الفصل الثاني

الفن براكسيس لم يوجد بعد

ثيودور أدورنو ووعود السعادة

حين احتدَّت الاحتجاجات بالجامعة الألمانية بعد أحداث ١٩٦٨م تعرَّض أدورنو إلى تهمة التواطؤ مع نظام الهيمنة، وعدم مشاركته في العمل الثوري. غير أن الفيلسوف كان يعتقد فعلًا أن العمل الثوري ينبغي ألا يمر ضرورة عبر العنف، وأنه بوسع الفن أن يقوم بديلًا عن يوتوبيا الثورة الماركسية.

تقوم فلسفته في مجملها على نقد جذري للحداثة، وفضح ما آلت إليه المجتمعات الرأسمالية المتقدمة من بربرية وكارثة كبرى. وهو بيِّن كما نرى ذلك في مؤلفاته من جدلية التنوير (١٩٤٧م)، الذي ألَّفه صحبةَ هوركهايمر، إلى النظرية الجمالية (١٩٧٠م)، التي نُشرت بعد وفاته، وذلك مرورًا بكتابَي الأخلاق الدنيا (١٩٥١م)، والجدلية السالبة (١٩٦١م). في غضون ذلك كله لم يكفَّ أدورنو عن تشخيص أزمة المعنى، وكسوف العقل، وتشويه الفرد، وتحول الفن والثقافة إلى بضاعة، وسقوط الحضارة في دائرة اللاإنساني والكارثة الكبرى. بَيد أن هذه اللوحة السوداء التي رسمها أدورنو للإنسانية الحديثة، لم تمنع مشروعه الفلسفي من الانفتاح على ضرب من اليوتوبيا الجمالية التي تراهن على الأثر الفني الطلائعي بوصفه، وفق عبارات كتاب النظرية الجمالية، «ثورة في حد ذاتها»، وقدرة لا محدودة على تحرير الأفراد من مجتمع الهيمنة.
ويُعتبر كتاب النظرية الجمالية من أهم نصوص الجماليات الحديثة، بعد نقد مَلَكة الحكم لكانط (١٧٩٠م)، ودروس هيغل في الجماليات (١٨٢٠–١٨٣١م)، ومولد التراجيديا اليونانية (١٨٧٢م) لنيتشه.
يقول فيلمر، أحد كبار المتفلسفين الحاليين في ألمانيا حول مدرسة فرنكفورت بعامة، متحدثًا عن أهمية مشروع أدورنو الفلسفي: «لا أحد مثل أدورنو قد استثمر كل الْتباسات الحداثة الثقافية. رُب الْتباسات تسمح لنا بأن نتنبأ بإمكانية تحرير الطاقات الجمالية والتواصلية، وبسقم ممكن للثقافة معًا. ليس ثمة أية فلسفة، على الأقل في ألمانيا منذ شوبنهاور ونيتشه، قد أحدثت تأثيرًا مماثلًا لفلسفة أدورنو، سواء أكان ذلك على الفنانين أو على النقاد أو على المثقفين، وإنه ليصعب علينا تقدير الآثار التي تركها أثرُه في ذهن أولئك الذين يهتمون بالفن الحديث، سواء من جهة الخلق أو النقد أو التلقِّي.»١

علينا أن نذكِّر في بادئ الأمر بأن السياق التاريخي لهذه الفلسفة هو سياق خاص جدًّا؛ فأدورنو قد كتب صحبةَ هوركهايمر، وفي أفق مدرسة فرنكفورت بعامة، في فترة الحرب العالمية الثانية، وما سببته من أحداث فظيعة وكارثية على الإنسانية بعامة، وعلى اليهود بخاصة. لقد كتب أدورنو تحت هول كابوس سياسي فظيع، وكان عليه أن يجد للعقل الفلسفي ما يبرره، وللكتابة ما يجعلها ممكنة على حافة جحيمين؛ جحيم نازية هتلر من جهة، وجحيم فاشية ستالين من جهة ثانية. وقد عاش هذا المثقف المهجَّر التائه شكلًا من العزلة والتصحُّر الداخلي، جعل فلسفته شذرات من الغضب والألم والعلم الحزين، غضب فلسفي ترجمه عبر محطات نظرية بدأت بتشخيص كارثة تحول العقل التنويري إلى أداة لتدمير ذاته، وامتدت شيئًا فشيئًا إلى فضح معالم تشويه الحياة الحديثة بانحلال الذات وتفقيرها وإتلافها، ووصلت إلى حد تعرية مظاهر تحول الثقافة إلى بضاعة، والفن إلى وسيلة لتجميل الواجهات، حيث لا شيء غير القبح في الكواليس العميقة. وكان رهان هذه الفلسفة هو التالي: هل ما زال بوسع العقل أن يدَّعي قدرته على إنقاذ العالم من الكارثة بعد ما حصل باسم العقل والعلم والتنوير والحداثة من أشكال التدمير والموت الكارثي؟! وبأي معنًى بوسع الفيلسوف أن يتحدث عن الحياة أصلًا في سياق «لم تعد فيه الحياة تحيا»؟! وهل بوسعنا أن نتحدث عن الجمال في حضارة تنشر القبح في كل مكان؟

(١) جدلية التنوير، أو كيف تحوَّل العقل إلى أسطورة؟

تلك هي أطروحة الكتاب الأول الذي ألَّفه أدورنو مع هوركهايمر. يتعلق الأمر بكتاب جدلية التنوير، بتاريخ ١٩٤٤م، وهو كتاب على أهمية كبرى بالنسبة إلى تقليد الفلسفة الحديثة، وبوصفه أهم وأكبر مؤلَّف في النقد الجذري للتنوير، وللعقل الحديث وقد صار إلى عقل أداتي. وقد اعتبر ألبرشت فيلمر، الذي يشتغل على نوع من المصالحة بين فلسفتَي هابرماس وأدورنو، أن كتاب جدلية التنوير هو «النص المفتاح لمجمل النظرية النقدية الأولى»، وهو بمثابة ضرب من «ما بعد تاريخ العقل، وذلك بوصفه يعيد رسم انتصار التنوير وتعاسته في آن معًا».٢

ثمة ما يشير إلى نوع من انقلاب العقل الحديث على ذاته، وتحوُّله عن مشروعه الأصلي؛ فبعد أن كان يهدف إلى تحرير الإنسان من الخوف من الطبيعة، وضمان استقلالية الذات البشرية بوصفها «غاية في حد ذاتها»؛ تم تحويل العقل إلى أداة للهيمنة على الطبيعة وعلى البشر.

يتعلق الأمر، وفق عبارات مقدمة هذا الكتاب، «بمحاولة فهم الأسباب التي دفعت بالإنسانية إلى السقوط في البربرية، بدلًا عن العمل على توفير ظروف إنسانية فعلية.»٣ إن ما كان يزعج أدورنو وهوركهايمر هي معضلة ظلت تخترق صفحات الكتاب، ألا وهي «التدمير الذاتي للعقل»،٤ فلقد صار العقل، بعد أن كان حاملًا لمشروع التقدم التنويري الحالم باستقلالية الذات وحريتها، يدمر ذاته بذاته، بما ينشره من مظاهر الدمار والفظاعة إلى حد صار فيه الفرد نفسه إلى زوال، والثقافة إلى بضاعة، والتكنولوجيا إلى أداة تدمير وخراب، و«التقدم نفسه إلى تأخر»؛٥ وذلك لأن ما حدث للعقل بالضبط هو التالي: «لقد تحول العقل إلى أسطورة، والأسطورة إلى عقل.»٦
فإذا كان مشروع التنوير هو تحرير العالم من السحر، فإن العلم قد تحول إلى سلطة، حيث صار كل شيء قابلًا للقيس والحساب. فالعقل صار أسطورة لأنه تحول إلى سلطة للسيطرة على الطبيعة، وإلى أداة للهيمنة على الأفراد في ظل الدولة الفاشية والنازية، والنظام الكُلياني العالمي، بل «لقد صار العقل كُليانيًّا»،٧ وصار «يسلك إزاء الأشياء كما يسلك الدكتاتور إزاء البشر.»٨
ويَعتبر ألبرشت فيلمار أن أدورنو وهوركهايمر قد فسرا ضمن هذا الكتاب «وحدة العقل والهيمنة»، وذلك في اتجاه «اكتشاف طبيعة عقل التنوير بما هو عقل أداتي»، وذلك بعد ماركس الذي يسمي ذلك «نزعة التَّشيِئة، أي: سقوط الثقافة في دائرة البضاعة».٩
وفي الحقيقة علينا أن نمر بهابرماس في كتاب القول الفلسفي للحداثة كي نفهم جوهر المشروع الفلسفي لأدورنو الذي أودعه، صحبةَ هوركهايمر، في أهم مؤلَّف فلسفي في نقد عقل التنوير.
يَعتبر هابرماس أن هذا المؤلَّف، بما يحويه من نقد جذري للمشروع الحديث إلى حد العدمية، على طريقة شبيهة بنيتشه، إنما هو «الأكثر سوادًا لتحويل سيرورة التدمير الذاتي للأنوار إلى مفاهيم»؛١٠ وذلك لأن هابرماس يرى في تقليد النقد الجذري للعقل الذي دشَّنه نيتشه، وسار على دربه كلُّ نقاد الحداثة منذ أدورنو إلى ليوتار ودريدا وفوكو؛ تهورًا وعدمية ونزعة جمالوية فوضوية لم تتقن التحديق بمكاسب الحداثة إلا من وجهة نظر سلبية وعدمية.
أربع قضايا يلخص بها هابرماس مشروع هذا النقد الجذري للعقل الحديث:
  • (أ)
    «أن العالم الحديث المُعقلَن بشكل كامل لم يتخلص مع ذلك من السحر الذي يحمل لعنة التشيئة الشيطانية.»١١
  • (ب)

    أن العلم الحديث مع النزعة الوضعية قد تخلى عن المعرفة النظرية لصالح المنفعة التكنولوجية.

  • (جـ)
    «أن العقل طُرد من الأخلاق والحق، بقدر ما فقدَت المحكَّات المعيارية اعتمادها، نتيجةً لأفول رؤى العالم الدينية والميتافيزيقية، الذي لم يُبقِ إلا على سلطة العلم.»١٢
  • (د)
    «بتحليلهما للثقافة الجماهيرية، يسعى هوركهايمر وأدورنو إلى الرهان على أن القوة المجدِّدة للفن قد شُلَّت، منذ أن الْتبس باللهو، وخلَت مضامينه من كل نقد، ومن كل طوباوية.»١٣
يقول هابرماس، منزِّلًا هذا المشروع ضمن سياقه التاريخي: «في الحلقة التي تشكَّلت حول هوركهايمر تم تطوير النظرية في مرحلة أولى، كيما تضع في حسابها خيبات الأمل السياسية التي سبَّبها غياب الثورة في الغرب، بتطور الاستالينية في الاتحاد السوفياتي وانتشار النازية في ألمانيا، كان عليها أن تشرح إخفاق التوقعات الماركسية، ولكن بدون قطيعة مع الماركسية. في هذا السياق يمكن أن نفهم كيف وطَّدت السنوات الأكثر ظلمةً في الحرب العالمية الثانية الاعتقادَ بأن الشرارة الأخيرة للعقل هربت من الواقع، ولم تُبقِ إلا على أنقاض حضارة على حافة الدمار بلا أمل يُرتجى.»١٤
ويَعتبر هابرماس أن مشروع جدلية التنوير يتنزَّل تحت راية شعار نَحَته بنيامين، هو شعار «أمل اليائسين»،١٥ وأنه، وفق هذا المنظور، كان نقدًا قاسيًا ومتهورًا، أدى إلى «تبسيط صورة الحداثة»،١٦ وهو بذلك لم يستطع إنصافها.

(٢) «إن الحياة لم تعد تحيا»

يتعلق الأمر بالمشروع الفلسفي الخاص بكتاب «الأدب الصغير» لأدورنو.١٧ وهو كتاب كتبه أدورنو أثناء الحرب، موضوعه الأساسي هو البحث في معالم تشويه الحياة الحديثة، القائمة على التشيئة الفظيعة للفرد، وتحويل كل شيء إلى بضاعة. ويتنزل نقد أدورنو لتشويه الحياة الحديثة ضمن مشغل عامٍّ ظلَّ دومًا الهاجس الفلسفي الأساسي لرواد مدرسة فرنكفورت، هو مبحث أزمة الذات في صورة الفرد الليبيرالي، في ظل المجتمعات الكُليانية الحديثة. وفي الحقيقة ثمة ضرب من ردة الفعل الفلسفية القوية ضد انهيار الفرد وتشويه الإنسان، بعد أن تحولت كل مجالات الحياة إلى قيمة للتبادل. وإن كتاب الأدب الصغير يتنزل ضمن المشروع العام، أي: إنقاذ الفرد من دولة هي في جوهرها تقوم على القمع والهيمنة.
الأدب الصغير: أفكار ملتقَطة من الحياة المشوَّهة. شذرات كتاب أراده صاحبه شظايا في صورة عالم شوَّه الحياة والفرد والثقافة، وحوَّل كل شيء إلى أداة هيمنة. إنه «علم حزين» يندرج ضمن الإتيقا بالمعنى السالب للحياة، تشخيص لما هو كائن بكل الهول الذي يحمله، وذلك تحديدًا ضد المبحث التقليدي للأخلاق بالمعنى الميتافيزيقي الذي يؤسس لما ينبغي أن يكون. وهو في ثلاثة أجزاء؛ يضع في فاتحتها أدورنو شعارات فلسفية مريعة في روع هول الكارثة التي سقطت فيها الإنسانية الحديثة، من نوع «الحياة لا تحيا»، أو «حين يكون كل شيء سيئًا»، أو «أيها الانهيار الجليدي، هلَّا جرفتني معك حين تنهار».
ينفتح الكتاب على نص مثير: «يتصل العلم الحزين، الذي أُهدي بعضه لصديقي، بمجال كان بالنسبة إلى أزمنة خلَت بمثابة المجال الخاص بالفلسفة، ولكنه صار منذ تحولت إلى منهج مجالًا مهمَلًا فكريًّا، وعرضة للاعتباط والتبجُّح، وفي الختام صار مجالًا منسيًّا، أعني مجال الحياة الحق. إن ما كان في السابق يُدعى في نظر الفلاسفة حياة، قد صار إلى دائرة الخصوصي، ومن ثَم أيضًا إلى دائرة الاستهلاك، التي أضحت باعتبارها لاحقة للسيرورة المادية للإنتاج، تُجر من دون استقلالية، ومن دون جوهر خاص. أما من يلتمس تجريب الحقيقة على الحياة مباشرة، فعليه أن يتفحَّص شكلها المغترب، والقوى الموضوعية التي تعيِّن الوجود الفردي حتى في أدق ما هو خفي. إننا إذا تحدثنا بلا توسيط عن المباشر، فإننا نكاد لا نخالف مسلك أولئك الروائيين الذين يرصِّفون دُماهم بمحاكاة الأهواء القديمة كأنها بزينة رخيصة، ويتركون الشخوص، التي لا تعدو كونها قطعًا من المكنة، تفعل بعامة كذوات، وكأن شيئًا ما زال معلقًا بفعلها. لقد مر النظر في الحياة إلى الإيديولوجيا التي تخدع بالزعم أنه لم يعد ثمة حياة.»١٨ هذا النص يتضمن جوهر مشروع أدورنو في كتاب الأدب الصغير، كتاب أهداه إلى صديقه هوركهايمر الذي جمعتْه به علاقة فكرية متينة، والذي كان من الممكن أن يكتبا هذا الكتاب معًا.
إن الأمر يتعلق بمجال سماه أدورنو بما يشبه حرفيًّا في لغتنا «الأخلاق الدنيا»، أي: ما هو خاص بمجرد الحياة، أو بالحياة في أدنى درجاتها. فالعقل الفلسفي الحالي لم يعد بوسعه الاشتغال على «الأخلاق الكبرى» في معنى التشريع للخير الأسمى، كأن الحياة في أروع مظاهرها. ففي ظل ما يحدث للإنسانية الحالية، حيث صار العلم إلى مشروع للهيمنة، وصارت الدولة إلى قمع للأفراد، ثمة ما يدعو إلى القول إنه «لم يعد ثمة حياة»؛ لأن «الحياة لم تعد تحيا». ومنذ أن صارت الفلسفة إلى إبستمولوجيا لا تستمع إلى غير لغة العلم، ومنذ أن صار العقل إلى أداة للسيطرة على الأشياء وعلى الإنسان، صار الاشتغال على الحياة الحق إلى «علم حزين». لقد وقع جر كل مظاهر الحياة الحديثة إلى دائرة الاستهلاك، حيث صار كل شيء إلى بضاعة، من الفن والثقافة إلى الفرد والقيم الإنسانية. إن هذا التشخيص التراجيدي لما آلت إليه الحياة في المجتمعات الحديثة هو الذي دفع بأدورنو إلى استعادة هذا العلم الحزين إلى دائرة الفلسفة من أجل تنشيطه بأساليب مغايرة. يقترح علينا أدورنو ضرورة «تجريب الحقيقة على الحياة المباشرة»، أي: ضرورة النفاذ إلى أدق الخفايا المظلمة لاغتراب الحياة عن الحياة، ولاغتراب الوجود الفردي، وطمس استقلالية الذوات وحرياتها وحقها في الوجود. كيف وقع تدمير علاقة الأفراد بأنفسهم وبالحياة وبالثقافة والإبداع؟ كيف شوَّهَتهم المكنة الكبرى للعقل الحديث من سيطرة العلم، إلى تحويل الفلسفة إلى مجرد جدلية موجبة لتبرير الواقع، إلى استعمال لاوعيهم ضدهم؟ ويصل أدورنو إلى الإعلان عن أنه «لا توجد حياة صحيحة داخل حياة كاذبة.»١٩ إن ما حدث تحديدًا هو تفقير الكائن وإتلافه إلى حد ظهور الحياة في «صورة كاريكاتورية»، لكن لا ينبغي أن تُضحِك أحدًا؛ لأن الجميع معنيون بالسقوط المريع نحو الكارثة.
إن أشد ما يحرج العقل النقدي ها هنا هو الوضع الراهن الذي يقوم «رأسًا وبشكل لا نظير له على انحلال الذات من دون أن تكون ذات جديدة قد انبثقت بعد.»٢٠ لا شيء أمامنا غير مواجهة ما يقع لهذه الذات بذات قديمة في الطريق نحو الاندثار. وحتى إن الْتجأتْ هذه الذات بضرب من «العاطفة والمغالطة التاريخية» إلى «الشكوى من مجرى العالم»؛ لن تفعل غير «الإيفاء من جديد بقانون مجرى العالم».٢١
ويبدو أن معركة أدورنو الحقيقية إنما هي معركته ضد هيغل؛ لذلك ينجز أدورنو القلب الفعلي لجدلية هيغل، وذلك في اتجاه سلبية جذرية لما هو كلي ونسقي وحقيقي، وهو معنى شعاره المضاد للهيغلية القائل: «إن الكل هو اللاحقُّ»،٢٢ وضد مقولة هيغل المعروفة التي تساوق بين «رأيت نابليون على حصان»، و«رأيت العقل على حصان»، يقول أدورنو في نوع من التهكم الكارثي: «لقد رأيت روح العالم، لا على جواد، بل على أجنحة الصواريخ، ومن دون رأس، وهذا يفنِّد في نفس الوقت فلسفة هيغل في التاريخ.»٢٣
فإذا كان هيغل قد اختار تصفية الذات من أجل اتساق الكلي وتناغمه، ولم يستطع بذلك أن يعترف للفردنة بغير مكانة ضئيلة جدًّا، ينتصر أدورنو للفرد ولما هو فردي في كل مظاهره. وهو معنى دفاعه عن أسلوب الكتابة وفق «الشذرات»، بدلًا عن الكتابة النسقية، بل ثمة ما يدعو إلى القول بأن الشذرات هي آخر ما تبقى من حياة ما هو فردي وما هو خصوصي، وما وقع تهجيره في أصقاع العقل الحديث. يقول أدورنو: «بما أن الذات قد زالت اليوم، فإن الشذرات تأخذ بجدٍّ فكرة أن «الزائل نفسه ينبغي اعتباره جوهريًّا».»٢٤ إن انتصار هيغل، ضمن جدليته الموجبة، للكل ضد الفردي ليس إلا علامة على تبريره لما هو سائد، بدلًا عن تغييره أو فضحه، مثلما يرتئي كل الذين عبروا إلى الفلسفة المعاصرة عبر ماركس، ومن أهمهم رواد مدرسة فرنكفورت، الذين مثَّل أدورنو أكثرهم أهمية، وأكثر شراسة وغضبًا.
إن القارئ لكتاب الأدب الصغير بوسعه أن يدرك مدى غضب هذا الفيلسوف، ومدى راديكاليته ومناهضته لأنساق الهيمنة، إنه يفضح بشكل غير مسبوق كيف أن الذات الإنسانية قد انحلَّت وأُصيبت بهشاشة ميتافيزيقية رهيبة، إلى حد الإعلان عن نهاية الأنا أو الوعي أو الفرد في مقولات مستفزة وفظيعة من جنس: «عادي هو الموت»،٢٥ أو «إن الأنا لم يعد أنا»،٢٦ أو «وقاحة تكون عند الكثير من الناس حين يقولون: أنا»،٢٧ أو «لم يتبقَّ من نقد الوعي البرجوازي سوى حركة هز الكتف التي يُعبِّر بها جميع الأطباء عن التآمر السري مع الموت.»٢٨
وفي الحقيقة يتعلق الأمر بنقد شرس لمنظومة التحليل النفسي لفرويد، التي لم تفعل غير إخضاع الأفراد إلى سلطة المعرفة، وإلى الهيمنة على مشاعرهم الأكثر حميمية، والمتاجرة بآلامهم وأمراضهم؛ حيث إن «التحليل النفسي إنما يثبت للإنسان عدمه.»٢٩
و«حين يسوء كل شيء تَحسُن معرفة الأسوأ»،٣٠ ورغم ذلك ليس على الإنسان أن يحب قدره مثلما كان نيتشه قد دعا إلى ذلك، بل «ليس علينا تحمُّل هول العالم»،٣١ بل علينا فضح أشكال اللامعقول والاغتراب والهيمنة، وبدلًا عن اليوتوبيات الخادعة، علينا أن ننشِّط «الرغبة في الممكن»،٣٢ حتى «لا تفسد عقولنا لا من جرَّاء سلطة الآخرين، ولا من جراء عجزنا.»٣٣
ويتراوح الكتاب بين فضح لأشكال اغتراب الحياة وانحلال الذات، وبين نقد للفلسفة المتواطئة مع مجتمعات الهيمنة بوصفها تصالحًا بين الواقع والعقل، وبين النظر والعمل، وتحلم بيوتوبيا تغيير العالم على طريقة الماركسية التي تحولت مع ستالين إلى إيديولوجيا فاشية دفعت بالعالم نحو البربرية. لا يخفى على أحد أن الكتاب مكتوب تحت هول المحرقة اليهودية، لكن أدورنو لا ينفكُّ يدفع بكل أشكال الفاشية إلى مهزلة واحدة. ولا يخلو هذا الكتاب من نوع من الكتابة بالعاطفة، كتابة انفعالات غاضبة وحزينة سوداوية، لكنها صادقة في تشخيص طبيعة الهيمنة وشكل الدول الفاشية إلى حد البكاء والفجيعة. يقول أدورنو: «لم يعد ثمة شيء لا يبعث على الغم، حتى الشجرة التي تُزهر تكذب لحظة نراها تزهر، ونغفل عن ظلال الهول، حتى العبارة البريئة «ما أجمل هذا!» تُصبح استعذارًا من عار الوجود الذي هو غير ذلك (الجميل)، فلم يعد هناك جمال ولا عزاء خارج النظرة التي تتجه صوب المفزع، وتمكث عنده، وتتمسك به شديدًا ضمن وعي بالسالبية لا يفتر بإمكان الأحسن.»٣٤
ما يقترحه أدورنو مجرد أدب صغير: «لا مخرج من الورطة؛ فالشيء الوحيد الذي يمكن تحمل مسئوليته إنما هو الامتناع عن الاستعمال الإيديولوجي السيئ للوجود الخاص، وفيما عدا ذلك، الاعتدال في المسلك الشخصي بالتقية والتواضع لا كما يقتضي التأدب الذي زال منذ وقت طويل، بل كما يحثُّ الحياء على أنه ما زال يوجد في هذا الجحيم هواء يُتنفس.»٣٥
وضمن هذا الانهيار الجليدي لعالم سقط في برودة القيم وتجمُّد العلاقات الإنسانية، يبدو أن «الفلسفة الوحيدة التي يمكن تحمُّل مسئوليتها، (هي) محاولة اعتبار الأشياء كما تُعرض من جهة الخلاص، ليس للمعرفة من نور سوى ذلك الذي يبدو أنه ينير العالم انطلاقًا من مبدأ الخلاص، سيتعين علينا أن نُرسي منظوريات يغير فيها العالم محله، ويكون طرفًا غريبًا، ويُظهر صدوعه وشقوقه، كما سيظهر ذات مرة معوزًا ومشوهًا تحت أنوار المسيح.»٣٦
وهنا علينا التشديد على خطورة هذا النص الأخير من كتاب الأدب الصغير الذي جعل كل مشروع أدورنو عُرضة للنقد بوصفه يصب في آخر المطاف في ضرب من الخلاص اللاهوتي الذي يرفض كل إمكانية لفعل التغيير والتحرر على المستوى السياسي، ذاك مأخذ خطير على فكر أدورنو نجده لدى هابرماس وأتباعه، ومن بين هؤلاء نُحيل مرة أخرى على فلمر، الذي يرى أن أدورنو قد شخَّص أزمة العقل الحديث، لكنه لم يستطع تقديم الحل الناجع لها، وأن هابرماس هو من انتبه إلى ضرورة انفتاح النظرية النقدية على مسألة الديمقراطية. وهو ما يدعو إلى ضرورة فك العلاقة بين النزعة النقدية السالبة، والنزعة المهدوية لمنظِّري مدرسة فرنكفورت الأولين.٣٧ وذاك هو مشروع هابرماس الذي نجح في تجاوز النزعة الجذرية السالبة في فكر أدورنو وهوركهايمر باكتشافه للعقل التواصلي، ولإتيقا النقاش.

(٣) في معنى الجدلية السالبة

بوسعنا أن نلخِّص مشروع كتاب الجدلية السالبة انطلاقًا من النص التالي: «إن الفلسفة في الوضع التاريخي الحالي تجد انشغالها الحقيقي، حيث كان هيغل قد عبَّر عن عدم جدوى ذاك الأمر، متفقًا في ذلك مع التقليد الفلسفي، أي: ضمن ما وقع إقصاؤه منذ أفلاطون بوصفه زائلًا وعديم الجدوى، وهو ما كان هيغل قد علَّق عليه لافتة الوجود الكسول.»٣٨
إن هذا الكتاب يسعى إلى تحرير الجدلية من طابعها الكلياني الموجب الذي يبرر به هيغل الواقع كما هو، في نوع من الاستعادة التأويلية السالبة لشعار ماركس ضد هيغل: «لم يفعل الفلاسفة إلى حد الآن غير تبرير الواقع، ولقد آن الأوان لتغييره.» وبالنسبة لأدورنو، لم يعد ممكنًا الحديث عن تغيير العالم في المعنى الماركسي بعدما صار حلم ماركس كابوسًا فاشيًّا في عهد ستالين. ما أراده أدورنو هو إطلاق الطاقات الثورية الثاوية في عمل السلب، وذلك بالغوص في الكواليس المظلمة للمجتمعات الحديثة لفضح اللامعقول والظلم ومظاهر عطالة مكنة الدولة الكليانية. ويُعتبر كتاب الجدلية السالبة لأدورنو أكثر نصوصه استغلاقًا على الفهم، حيث يكتب أدورنو في ضرب من لغة ممزقة تصدم القارئ؛ لأنها لا تسعى إلى تفسير أي شيء ولا إلى تأويل الواقع، فحيث يسود اللامعنى واللامعقول بأشكاله من ظلم وقمع وهيمنة على الأفراد، لا شيء بقي للفلسفة غير أن تفضح الواقع بدلًا عن التصالح معه. لم يعد ثمة إمكانية للقول بالمصالحة بين الفكر والممارسة، ولا بين الإنسان والطبيعة. ما تبقى هو فقط مجرد السعي إلى محافظة وقتية للفرد على بقائه.

يتعلق الأمر بضرب من ردة الفعل الراديكالية ضد انهيار الثقافة في ظل فاشية ستالين ونازية هتلر؛ لذلك ليس ممكنًا الحديث عن جدلية موجبة، بل ثمة نوع من «الجدلية القاتلة»، وثمة نوع من «يوتوبيا التاريخ» في نوع من استئناف لمشروع جدلية التنوير.

إن الجدلية السالبة هي كتابة مضادة للعقلانية التنويرية، منظورًا إليها وفق المبدأ الهيغلي، للمصالحة بين العقل والواقع في شكل الروح المطلق. يتعلق الأمر بما سماه أدورنو منذ بداية الكتاب بكتابة «مذنبة في حق تقليد الجدلية وتاريخها»؛٣٩ لأن الجدلية منذ أفلاطون تسعى دومًا إلى تحرير الجدلية من طابعها الموجب دون أن تخسر شيئًا في قدرتها على تعيين شيء ما. إنها جدلية سالبة لواقع الهيمنة، ونافية لعقل يتواطأ مع تشويه الحياة، وفي هذا المعنى يقر أدورنو أنه «ثمة هشاشة ما قد أصابت ميدان الحقيقة»؛٤٠ أن «مفهوم الجدلي بالمعنى الهيغلي والنسقي قد صار مثيرًا للدوار»،٤١ وأن «الوعي الفردي قد صار إلى وعي تعيس.»٤٢
وبالنسبة إلى أدورنو، «لقد فرض هتلر على البشر — ضمن هذه الحالة من اللاحرية — أمرًا قطعيًّا جديدًا؛ أن نفكر وأن نعمل على نحو لا تتكرر فيه المحرقة ثانية، وأن لا شيء يماثلها بوسعه أن يحصل للبشر.»٤٣
إن ما وقع للإنسان في ظل الأنظمة الفاشية يدفع بالفلسفة إلى الذهاب فيما أبعد من ذاتها، شعارها في ذلك هو «الذهاب بالمفهوم فيما أبعد من المفهوم»،٤٤ لكن ينبغي الإشارة إلى أن اللوحة ليست سوداوية إلى حد اليأس، بل إن اليأس والتشاؤم ها هنا هو تحديدًا موقف فلسفي راديكالي يدفع بالفكر إلى ضرورة الانفتاح على أمل مغاير. وهو معنى كلام أدورنو في آخر كتاب الجدلية السالبة: «على الجدلية السالبة ألا تستقر في موضعها وكأنها كاملة، ثمة تحديدًا يكمن شكل الأمل الخاص بها.»٤٥

(٤) في معنى جماليات القبح

بوسعنا أن نجمِّع الدلالة الفلسفية التي يقترحها كتاب النظرية الجمالية٤٦ لأدورنو للفن وللأثر الفني، تحديدًا في ثلاث قضايا جوهرية:
  • (١)

    تنشيط علاقة الفن بالحقيقة ضد التصور النيتشوي الذي يختزل الفن في دائرة الأوهام والأكاذيب الجميلة وعالم المظاهر الراقصة.

  • (٢)

    الدعوة إلى ضرورة إقصاء مفهوم المتعة الجمالية من حقل الجماليات، وذلك ضد جماليات المتفرج الكانطية القائمة على الذوق السعيد، واللعب الحر للمخيلة.

  • (٣)

    إن الفن لا يمكنه أن يحرر الأفراد إلا في أفق نوع من الطوباوية السالبة التي تكتفي باعتبار الفن «وعدًا بالسعادة»، حتى وإن «وقعت خيانته سلفًا».

  • (٤)
    أما عن علاقة الفن بالحقيقة، بوصفها وعدًا بالسعادة، حتى وإن كان هذا الوعد قد تمت خيانته سابقًا، فيمكن التفكير فيه انطلاقًا من الإشكاليات التالية:
    • إذا كان الأثر الفني قائمًا على مفهوم الاستقلالية، فكيف يمكنه أن يكون «نقدًا للمجتمع»؟

    • إذا كان أدورنو يعرِّف الفن بوصفه قائمًا على المحاكاة، فكيف يمكنه أن يكون في نفس الوقت مستقلًّا ومجالًا للحرية المطلقة؟

    • أي معنًى للحقيقة الفنية خارج العلم من جهة، وخارج المجتمع من جهة ثانية؟

    • في أي معنًى تكون قدرة الفن على تجسيد الحقيقة مقاومة لثقافة البضاعة ولمجتمعات الهيمنة؟

    من أجل معالجة هذه الإشكاليات علينا أن ننطلق أولًا من تشخيص كتاب النظرية الجمالية لوضعية الفن الحديث. نقرأ تحت قلم أدورنو في الجملة الأولى من الكتاب ما يلي: «لقد صار بديهيًّا أن كل ما يخص الفن، سواء في حد ذاته أو في علاقته بجملة الأشياء الأخرى، لم يعد بديهيًّا بذاته، حتى حقه في الوجود.»

ماذا يعني هذا التشخيص؟ وإذا انطلقنا من أن الفن قد فقدَ حقه في الوجود، فأية إمكانية لنظرية جمالية؟

إن ما يفترعه الفيلسوف أدورنو هنا إنما هي دلالة مزدوجة؛ من جهة أن الفن قد فقدَ معاييره الإستطيقية مثلما يظهر الأمر في الحركات الطلائعية، من قبيل السريالية والدادائية ومضادة الفن، وذلك تحت راية مفهوم الجديد، ومن جهة ثانية لقد تحول الفن إلى بضاعة في مجتمعات رأسمالية حوَّلت كل شيء إلى سلعة، تحت راية الصناعة الثقافية. يتعلق الأمر إذن بتشخيص أزمة الفن الحديث. والسؤال سيكون عندئذٍ: كيف يمكن التأسيس لإستطيقا في عصر أزمة الفن؟

إن ما يقترحه أدورنو حينئذٍ هو التالي: إنه بدلًا عن التنظير لنظرية إستطيقية معيارية تبحث عن أسسها في معاير نظرية محضة، يقرر أخذ أزمة الفن الحديث مأخذ الجد، ويجعل من الآثار الفنية الحديثة ورشة اختبار وتجريب من أجل التأسيس لاختيارات فلسفية جديدة. لكن لا يتعلق الأمر لديه بتحليل صوري للآثار الفنية، بل بفهم فلسفي إشكالي لما أصبح عليه الفن. لقد راهن على تحديد ماهية الفن الحديث في علاقته بمسألة الحقيقة، لكن فيمَ تكمن حقيقة الفن؟

إن ماهية الفن في كتاب النظرية الجمالية قائمة في جوهرها على مفهوم المحاكاة، أو هي ماهية ميميائية. والسؤال سيكون عندئذٍ: كيف يمكن إعادة المحاكاة إلى مجال الفن بعد أن وقع تكنيسها، منذ طرد أفلاطون للشعراء من الجمهورية؟

علينا أن نذكِّر هنا أن أفلاطون قد أصدر قرار طرد الشعراء من الجمهورية في الكتاب العاشر لثلاثة أسباب؛ أولًا: لأن الفن محاكاة للمحاكاة، مثال: الرسام الذي يرسم سريرًا، هو يحاكي الصورة الحسية للسرير الذي صنعه الحرفي، أي: النجار. ثانيًا: لأن الرسام لا يعرف القواعد التي وفقها يصنع النجار السرير. وثالثًا: لأن الفن يصنع مظاهر تغري المتفرج وقد تبدو له أكثر حقيقة، إذن فهو يصنع مظاهر خادعة، هو يخدع الناس، وينتج حقائق زائفة.

وهنا علينا أن نشير إلى أنه بالنسبة إلى قراءة الفيلسوف ثيودور أدورنو، فإنه لا بد من التنبيه على أن الفن لم يظهر كمجال مستقل إلا في العصر الحديث. ها هنا تحديدًا لا بد أن نفهم معنى استقلالية الفن في معنيين:
  • أولًا: أن الفن يُعرَّف سلبًا بوصفه وجودًا مختلفًا عن أي وجود آخر، هو إذن حرية مطلقة، وبالتالي لا يمكن فهم الفن إلا في علاقة بنفسه، أي: في طابعه المُلغِز والمُغلَق.
  • وثانيًا: أن الاستقلالية من منظور اجتماعي تُفهَم في معنى أن الفن يرفض أن يلعب دور الأداة في خدمة أية غاية خارجة عنه.
وتبعًا لهذا التعريف للفن بوصفه استقلالية تظهر جملة من المشاكل والإحراجات التي يعالجها كتاب النظرية الإستطيقية، والتي تجعل مسألة العلاقة بين الفن والحقيقة مسألة إشكالية ومعقدة، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
  • أولًا: أن استقلالية الفن، أي: طابعه السالب بالنسبة إلى ما يغايره، لا يمكن أن تتصالح مع تعريف الأثر الفني بوصفه محاكاة؛ وذلك لأن المحاكاة تفترض علاقة تبعية مع النموذج الذي نحاكيه.
  • ثانيًا: بقدر ما يكون الفن مستقلًّا، بقدر ما يكون معارضًا للواقع الاجتماعي.
  • ثالثًا: إذا اعتبرنا أن المحاكاة هي ماهية الفن، فهذا يعني إعادة الفن إلى منزلة دونية، أي: منزلة الظلال والأوهام والمظاهر الخداعة التي طُرد بسببها الفن من الجمهورية بوصفه غير قادر على إنتاج الحقيقة.

لكن كيف يمكن إنقاذ النظرية الإستطيقية؟ أي: كيف فهم أدورنو العلاقة بين الفن والحقيقة، بالرغم من جعل السلوك المحاكاتي ماهية للفن نفسه؟

لا بد من العودة إلى مفهوم المحاكاة كما يقترحه أدورنو، إنه يمنح مفهوم المحاكاة دلالة جديدة. ليست المحاكاة عنده نسخًا لنموذج في نوع من التطابق معه (ضد نموذج عدم التناقض ومنطق الهوية الذي أسس عليه هيغل مفهومه للجدلية).

وتبعًا لذلك فإن الفن المتحرر ليس حقيقيًّا في المعنى الذي ذهب إليه هيغل، أي: بوصفه حاملًا للمطلق (الفن هو التجلي الحسي للفكرة). وذلك يعني أن تصور أدورنو للحقيقة يقطع مع التصور الكلاسيكي لها بوصفها تطابقًا.

ومن أجل أن نفهم معنى المحاكاة سنعود بكم إلى كتاب جدلية التنوير لأدورنو وهوركهايمر، وهو كتاب يعيد رسم مسار تحرر العقل من الأسطورة، الذي انتهى إلى تحويل العقل الأداتي الحديث إلى أسطورة.

إن المحاكاة ليست ظاهرة جمالية فقط، بل هي ظاهرة أنثروبولوجية، أي: إنها تمثل سلوكًا إنسانيًّا أساسيًّا في علاقتنا بالطبيعة، في معنى الدفاع الذاتي، بوصفها تعبيرًا عن سلوك يقوم على التشابه مع الآخر، وذلك انطلاقًا من أن الطبيعة كانت تمثل قوة جبارة ومخيفة تسكن الإنسان أيضًا، ومن أجل مواجهتها أو التحرر منها وُلدت المحاكاة، وذلك يظهر في الممارسات الدينية البدائية، في الطقوس والرقصات والرسومات والأغنيات والأساطير، ولدى الساحر الذي يحاكي الشيطان الذي يسكنه، وفي الأقنعة للتشبه بالآلهة في التراجيديا اليونانية.

لكن ما هو تأويل أدورنو لهذا الشكل من المحاكاة البدائية؟ يجيبنا أن المحاكاة ليست سلوكًا يؤدي إلى نسخة مطابقة للأصل، بل هي علاقة التشابه التي تفترض الاختلاف واللاهوية والآخر. الشبيه لا يريد أن يكون الهُو الهو، بل هو يشبه دومًا آخر. لقد كانت المحاكاة اللغة الأولى للبشر. وفي هذا السياق يستعيد أدورنو هذه القدرة البدائية الأسطورية على الحكي بما هي قدرة تجعل المحاكي والحكاية تجسد الحقيقة نفسها، وعليه، فإن أي قدرة للفن على الظهور هي قدرة على جعل اللامرئي مرئيًّا، أي: على تحقيق الحقيقة، وبالتالي إنه لم يعد ثمة فاصل بين المظاهر والحقائق؛ الفن يكسر التقسيم المنطقي والميتافيزيقي التقليدي، ويجعل الحقيقة في الفن هي قدرته على أن يكون ظاهرًا، أي: أن يجسد الحقيقة. لا معنى للحقيقة خارج مظاهرها الفنية. الأسطورة حقيقة لأنها تُظهِر ما تحكيه، وهي لا تقص علينا ماضيًا ميتًا، بل تستحضره وتجعله حيًّا في كل مرة. إن علاقة الفن والحقيقة هي قدرة الظاهر على الظهور دون أن يتماهى مع من يشبهه؛ لأن ذاك الذي يشبهه يبقى دومًا آخَر مطلقًا، فالفن إنما يجسد الحقيقة في ضرب من الغيرية الجذرية.

ما موقعنا من هذا التوصيف الإستطيقي لعلاقة الفن بالحقيقة داخل المنظور الأوروبي؟ يبدو أن الفن هو أحد الطرق الكبرى لتوقيع غيريتنا الجذرية، أي: قدرة الخيال في ثقافتنا على إنتاج حياة رمزية مستقلة، أي: مختلفة، أي: تملك اقتدارًا على تجسيد الحقيقة، أو على الظهور بوصفنا اختلافًا محضًا. ما نحتاجه هو التأسيس الفلسفي لسلوك المخيلة في ثقافتنا.

إن أطروحة أدورنو تكمن في أن للفن مضمونًا معينًا للحقيقة، وأن الحقيقة اليوم إنما هي في لحظة استلاب وتشويه، وأن الأمر يتعلق بالحقيقة التاريخية الفعلية لذوات لم يبقَ منهم غير آلامهم شاهدًا وحيدًا على وجودهم. وهو في ذلك إنما يفتح تقليدًا جماليًّا جديدًا ضمن فلسفات الفن المعاصرة. فهو يجتمع مع بنيامين وهيدغر، ومن بعده غادامير، على تحرير الفن من رومنسية العبقرية، ومن ميتافيزيقا الفن النيتشوية، ومدحه للكذب الفني ضد ديكتاتورية الحقيقة. لم يعد الفن مرميًّا في مجال النسخ والظلال والأكاذيب، بل صار هاديًا إلى ما تكونه الحقيقة قيد الحدوث. إن ما يقترحه أدورنو هو تحديدًا نظرية جمالية، بالرغم من أن الفن قد فقدَ حقه في الوجود. ففي زمن «بؤس الإستطيقا»، بوسع الفلسفة أن تنحت جماليات للقبيح في حجم قبح العالم الكلياني الحديث. يتعلق الأمر بنظرية جمالية طريفة جدًّا وراديكالية جدًّا في تصورها للأثر الفني. ليس الأثر الفني لدى أدورنو موضوعة تأويلية أو فرجوية أو ذوقية، ولا يصلح الفن لتجميل الواقع. وإن الأثر الفني لا يحمل أي معنًى أصيل لوجودنا، إنما هو شاهد على سيادة اللامعنى، وهو المخزِّن للآلام التاريخية الفعلية لما يعيشه الأفراد في المجتمع. إن كل أثر فني إنما هو تعبير عن معاناة ملموسة لذاتية متمزِّقة، لكن ذلك لا يعني أن الفن يحمل هموم الفرد أو هواجسه النفسية أو عُقَده وأمراضه، مثلما يذهب إلى ذلك فرويد، بل يعني أن الأثر الفني هو الصدى الحقيقي لمجتمع يقبع على حافة الهاوية.

يتعلق الأمر بجماليات للقبح بعد أن أفل الجميل عن سماء الجماليات، وهو معنى إقصاء أدورنو لمفهوم المتعة والترفيه من حقل الإستطيقا. ينادي أدورنو بضرورة «محو مفهوم المتعة الجمالية»؛ لأن الأثر الفني ليس بضاعة تُباع وتُشترى، ولا هو موضوع فرجة وذوق سعيد، بل إن الأثر الفني «لغز» و«مونادة دون نوافذ»، وهو لن يكون فنًّا حقيقيًّا لو لم يكن تشويشًا لنسق نظام الهيمنة، وفضحًا لشناعة القمع، وتشهيرًا بكارثة المعنى، وضربًا من «ذوق العدم».

لذلك لا شيء ننتظره من الفن غير طوباوية سالبة مضادة لكل أشكال المصالحة بين العقل والواقع، وبين النظرية والممارسة، وبين الفن والجمال. إن النظرية الجمالية لأدورنو إنما تقترح علينا جماليات في حجم قبح العالم، وفظاعة قمع الأفراد، وديكتاتورية العقل التكنولوجي الذي يشوِّه الطبيعة والأفراد في غياب معقولية جمالية وسياسية واجتماعية للعالم.

شبه خاتمة

يتعلق الأمر لدى أدورنو بمحاولة فلسفية لتحرير الذات من براديغم الذات الكانطية المحضة واللاتاريخية، ومن كونية صورية تحولت في ظل الفاشية إلى كليانية خانقة، ومن مفهوم الطبقة الماركسي الذي أدى بالفكر الشيوعي إلى فاشية ستالين الفظيعة.

لقد انتهى عصر الإيديولوجيات، وآن الأوان للحديث عما يسميه أدورنو «الذات الجماعية» التي تحمل المجتمع برُمَّته، أو «نحن الجمالية» المقاومة لأنظمة الهيمنة وتشويه حياة البشر. إن الذات التي دافع عنها المشروع الفلسفي لأدورنو ليست ذاتًا عدمية، وليست ذاتًا سالبة في المعنى التخريبي أو التهريجي أو الكلبي الفظ، إنما هي ذات تقاوم الهيمنة بفن في حجم دول الهيمنة، وتقاوم الخديعة الإيديولوجية بفضيحة فلسفية. يَعتبر أدورنو أن الفن الحقيقي، من قبيل الفن الطلائعي، قد وجد نموذجه في أشعار بودلير، أو في موسيقى شونبارغ وبيتهوفين، أو في رسومات بيكاسو، أو في أدب كفكا، ومسرح براشت، وأن هذا الفن، بفضل طابعه الراديكالي السالب لنظام الهيمنة، إنما يستبق على «براكسيس لم يوجد بعد»، وهو لذلك براكسيس لا أحد يتنبأ بنتائجه أو يضمنها.
ينبغي أن نشير أخيرًا إلى أن هذه التشاؤمية الثاوية في فلسفة أدورنو لا ينبغي أن تقلل من إيمان هذا الفيلسوف العنيد بقوة الفكر والإبداع على تغيير فعلي للمجتمع؛ فأدورنو يعتقد فعلًا أن الفن «ثورة في حد ذاته»، وأن الأثر الفني «مقاومة للهيمنة»، وأن الفلسفة والكتابة بعامة بوسعها إنقاذ الأفراد وتحريرهم من كل أشكال القمع والاضطهاد. ورغم ذلك بقيت فلسفة أدورنو تعاني من عيب أساسي، هو الذي فسَّر به هابرماس وأتباعه تشاؤمية أدورنو وطابعه المهدوي، وكل العدمية اللاهوتية الثاوية في فلسفته؛ يتعلق الأمر بمحاربة أدورنو لفلسفة التواصل، وذلك لاعتقاده أن كل تواصل مع المجتمع إنما هو تواطؤ مع نظام الهيمنة، وذاك هو معنى النقد الذي وجَّهه هابرماس لأدورنو ضمن كتابه المعروف في نظرية الفعل التواصلي (١٩٨١م). عيب أدورنو أنه اعتقد أن كل ميدان الثقافة قد وقع تشيئته، وقد تحول الفن إلى بضاعة، وارتد إلى موضوعة استهلاكية، أو هو لهو وترفيه منظَّم. إن نقده الراديكالي للثقافة أدى به إلى نوع من التهور والريبية في شأن قدرة الجماهير على التحرر بالفن من الهيمنة. يقول هابرماس: «لقد اتخذ أدورنو موقف نقد الثقافة، وهو نقد أدى به إلى ريبية مبررة إزاء الآمال التي وضعها بنيامين على نحو مستعجل في القوة المحررة لثقافة الجماهير.» (ص٣٧٦). لقد بقي أدورنو، وفق هابرماس، سجين براديغم الذات؛ لذلك سخَّر كل فلسفته في تشخيص سلبي لما آلت إليه من انحلال وإتلاف، فكانت فلسفته بكائيات ورثاء وتراتيل، وبدلًا عن التضحية بالذات والانفتاح على حقل التذاوت، بقي أدورنو في حدود دفاع مستميت عما تبقى من الفرد ومن الحياة. ولأنه اتخذ موقفًا سلبيًّا من التواصل؛ لم يستطع أدورنو التحرر من ذات تائهة بلا نوافذ، قدرُها المقاومة لحفظ أدنى درجات الحياة بعد تحول الحياة إلى كذبة. ويعترف هابرماس بأن أدورنو لو تحرر من تشخيصه المأساوي للعقل الأداتي لكان قد انفتح على شكل مغاير من العقلانية، هي العقلانية التواصلية التي أنجزها هابرماس من رحم عطب فلسفي في فلسفة «معلِّمه» أدورنو. يقول هابرماس: «إن أدورنو كاد يقترب شديدًا من هذا التحول في البراديغم، غير أنه لم يفعل» (٣٩٤).

لكن بين «كاد» و«لم يفعل» ثمة كل المسافة الفلسفية الصامتة بين براديغم الوعي وبراديغم اللغة، تلك هي المسافة التي تفصل بين أدورنو وهابرماس. كلٌّ وحديقته الفلسفية، كلٌّ وأسماء الزهور التي نثرها عميقًا في عقول البشر.

١  Albrecht Wellmer, “Vérité-Apparence-Réconciliation, Adorno et le sauvetage esthétique de la modernité,” in: Théories esthétiques après Adorno, Paris, Actes du Sud, 1990, p. 249.
٢  A. Wellmer, “Critique radicale de la modernité,” in: Adorno et l’Ecole de Francfort. Colloque Tunis 2003, Editions Alif, Tunis, 2004, p. 24.
٣  Max Horkheimer, Theodore Adorno, La dialectique de la raison, Paris, Gallimard, 1974, p. 14.
٤  Ibid., p. 17.
٥  Ibid., p. 18.
٦  Ibid.
٧  Ibid., p. 27.
٨  Ibid.
٩  Wellmer, “Critique radicale de la modernité,” op. cit., p. 28.
١٠  هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، منشورات وزارة الثقافة العربية السورية، دمشق، ١٩٩٥م، ص١٨١.
١١  نفسه، ص١٧٧.
١٢  نفسه، ص١٧٩.
١٣  نفسه.
١٤  نفسه، ص١٨٦.
١٥  نفسه، ص١٧١.
١٦  نفسه، ص١٨٠.
١٧  أدورنو، الأدب الصغير، ترجمة ناجي العونللي، مؤسسة شرق/غرب، ديوان المسار للنشر، ٢٠١١م.
١٨  أدورنو، الأدب الصغير، نفسه، ص٢٧-٢٨.
١٩  نفسه، ص٦٩.
٢٠  نفسه، ص٢٩.
٢١  نفسه.
٢٢  نفسه، ص٩٥.
٢٣  نفسه، ص٩٢.
٢٤  نفسه، ص٣٠.
٢٥  نفسه، ص٩٧.
٢٦  نفسه: ص١١٢.
٢٧  نفسه، ص٨٧.
٢٨  نفسه، ص١٥٠.
٢٩  نفسه، ص١١٠.
٣٠  نفسه، ص١٤٢.
٣١  نفسه، ص١٦٤.
٣٢  نفسه، ص٤٠٣.
٣٣  نفسه، ص٩٨.
٣٤  نفسه، ص٤٤.
٣٥  نفسه، ص٤٨.
٣٦  نفسه، ص٤٠٢.
٣٧  Wellmer, “Critique radicale de la modernité,” op. cit., p. 26.
٣٨  Adorno, Dialectique négative, Paris, Payot, 1978, p. 15.
٣٩  Ibid.
٤٠  Ibid., p. 33.
٤١  Ibid., p. 32.
٤٢  Ibid., p. 43.
٤٣  Ibid., p. 286.
٤٤  Ibid., p. 20.
٤٥  Ibid., 340.
٤٦  للاطلاع على دلالة جماليات القبح لدى أدورنو، راجع: أم الزين بنشيخة المسكيني، الفن يخرج عن طوره، أو جماليات الرائع من كانط إلى دريدا، دار جداول للنشر، بيروت، ٢٠١١م، ص١٤٣–١٦٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤