغرافيا في كَرة واحدة. لكن العقل البشري لم يتعب أبدًا من تقليب مفهوم الإنسان والعناية به؛ فكان مخلوقًا إلهيًّا قديمًا، وصار غايةً في حد ذاته حديثًا مع كانط، ثم طولب بأن يُتجاوز نحو «ما فوق الإنسان» مع نيتشه، لكنه سقط أخيرًا في الحربين العالميتين في «ما دون الإنسان»، بحسب عبارة رشيقة لمارلوبونتي، لكنه عاد عودة نشيطة إلى بساط الفكر المعاصر بعد أن وقع شطبه من سجلات الفكر منذ الفيلسوف الألماني المعاصر مارتن هيدغر، وتدمير ميتافيزيقا الذات إلى حدود الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، الذي وقَّع موت الإنسان في آخر كتابه المعنون الكلمات والأشياء. لكن ومن جهة أخرى، إن ظهور الثورات الرقمية والبيولوجية والذكاء الاصطناعي الذي يهدف إلى اختراع «الإنسان المزيد»، قد جعل من الإنسان مشغلًا أساسيًّا مرة أخرى؛ إذ صار من الضروري التفكير بالتحديات التي تواجهها التكنولوجيات الحيوية المعاصرة، وما ينجم عنها من التدخلات العلمية في الجينوم البشري. وفي عصر تكاد تفقد فيه الإنسانية ثقتها بنفسها وبالمستقبل، بسبب الأزمة الإيكولوجية، وسيادة قيم السوق في عصر العولمة، أصبح التفكير بضروب مغايرة من الإنسانوية الجديدة أمرًا مشروعًا. لكنْ أيُّ معنًى للإنسانوية اليوم في عصر وُسم بكونه عصرًا لا إنسانيًّا بامتياز؟ وأية إمكانية تُتاح لنا اليوم في حضارة قررت العبور نحو مرحلة «ما بعد إنسانوية»، للتفكير بالإنسان دون أن نخجل من أنفسنا بعد كل الكوارث التي اقتُرفت باسمه؟
لقد كتب هيدغر في رسالة حول الإنسانوية: «إن الإنسان مفهوم يمكن الاستغناء عنه.» ولقد استأنف هذا القرار الفلسفي جملة من الفلاسفة بعده، مع رولان بارط، وغادامير، وليوتار، وميشال فوكو، ودريدا، ممن يحلو لهم التغنِّي بموت الذات والكاتب والإنسان، إلى جانب دعاة النهايات، منذ هيغل ونهاية الفن، وصولًا إلى فوكو ياما ونهاية التاريخ. إلا أن ظهور ضرب جديد من الإنسانوية يراهن على إمكانية بناء إنسان القرن الواحد والعشرين بناءً إيجابيًّا، إنما يتجاوز بعمق كل الفلسفات والإيديولوجيات العدمية التي لم تنشر غير الاكتئاب والتشاؤم وثقافة اليأس. فحيثما ينتشر اليأس تولَد العقول المتعَبة المثقَلة بالأخبار السيئة والفأل المشئوم، عن مستقبل يترجمونه في استعارة الكارثة، مثلما أسهب في البكاء عليها فلسفيًّا ثلةٌ من فلاسفة الحداد ما بعد الحديث على «موت الإنسان»، وانحدار العالم في عصر «اللاإنساني»، وفق عبارة ليوتار الذي وقَّع نهاية السرديات الكبرى، ودخول الإنسانية في اكتئاب مطوَّل لا يبقى فيه للفكر غير مهمة الشهادة على الكارثة. غير أن تحويل المحرقة اليهودية إلى براديغم عالمي لنشر قيم اليأس من المستقبل لم يعد مناسبًا إلا لمن لا يستطيع العيش إلا حذو حائط المبكى، فكل الذين ينخرطون اليوم صلب منظورية البكاء على حالة العالم إنما يقبعون في الجهة الخاطئة. وإنه لمن الناجع والعاجل معًا تبديل وجهة عقولنا نحو حقل الذكاء البشري الذي بحوزتنا. ومن الحمق أيضًا الاعتقاد في بلاهة الشعوب، وعدم قدرتها على اختراع أنماط مغايرة من الوجود. ثمة مستقبليون يصممون لعالم أجمل، وثمة إنسانويون يناضلون من أجل حياة أفضل للإنسان على الأرض، وثمة فنانون ومحبون للحياة وللبهجة وللسعادة يواصلون الغناء والرقص حيثما تزهر حدائق المستقبل. ماذا يعني إذن أن نكون إنسانويين مرة أخرى؟ وهل يمكن أن تكون إنسانًا وألا تؤمن مع ذلك بقدرة الإنسانية على اختراع نفسها في كل مرة؟ من هم الإنسانويون الجدد؟ وما مدى قدرتهم على بناء مغاير لفكرة الإنسان في أوطاننا التي لا يزال فيها الإنسان أحيانًا مجرد استعارة طوباوية؟

لقد ظهر مفهوم الإنسانوية منذ عصر النهضة الإيطالية، ثم انتشر في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وهو يشير بعامة إلى حركة ثقافية تمثِّل نقطة انتقال حاسمة من العصور الوسيطة إلى العصور الحديثة. والإنسانوية في تعريفها الأول: هي حركة فكرية تتخذ من الإنسان غاية في حد ذاته، وتهدف إلى إرساء قيم الحرية والكرامة واحترام فكرة الإنسانية كأروع أفكار العقل الحديث نفسه. وهو ما نظَّر له العديد من المفكرين والأدباء والفنانين والفلاسفة منذ ليوناردفنشي إلى حدود كانط. ويمثل كانط أهم فيلسوف أنجز أسسَ إنسانوية التنوير، وهي إنسانوية تقوم في جوهرها على مبدأين أساسيين، هما، على التوالي، أولًا: أن يتجرأ كلٌّ منا على استعمال عقله على نحو حر تمامًا من كل وصاية لاهوتية أو أخلاقية أو سياسية. ثانيًا: ضرورة اعتبار الإنسان دومًا غاية في حد ذاته، وليس أبدًا مجرد وسيلة تخوِّل لأيٍّ كان استعماله أو استعباده والاتِّجار به.

لكن هذه الإنسانوية التنويرية التي قامت على القول بماهية الإنسان كقيمة مطلقة، وعلى اعتبار الطبيعة برُمَّتها مجرد موضوعات للمعرفة العلمية، وعلى اعتبار العقل البشري مصدرًا لكل حقيقة ولكل تشريع كوني؛ قد وقع الاعتراض طويلًا عليها مع مفكري مدرسة فرنكفورت، بخاصة الذين اعتبروا هذا العقل التنويري قد تحوَّل إلى أداة هيمنة على البشر وعلى الطبيعة بأنْ حوَّل كل شيء إلى موضوع للمعرفة العلمية، ثم إلى بضاعة تُباع وتُشترى في سوق حضارة العولمة. وهو اعتراض طويل الأمد استغرق جيلًا كاملًا من الفلاسفة منذ هوركهايمر وأدورنو، إلى دولوز وفوكو، مرورًا بهيدغر والتأويليين والتفكيكيين، وطيف واسع من العدميين والكلبيين والتخريبيين، أمثال سلوتردايك وسيوران ويوديث باتلار. غير أنه إلى جانب هذه الاعتراضات على إنسانوية التنوير والحداثة التي وقَّعها فلاسفة ما بعد الحربين العالميتين في أفق مضاد للحداثة، سواء بحنين الرومنسيين (شيلنغ)، أو بغضب التفكيكيين (فلاسفة المحرقة؛ دريدا، ليوتار، وليفيناس)، أو بنيتشوية ما بعد إنسانوية كلبية (سلوتردايك)، أو ليبيرالية (رورتي). ثمة أشكال مغايرة من نقد التنوير تؤدي إلى استئنافه بطرق إيجابية، بتنشيط قيمه الإنسانية، وتحريره من نزعته الذاتوية والمركزية الأوروبية، وهذا هو معنى الإنسانوية الجديدة.

(٢-١) لكن ما هي الإنسانوية الجديدة؟

لا يتعلق الأمر بنزعة إيديولوجية، بل بطريقة جديدة في التفكير، تشتغل على إمكانية تعريف جديد للإنسان، في ضرب من المقاومة، عبر الثقافة كقوة ناعمة، لكل أشكال التشاؤم الثقافي وتخريب إمكانية تجديد القوى الخلاقة لإنسانية ممكنة في المستقبل. وتضم هذه الإنسانوية أطيافًا ثقافية وفكرية متعددة، من قبيل الإنسانوية الحقوقية لدعاة حقوق الإنسان، والإنسانوية التربوية لمنظمات عالمية، من قبيل اليونسكو، والإنسانوية الإيكولوجية والفلسفية، وإنسانوية العلماء أو دعاة «الثقافة الثالثة».١٤ ويشترك هؤلاء الإنسانويون في مجموعة من المبادئ، أهمها: تنزيل الإنسان بوصفه قيمة في حد ذاته، إثبات المساواة بين جميع الناس، الاعتراف بالتعدد الثقافي، إثبات حرية التفكير والعقيدة، ونبذ العنف.
وإضافةً إلى هذه القيم والمبادئ الحقوقية، تأتي الإنسانوية الإيكولوجية من أجل إضافة مبدأ أساسي، هو ضرورة احترام الطبيعة بوصفها ذاتًا حقوقية، وهو ما ينظِّر له كتاب العقد الطبيعي١٥ للفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال سار. وهو كتاب ينقد ويستأنف على نحو مغاير البراديغم التعاقدي، مضيفًا إلى نظرية العقد الاجتماعي التي تضمن حقوق الإنسان وحرياته وكرامته في الدولة الحديثة؛ العقدَ الطبيعي الذي يضمن حقوق الطبيعة بوصفها البيئة الوحيدة التي تحتضن حياة إنسانية ممكنة في المستقبل. وفي هذا السياق يدعو ميشال سار إلى ضرورة التفكير بعقد طبيعي يقوم على الإعلان العالمي عن حقوق الطبيعة. وقد استأنفت إنسانوية العقد الطبيعي الأفق الإيكولوجي لإتيقا المسئولية التي أنجزها كتاب المفكر الألماني هانس جوناس١٦ على نوع من الأمر القطعي، مفاده: «اعمل من أجل أن تستمر الحياة على الأرض في المستقبل»، أي: ضرورة تأسيس إتيقا جديدة تُصالِح بين الإنسان والطبيعة، وتتجاوز إنسانوية عصر التنوير التي تَعتبر الإنسان مبدأ وحيدًا، وقيمة مطلقة، وغاية في حد ذاته.١٧ وهذه الإنسانوية الإيكولوجية تجد عبارتها النموذجية ضمن كتاب «الإيكولوجيات الثلاث»، لغاتاري،١٨ بحيث ينبغي الانخراط فيما يسميه «الإيكوصوفيا»،١٩ كضرب جديد من التفكير بالعالم، ومن إنتاج أشكال مغايرة من الوجود البشري.

(٢-٢) ما هي إنسانوية «الثقافة الثالثة»؟

يتعلق الأمر بطيف من العلماء والمفكرين من كافة الاختصاصات يشتغلون معًا على سؤال واحد: كيف يمكن إعادة بناء إنسان القرن الواحد والعشرين بعيدًا عن كل تشاؤمية ثقافية، لا تفعل غير تعميق هشاشة الإنسان في عصر العولمة؟ وهي إنسانوية تنشِّط الأصول الموجبة للإنسانوية التنويرية، وتجدِّدها في أفق الثورات الرقمية والعلمية المعاصرة. ويراهن هؤلاء الإنسانويون الجدد على دور الثقافة، وبخاصة الثقافة العلمية، في بناء مفهوم إيجابي للإنسان. إنهم ينطلقون من ضرورة تجاوز التصور التقليدي للمثقف، القائم على فصل بين العلوم الصحيحة والعلوم الإنسانية، في حين أن الإنسانية قد دخلت في العصر الرقمي العابر للاختصاصات، أو ما يسميه إدغار موران بالفكر المركَّب. وتهدف إنسانوية «الثقافة الثالثة» إلى مقاومة ثقافة الخرافة واللاعقل السائدة اليوم، والمعادية للعلم، والقائمة على نشر قيم التطرف والانغلاق الهووي والعنف، وهو ما نقرؤه منذ مقدمة هذا الكتاب: «بزوغ هذه الثقافة الجديدة فيه برهان على جوع ثقافي شديد، والتوق إلى الأفكار الجديدة المهمة التي تقود زماننا؛ تطورات ثورية في البيولوجيا الجزئية، والهندسة الوراثية، والنانوتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والحياة الاصطناعية، ونظرية الشواش …»٢٠

لقد وُلد مفهوم الإنسان في الفلسفة الحديثة مع كانط بوصفه قيمة مطلقة، وغاية في حد ذاتها، وإرادة حرة للتشريع الكوني لأفعاله، غير أنه سرعان ما تحول إلى حدث ينبغي تجاوزه نحو نمط أرقى، أطلق عليه نيتشه «ما فوق الإنسان». غير أن هذا الإنسان الراقي لم يُعمَّر طويلًا؛ إذ إنه قد أدرك حدث موته كمفهوم ميتافيزيقي في آخر كتاب الكلمات والأشياء لفوكو. بَيد أن إنسانوية القرن الحالي ليست مطالَبة بتصديق خبر نهاية الإنسان و«الاكتفاء بالبكاء عليه»، وفق عبارة لهابرماس.

من الإنسان العاقل إلى الإنسان المزيد مسافةٌ طويلة من عناء الفكر وأناته، لكن ما نصيبنا من ذاك العناء ومن ذاك الفكر؟ أم أن الإنسان في أوطاننا لا يزال يتعثر في شروط الالتحاق بركب إنسانوية التنوير، التي لا تصلنا أحيانًا إلا وهي متعبة بذاكرة كسولة، وانفعالات هووية بائسة؟ وبدلًا عن البكاء على حمق الإنسان في ديارنا أو تخلفه بالنسبة إلى الغرب، علينا تبديل وجهة عقولنا نحو كمية الذكاء البشري التي بوسعنا استعمالها من أجل انتماء إيجابي إلى الذكاء الإنساني الكوني بعامة.

١  ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، بيروت، مركز الإنماء القومي، ١٩٨٩-١٩٩٠م، ص٣٠٣.
٢  نفسه.
٣  E., Kant, Note sur la logique, in Œuvres philosophiques, III, Paris, Gallimard, p. 1297.
٤  ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، مذكور سابقًا، ص٢٠.
٥  نفسه.
٦  نفسه، ص٢١.
٧  نفسه، ص٢٢.
٨  نفسه، ص٢٣.
٩  نفسه، ص٢٦٠.
١٠  نفسه.
١١  نفسه، ص٢٦٠.
١٢  نفسه، ص٣١٣.
١٣  نفسه، ص٢٨٢.
١٤  جون بروكمان، الإنسانيون الجدد: العلم عند الحافة، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٥م.
١٥  Michel Serres, Le contrat naturel, Paris, Champs Essais, 1992.
١٦  Hans Jonas, Le principe responsabilité, traduit de l’allemand par Jean Greish, Paris, Edition du cerf, 1997.
١٧  انظر كتابنا: كانط والحداثة الدينية، بيروت، المركز الثقافي العربي، ٢٠١٥م، حيث خصصنا فصلًا كاملًا لدراسة هذه الفلسفة، ص١٣٩–١٦٩.
١٨  Felix Guattari, Les Trois écologies, Paris Gallilée, 1989.
١٩  لمزيد من الاطلاع على هذه الفلسفة انظر كتابنا: الفن والمقدس: نحو انتماء جمالي للعالم، بيروت، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، ٢٠٢٠م، ص٢٥٩–٢٦٧.
٢٠  كتاب «الإنسانيون الجدد»، مرجع مذكور سابق، ص١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤