الكهول والشباب

أما لو يفيد العتب لارتاح عاتبهْ
دعوهُ فهذا البرق لا بدَّ كاذبه
قلوبكمُ هامت كما هام قلبهُ
وأمس طلبتم ما هو اليوم طالبهْ
فلا تحسبوهُ خاسرًا ليس خاسرًا
تجاربكم زالت وهذي تجاربهْ
لهُ مثلهُ في أُنسهِ ونفارهِ
يراضيه أيامًا وأُخرى يغاضبهْ
بأَية عين أم لأَية زلة
نراقبهُ في حبهِ ونحاسبهْ
ألا إنهُ سهم أصاب فؤَادهُ
وكل فؤاد ذلك السهم صائبهْ
تذكرت ريعان الشباب الذي مضى
فأحزنني أن لن تعود أطايبهْ
لقد كنت أقضي ليلتي في حديثهِ
يسائلني عن حبهِ فأجاوبهْ
سمعت بنات الورق تشدو ضحية
فقلت اسمعوا، هذي الطيور تخاطبهْ
لها مهج فيها هوًى تحتهُ لظًى
فإما سرت ريح توقد لاهبهْ
أرى اليأس أدنى للشفاءِ من الرجا
إذا عز مطلوب سلا عنهُ طالبهْ
وكم من جوى مستكمن في جوانح
أهاب بهِ لوم فجاشت غواربهْ

عصرنا عصر الشباب، دالت دولة الكهول ومضت تتعثر بأذيال جدودها المولية، فويل للعابد في صومعته وويل للواعظ في بهرة حلقتهِ. وبعد، فما هنالك إلَّا كما قال ابن بحر: شق مائل، ولعاب سائل. وهذا أوان التجديد. لكل سؤْدد فيه سبيل: السابحات في البحار والمحلقات في السماء. وناقلات الأصوات بين متباعدات الفجاج. فمن كان لهُ فوق هامات النجوم مطلب سما إليهِ، ومن كان لهُ تحت مركز الأرض مرام هبط عليهِ. أهلًا بك يا أبا العشرين ومبتدأ الحق ومستهل المجد.

قال لي قائل: كل هذه زخارف باطلة، تأْتي فتستضحك وتولي فتستبكي، ولقد كنا أسعد منكم حالًا وأهدأ بالًا؛ كان يخرج الواحد منا في جماعة من أصحابه، يتقدمهم الخدم بأيديهم الفوانيس، وفي يدهِ عصاهُ مذهبة القبضة مفضضة الكعب، كأنها قضيب الملك، فيغشى دار صاحب لهُ، رحبة القاعات، على حيطانها التصاوير، وأمامهم فوَّارة يرى ماؤُها كرمح من البلور، فإذا جلس في صحبهِ، جيءَ لهُ بالشبكات مملوءة من التبغ بكل زكي الرائحة كالعنبر؛ فمن صوري ومن كوراني ومن جبلي. وتُدار عليهم القهوة في أباريق من الفضة، وطاسات مثلها ممزوجة عنبرًا. يوقد لهم العود فيفوح عبيرهُ، وتعبق بهِ جسومهم. كذا يقضون أوقاتهم مستمعين سير الأولين ممن اتقَوا وعملوا صالحًا، وأنتم يا أبناءَ الجدة ما تصنعون؟ تتوافدون إلى الحانات والنوادي، فتنغمسون في الملاهي وتذهلون عن مشاغلكم بلذاتكم، وتفخرون بعد ذلك علينا بهذه الجبال الحديدية التي تدب فوق أرضكم، وتهز أركان بيوتكم، تحسبونها تغنيكم ولن تغنيكم شيئًا.

قلت: على رِسلك أيها الشيخ، أنت تنظر ولا ترى، كنت أحسبك في بعدك أعقل منك في قربك، فأي فخر تريد أن تجاذبنا طرفيه، وأي مجد سبقتنا في لداتك إليهِ وقصرنا عن مباراتكم فيه؟ تلك المجالس التي حفلت بكم أخلت أمثالها من ورثتكم، فلا تلومونا ولا نلمكم. كل عصر لهُ دولتهُ ورجالهُ، فإن ساءَتكم هذه الركائب الحديدية، فما زالت العيس تستولد، وإن راعكم ما ترون من زخرف، فما خلق الله الجفون إلَّا لتغمض دون ما تكره وتفتح لما تحب، ونحن وإن كثرت في قلوبنا شواغلها لا نزال نطلب لكم من الحياة المزيد ومن السعد المستمر، ولكنكم تنظرون ما لنا فتودون لو يكون لكم، وتحسون ما بكم فتتمنون لو يصبح بنا، وفي التمني من البطل ما ينسي فضل تسليتهِ الحزين.

هذا ما بيننا وبين أهل القرون الأولى، وإنْ أنا إلَّا من تابعيهم، فإذا لم يكن ابن الستين كهلًا يكون ماذا؟ غير أني من أوائل من فتحوا باب الجدة لأهل النشأة المحدثة، فسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًّا.

هاتوا رجلًا ممن سكنوا البادية واجعلوهُ في قصر الإليزه، ودعوهُ حتى يسكن روعهُ وتثوب إليهِ نفسهُ، ثم سلوه ماذا يرى؟ ثقوا أنهُ لا يجد من الدعة ما يجد في بيت من الشعر، فإذا دنت منهُ إحدى عقائل باريس في حسن منظرها، وكأنها الطيف لطفًا والأمل بهجة، قال لها: أنت فداءُ سليمى في برقعها وفي خمارها، تجرر نصيفها وتتهادى في دمالجها وخلاخلها وأساورها.

للنعيم قلوب وللشظف قلوب، وليس للحسن شكل معروف ولا هيأَة خاصة ولا حال مستقلة بهِ، لكل ذوق حُسْن ولكل حسن ذوق، وإنما أريد أن آتي في هذه السطور بعبرة أحب أن يحتفظ بها من اعتبر، فإن من أشد الظلم أن يتحكم الوالد في ابنهِ، وأن يربيهُ على قديم زمانهِ، ويأْبى أن يجهزهُ لجديده، وقد فاتهُ أنهُ يظلم ابنهُ ويظلم من خُلِق ليعاشرهم، والأخلاق والعادات كالملابس والأزياء، فإذا سمج بابن العصر الجديد أن يرتدي أردية أهل الوبر، فكيف يجمل بهِ أن يعيش بعقولهم؟

كان لي صديق استحدثتهُ في إحدى ولايات الأناضول، خُلق ذكيًّا وترك لذكائهِ الذي خُلق معهُ فلم يزد عليهِ شيئًا، كان إذا وُصِفت لهُ عواصم أوروبا؛ كلندن وباريس ونيويورك وبرلين وغيرها، وذُكِر لديهِ ما بها من معجزات الحضارة وعجائبها؛ فترت نواجذهُ ضحكًا، وظن ما قيل لهُ مبالغة وغلوًّا، وطالما رد على من يخبرونهُ بتلك الأخبار بأنها مخترعة لا حقيقة لها ولا أثر، وكان لصديقي هذا ولد هو أكبر أولاده يحبهُ ويدلِّـله، ولقد أدى بهِ فرط الدلال إلى ترك المدرسة، فذهب إلى إحدى دوائر الحكومة وطلب قبولهُ فيها ريثما يتعود أعمالها، فقبلوهُ، ولما اتصل ذلك بأبيهِ طابت لهُ نفسهُ وقرت عينهُ وجاءَ يسأَلني رأْيي في ذلك.

فقلت لهُ: ابنك أساءَ وأنت جاريته فيما أساءَ.

قال: ولِم ذلك؟ والآن لا أخاف عليهِ الحاجة، وما أمامه إلَّا سلم الارتقاء يقطع درجاته، ولا يلبث أن يصبح من الوزراءِ أو الأمراء، ولنا أراض كثيرة جمٌّ خصبُها غزير ماؤها، غدًا تفيض خيراتها عليهِ وعلى إخوتهِ.

قلت: هذا لا يُركن إليه، ولبيت من ورق اللعب أحكم منهُ أسَّا وأبقى على مر الحدثان، وقلت: الثراءُ والجاه وكل شيءٍ في ساعة يقضيها أمام الأستاذ.

قال: ها أنت موجود. علمهُ اللغة العربية وحفظهُ أخبار الأوائل، وروِّه الشعر وهذا يكفيه.

قلت: كيف تريد أن يتعلم العربية بعد هذا العمر؟ وأنا لا أدعي العلم بها وقد تجاوزت الستين! وهب أنهُ فاق فيها الأوائل والأواخر أيكون ذلك مغنيًا لهُ عن سواهُ؟ روِّض بالعلوم العصرية نفسهُ وذوِّقهُ طعم الحضارة، ومِلْ بهِ عن هذه العادات والنحل. فأصر الوالد على عناده وترك ولدهُ وشأْنهُ؛ فكان يمشي في المدينة حاملًا مسدسهُ مَعُوجًا طربوشهُ مشيرًا بذراعيهِ.

فلما نال العثمانيون الدستور وذهب زمان الاستبداد، قابل جماعة من رجال الأمن ابن ذلك الصديق ليلًا وهو يتمايل سكرًا، فأرادوا أخذهُ إلى منزل أبيهِ، فأجابهم برميات من مسدسهِ جرحت أحد أولئك الرجال وكادت تذهب بحياته، فأُخذ إلى السجن قسرًا ولم يرضَ أن يؤْخذ إلى دار أبيهِ طوعًا، وانطلق أبوهُ يرجو الناس أن يفكوا لهُ ابنهُ من وثاقهِ، فلم يُجْدِ الرجاءُ، فلما استوفى مدتهُ خرج صاغرًا ممتهَنًا، فتوعد أباهُ بالقتل إن لم يعطهِ ما يريد من المال، وبقي أبوهُ في بيتهِ لا يُوطأ لهُ بساط، ولا يُقرع باب، ولقد رآهُ بعض الناس ذات يوم ماشيًا على قدميهِ وفي يدهِ عريضة يطلب فيها إلى الحكومة أن تقيلهُ من بعض ما لها عليه من المال، فقال لهُ من التقى بهِ: أين العربة يا سعادة الأمير؟ كيف يخرج مثلك ماشيًا في هذا الوحل تحت هذه الأمطار؟

– العربة باعها ابني ورهن ضياعي وهرب وتركني، لا أدري أيًّا عصفت بهِ الرياح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤