إمارة معز السلطنة سردار أرفع

ما كادت تغمض عينا المرحوم المبرور ساكن الجنان الشيخ مزعل خان منتقِلًا لرحمة ربه سنة ١٣١٥ حتى سار سُرَاة العائلة النبيلة الجاسبية وشيوخ القبائل ورؤسائها إلى سراي الشيخ خزعل خان، مُجْمِعين على بيعته، منادين بإمارته، منشدين: فليعش الشيخ خزعل خان. وكان إجماعهم هذا دليلًا بيِّنًا على تعلُّق أهالي عربستان بعظمته وحبهم لشخصه المحبوب وتقديرهم لقدره الرفيع، وجعلوا يهنِّئون أنفسهم بإمارته مستبشرين بالإقبال المنتظَر لها، وقد كانوا عند ظنهم بعظمته، فما خاب لهم أمل، وبلغوا أقصى آمالهم بفضله على عجل.

وكان يوم جلوس عظمته الملوكية على عرش إمارة عربستان نيروزًا عظيمًا وعيدًا بهيجًا، اشترك في أفراحه أهالي عربستان وما جاورها من القرى والبلدان، وأُقيمت الزينات في كل مكان، وأقبل رؤساء العشائر إلى المحمرة مبايعين مهنِّئين. وجرَت حفلة الجلوس بمنتهى الحفاوة والإجلال، وذُبِحَت الذبائح وتوزَّعت الهِبَات، وجرت الألعاب والمسابقات، وما كانت تقع عين الناظر إلا على مسرور مستبشر ومتفائل يبشر بالخير.

وما انتهت بشرى جلوس عظمته المأنوس إلى مسامع أهالي البصرة والعمارة والنجف الأشرف وكربلاء وبغداد حتى عمَّتهم الأفراح والمسرَّات؛ لأن شهرة عظمته كانت تملأ سمعهم، وحمد آلائه الحميدة كان على ألسنتهم في مجالسهم، فأسرعوا بإرسال رسائل التهاني البريدية والبرقية، كما أسرع وفودهم إلى المحمرة لتهنئة عظمته، وتبارى شعراء العراق في تهنئة عظمته ما لو جُمِع لكان ديوانًا عظيمًا. وكان في مقدِّمة المهنِّئين ساكن الجنان المرحوم الشيخ مبارك الصباح أمير الكويت السابق الذائع الشهرة، رحمه الله، حيث أسرع إلى المحمرة لتهنئة عظمة أخيه وابن أخيه بإمارته، إذ أن العلائق الودِّية بين إمارتَي الكويت والمحمرة كانت وثيقة العُرَى من عهد ساكنَي الجنان الشيخ جابر الصباح ونصرة الملك الحاج جابر خان، فورثها شيخَا العراق العظيمان عن أبويهما ودعماها مع الأيام حتى أصبحا روحًا في جسدين. ألا رحم الله الشيخ مبارك الصباح فقيد العرب والإسلام، وأمدَّ الأمة العربية بطول بقاء عظمة مولانا السردار أرفع مظهرًا للسؤدد والإعظام، فإنه سبحانه قد أجمل لنا العزاء بهذا المليك المقدام.

figure
فليَحْيَ السردار أرفع، ولتَحْيَ عربستان بظلِّ عَلَمِه المنصور، أهالي عربستان يحتفلون بجلوس عظمة السردار أرفع.

وعندما انتهى لمسامع ساكن الجنان مظفر الدين خان، شاه إيران الأسبق، نبأ وفاة المرحوم المبرور الشيخ مزعل خان وتولِّي عظمة الشيخ خزعل خان عرش الإمارة، أسرع، رحمه الله تعالى، بإصدار فرمانه الشاهاني بولايته، وأنعم على عظمته الملوكية بلقب معزِّ السلطنة، وهو أفخم الألقاب الإيرانية، ورتبة «سردار أرفع»، وهي أعظم الرتب العسكرية الفارسية، وأهداه مع الفرمان سيفًا مُرصَّعًا بالجواهر الثمينة ووسام شير وخورشيد «الأسد والشمس» من الطبقة الأولى، وأرسل الفرمان مع الوسام والسيف مع وفد مخصوص، فكان لاستقباله وتلاوة الفرمان الشاهاني حفلات حافلة لا يزال يذكرها بالإعجاب أهالي العراق.

أعمال عظمته في إمارته

كانت إمارة عربستان قبل ولاية عظمة السردار أرفع، حفظه الله، ضيِّقة النطاق، وكان موقفها مضطرِبًا لتفرُّق كلمة العشائر وتعديَّات الأتراك والبختياريين المتوالية على حدودها، فشمَّر عظمة الشيخ المعز عن ساعد الجد مستعينًا بذكائه وحزمه ودهائه وكياسته وحسن عزيمته على إخضاع القبائل الناشزة على عرشه وردِّ غارات المغيرين على حدود بلاده، وكان النصر ملازمه والتوفيق مصاحبه في المجهودات التي بذلها في سبيل صيانة إمارته من مطامع الطامعين ومفاسد المفسدين، وانصرف بعد هذا إلى تنظيم جيوشه وتوفير قوتها، فكان له ما أراد. وعمل بعد هذا على تعمير إمارته وتوفير الراحة والأمان فيها، وإعداد مُعِدَّات الإثراء لأهلها، فعمل كثيرًا وكان الخير به وفيرًا.

كان عظمة مولانا السردار أرفع، أعزَّ الله به العرب والإسلام، يؤلِّف بين قلوب رؤساء العشائر، ويعمل على توحيد كلمتهم، وينزع ما في صدورهم من غل وحقد بحكمته ودهائه، على أنه كان يستعمل الشدة أيضًا فيمن لا ينفع معه اللين، ويجرِّد السيوف في وجوه الذين لا يؤثِّر عليهم المعروف. وما زال كذلك حتى دانت القبائل لرايته واجتمع رؤساؤها تحت لوائه، وطالما قال لي هؤلاء الرؤساء: لولا السردار أرفع لأفنينا بعضنا بعضًا وحُرِمنا ما نحن فيه من خير وفير وعيش نضير، وهو معروف يتحدثون به وميرة يشكرون عليها بيض أياديه، وتحملهم على دوام الإخلاص لعرشه الرفيع.

وتمكَّن عظمة السردار أيَّده الله بعد زمنٍ يسير من إيقاف الأتراك عند حدهم، فجعلوا يحترمون إمارته، وما عادوا يجرءون على الاعتداء عليها أو تحدِّثهم أنفسهم بالتغلب عليها، وبذلك سلمت حدود عربستان من مواقع كانت متصلة مضرَّة بأهالي الإمارة وبولاية البصرة أيضًا.

وبطش عظمة السردار المنصور بالبختياريين غير مرة، وأوقفهم عند حدهم، وأدَّبهم تأديبًا، فلم يعودوا يجرءون على التحرش بحدود إمارته العليا أو الظهور بالعدوان له.

وقصارى القول أن إمارة عربستان بلغت على عهد عظمته من القوة والمنعة واتِّساع الحدود درجةً لم تكن لها من قبلُ، فبات رؤساء العشائر يحترمون أميرهم ويهابونه، وجيران الإمارة يحترمونها ويهابونها.

ثمَّ عكف عظمة السردار أرفع على إمارته العلية، فنظم المحمرة حاضرة إمارته على ما تقدَّمت الإشارة، وفتح فيها المدارس والكتاتيب لنشر العلم، وسهَّل على التجار متاجرهم، وأعفاهم من الضرائب التي تُضرَب على إخوانهم في تركيا وإيران، وسهر على دفع الحقوق سهرًا خاصًّا، فنَمَت التجارة في حاضرته، وكثُر عدد التجار، وساعدوا الأهلين في نقل محصولاتهم إلى أوروبا، فنمت الزراعة أيضًا، وبين الزراعة والتجارة نمت ثروة البلاد نموًّا عظيمًا، فبات أهالي عربستان أرفَهَ حالًا وأسعد معاشًا وأوفر يسارًا من إخوانهم أهالي القبائل الضاربة فيما حولهم من أراضي تركيا وإيران.

ومما يُذكَر أن أراضي عربستان كلها مغروسة وغير مغروسة هي ملك خاص لعظمة السردار أرفع بموجب الفرامين الشاهانية التي أُعطيَت لعظمته، ولساكنَي الجنان أبيه وأخيه، على أن عظمة السردار أرفع، حفظه الله، أطلق فيها أيدي رعاياه يزرعونها ويستغلُّونها لقاء جُعْلٍ زهيد يتقاضاه منهم هو دون العُشر الذي تأخذه الحكومات، وقد عرف الرعايا هذه الرحمة لعظمته أعزَّ الله ملكه ولذلك تراهم يسبِّحون بحمده بُكرةً وعشية.

وحسن لعظمة السردار أرفع زراعة القطن في إمارته العامرة، فاستحضر من مصر عددًا من الزُّرَّاع، وابتاع مقدارًا من بذرة القطن المصري من محل بلانتا بمصر، وذلك في سنة ١٩١٣، وجرَّب زراعة القطن، فأتت التجربة بنجاح يحقق نظرية المهندس العظيم ويلكوكس بصلاحية أراضي العراق لزراعة القطن المصري العال، على أن هذه الحرب العامة حالت دون استئناف العمل للاستفادة من زراعته.

كما أن في عزيمة عظمته، حفظه الله، تجربة تربية دود الحرير وزراعة التوت في أراضيه الواسعة، وقد بحث في هذا الأمر وحالت الحرب دون مباشرته له.

وعلى هذا فالمنتظر أن يكون وارد القطن والحرير في إمارة عربستان العامرة أضعاف واردات البلح الذي عليه معظم معوَّل الناس في محصولاتهم الآن، وهذا سيكون بفضل عناية عظمته الملوكية في ملكه العامر.

حياة عظمته السياسية

تُقسم سياسة عظمة السردار أرفع إلى داخلية وخارجية؛ أما سياسته الداخلية في إدارة شئون إمارته فمبنية على ركنَي الشورى والعدل حسب أوامر القرآن الشريف، وعظمته، على ما تقدَّم، في مقدمة المؤتمرين بأوامره والمنتهين بنواهيه؛ فتراه، خلَّد الله ملكه، لا يبتُّ أمرًا من أمور دولته إلا بعد مشورة الأكفاء من أصحابه، ولا يصدق على حكم من الأحكام التي تُرفَع إليه إلا بعد أن يطبقه على أحكام الشريعة السمحاء ويرتاح إليها ضميره الطاهر؛ ولذلك كانت رعاياه على اختلاف نِحَلهم مُصانة الحقوق مخفورة الذمم في ظلِّه الظليل، تدعو إلى الله آناء الليل وأطراف النهار بطول بقاه مصدرًا للعدل ومظهرًا للفضل.

figure
جزيرة عبادان.

ومن سياسته الداخلية خلَّد الله ملكه أنه لا يفرِّق في المعاملات والحقوق بين رعاياه العرب والفرس والهنود وغيرهم، أو الشيعة والسنة والنصارى واليهود والصابئة والوثنيين، بل الكل في أحكامه العادلة متساوون، والكل في ظله الظليل راتعون ببحابح الأمان. وقد قال لي في هذا سعادة قنصل بريطانيا العظمى في المحمرة سنة ١٩١١ ما ترجمته بالحرف: «إن عظمة السردار أرفع الشيخ خزعل خان هو الأمير الشرقي الوحيد الذي لا يعتمد في سياسة إمارته على المبدأ المعروف عند الحكام الشرقيين وهو «قسِّم تملك»، بل العكس أنه كحكَّام أوروبا الراشدين يعتمد بحكم بلاده على التأليف بين رعاياه.» ا.ﻫ. وحسبنا بهذه الشهادة دليلًا على حصافة رأي وبُعد نظر هذا الملك الحكيم.

ومن هذا القبيل سياسة عظمته مع رؤساء القبائل النازلة في إمارته، فإنه أيَّده الله يعمل دائمًا على نزع الأحقاد من صدورهم والتأليف بينهم حتى أصبحوا عصبة واحدة تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، وباتوا هم أنفسهم يعترفون كما سبقت الإشارة بفضل عنايته بهم، تلك العناية التي أزالت الأحقاد من صدورهم وجعلتهم في الله والدين والجنسية إخوانًا.

أما سياسته الخارجية فقد كانت كثيرة الاضطراب لوجوده تابعًا لسيادة الدولة الإيرانية، ولوقع بلاده وهي في جنوب إيران ضمن منطقة نفوذ الدولة الفخمة الإنكليزية، ولمجاورته للبلاد العثمانية، على أن هذه الحال أخذت بالتبدُّل بعد هذه الحرب على ما هو مُنتَظَر، فكان عظمة السردار أرفع، حفظه الله، مُحافظًا على حقوق السيادة الإيرانية، محتفِظًا بها من حيث رفع علمها وتأديتها حقوقها، وفي الوقت نفسه كان بإمارته حِصنًا حصينًا لدولة إيران أمام تهجمات الأتراك واعتدائهم المتوالي المشهور على الحدود الإيرانية، فارتاحت دولة الأكاسرة من هذه الجهة مع تعبها المتواصل من الجهات الأخرى، وبهذا تتجلى حكمة إعطاء عربستان استقلالها الداخلي.

وكان عظمة السردار أرفع مع الأتراك في ولاية البصرة دائمًا أبدًا بين دفعٍ وجذب؛ فإنهم كانوا يتحرَّشون بإمارته حسب عادتهم مع الحدود الإيرانية، كما كانوا يحاولون الاعتداء على أملاكه الكثيرة الخاصة التي يملكها في ولاية البصرة من عقار في نفس المدينة ونخيل في جوارها طمعًا بكسب المال من هذا السبيل، على أنه، حفظه الله، كان يذبُّ عن حوضه بسلاحه، ويحتفظ بإمارته وأملاكه بسؤدده وبسالة رجاله؛ ولذلك خابت آمال كل من كان يطمع فيه منهم.

وكان عظمته أعزَّ الله به العرب والإسلام ببُعد نظره وثاقب رأيه يعرف لبريطانيا العظمى جمائلها في جنوب إيران الداخل في منطقة نفوذها، وأنه لولاها لما سلِم من اعتداءات الأتراك؛ ولذلك كان دائمًا أبدًا حسن العلائق مع الدولة الإنكليزية، حتى قال لي سعادة قنصل بريطانيا العظمى في المحمرة مرة ما ترجمته بالحرف: «لو كان في أمراء جنوب إيران وعُمَّاله كثيرون كعظمة السردار أرفع لعمرت البلاد وسَعِدَ العباد.»

وكان يرى عظمة السردار أرفع المنافع الجمة الاقتصادية التي عادت على جنوب إيران بفضل عناية بريطانيا العظمى به؛ ولذلك كان بمجالسة الخاصة والعامة يعظ الناس ويحضُّهم على موالاة هذه الدولة الوفية المخلصة اغتنامًا للفوائد المادية والأدبية التي تنجم عن مُوادَّتها ومصافاتها.

وبفضل صداقة عظَمته لبريطانيا العظمى استفادت إمارة عربستان بفوائد مادية كبرى؛ فإن هذه الدولة العظيمة كانت تسهل المواصلات التجارية بين عربستان والهند ببواخرها التي تسير بين القطرين بانتظام، كما أن تجار عربستان كانوا حاصلين دائمًا أبدًا على رعاية وعناية هذه الدولة كلما قصدوا الهند.

فإذا أضفنا هذه الفوائد الاقتصادية التي غنمها أهالي عربستان بصداقة عظمة السردار أرفع لبريطانيا العظمى إلى الفوائد السياسية والمعنوية من مثل تأمين كل اعتداء على حدود عربستان — والأمان أساس الرقي والعمران — تجلَّى لنا فضل هذا الملك الحكيم على رعاياه، حفظه الله.

وفي سنة ١٩٠٩ أُعلِن الدستور في إيران، أعلنه المرحوم مظفر الدين خان، شاه إيران الأسبق. وكان عظمة السردار أرفع في مقدمة مؤيديه بدستوره، إلا أنه كان يشكُّ في نجاح الدستور في بلاد يعمُّ الجهل بين أهلها، وهم في الوقت نفسه قبائل مختلفة الأجناس واللغات، وهذا كان رأي عظمته أيضًا في الدستور العثماني الذي أُعلِن سنة ١٩٠٨، على أنه، حفظه الله، مع ذلك كله كان مؤيِّدًا لفكرة الدستور لعلمه أنها مبنية على الشورى التي أمر بها القرآن الكريم.

نصرة الملك سمو الشيخ جاسب خان، كبير أنجال عظمة السردار أرفع.
يا جاسبٌ نصرة الملك الذي ظهرت
آثار عَلياك في جاهٍ وفي كرم
أدامك الله في ظل المعز وفي
إقباله ظافِرًا في باهر النعم

على أن المرحوم مظفر الدين خان لم يكد يعلن الدستور حتى توفَّاه الله وخلفه ابنه محمد علي خان، وهذا نكث عهد أبيه ونادى بالاستبداد ثانية، وقامت الثورة في البلاد الإيرانية، فلم يسَع عظمة السردار أرفع إلى مساعدة أنصار الدستور وتأييدهم بماله ونفوذه، حتى إن البختياريين الذين هبُّوا لنصرة الدستور ودخلوا طهران عاصمة المملكة وقتئذٍ لم يستطيعوا دخولها إلا بعد أن بعث عظمته تيلغرافه الشهير إلى الشاه السابق محمد علي خان يتهدده بسوق العرب لتأييد الدستوريين فضلًا عن المال الوفير الذي أعانهم به على ثورتهم الدستورية. ومع هذا كله أبى البختياريون، الذين كانوا في دولة إيران كالاتحاديين في دولة الأتراك بخرَق السياسة، إلا الإساءة إلى هذا الأمير الجليل المحسن إليهم وطمعوا في إمارته طمع الأتراك بها. واتفق هؤلاء وهؤلاء عليه سنة ١٩١١، فردَّ الله كيدهم في نحورهم، وسلِمت الإمارة من مكرهم بحكمة عظمة الشيخ، حفظه الله وأبقاه وأكبت عِداه، وبفضل تأييد الدولة الفخمة الإنكليزية الوفية لعظمته. وكانت نتيجة هذه المؤامرة التي دبَّرها مع البختياريينَ الأحمقان سليمان نظيف والي البصرة الاتِّحادي وطلعت بك وزير الداخلية التركية اعتراف الدول الكبرى وتركيا نفسها أيضًا باستقلال إمارة عربستان سنة ١٩١٣، وهكذا ظهرت حكمة قوله تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وقوله تعالى وهو أصدق القائلين: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.

ومما يُذكَر أيضًا أن فساد البختياريين في إيران قد أورث البلاد الاضطراب، وكان أشدُّه في شمال إيران حيث اضطرَّت روسيا أن تحتل البلاد احتلالًا عسكريًّا لكبح جماح الثائرين، وكان جنوب إيران أهدأ نوعًا ما، ولكن بعد أن توطَّدت العلائق بين الاتِّحاديين والألمانيين أخذوا يدسُّون دسائسهم في جنوب إيران، فتعاظمت الثورة هناك حتى اضطرت الدولة العادلة الإنكليزية لسلامة متاجر رعاياها وتأمين البلاد إلى إنزال قسم من جيشها المنصور إلى الثغور الفارسية على الخليج الفارسي، ولم يسلم من هذا الاضطراب سوى إمارة عربستان، فظلَّت آمنة هادئة مُصانة من دسائس الدساسين وإفساد المفسدين، وحينئذٍ عرفت الدول الأوروبية الكبرى وبمقدمتها دولة بريطانيا العظمى الوفية اقتدار وفضل هذا الأمير العظيم، فأهدته الدولة الفخمة الإنكليزية وسام نجمة الهند مع السلسلة الهندية ووسام القديسين ميخائيل وجورج من طبقة كومندور، وجمهورية فرنسا وسام «لوجيون دوثور» جوقة الشرف من الطبقة الأولى، واضطرت الدولة التركية بعدئذٍ إلى إهدائه الوسام العثماني من الطبقة الأولى بحكم السياسة.

ولا بُد هنا من الإشارة إلى شركة الغاز الإنكليزية التي جعلت جزيرة عبادان الواقعة على شط العراق مقرًّا لها، وأخذت تمدُّ الأنابيب من منابع الغاز في ششتر إليها؛ فإن هذه الشركة لاقت من الأمان والاطمئنان في عملها ما لا عهد للأوروبيين فيه في البلاد الشرقية، فلم تحتج مرة واحدة إلى مراجعة قنصل بريطانيا العظمى في إشكال مع عظمته، كما لم يحدث على عمالها أو أعمالها أقل اعتداء، بل كانت ترى دائمًا أبدًا معاونات جدِّية من عظمته سواء في تسيير العمال أو تسهيل الأعمال، وقد شهدت الشركة بهذا ورفعت عنه التقارير العديدة للدولة الفخمة الإنكليزية التي أعلنت شكر عظمته غير مرة على سهره المتواصل في تعميم الأمان في مملكته العامرة.

سمو الشيخ عبد الحميد خان، ثاني أنجال عظمة السردار أرفع.
عبد الحميد هنئت الجاه مكتسبًا
من والدٍ باهرِ الآلاء جوَّاد
ودمت في ظله الهاني وسؤدده
شهمًا كريمًا بإقبالٍ وإسعاد

وكان ساكن الجنان المرحوم مظفر الدين خان، شاه إيران الأسبق، كثير الشغف بعظمة السردار أرفع، وطالما أعلن امتنانه وشكره لعظمته بفرامين شاهانية، وقد أنعم على عظمته فوق نعم أبيه برتبة «أمير نويان»، وهي في المرتبة الأولى بين الرتب الإيرانية الملكية، كما وأنعم عليه بنيشان آل قاجار، وهو نيشان ذو سلسلة مرصَّعة بالجواهر الكريمة وله إطار من الماس الوهَّاج وبوسطه صورة الشاه، ويُلبس في العنق، وأنعم على سمو نجله الأكبر الشيخ جاسب خان بلقب «نصرة الملك»، وهو اللقب الذي كان لساكن الجنان المرحوم الحاج جابر خان والد عظمة السردار أرفع الكثير المحامد.

وفي سنة ١٩٠٧ احتفل عظمة السردار أرفع أدام الله مجده بقران سمو نجله الكريم نصرة الملك الشيخ جاسب خان بكريمة حضرة الوزير الخطير الحاج محمد علي خان رئيس تجار عربستان، فكان فرحًا عظيمًا اشترك به عموم سكان العراقَين، وذاعت أنباؤه في الخافقَين. وتفضَّل ساكن الجنان مظفر الدين شاه، رحمه الله، فأهدى سمو نصرة الملك بمناسبة قرانه الأزهر سيفًا مرصَّعًا بالجواهر إعلانًا لامتنانه من عظمة السردار أرفع، فكان لهذه المنحة الشاهانية وقعٌ عظيمٌ في نفس عظمته الملوكية أدام الله مجده.

وقصارى القول أن عظمة السردار أرفع، حفظه الله، كان في سياسته الداخلية والخارجية، كما كتبت عنه جريدة التيمس، في المرتبة الأولى من العدل والفضل والذكاء والدهاء والكياسة والحزم بين أمراء العرب. فلا عجب إذا أجمع الناس على حبه وخطبت الدول مودَّته، وأصبح موضع رجاء أهل العراق ينظرون إليه بالآمال ويعوِّلون عليه في صلاح الحال.

الأحكام في عربستان

اشتهر عظمة السردار أرفع بعدل أحكامه؛ وهو يحكم بشرع المصطفى عليه الصلاة والسلام، ويُنيط الأحكام بقضاة عادلين، ولا تُنفذ ما لم تُعرَض على أنظاره العليَّة، ويدقق فيها. وطالما سمعناه، حفظه الله، يقول: «ويلٌ لي إذا غفلت عن مظلوم، أو تغافلت عن ظالم، أو لحقت بأحد رعاياي المغارم.» وطالما رأيناه يدعو الله فيقول: «اللهم أعنِّي على العدل، اللهم وفِّقني للإنصاف، اللهم سدد خطواتي بشرعتك، واهدني بهديك، بشفاعة نبيك الأمين وآله الطاهرين.»

وتُناط الأحكام بإمارة المحمرة بقضاة عادلين نزهاء أتقياء متخرجين في النجف الأشرف، مشهود لهم بالاستقامة والعلم والنزاهة، وهم لا يعرفون الرشوة ولا المحاباة، ويحكمون بما أنزل الله. ومما يُذكَر هنا أن الرشوة غير معروفة في إمارة عربستان، وكان الناس يندهشون كلما سمعوا بأن الحقوق تُباع وتُشترى في المحاكم التركية في العراق، ويحمدون الله على ما هم فيه من بحابح العدل.

ولا يغضُّ عظمة السردار أرفع، حفظه الله، طرفه في القضايا الجنائية، بل هو فيها شديد العقاب، يتمثل وهو يصدرها دائمًا بقوله تعالى:وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ؛ ولهذا تندُر الجنايات في إمارة المحمرة؛ حتى لتمشي المرأة في غَلَس الليل وهي حاملة الذهب ولا تخاف شرًّا.

أما في القضايا الحقوقية فعلى العكس، ومبدأ عظمته، حفظه الله، العدل مع الرحمة؛ فهو لا يرضى أن يعتدي أحد الناس على سواه بحقٍّ من حقوقه، ولا يعرف في الحق كبيرًا ولا صغيرًا، إلا أنه إذا رأى المدين يتعذَّر عليه دفع ما بذمته لعسرٍ حقيقيٍّ انتابه لا عن احتيالٍ، ينظر إلى الدائن فإذا وجده مُيْسِرًا أمَرَه أن يتمهَّل على غريمه في استيفاء حقه ويذكِّره بقوله تعالى:وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وإذا وجده مُعْسِرًا أمر بصرف المال من جيبه الخاص وأعفى منه المعسر أو قسَّطه عليه نجومًا إلى زمن طويل حسب حال المديون. ولعمري أن حاكمًا كعظمة السردار أرفع يدفع ديون الغرماء ويمنع الحيف عن الضعفاء ويحكم بما أنزل الله عدلًا وإنصافًا ويوزع هباته على قصاده جزافًا لخليق أن يفتخر به المفتخرون ويتغنى بحمده المتغنُّون.

وبالإجمال نقول إن القضاء في عربستان يمتاز بعدله وسرعته في إصدار الأحكام ورهبته في نفوس الأهلين، بحيث تقلُّ الجرائم وتندُر المغارم، ولا يخاف الضعيف سلطة قوي جبار، ولا الصغير جاه كبير ذي استكبار، والجميع في حقوقهم راضون، وأمام القضاء متساوون، وبمليكهم مغتبطون.

الضرائب في عربستان

وليس في عربستان ضرائب تقصم الظهور وتُثقل الكواهل، بل ليس فيهم من يدفع قرشًا واحدًا للخزينة الخزعلية العامرة، بل بالعكس أن أهالي الإمارة عيال على عظمته، وطالما قصدوه فاستدانوا منه الأموال قرضًا حسنًا لمزارعهم ومتاجرهم؛ حتى قال لي يومًا مدير البنك الشاهاني الإيراني، وقد سألته على حركة مصرفه ما نصه: «طالما عظمة السردار أرفع يشتغل بأشغال البنك بغير ربح فلا يمكن أن تنجح شعبتنا هنا، ولولا الأعمال المصرفية الخارجية لما وجدتنا ههنا.» فتعجبت من هذا القول واستزدته إيضاحًا، فقال: «إن التجار والمزارعين يقصدون عظمته فيُقرضهم لوجه الله ما يحتاجون إليه من الأموال، فيتاجرون أو يزرعون بها، ثمَّ يعيدون لعظمته ما استقرضوه عندما يتيسَّر لهم الوفاء.» فهل سمع الأوَّلون والآخرون بعناية ملك لرعاياه كعناية هذا الملك العظيم، حفظه الله؟

والأغرب من هذا أن عظمته، حفظه الله، ينفق على جيشه الجرَّار في حروبه من جيبه الخاص، ولا يكتفي بهذا الإنفاق، بل ويُشفعه بالهدايا والمِنح عند حلِّ الجيش وإعادة القبائل لديارها، وهكذا تذهب واردات عظمة السردار أرفع العظيمة في سبيل تعزيز إمارته وتعميرها، وتوفير وسائل اليسر لها، وإنها لنعمة يقدِّرها أهالي عربستان حق قدرها، ويشكرون عظمة مليكهم المحبوب عليها شكر الأرض للغمام الهطال، ويدعون لعظمته بطول العمر مدى الأجيال.

جيش عربستان

يُقسم جيش عربستان إلى حرس خاص وإلى رجال القبائل تُستنفر للحرب فتنفر وتخفُّ إليه رجالًا وعلى الضوامر الصافنات من كل صوب وحدب.

أمَّا الحرس الخاص فيتألَّف من قسمين أيضًا: قسم من مواليه العرب الأخصَّاء الذين وُلِدوا في نعمته ونشئوا في عرشه، وقسم من الإيرانيين الذين تطوعوا لخدمته. أما هؤلاء فيلبسون لباس الجيش الإيراني خلافًا لأولئك الذين ما زالوا على أزيائهم العربية بالعقال والعباءة، وفي الحرس الخاص فرقة للموسيقى كاملة الانتظام تحضر في عصاري كل يوم فتصدح بجوار القصر العامر في الكمالية أو في الديوانية بالفيلية؛ أي من حيث يكون عظمته بالسلام الخزعلي فالسلام الإيراني فبعض الأدوار، ثمَّ تنصرف وهي تتقدم الجيش للقتال.

والحرس الخاص هذا يُقيِم رجاله وعائلاتهم في دُور مخصوصة مشادة في الفيلية والكمالية، وجميع مصاريفهم من الخزينة الخاصة العامرة، عدا مرتباتهم التي يتقاضونها شهريًّا، وهم يفْدون عظمته الملوكية بنفوسهم ويتفانون في سبيل خدمته.

أمَّا القبائل فهم جيشه الجرار في أوقات الحروب، ولدى أدنى إشارة تنتهي إليهم أوامره نصره الله بالتعبئة يهبُّ إلى حمل السلاح كل من يستطيع القتال من الشُّبَّان والكهول والشيوخ من رجال قبائله الأشاوس، وليس هناك إحصاء يمكن معه حصر عدد المقاتلة الذين يستطيع عظمة السردار أرفع تجريدهم للقتال في تعبئة عامة، ولكني في سنة ١٩١١ كنت بخدمة عظمته، أعزَّ الله به العرب، وحدث أن البختياريين اعتدوا على حدود إمارة عربستان في أفريل من ذلك العام، فأسرع عظمته إلى الأهواز واتَّخذها معسكَرًا، وكان في اليخت إيران، يتبعه اليخت بهمشير وكان فيه أركان حربه وحرسه الخاص، وكان اليختان «ناصري» و«مظفري» يروحان ويجيئان للمراسلة، وجاء في مفكرتي في يوم ٣٠ أفريل ما يأتي بالحرف: العساكر تفِد تباعًا إلى الأهواز، وقد بلغ عددها ٣٢ ألفًا بين مشاة وفرسان، وهذا يُقدَّر بربع عدد الجيش الخزعلي المنصور في رأي الثقات الذين شافهتهم، وقد صدرت أوامر عظمة مولانا السردار أرفع بقسمة هذه الجيوش إلى أربعة فيالق: الفيلق الأول يسير إلى ششتر، ويتألف من ثمانية آلاف مقاتل بين مشاة وفرسان، تحت قيادة البطل الباسل صاحب السمو الشيخ حنظل خان ابن أخي عظمة مولانا وصهره، وفيه رجال قبائل الباوية أخوال عظمته، تحت رئاسة الشيخ مارد، والشيخ ناصر بن جابر الطلال، والشيخ حيدر شيخ قبيلة الميناو ورجاله، وصهر بن طعمة وهو من غلمان عظمة السردار أرفع المعظَّم وأحد شيوخ الميناو أيضًا ورجاله، وجناب السيد طعمة الملقَّب سيف السادات ورجال قبائله، وأولاد الشيخ عوفي وإخوان الشيخ عاصي من شيوخ قبائل بني طرف ورجالهم، والسيد أسد خان السعد شيخ بني سالم ورجال قبيلته. والفيلق الثاني يسير إلى رامز بقيادة الأمير خربيت، ويعاونه المير عبد الله بن المير مهنا، وكلاهما من شيوخ الشريفات، ومعهما خمسة آلاف مقاتل من رجال الشريفات، وينضم إليهما رزيح الشلاقة والزائر موسى الفصيل وهما من شيوخ المحيسن، وهم عمومة عظمة السردار أرفع أعزه الله، ومعهما ثلاثة آلاف مقاتل، ولم يتقرر الفيلق الذي يسير إلى دسبول. والفيلق الذي سيظل في المعسكر العام للاحتياط. أمَّا الجيوش التي هي اليوم في المعسكر العام بالأهواز ويتألف منها الفيلقان الآخران، فهي رجال قبائل المحيسن عمومة عظمة السردار أرفع، روحي فداه، ومعهم رؤساؤهم؛ وهم الحاج عراك اللفتة، والحاج فيصل العلي، وناصر أبو مطرق، وبخاخ السبهان، وعبد السيد السلطان، وعبد الله بن الحاج صلبوخ، ورجال كعب ومعهم رئيساهم وهما الزائر عبود بن الزائر دياب والحاج مغيطي، وبعض رجال الباوية أخوال عظمته ورئيسهم الشيخ عناية. وتعيَّن سمو نصرة الملك الشيخ جاسب خان، كبير أنجال عظمة مولانا السردار أرفع قائدًا عامًّا للحملة، ومركزه في المعسكر العام، وإني لأُنشِد وأنا أرى هذه الأسود مقبلة على المعسكر العام رجالًا وفرسانًا بأهازيجها العربية ما ينطبق على حقيقة ما أرى، قلت:

أرأيت مجتمع الأسود بغابها
يومًا غضابًا بالفرائس تزأر
أرأيت ما يحكي المعزَّ وجيشه
بمدينة الأهواز وهي معسكر

أقول: ومن هذا يظهر لنا أن إمارة عربستان تستطيع بالنفير العام أن تجيِّش نحوًا من مائة وعشرين ألف مقاتل من أسود العرب بين فرسان ومشاة، تجتمع تحت لواء عظمة السردار أرفع المنصور، روحي فداه.

سمو الشيخ عبد المجيد خان، ثالث أنجال عظمة السردار أرفع.
أمجيد أهنيك الفخار ونلته
من والدٍ سامي الفخار جليل
فاسلَمْ ودُمْ في ظلِّه مَجْلَى العُلى
يلقى بك العافون خير مُنِيل

حياة عظمته الأدبية

إذا كان يحقُّ وصف «حامل السيف والقلم» لرجل، فذلك الرجل هو عظمة السردار أرفع معز السلطنة الشيخ خزعل خان، الذي بات بسيفه من أعظم القواد وبقلبه من أفضل العلماء والشعراء والأدباء.

عكف عظمة السردار أرفع أعزه الله على الأدب منذ نعومة أظفاره على ما مرَّ بنا، وتضلَّع باللغتين العربية والفارسية، وكلتاهما بحر زاخر لا قرار له، فغاص بهما على لآليهما، وكعربيٍّ انصرف إلى أدبيات العرب، وكان اشتغاله بها أكثر، وظل على شغفه بها وعنايته بالعلماء والشعراء والأدباء من أهلها بالرغم عن مشاغله السياسية والإدارية والحربية بعد تربُّعه على دست الإمارة العامرة.

سمو الشيخ عبد العزيز خان، رابع أنجال عظمة السردار أرفع.
اهنأ عزيزُ بوالدٍ هنئت به الـ
أعرابُ وهو مسوَّدٌ مِفْضال
وسلِمْتَ للعَليا بظلِّ فخاره
يحتاطك الإسعاد والإقبال

وعظمته، حفظه الله، يشتغل بياضَ نهاره في شئون الملك وسوادَ ليله في مجالسة العلماء والشعراء والأدباء، الذين لا تخلو مجالسه الملوكية من وفودهم، وأكثرهم من أهل العراق، ولهم مرتبات يتقاضونهم مسانهةً؛ فمن مباحث شرعية، إلى مطارحات شعرية، إلى مفاكهات ونكات أدبية. وما اقتصر عظمته على هذا حتى كان مؤلِّفًا وشاعِرًا أيضًا، وله من جلائل التأليف وبدائع القصائد والمقطعات الشيء الكثير.

سمو الشيخ عبد الكريم خان، خامس أنجال عظمة السردار أرفع.
كريمٌ تهنَّا بالعلى إذ جنيته
بوالدك السردار أرفع ذي العلى
فلا زلتَ في نعماء باليُمن راتعًا
وفي ظلِّه الوافي الهناء مظلَّلا

وأهم الكتب التي وضعها عظمته هو كتابه الشهير «الرياض الخزعلية» في السياسة الإنسانية، وهو أفضل ما خطه قلمٌ في الأخلاق والحِكَم، وقد جمع فيه من النوادر المُطرِبة والحقائق المُعجِبة والأشعار النادرة والأمثال السائرة الشيء الكثير، وأزانه ببعض منظوماته النفيسة فكانت حلية له، وتوخَّى في كتابه هذا، حفظه الله، تعالى الجمع بين الفكاهة والفائدة. وهذا الكتاب يقع في أربع مجلَّدات ضخمة استلمته سنة ١٩١٣ لطبعه فصدر المجلد الأول منه سنة ١٩١٤، ثمَّ اشتعلت نار الحرب العامة وانقطع ورود الورق الجيد عن مصر فاضطررت إلى إيقاف طبع المجلدات الثلاثة الباقية إلى ما بعد الحرب. وعندما يظهر هذا الكتاب ويتداوله العالم العربي يتجلى فضل عظمة مولانا المعز للقاصي والداني.

ولعظمته من غرر القصائد ودرر المقطعات ما لو جُمِع ونُشِر لكان من أبلغ وأفصح الدواوين. وقد جال عظمته في كل معاني الشعر بين غزل ونسيب وحماس وفخر ومديح ورثاء؛ على إني إذا فسح الله بأجلي وعُدت إلى خدمة وليِّ نعمتي في الكمالية سأجهد في الحصول على هاتيك الدرر المنشورة لأزيِّن بها جِيد اللغة العربية الشريفة. وأنا واثق أن هاتيك القصائد والمقطعات ستصبح أناشيد العرب في رحيلهم وسمارهم في حِلِّهم.

ولعمري إذا كان الفضل لا يعرفه إلا ذووه فلا عجب إذا لقيَ العلماء والشعراء والأدباء في قصر عظمة السردار أرفع المنزل الأرحب والمورد الأهنى والمثوى الأرغد، ولا ضرورة للبيان بأن عظمته روحي فدان قد أحيى دولة الأدب وأعاد الخلائف العباسيين والفاطميين لنجباء العرب، فباتوا في ظله الظليل في عيشٍ راغد وبحابح يسارٍ من بعد ما كان يرثي الحاسد والشامت لما هم فيه من الفقر والعار، فبينما كانوا يرددون قول الشاعر:

أفٍّ لرزق الكتبة
أفٍّ له ما أصعبه
أفٍّ لرزق جاءنا
من شقِّ تلك القصبة

صاروا يقولون معي:

بشرى برزق القصبة
بشرى به ما أطيبه
ما دام فينا خزعل الـ
ـمفضال يُولِي ذهبه
لسالمٍ في الشرع قد
قرا عليه كُتُبه
وشاعرٍ مقتدرٍ
بالنَّظْم أبدى أدبه
وناثرٍ مهذَّبٍ
ونفسُه مهذبة
سعت له آدابهم
روائعًا مُذهَّبه
ونزلت من قصره الـ
ـرَّحْب المغاني أرحبه
وقد رأوا من فضله
آثار برٍّ طيِّبة
يُرْحِب فيهم ثغره
وينثر الدر هِبَة
فلم يعد ذو ذلَّةٍ
منهم ولا ذو مَتْرَبة
يشكو ويبكي دهره
من فاقةٍ ومسغبة
هذا المعزُّ المرتجى
للأُدَبا والكتبة
مُحيي موات المجد في
أخلاقه المحبَّبة
فليحيَ في إقباله
للدهر يطوي حِقَبَه

والحقيقة التي لا تشوبها شائبة من الرَّيب هي أن العلماء والأدباء والشعراء الذين طالما شكَوا الفاقة وتأفَّفوا مما هم فيه من الضيق والعسر قد وجدوا في القصر الخزعلي العالي عكاظًا ثانيًا تروج فيه أدبياتهم، فيأتون بدُرر الأقوال وينصرفون ببدر الأموال، وهم يدْعون بالسرِّ والجهر: فليَحيَ عظمة السردار أرفع المحسن المفضال.

المعيشة الخزعلية

وطالما صبا الناس إلى الاطِّلاع على معيشة الملوك، ويرون فيها فائدة ولذة، وها أنا ذا نتحف العالم العربي بأنباء معيشة عظمة السردار أرفع بما اختبرناه؛ وما راءٍ كمَن سمع.

ينهض عظمة مولانا السردار أرفع، روحي فداه، عند الغَلَس من سريره فيتوضَّأ ويصلي صلاة الفجر بقلب خاشع، ويسأل الله بعد الصلاة أن يُرحِب صدرَه ويُلهمه العدل والرحمة؛ وبعد الصلاة يتناول طعام الفطور، ويكون غالبًا اللبن (الحليب) والقهوة أو الشاهي وقليلًا من المربَّى والزبدة والبيض؛ ثمَّ يدخل مكتبه الخاص في الحرم لمراجعة أوراق الإمارة المعروضة على أنظاره العليَّة، ويؤشِّر بيده الشريفة على كل ورقة منها بما يصدر به أمره العالي، ويقيم في مكتبه هذا نحو الساعتين؛ ثمَّ يخرج، حفظه الله، للناس الذين يؤمُّونه بأشغالهم فيقابلهم بمجلسه في الدَّور الأول من القصر العامر، أو في فسحة القصر إذا كان الوقت صيفًا؛ وفي الضحى يركب أحد يخوته أو بلمه الملوكي ويتوجه باليُمن والإقبال إلى الفيلية بموكبه الحافل، يحيط به كَتَبته ورجال بطانته وحرسه الخاص، فتستقبله هناك الموسيقى الخزعلية بألحانها المُطرِبة؛ ومن هناك يدخل الديوانية حيث يتصدر صاعة الاستقبال وينظر في شئون رعاياه وحوائجهم ويفصل في شكاويهم وخصوماتهم، ويحكم بينهم عدلًا وإنصافًا، ويُنعم بكرمه «الخزعلي» على طالبي رِفْده وهم كثيرون؛ ويظلُّ كذلك إلى قبيل الظهر حيث يدخل الحرم فيصلي صلاة الظهر، ثمَّ يتناول طعام الغذاء داخل الحرم، ويقضي القيلولة فيه إلى قبيل العصر حيث ينهض للصلاة فيصلي العصر؛ ثمَّ يخرج لصاعة الاستقبال ثانيةً فيستأنف أعماله الخيرية والإدارية؛ ثمَّ يرجع إلى الكمالية قبيل الغروب حيث يدخل الحرم مباشرة فيصلي صلاة الغروب؛ ثمَّ يخرج إلى صاعة السَّمَر في الدَّور العالي من القصر فيتناول طعام العشاء مع ضيوفه وندمانه، ثمَّ يستدعي من في الباب من العلماء والأدباء والشعراء وهم كثيرون ويسمر معهم إلى الهزيع الثاني من الليل، في مذاكرات علمية، ومطارحات شعرية، ومداولات أدبية، في مجلس يتسابق إليه المتسابقون في العلم والآداب والشعر، وللمجلي من هبات عظمته نصيبه من الرزق، وعند منتصف الليل يرفضُّ الاجتماع، ويدخل عظمته للحرم، ويتفرق الندماء وأهل العلم والأدب والشعر في غرفهم في ذلك القصر المعمور وكلهم ألسنة تحمد مآتيَه وتدعو إلى الله سبحانه بطول بقاه.

هذه معيشة عظمة السردار أرفع العادية، إلا أنها قد يحدث ما يغيِّرها؛ كوجود ضيوف أعزاء في القصر العامر من إيران والعراق، وكثيرًا ما كان يزور عظمته ساكن الجنان فقيد العرب والإسلام المرحوم المبرور الشيخ مبارك الصباح، رحمه الله، وكان يلازمه مدة إقامته؛ لما كان بينهما من الإخاء الوثيق العُرى.

أخلاق عظمة السردار أرفع

هو السردار أرفع ذو سجايا
ملألئة كلألاء النجوم
تفرَّد في محاسنها وأضحى
بها مَجْلى الفخار المستديم
يقابل بالتهلُّل قاصديه
وبالترحاب في ثغرٍ بسيم
ويصفح عن أعاديه اقتدارًا
ويعفو عنهمو شأن الحليم
ويُجْلي النائبات إذا دهته
برأي الحازم الفطِن الحكيم
ويلقى داهم الأيام حتى
يزول وينمحي بقوى حزوم
ويحكم ملكه في شرع طه
ويقضي عادلًا بين الخصوم
ويُولِي عطْفَه الأسنى الرعايا
بعاطفة الأب الحاني الرحيم
ويحزن إن رأى فيهم حزينًا
ومُبتليًا تزمل بالهموم
ويفرح إن رأى فرحًا لديهم
أوى باليُمن في هاني النعيم
ولا يرضى ليومٍ مرَّ فيه
ولم يبذل جمائله لقوم
ولم يلهج سوى في حمد ربٍّ
حباه سؤدد الملك الفخيم
ولم يغضب سوى لله تقوى
ولم يحقد سوى لبياض يوم
خشى الرحمن في حكم الرعايا
بقلب المسلم الورع السليم
وأرضى الله في برٍّ وعدلٍ
وحُسن تعبُّدٍ بهدى عليم
وأرضى المصطفى وأحب آل الـ
ـنبيِّ محبة الشَّغِف الهَيُوم
وجاهد في سبيل الصالحات الـ
مُثِيبة نصرة الدين القويم
لذا العرب الكرام إليه أولوا الـ
ـوجوه وأصبحوا بحِمًى كريم
وإنَّ المجتبي السردار فيهم
يسودهمو على خُلق عظيم
فبورك في إمارته وفيه
ودام لها بمفخره الوسيم

إن عظمة السردار أرفع، حفظه الله، لعلى خلقٍ عظيم، وإيمانٍ قويم، وخضوعٍ لإرادة الله وتسليم، وسعي في سبيل العدل والرقيِّ مستديم، وجهادٍ لتعزيز العلم والتعليم؛ وهو المحسن الجواد الكريم، والسياسي المحنك الحكيم، والأب الشفوق الرحيم، والملجأ الأكبر لتسرية الهموم، وإزالة الوجوم، وإنالة كل مُريم؛ يستقبل عوافيه بثغر بسيم، ووجه وسيم، ويُنزِلهم على الرُّحب والسعة في قصره الفخيم، ويُبلغهم أقصى آمالهم بجوده العميم، وشارك بعواطفه الشريفة المسرور والمغموم، ويعمل لأن تكون رعيته في نعيم مقيم، لا جرم أن هذه الأخلاق الفاضلة، والشمائل العالية، التي تفرَّد بها عظمة الشيخ خزعل خان، المتلألئة بحسناته الحسان، قد اعتزَّ بها العربان، إذ كانت أفضل ما يمتاز به الإنسان عن أخيه الإنسان، وقد قال رسول الله : «لا يَفْضُلُ المُسلِمُ أخاه المسلمَ إلا بالتقوى.» والتقوى في الملوك أن يتقوا الله بعباده فيسيرون بهم إلى بحابح الخير ويكشفون عنهم البلوى.

فمن أخلاق عظمة السردار أرفع أعزه الله، ورعه وتقواه، وتمسُّكه بآداب القرآن والإسلام، وقيامه بالفروض والنوافل على الدوام، وثقته بالله في كل ما يَعرِض له من الحوادث ويُعرَض عليه من المهام.

ومن أخلاقه أيَّده الله أنه يظهر دائمًا بمظهر الراضي القنوع، ببشاشة ثغر وسعة صدر. ولا يذكر أحد من حاشيته ورعاياه ومريديه أنه رآه يومَا غاضبًا أو متأفِّفًا.

ومن أخلاقه، حفظه الله، الحلم حتى ليكاد يسع صدره الحوادث مهما عظُمت، إلى أن يجلوها بحكمته ودهائه وصبره وطول أناته؛ فهو حليم على الزمان وآل الزمان أيضًا.

ومن أخلاقه، أدام الله علاه، صفحه عند المقدرة؛ حيث يصفح عن أعاديه عندما يتملك من نواصيهم ويتحكم برقابهم؛ فتراه وقد حلَّت ساعة الانتقام من أعداه اللئام عفا وصفح وهو يقول لمريديه: «العفو من شيم الكرام.»

سمو الشيخ عبد الله خان، سادس أنجال عظمة السردار أرفع.
بشراك عبد الله قد نلت المنى
ولك الهنا بحِمى معزِّ السلطنة
وبَلَغت سؤْلك في ظلال فخاره
وظفرت في آي الثناء المعلَنة

ومن أخلاقه أزاده الله فضلًا كرمه الحاتمي، أستغفر الله بل كرمه الخزعلي، وأين لحاتم أن يحاكيه بالجود والنوال، ويتحدَّى خطواته بالإفضال؛ فهو يجود على عوافيه قبل السؤال، ويأبى سماع الشكر على ما يأتيه من بواهر الأعمال، وإنه ليحزن إذا مرَّ يومٌ لم يصطنع به جميلًا ويأتي به برًّا جليلًا.

ومن أخلاقه، كرَّمه الله، شفقته وحنوُّه على رعاياه اللائذين به؛ حتى لتراه يشاركهم بأفراحهم وأحزانهم، فيعزِّي المحزونين ويزيد في أفراح الفرحين شأن الملك العادل والأب الرحيم.

ومن أخلاقه، نصره الله، تغاضيه عن إساءة المسيء، وهو يقول: العصمة لله وحده. وإذا رأى عتابَ أو توبيخَ أحدهم على تقصيرٍ عرَّض بذلك تعريضًا.

ومن أخلاقه، أطال الله بقاه، دعتُهُ بغير ضعة؛ بحيث لا يعرف الكبر ولا استكبر، وهو العظيم الكبير بنفسه ومجده وجاهه وعلمه وأعماله الطيبة.

ومن أخلاقه، رعاه الله، أنه يكفُلُ عبيده المخلصين وخُدَّامه الصادقين أحياءً وأمواتًا؛ فهو يوالي حسناته عليهم ولا ينسى عيال مَن مات منهم بصدقاته وميراته.

ومن أخلاقه، أعلى الله رايته، وفاؤه لأصدقائه وفاءً ما بعده وفاء؛ فيذكرهم بالخير ما تنائوا وتنائى العهد، ويهتم بأمورهم على القرب والبعد.

ومن أخلاقه، صان الله مهجته، مجاملته لضيوفه وقُصَّاده، وعنايته في إدخال السرور على قلوبهم ما داموا بحضرته.

هذه بعض أخلاق الشيخ في السلام؛ حتى إذا ما اشتبك القتال وثارت ثائرة الحروب انقلب إلى أسدٍ رئبال، وخفَّ للنضال؛ فتلْقاه على جواده يهلِّل ويكبِّر، والموت يلمع من وميض حسامه، والنصر والفتح من جملة عبيده وخدَّامه، هنالك تلْقاه وقد عرفتْه الخيل والليل، رجل المعمعان وفارس الميدان، وقد صبغ الأرض بالدم وملأها بأشلاء الأعداء، وعاد فائزًا منصورًا مكلَّلًا بأكلَّةِ غار الانتصار.

ولقد شهد لعظمته، حفظه الله، قناصل الدول وأكابر رجال الفرنجة الذين أمُّوا العراق، بهذه الأخلاق الفاضلة، وأُعجِبوا بها أيَّما إعجاب. وقد قال لي يومًا قنصل أميريكا في البصرة ما ترجمته بالحرف: «إني لأعجب من عظمة السردار أرفع تجمُّله بهذه الأخلاق الفاضلة، وهو ملازمٌ العراق، فلم يتجول في أوروبا ولا دخل مدارسها.» فضحكت وقلت: إن عظمة مولاي السردار، روحي فداه، تجوَّل في أرضٍ أعظم حضارة، وتربَّى في مدرسةٍ أوفى آدابًا. فحملق مستفسِرًا وقال: أين؟ أين؟ قلت: إنه تجوَّل بالروح في أرض حضارة العرب القديمة، وتربَّى في مدرستهم الزاهرة، وذلك بفضل اطِّلاعه على آداب القرآن وحضارة العرب. قال: أوَفيهما مثل هذه الأخلاق الفاضلة؟ قلت: نعم؛ فإن حضارة العرب في عهد العباسيين الغابر لم تكن أقل رواءً من حضارة الأوروبيين في عهدهم الحاضر. قال: ولماذا إذن لا يُرى في العرب اليوم آثار تلك الحضارة الزاهرة؟ قلت: لتسوُّد الجهل فيهم بسيادة الأتراك عليهم، فإذا استرجعوا مجدهم أزهرت حضارتهم ورأيتموهم يماشونكم بالعلوم والتمدُّن والآداب. فسُرَّ القنصل بهذا البيان ودعا معي لعظمة الشيخ خزعل خان بطول العمر وسعة السلطان.

سعادة الوزير الخطير الحاج محمد علي خان، رئيس تجار عربستان.
أخلصت للسردار أرفع يا رئيـ
ـس وبتَّ من عَلْيَاه خير وزير
فاسلَمْ لدولته ودُمْ متنعِّمًا
برضائه في غبطةٍ وسرور

فهذه هي أخلاق عظمة السردار أرفع التي ملك بها قلوب الأحرار، وأصبح فيها صاحب الجاه والافتخار، كلأه الله بنعمه مدى الأدهار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤