تقديم

لا زلتُ أذكر هذه الفتاة رغم مرور عشر سنوات أو أكثر على اليوم الذي رأيتُها فيه، كنتُ طبيبة ناشئة ولي عيادة في ميدان الجيزة، وما أكثر ما يرى الطبيب في عيادته بشرط أن يجتاز بتفكيره وإحساسه حدود مهنةِ الطب التقليدية، وأن يَتخلَّص بفطرتِه القوية من آثار الأسلوب الضحل الذي درسنا به الطب، والذي يُفقِد المريض إنسانيتَه ووحدته، ويجزئه إلى أعضاء غير مترابطة معزولة عن النفس منفصلة عن المجتمع.

كنت في ذلك اليوم أُفكِّر في غلق العيادة؛ فقد آمنت بعد خمسة عشر عامًا أنفقتها في دراسة الطب وممارسته داخل الوطن وخارجه أنَّ أكثرية المرضى ليسوا مرضى، وإنما تدفعُهم ظروفهم الاجتماعية السيئة إلى الإحساس الدائم بالمرض، وأن معظم الحالات المرضية فعلًا تُشْفَى وحدها بقوة الطبيعة وإرادة الإنسان في الحياة.

في ذلك اليوم كنتُ أجلس أُصمِّم بيني وبين نفسي على غلق عيادتي الطبية حين دخلَت هذه الفتاة، شدَّتني إلى عينَيها نظرة غريبة مذعورة تبحث بلهفة في عيني عن النجدة، وبمرور السنين نسيتُ ملامح الفتاة تمامًا لكن هذه النظرة في عينيها انحفرت في ذهني وأصبحت جزءًا مني.

لم تكن وحدها، كان معها رجل قال بصوتٍ غليظ مُنفعِل: أرجو يا دكتورة أن تفحصيها.

ووجهتُ سؤالي إلى الفتاة قائلة: بم تشْكين؟ ولكنها أطرقت ولم تردَّ، وقال الرجل بصوت أكثر غلظة وانفعالٍ أشد: تزوَّجنا بالأمس واكتشفتُ أنها ليسَت عذراء.

وسألته: وكيف اكتشفتَ ذلك؟

وقال بغضب: هذا شيء معروف؛ لم أرَ دمًا أحمر!

وحاولت الفتاة أن تَفتح فمَها لتقول شيئًا، لكنه قاطعها قائلًا: إنها تدَّعي أنها بريئة؛ ولهذا جئتُ بها إليكِ لتفحصيها.

واتَّضح لي بعد الفحص أن الزوجة تملك غشاء البكارة وأنه سليم تمامًا، ولكنه من ذلك الذي يُسمَّى في الطب بالنوع «المطاط» يتَّسع ويضيق بمرونة دون أن يَتمزَّق ودون أن تسيل منه قطرة دم واحدة.

وشرحتُ الأمر للزوج بدقَّة، وكان رجلًا مُتعلمًا سافر إلى الخارج في بعثة، وخُيِّل إليَّ أنه اقتنع، وتنهَّدت العروس كأنها تتنفَّس لأول مرة بعد طول اختناق.

لكنَّ الأمر لم يكن بهذه البساطة، بعد أيام قليلة جاءتْني الفتاة وحدها، لم يكن وجهها هو وجه فتاة الثامنة عشرة التي رأيتُها منذ أيام وإنما وجه امرأة عجوز شاخت قبل الأوان، ورسم الحزن والألم على وجهها تعبيرًا غريبًا أشبه بوجوه الموتى التي رأيتُها كثيرًا في ظلِّ مِهنة الطب.

وقالت بصوت مشروخ: طلَّقَني وكادت تكون فضيحة لولا أنَّ أبي تكتَّم الأمر.

وسألتها: وهل يفهم أبوك؟

وهزَّت رأسها بالنفي وكَسَتْ عينَيها الذابلتين سحابة أوحت بدموع سالت وجفَّت حتى نضجت تمامًا.

وقالت: لا أحد يعرف براءتي إلا أنتِ يا دكتورة، وأنا الآن أعيش في خوفٍ من انتقام أبي وأخي.

ذهبتُ معها إلى أبيها وشرحتُ له الأمر، قلت له إن ابنته عذراء، وإن غشاء البكارة من النوع المطاط الذي لا يتمزَّق إلا عند ولادة أول طفل، ودهش الأب حين سمع هذه الحقيقة العِلمية وضرب كفًّا بكف وقال في غضب: هذا يعني أن ابنتي قد ظُلِمَت.

قلت: نعم.

قال: ومَن المسئول عن هذا الظلم؟

قلت: أنتم … زوجُها وأهلها!

قال بغضب: بل أنتم المسئولون يا أطباء؛ لأنَّكم تَعرفون هذه الحقائق وتُخفونها عن الناس، ولولا هذه الحادثة التي حدثت لابنتي بالصدفة لما عرفتُ شيئًا، لماذا لا تَشرحون هذه الأمور لكل الناس؟

إنه واجبكم الأول حتى لا تُظلم مثل هؤلاء الفتيات البريئات!

وصممتُ يومها على أن أعود إلى مكتبي وأكتب شيئًا في هذا الموضوع لكني رأيت أن الأمر يحتاج إلى علاج متعدِّد النواحي، فليس هو موضوعًا طبيًّا فحسب، وإنما هو موضوع اجتماعي واقتصادي وأخلاقي، ولا يُمثِّل فيه الطبُّ إلا جانبًا واحدًا.

ومرَّ عام وراء عام وقصص أخرى بمشاكل أخرى تمر أمام عيني، ومآسٍ عديدة لفتيات ونساء وأطفال راحوا ضحية الجهل الشائع والتقاليد السائدة، بعضهم مات موتًا حقيقيًّا أثناء عملية إجهاض أو عملية ختان أو ولادة تحت ظروف سيئة، أو حوادث قتل أو اعتداء لعدم ثبوت دم العذرية، وبعضهم مات موتًا نفسيًّا واجتماعيًّا بعد مأساةٍ بسبب أو بآخر، وما أكثر الأسباب التي تتعرَّض لها المرأة في مجتمعنا لتُقْتَل نفسيًّا وتعيش عمرها في حالٍ تجعل حياتها كالموت، بل إن الموت قد يكون أرحم في كثير من الأحيان.

وقد ساعدتْني أسفاري المتعدِّدة لمُعظم بلاد العالم أن أحيط بوضع المرأة في مختلف المجتمعات المتقدِّمة والمُتخلِّفة، الرأسمالية والاشتراكية.

واستطعتُ أيضًا من خلال قراءاتي في العلوم الأخرى غير الطبِّ والتاريخ والأدب أن أتفهَّم كيف ولماذا فُرضَت القيود على المرأة.

هذا وإنَّ تجربتي الخاصة كامرأة تُزوِّدني بحقيقة أحاسيس المرأة العميقة. وما أحوج العالم إلى معلومات صحيحة عن المرأة تُغيِّر المفاهيم الخاطئة التي أُشِيعَت عنها، وتُصحِّح المعلومات التي راجت عنها في العالم، والتي كانت تُكْتَب في معظم الأحيان بأقلام الرجال.

ولهذا لم تكن هذه المعلومات تعبيرًا عن حقيقة المرأة، ولكنها كانت وجهة نظر الرجل في المرأة، وما أكبر الفارق بين الحقيقة وبين وجهة النظر!

نوال السعداوي
ديسمبر ١٩٧١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤