الفصل الرابع

مستقبل المسرح

أرتو والشرق

أيُّ مسرح يشبه هذا العصر الذي اختلطت فيه الكوميديا بالتراجيديا، والمأساة بالملهاة، وتهريج السياسيين بخطابات الدعاة؟ وأيُّ مسرح بوسعنا الانتماء إليه نحن الذين أتعبتنا الثنايا، وأنهكتنا أحلامنا الساذجة في غد أفضل؛ مسرح القساوة أم مسرح العبث، مسرح الوضعيات أم مسرح الموت؟ وتتعالى أصوات المسارح، وتختلط في أذهاننا المعطوبة ملحمة بريشت وصراخ أرتو، وتتصافح كل الأيادي القذرة فوق عقولنا ليلًا، كي تتقيأ بعض الغثيان في شكل ثنايا لا تؤدي. ويرقص جنون أرتو وآلامه منذ مصحة روداز وهو يصرخ تحت الصعقات الكهربائية مع جثامين كانتور، من أجل أن يقهقه عاليًا مسرح العبث على لسان بيكات الذي يعرف جيدًا أن غودو لن يأتي أبدًا، وهو مع ذلك يصر على انتظاره. نحن أيضًا ما زال لدينا مساحة واسعة للفراغ، لمزيد من الأشباح على الركح، لأجساد بلا أعضاء، لأغنيات سوف نغنيها بأجسادنا قبل اللغة، وفيما أبعد من الدراما، وفيما أبعد من البشر.

لقد وقَّع فرانسوا ليوتار مفهوم ما بعد الحداثة في الفلسفة بكتاب له تحت عنوان الوضعية ما بعد الحديثة، انطلاقًا من أطروحة ألمعية لا تزال مغرية إلى حد الآن، هي «نهاية السرديات الكبرى». وإن المقصود بذلك هو سردية التقدم التنويرية، وسردية الجدلية الهيغلية، وسردية اليوتوبيا الماركسية. غير أن نهاية السرديات قد دفعت بالعالم إلى فقر روحي وعاطفي مُدقِع، نوع من «القحط الأنطولوجي»، على حد تعبير لنيغري، الأمر الذي جعل فيلسوفًا كبيرًا في قامة ألان باديو اليوم يصرِّح: «إن هذا العصر قد فقد القدرة على الأفكار الكبرى»، وأن شعارات العدمية الجمالية، التي ما انفكَّ أحفاد نيتشه يوزعونها على عقول الناس في ضرب من الاندفاعة الرومنسية البهيجة، قد وقع إنهاكُها هي الأخرى. نعم الأفكار تتعب أيضًا، وكلما سقطت فكرة كبيرة سقط معها عالمها برُمَّته، حينئذٍ يحين الوقت لبومة المينارفا كي تحلِّق عاليًا منبئة بنهاية عصر ما، وحينها فقط «تأتي الفلسفة من أجل أن ترسم لوحة رمادية فوق لوحة رمادية، ذلك يعني أن عصرًا ما قد أُصيبَ بالشيخوخة»، وقد آن الأوان لبدء جديد. كانط قد عرَّف الحرية بكونها «القدرة على بدء شيء جديد»، لكن من يملك هكذا اقتدارًا لبدء جديد؟ ربما وحده الإنسان الأرقى، أو «ما بعد الإنسان»، بوسعه أن يُقدِم على هذا الأمر؛ لأنه يملك إرادة الاقتدار الكفيلة بتجاوز هذا النمط من الإنسان العدمي الكسول الذي يعتقد أن الآلهة قد صمَّمته على أحسن تقويم.

إن الكتابة المسرحية ما بعد الدرامية تنتمي إلى هذا الاقتدار الواسع الذي وقَّعه نيتشه كأول من استبق على ضرورة افتتاح طريقة مغايرة في التفكير والإبداع للنمط الغربي الكلاسيكي الحديث القائم على ميتافيزيقا الذات، ورومنسية العبقرية، وغطرسة اللوغوس الغربي المركزي الذكوري. إن الأمر يتعلق بعصر موسوم بالعديد من أشكال الما بعد؛ ما بعد ديني وما بعد علماني (هابرماس)، ما بعد فلسفي وما بعد ميتافيزيقي (رورتي)، أو ما بعد طوباوي وما بعد سياسي (جاك رانسيير).

كيف نؤرخ لهذا المسرح ما بعد الدرامي في خضمِّ امتزاج أصوات الما بعديين إلى حد تحوُّلها إلى ضجيج لا نكاد نفصل فيه بين أبواق السفسطائيين الجدد، وصوت الفيلسوف الذي نكاد لا نسمعه إلا همسًا؟

(١) في تعريف عاجل لمفهوم «ما بعد الحداثة»

نكتفي بالإشارة أولًا إلى أن المسرح ما بعد الدرامي هو أحد التنويعات المجازية على براديغم ما بعد الحداثة. وهو براديغم نكتفي هنا بتلخيص أهم الأطروحات الفلسفية التي جعلته ممكنًا، كما يلي:
  • الحدث الأول هو كتاب الكينونة والزمان لهيدغر، بتاريخ ١٩٢٧م الذي وقَّع هدم ميتافيزيقا الذات، وتوجيه الفكر نحو سؤال الكينونة المنسي في الميتافيزيقا الغربية منذ أفلاطون. ومعنى هذا التبديل الجديد: الاستغناء عن مفهوم الإنسان بوصفه ماهية ميتافيزيقية لاهوتية على أحسن صورة، وعن مفهوم الذات بما هي «عارفة بالعالم، وسيدة على الطبيعة»، بمفهوم «الدزاين» أو الكائن هناك القادر على التساؤل عن معنى الكينونة الخاص به، فالإنسان ها هنا لن تُقال على ماهية لاهوتية جاهزة، بل على كل كائن حوَّل نمط كينونته إلى أفق للتساؤل عن معنى الكينونة نفسها. وكل من لا يقتدر على اتخاذ السؤال عن المعنى باحة لوجوده لن يكون غير نوع من «الهُم» قبل الفلسفة.
  • الحدث الثاني: أطروحة موت الإنسان التي أعلن عنها ميشال فوكو في نهاية كتاب الكلمات والأشياء سنة ١٩٦٦م، قائلًا: «إن الإنسان اختراع تُظهِر أركيولوجيا فكرنا بسهولةٍ حداثةَ عهده، وربما نهايته القريبة. ويمكن الرهان أن الإنسان سوف يندثر مثل وجه من الرمل مرسوم على حد البحر.»
  • الحدث الثالث: نهاية عصر الكتاب، والدخول في عصر الكتابة (وهو عنوان الفصل الأول) من كتاب الغراماتولوجيا لدريدا، بتاريخ ١٩٦٧م.

  • الحدث الرابع: «موت الكاتب»، وهو عنوان نص لرولان بارط، ١٩٦٨م.

  • الحدث الخامس: ولادة براديغم الاختلاف مع دولوز في كتاب الاختلاف والمعاودة، بتاريخ ١٩٦٨م، وهو ما جعل ممكنًا أيضًا ولادة أشكال جديدة من الذاتيات، من قبيل «اللاشخصي» و«أوديب المضاد» (دولوز وغاتاري، ضمن كتابَي «أوديب المضاد»، ١٩٧٢م، و«ألف مسطح»، ١٩٨٠م)، ثم الجموع (نيغري)، والفلانيون (رانسيير وأغمبان).
  • الحدث السادس: الإعلان عن نهاية السرديات الكبرى مع ليوتار، بتاريخ ١٩٧٩م.

(٢) مسرح القساوة

أنطونيو أرتو هو من وقَّع ثورة في المسرح المعاصر، بأن قطع مع الدراما بالقساوة. أية مسافة قطعها من أجل تكنيس سلطة الكاتب والنص الجاهز والممثل كوسيلة لمحاكاة النص؟ هي المسافة بين الدراما بما هي قصة وأبطال وحوارات، ومسرح القساوة بوصفه يولَد من الصراخ. إنه أنطونيو أرتو، الكاتب والمسرحي والرسام والشاعر، الذي قضى حياته بين الكتابة والحجز في المصحة العقلية، هو أرتو الذي كتب عنه دريدا قائلًا: «من يسمع صوت أرتو لن يكون بمستطاعه إسكاته.» وهو أيضًا أرتو الشرقي الذي يعود بنا إلى الشرق القديم من أجل مسرح قادر على الرقص وعلى الحلم، وعلى مصالحتنا بأجسادنا وأرواحنا معًا.

سأشتغل إذن على مسرح القساوة لأرتو، بوصفه أكبر فكرة مسرحية قد وقَّعت ثورة على الكتابة المسرحية، وأنجزت قطيعة حاسمة مع المسرح الدرامي البرجوازي، الذي يفترض قصة وأبطالًا وحوارًا بين ذوات على الركح، انطلاقًا من محاكاتهم لنص جاهز مكتوب سلفًا. هذا المسرح السيكولوجي الدرامي انطلق منذ القرن ١٧ مع موليار (١٦٢٢–١٦٧٣م)، وديدرو (١٧١٣–١٧٨٤م)، ثم مع أراغون (١٨٩٧–١٩٨٢م).

ولقد مثَّل مسرح القساوة بالنسبة إلى فلاسفة الاختلاف حدثًا كبيرًا لاختراع ضرب جديد لا من المسرح فقط، بل ومن التفلسف أيضًا. حيث مثَّل جنون أرتو حدثًا عميقًا جعل فوكو يتبنى فكرة الجنون كإحداثية فلسفية قادرة على التأريخ للعقل الغربي، القائم على مراقبة الأجساد وحجزها ومعاقبتها والتسلط عليها (وذلك انطلاقًا من كتابه تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، بتاريخ ١٩٦١م). وإضافةً إلى فوكو، اعتبر دريدا مسرح القساوة لأرتو توقيعًا لنهاية مسرح التمثيل، بحيث وقع، وفق عبارات دريدا، «طرد الإله من الركح»، وتحرير المسرح من لاهوت العلامة، ومن غطرسة الكلام، وهيمنة اللوغوس الغربي، مثلما اعتبر دولوز مسرح القساوة خطوط إفلات من الفضاءات المخددة بأجهزة الدولة، واقتنص أهم مفاهيم أرتو كي ينجز مع غاتاري «أوديب المضاد» على تصور جديد للجسد بوصفه «جسدًا بلا أعضاء»، مكنات رغبة ضد جهاز الدولة.

(٣) ما هو مسرح القساوة؟

يظهر هذا المفهوم ضمن نص لأرتو تحت عنوان «المسرح وشبيهه»، بتاريخ ١٩٣٨م. ويجد عبارته التامة تحت قلم أرتو فيما يلي: «علينا أن ننتهي من المسرح السيكولوجي، من دكتاتورية النص، من الفصل بين المتفرج والفرجة؛ وذلك من أجل أن نلتقي بالمصادر السحرية للمسرح المقدس، أي: المسرح الشعري والموسيقي والتشكيلي للفضاء.»١ يقوم هذا المسرح إذن على زحزحة الكلمة وتعويضها بالصراخ. إنه مسرح الجسد قبل أن يصير كائنًا عضويًّا وقَّعه النحو ولاهوت العلامة، الجسد ها هنا بما هو لحم، هو هذا الشبيه، هذا الوجود المضاعف، مادة لزجة بلا شكل، شبح الروح والجسم معًا، هو مسرح الأجساد بوصفها أصواتًا وحركات وإشارات وأفكارًا معًا. مسرح يخترع لغة جديدة ضد سلطة الكلمة، وسلطة النص المكتوب، وسلطة الكاتب، لغة جسدية لحمية مسكونة بقساوة الحياة وشهوتها معًا، فالقساوة ها هنا مؤلمة لكن بدون دماء، هي قساوة الحياة نفسها وهي تصيح عاليًا على لسان أرتو أن الكلمة الأخيرة حول الإنسان لم تُقل بعدُ، وأن المسرح لم يُجعل أبدًا كي يصف لنا الإنسان وما يفعل، إن المسرح مطالَب بأن يعيد إلينا كل ما يوجَد في الحب وفي الحرب، وفي الجنون أيضًا.٢

يفترض مسرح القساوة لأرتو ضربًا من الميتافيزيقا العميقة التي استلهمها من الديانات الشرقية القديمة، ومن العودة إلى نوع من الروحنة الغنوصية والصوفية والسحرية، إضافةً إلى قراءات فلسفية لنصوص نيتشه وهيدغر بخاصة. ويمكن القول إن مسرح القساوة، الذي هيأ عميقًا للمسرح ما بعد الدرامي، قد قام على ميتافيزيقا العودة إلى «ما قبل» رمزية جدًّا، هي ما قبل اللغة، وما قبل الجسم ككائن عضوي تحت سطوة لاهوت الكلام، وما قبل الدين كمؤسسة لمراقبة الأجساد والتحكم بها. هو مسرح لاختراع الروح فيما أبعد من دراما الديني. كيف تم التنضيد لهذه الروحنة ما بعد الدينية؟

علينا أن نشير بدءًا إلى أنه لا يمكن فهم مسرح القساوة لأرتو خارج تأثره العميق بنيتشه أولًا، وبهيدغر ثانيًا. ويُعتبر نيتشه هو أهم فيلسوف تأثر به أرتو؛ إذ هو قد قرأ له كتاب مولد التراجيديا (١٨٧٢م)، وهو الكتاب الذي يعود فيه نيتشه إلى روح التراجيديا تحت راية ديونيزوس رب الخمرة والموسيقى. أما عن هيدغر فقد اعتبره أرتو من أكثر الفلاسفة جدية، وقد قرأ له نص «ما هي الميتافيزيقا؟» (١٩٢٩م)، في ترجمة غير كاملة لهنري كوربان، إلى جانب مقاطع من الكينونة والزمان، المنشورة بتاريخ ١٩٣١م، ومحاضرة هيدغر حول هولدرلين، بتاريخ ١٩٣٨م.

وضمن نفس الأفق الذي أسَّسه نيتشه، يَعتبر هيدغر أن الإغريق ما قبل سقراط هم أول من أنجز البداية الأولى للحضارة الغربية. ويقترح هيدغر ضربًا من العودة إلى هذا التاريخ لنسيان سؤال الكينونة، من أجل استئنافه على نحو مضاد للميتافيزيقا الغربية، التي قامت على تصور أداتي للوجود منذ التمييز الديكارتي بين الوجود والموجود، تحت راية السيطرة على الطبيعة. ويَعتبر أرتو، في نفس الخط الذي افترعه هيدغر، أن هذه المادية الديكارتية هي أصل فساد الثقافة الغربية. ومن ثمة يقترح ضرورة العودة إلى التصوف الشرقي والديانات القديمة في أفق الثورة السريالية، وهو ما يقتضي تنشيط ضرب جديد من الميتافيزيقا المضادة للميتافيزيقا الكلاسيكية الغربية، القائمة على ثنائيات الذات والموضوع، الجسد والنفس، الفكر واللغة، المادية والمثالية، وعليه يتعلق الأمر لدى أرتو بمسرح يقع تأسيسه على ضرب من المخيال الغنوصي الذي يمنح معنًى للقساوة الكسمولوجية. وهنا علينا الإشارة إلى أن مسرح القساوة لأرتو إنما ينضوي تحت راية ضرب من الهرطقة الغنوصية التي سادت شرق المتوسط في القرنين الثالث والرابع للميلاد، وهي هرطقة جمعت بين الفلسفة والمسيحية، وتقوم على فكرة أن العالم سيئ على نحو جذري، وأن النفس ضحية قوًى شيطانية في عالم محروم من التدخل الإلهي. أما بالنسبة إلى أرتو، فإن أكبر تجربة قساوة تكمن في هذا التحول من الوحدة اللاواعية إلى الفرد الواعي، وأن الإنسان الذي وقع إخضاعه إلى هذا النوع من «الخبث الأصلي»، عليه أن يعيش هذه القساوة، وأن يصعِّدها على المسرح. ولقد اعتبر أرتو أنه إذا كان ثمة «قفزة ما فيما أبعد من هذه الكارثة فهي موكولة بيد المسرح الذي يعود إليه إنجاز العلامة الشعرية والسحرية لهذه القفزة عبر صوره وأشكاله». وفي هذا المعنى ذهب دريدا إلى أن أرتو يعتقد في أنه قد تمت سرقة جسده منه منذ صرخته الأولى، وأن المسرح الدرامي قد واصل هذه السرقة لجسد الممثل ولصوته، بل لقد فُصل صوته عن جسده؛ لذلك فإن مسرح القساوة يقتضي اختراق هذا الفصل، وتمزيق ركح التمثيل من أجل طرد العلامات، ورفض خطاب الهيمنة على الجسد إلى حد تحويل الركح إلى إمكانية اختراع مكان قبل الولادة، لغة قبل الجسم، هي بتعبير أرتو «لغة لم نعثر بعدُ على نحوها الخاص»، أي: لغة قبل كل أشكال السطو الغربي على الجسد.

وخلاصة القول أن مسرح القساوة، الذي استشرف على كل شروط إمكان الكتابة المسرحية ما بعد الدرامية، لا يمكن أن يُؤوَّل خارج هذا الانبهار الكبير لأرتو بالثقافات الشرقية والبدائية والمكسيكية، بحيث ينخرط هذا المسرح ضمن النقد الجذري للحداثة، والدعوة إلى العودة إلى ثقافات الشرق. يكتب أرتو ما يلي: «نحن أناس الغرب، نحن الأبناء الجديرون بهذه الأم الحمقاء، ما دام المتحضرون بالنسبة إلينا هم نحن أنفسنا، وأن كل ما تبقَّى، أولئك الذين يمنحوننا مقياسًا لجهلنا، إنما يتماهَون مع البربرية. ورغم ذلك، علينا أن نقول إن كل الأفكار التي خوَّلت للعالَمَين اليوناني والروماني بعدم الموت الفردي، بعدم السقوط في البهيمية العمياء؛ قد جاءتنا حقًّا من هذه الحاشية البربرية، وأن الشرق، بعيدًا عن كونه قد أتانا بأمراضه وقلقه، قد سمح بالحفاظ على علاقة مع التراث.»

(٤) أرتو وبراشت، ورهانات المسرح الجديد

يشترك براشت مسرحيًّا مع أرتو في هذا الأفق الروحاني المضاد للحداثة؛ ففي نص له بتاريخ ١٩٢٩م (المسرح الملحمي) يكتب براشت إن «المسرح له مفعول روحاني، احتفالي وطقوسي.» وفي هذا المعنى يشترك أرتو وبراشت في اعتراضهما التام مع المسرح السيكولوجي، بحيث يقع استبدال الروحنة ضد السيكولوجيا، والاحتفال والطقوس ضد التعبير الفردي، والمسرح القائم على الحركة ضد المسرح القائم على الكلام، أي: الحركات بدلًا عن المحاورات.

وهنا علينا أن نشير أيضًا إلى أن هذا المسرح الحركي هو مسرح مضاد للدراما الحوارية بين ذوات واعية، ها هنا يقع التركيز على الجسد بدلًا عن الذات. لكن ما الذي يستطيعه الجسد؟ وعلى أي جسد نحن قادرون؟ يجيب أرتو أن «الإنسان مريض لأنه قد صُمم على نحو سيئ، وحينما نجعل له جسدًا بلا أعضاء سنحرره من هذه السلوكات الآلية، وسنحوِّله إلى جسد راقص.» مضيفًا أن «الجسد هو الجسد، ولا يحتاج إلى أعضاء. الكائنات العضوية عدوة الجسد»، وهو معنى تحرير الجسد من هيمنة النصوص السابقة عليه، المقصود الجسد الذي يولَد على الركح راقصًا، من أجل أن يشوِّش نظام الجسد كمؤسسة خطابية وانضباطية ولاهوتية. وهنا يختلف براشت عن أرتو؛ فهو يعبر عن هذا الجسد فوق المسرح قائلًا: «تسللْ تحت إنسانك واستقر مطمئنًّا، حاول أن تحس بجلده وكيف يتفاعل مع لطائف الهواء، اختبِر أحشاءه، وامتحِن ما بوسع قلبه أن يتحمل.» في مقابل ذلك يقر أرتو بالتمزق بين الجسد والشبيه، بالشبح الذي يصرخ بصوت المومياء: «لا حياتي قد اكتملت، ولا موتي قد أُجهضَ تمامًا؛ لأن الموت لم يعد يشغلني»، وذلك يعني أن الأجساد التي تظهر على الركح سرعان ما تتحول، بحسب عبارة لبريشت، إلى «أشباح تطارد أشباح الواقع الزائف من أجل إظهار الواقع الحقيقي». فما يسميهم المسرح الدرامي «الممثلين» إنما يتحولون في مسرح القساوة إلى منطقة أبعد من الدراما، حيث تولَد الحياة من جديد في منطقة بين بين، بين الحلم والواقع، حيث يعود الإنسان مضاعَفًا دومًا بشبيه، معلَّقًا دومًا بين الجسد والفكر.

لكنْ أيُّ نوع من الرسالة يراهن عليها هذا المسرح؟ أرتو يجيب: خلق الفراغ، ويكتب قائلًا: «إن كل شعور قوي إنما يخلق فينا فكرة الفراغ، وإن اللغة الواضحة التي تمنع الفراغ، تمنع أيضًا ظهور الشعر في الفكر.»

وهو نفس ما يردده بعده برشت: «إن المسحوق ينبغي أن يفرغ الوجه لا أن يملأه.» هكذا إذن يهدف المسرح إلى إفراغ الأشياء والأشكال من أجل الكشف عن بداهتها، حيث يُقر براشت ما يلي: «من الفراغ، من هذا اللون الأبيض الذي يَسِم الخوف والموت؛ يتعلم الناس.»

خاتمة

لقد مثَّل مسرح القساوة لأرتو الشكل الأصلي من المسرح ما بعد الدرامي الذي وقَّعه الناقد الألماني هانس ثيس لهمان بتاريخ ١٩٩٩م. غير أن المسافة الفاصلة بين مسرح أرتو ومسرح ما بعد الدراما قد نجحت إلى حد كبير في إخفاء كمية المخزون الميتافيزيقي الذي أودعه أرتو في ركح القساوة؛ ذلك أنه ثمة دومًا ميتافيزيقا عميقة تدير شأن سياسات المعاني، ونظام جولانها ضمن الأفق الكبير لعصر ما. وإن هذا الانتماء الجمالي والفلسفي العام إلى باحة اﻟ «ما بعد» إنما جاء من مخاضات رمزية متوعرة، من تحرير الجسد والفكر من أشكال السطو اللاهوتية والسياسية عليه، مثَّل أرتو أهم حلقة مسرحية فيها. غير أن هذا اﻟ «ما بعد»، وإن كان مُغريًا بوعوده، قد يكون مخيفًا بمساحة اللامتوقع اللامتناهية التي يخفيها. وقد يعيدنا إلى أشكال من اﻟ «ما قبل» (يوناني، شرقي، بدائي، غنوصي، أو تصوفي، أو سحري، أو وثني) التي قد لا تعود وإلا وهي تجرجر في خطاها عوالم لم تعد مناسبة للانتماء إلى المستقبل. لكن مَن بمستطاعه تملُّك وجهة المستقبل؟ ربما حسبنا فقط أن نواصل التقدم على إيقاع الكارثة (بعبارة لبنيامين)، أو أن نخترع أقاليم وجودية مغايرة صالحة للسكن (بعبارة غاتاري)، أو أن نترحَّل وفق خطوط إفلات وفضاءات فنية صقيلة، لكن حذارِ! سيبقى هذا الترحال محفوفًا بالخطر؛ لأنك قد تلتقي على نفس خط الإفلات بمن ترغب في الإفلات منه؛ خطوط فاشية أو أصولية أو نازية، أجندات ولوبيات، هل نقول إذن مثلما قال هيدغر ذات مقابلة: «وحده الله بوسعه أن ينقذنا»، أم نقول مع دولوز: «لا ينبغي أبدًا أن نعتقد أن فضاء صقيلًا بوسعه أن ينقذنا»؟!

١  Antonin Artaud, Le théatre et son double, Paris, Folio essai, pp. 137-138.
٢  Ibid., p. 132.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤