التمويه

ولا شك أن خروج المرأة من بين جدران البيت إلى العمل هو حجر الأساس الذي يُبْنَى عليه استرداد المرأة لحقوقها الطبيعية كإنسانة.

لكن هذا العمل ينبغي ألا يكون نوعًا من الاستغلال الجديد للمرأة، ويجب ألا يكون تحت سيطرة الرجل كما يحدث في الريف حيث تعمل الفلاحات في الحقل والبيت تحت سيادة الرجل وفي ظل القوانين الجائرة التي تهضم حقوق المرأة.

إن خروج المرأة للعمل تحت سيطرة الرجل وفي ظلِّ القوانين الحالية لا يعني إلا مزيدًا من الاستغلال للمرأة، كما يحدث الآن للمرأة العاملة التي أصبحت تعمل خارج البيت وداخله والتي يُسبِّب لها الإرهاق الجسدي والنفسي كثيرًا من الأمراض والمشاكل تحُول بينها وبين الحياة الصحية السليمة ولا أقول التحرُّر أو الحرية التي تنشدها.

إن الطريق أمام المرأة صعب وشاق يحتاج إلى كفاح طويل، كفاح واعٍ تدرك فيه المرأة الأسباب الحقيقية التي تحول بينها وبين الحرية والمسئولية، ولا تخدعها تلك الحركات المتمردة التي تقوم بها بعض النساء من حين إلى حين في مختلف أنحاء العالم للتحرُّر في ظل المفاهيم القديمة وفي ظل سيادة الرجل.

إن مثل هذه الحركات غير الواعية لا تُفيد إلا أن تمدَّ الصحافة من حين إلى حين بمادة مثيرة طريفة، تجني من ورائها توزيعًا أكثر ربحًا.

وعلى المرأة أن لا تنخدِع بتلك المعلومات الخاطئة والإحصاءات التي تستغلها بعض الحركات التي تُقاوم التقدم.

فمن الطبيعي أن المجتمعات الرأسمالية في مختلف أنحاء العالم لا تُسلِّم بغير مقاومة، ولا تعطي الحقوق إلى مَنْ سلبت منهم الحقوق وعلى قمتهم النساء بغير مقاومة، وتختلف أساليب المقاومة وأسلحتها من مجتمع إلى مجتمع، ومن وقت إلى وقت؛ مرة تستخدم سلاح الدين وتستغل تغلغله في نفوس بعض المجتمعات، ومرة تستخدم سلاح القيم الأخلاقية وتستغلُّ عدم إدراك الناس بأن هذه القيم من صنع المجتمع ذاته، ومرة تستخدم بعض الإحصاءات والأرقام لتثبت للناس أن المرأة العاملة أقل إنتاجًا من الرجل؛ وبالتالي تنادي بعودة النساء إلى البيوت إنقاذًا للاقتصاد من الانهيار، ومرة تستغل بعض البحوث العلمية القاصرة لتثبت أن المرأة لا تصلح إلا لأعمال التمريض والسكرتارية والتدريس والخدمة، وبذلك تحول بين المرأة وبين المناصب العليا والأعمال الهامة في المجتمع.

ومرة تستخدم علماء النفس من تلاميذ وأتباع فرويد الذين دعموا النظام الرأسمالي بالنظريات النفسية الخاطئة، ويسعى هؤلاء بنظرياتهم التقليدية المتخلِّفة أو نظرياتهم الجديدة التي ترتكز على نفس المفاهيم القديمة إلى أن يجهضوا أي ثورة تقوم بها النساء، أو يقوم بها الزنوج أو الشباب أو العُمال وغيرهم من الفئات المغبونة من الشعب.

ويحاول هؤلاء الفرويديون التقليديون أو تلامذتهم ممن يُسمُّون أنفسهم بالفرويديين الجدد إلى تفسير ثورات الشباب أو الزنوج أو النساء بسبب خلل داخل نفسية الإنسان الثائر، وليس بسبب خلل في النظام الاجتماعي القائم، وليس هذا إلا امتدادًا لنظرة فرويد إلى التمرد على السلطة على أنه نتيجة لعقدة أوديب، حيث تمثل السلطة شخص الأب أمام الإنسان المتمرد، ويحاول الفرويديون الجدد أن يعبروا عن نفس هذا المفهوم وإنما بأسلوب آخر فيقولون: إن التمرُّد على السلطة ليس إلا تعبيرًا خارجيًّا عن عدم مقدرة الإنسان المتمرِّدة على علاج صراعاته الانفعالية الباطنية في اللاشعور.

ويكتب هربرت هندين (أحد تلامذة فرويد المؤمنين بالتحليل النفسي) عن الشباب الثائر ضد سياسة نيكسون فيقول في نيويورك تايمز (١٧ يناير سنة ١٩٧١م):

«إنَّ هؤلاء الشباب الراديكاليين يعانون من إهمال أُسَرهم لهم التي أصابتهم بخيبة الأمل في تحقيق ما تحتاج إليه شخصياتهم والتي تمعن في تجاهلهم كأشخاص وأفراد مستقلة من البشر.»

وقد كانت الحركات الثورية للعمال والشباب والنساء والزنوج التي ظهرت مع بداية الأزمة الاقتصادية في أوائل الثلاثينيات والمستمرَّة حتى اليوم سببًا في تعديل الأفكار الفرويدية الكلاسيكية لتتمشَّى مع الواقع الجديد، بعد أن عجزت نظرية التحليل النفسي القائمة على غريزة الجنس والموجِّهة للسلوك عن أن تسوق التبريرات المقنعة لهذه الحركات الثورية.

كما أن علم الأجناس في السنوات الأخيرة توصَّل إلى نتائج وشواهد كبيرة أثبتت زيف بعض الافتراضات المبدئية لفرويد ومنها غريزتا: الجنس والموت، ومراحل الجنسية الطفلية وعقدة أوديب. وانتهى روبرت سيرز (نيويورك ١٩٤٢م) إلى أن التحليل النفسي ليس علمًا حقيقيًّا بالقياس إلى معايير العلوم الطبيعية.

وأصبحت مهمَّة الفرويديين الجدد — ومنهم إريك فروم وهربرت ماركيوز — مساعدة المجتمع الرأسمالي في عمل الإصلاحات لأفكار فرويد الكلاسيكية بحيث تلائم العصر، وبحيث تمتص ثورات الشباب والعمال والنساء والزنوج.

إن الرأسماليين يُقاوِمون أي ثورة أو تمرد ضدهم بجميع الوسائل المُمكنة، وأحد هذه الوسائل هي تقديم أفكارهم الاستغلالية في أثواب متنوعة الألوان وتحت عناوين مختلفة الأشكال توحي للناس أنها تغيُّرات على حين أنها لم تتغير.

وهناك محاولات علمية خادعة يقوم بها الفرويديون الجدد لمزج المبادئ الاشتراكية بالمبادئ الفرويدية؛ ومن هؤلاء: فروم وماركيوز ورايخ، إنهم يُحرِّفون الحقائق التي تفسر الفكر والانفعال والسلوك الإنساني، ويدَّعون أن ثورات الشباب والنساء والزنوج ليست إلا صراعات داخل الإنسان أو في اللاشعور.

وكما يقول جوزيف رينولدز: وماذا يُمكن أن يسعد الطبقة الحاكمة أكثر من إقناع الناس بأن مشاكلهم ليست إلا نتاج الصراعات اللاشعورية داخل أنفسهم؟ أو أن تاريخ الإنسان — بحروبه وتفرقته العنصرية واضطهاده — ناتج عن القوى اللاشعورية للتدمير واللبيدو والكبت الجنسي، وليس ناتجًا عن عمل الرأسمالية!

إن علماء النفس الرأسماليين يدفعون الإنسان إلى البحث عن مشكلاته داخل نفسه، وبهذا يقل وعيه فلا يشترك في الكفاح مع الآخرين ضد الأسباب الحقيقية.

ولقد شَوَّهت نظرية فرويد عن التحليل النفسي وأفكارها عن السلوك القهري اللاشعوري كفاح الشباب والنساء والعمال والزنوج من أجل تحقيق العدالة والمساواة بين البشر.

ولا بد لكل امرأة أن تدرك أن نظرية فرويد للتحليل النفسي ألصقت بالمرأة كل صفات النقص الممكنة مثل الهستيريا والماسوشية والسلوك الطفلي والسلبية والغيرة وعدم الإحساس بالمسئولية، ويجب أن تدرك المرأة أيضًا أن تلامذة فرويد وأتباعه والفرويديين الجدد يُبقون على هذه الأفكار المتخلفة عن المرأة، وأنهم يروجونها للإقلال من قيمة أي حركة ثورية تقوم بها النساء؛ ولهذا فإن جميع حركات تحرير المرأة الواعية ترفض جميع الأفكار الفرويدية القديم منها والجديد.

وتدرك المرأة الناضجة الواعية أن ثورة الإنسان ليست بسبب صراعات داخلية في اللاشعور، ولكنها بسبب صراعات خارجية في المجتمع الاستغلالي، وأن النشاط الاجتماعي للفرد هو العامل الأساسي في تكوين نفسيته، وأن الأبوين والأسرة والمدرسة والشارع والعمل والصراعات الاجتماعية كلها تلعب دورًا هامًّا في تكوين الانفعالات والمواقف والسلوك وشخصية الإنسان. وحيث إن وعي الإنسان انعكاس للواقع الاجتماعي فإنه يلعب الدور الرئيسي في تشكيل سلوك الإنسان، تدرك المرأة الواعية أن الإنسان ليس كائنًا عصابيًّا عاجزًا وعبدًا لغرائزه كما يريد له فرويد وعلماء التحليل النفسي، ولكنه إنسان له القدرة على الإرادة والاختيار الحر وتغيير العالم من حوله من خلال قدراته الثورية الخلاقة، وأنه قادر أيضًا على تغيير نفسه وتطويرها دائمًا إلى الأفضل والأرقى.

ويعتبر الدين من أقوى الأسلحة التي يستخدمها المجتمع الرأسمالي لمقاومة حركات التمرد والثورة التي تقوم بها الفئات المضطهدة من الشعب وبالذات النساء؛ لشدة الارتباط بين القيم الدينية والقيم الأخلاقية التي تحكم النساء فحسب.

ولا شكَّ أن تلك الموجة الدينية التي أصبحت تجتاح — في السنوات الأخيرة — بعض المجتمعات الرأسمالية المتقدمة مثل أمريكا وإنجلترا ليست إلا إحدى وسائل المقاومة يستخدمها المجتمع الرأسمالي لمقاومة التقدم.

في زيارتي الأخيرة لإنجلترا في أواخر عام ١٩٧١م لاحظت زيادة اهتمام الدولة بالدين والأخلاق، وقالت لي الأستاذة فانيسا فينتون — وهي إحدى الباحثات في مجال تنظيم الأسرة: إن الجهل بالجنس ظاهرة عامة في بريطانيا، وإن هذا الجهل يؤدي إلى مشاكل كثيرة أقلها تلك الزيادة في نسبة المصابين بالأمراض التناسلية، ومع ذلك فإن الحكام وأعضاء البرلمان ورجال الكنيسة والمسئولين عن التعليم يعارضون فكرة تدريس الجنس بحجة المحافظة على الدين والأخلاق.

وفي الأيام القليلة التي عشتها في لندن في شهر سبتمبر من ذلك العام قرأت في الصحف أكثر من مرة عن تلك الحركات التي تسمي نفسها بالحركات الأخلاقية والتي يقودها رجال من عتاة المجتمع الرأسمالي، ومن حين إلى حين تخرج إلى شوارع لندن وميادينها الرئيسية مجموعات من الناس يحملون لافتات تُنادي بالعودة إلى حظيرة الدين والأخلاق.

وتمتد هذه الموجة إلى كثير من المجتمعات الرأسمالية الأخرى، وقد نشأ في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة عدد من الجمعيات الدينية والأخلاقية تدعو الناس إلى تعاليم الكنيسة والمحافظة على التقاليد، وتهاجم التحرُّر أو ما تُسميه بالانحلال الأخلاقي.

وقد لاحظت هذه الجمعيات أن اكتشاف حبوب منع الحمل قد لعب دورًا في سبيل مساواة النساء بالرجال، واسترداد المرأة لبعض حقوقها الضائعة، فبدأت هذه الجمعيات تهاجم حبوب منع الحمل بحجة أن نسبة الإصابة بالأمراض التناسلية كالزهري والسيلان ارتفعت في السنوات الأخيرة في هذه البلاد، وأرجعت هذه الجمعيات هذا الارتفاع إلى حبوب منع الحمل التي ساعدت على الحرية الجنسية وانهيار الأخلاق.

وتضع مثل هذه الجمعيات على واجهتها لافتة اسمها التسلُّح الأخلاقي لتخفي وجهها الحقيقي الذي يحاول أن يشدَّ الناس إلى الوراء ليَبقى المجتمع الرأسمالي قويًّا راسخًا.

وتستغلُّ هذه الجمعيات جهل الناس بكثير من الحقائق العلمية؛ فإن زيادة الإصابة بالأمراض التناسلية في أي مجتمع ليس بسبب الحرية التي منحتها حبوب منع الحمل للنساء، ولكن بسبب الجهل بالجنس الذي يتفشَّى في جميع أنحاء العالم دون استثناء. وهناك مجتمعات شرقية لم تسمح بدخول حبوب منع الحمل إليها (لأسباب أو مُعتقَدات دينية) ومع ذلك فإن نسبة الإصابة بالأمراض التناسلية فيها تزيد عن أي نسبة في أي بلد من البلاد التي تستخدم حبوب منع الحمل.

لكن التاريخ يزخر بمثل هذه الجمعيات السياسية والنفعية التي ترتدي ثوبًا أخلاقيًّا أو دينيًّا، وتُحاول أن تعكس الحقائق وتشكك الناس فيما تريد أن تشكُّكهم فيه مستغلة تعاطف الناس مع كل من يتكلَّم باسم الأخلاق أو الدين.

وإذا كانت جمعية التسلُّح الخلقي في أمريكا مثلًا جمعية أخلاقية حقًّا أو جمعية مبادئ ودين حقًّا، فلماذا لا تدعو باسم الخلق والدين إلى وقف الحرب في فيتنام، أو إلى مساواة الزنجي بالأبيض؟ لماذا تقتصر دعوتها على محاربة التمرد في نفس الإنسان، وإلى العودة إلى الصلاة وتعاليم الكنيسة وطاعة الرب؟ لماذا تحاول إقناع الناس بأن الانهيار الأخلاقي الذي يُهدِّد العالم ليس إلا بسبب تمرُّد الإنسان وعدم قناعته بما أعطاه الرب، ولعلها تتصوَّر أن الرب هنا هو المجتمع الرأسمالي.

ولا شك أن هذه الجمعيات هي التي تعمل ضد الأخلاق وضد الدين الحقيقي؛ لأنها تقف ضد المساواة بين البشر وضد العدالة وضد السلام بوقوفها مع الذين يؤيدون الحرب والذين ينادون بالتفرقة العنصرية، وبمعاداتها للحركات التحرُّرية التي يقوم بها الزنوج والنساء، وتُسمِّيها حركة تمرُّد وعصيان الرب.

أما حبوب منع الحمل (وغيرها من وسائل منع الحمل) فقد لعبت دورًا كبيرًا في التخفيف من حدة الجهل الجنسي المتفشي في العالم، وذلك عن طريق توضيحها بعض الشيء لمعنى الجنس الصحيح بفصلها بين عملية التناسل البيولوجية والعملية الجنسية.

إن استخدام وسائل منع الحمل في معظم البلاد الآن يرقى بالعملية الجنسية من وظيفة بيولوجية إلى مستوى العمل الإنساني الناضج، ويستبدل عملية تناسلية عشوائية تسيطر على الإنسان بعملية أخرى إنسانية يسيطر عليها الإنسان بإرادته واختياره الواعي، وهذا هو المفهوم الصحيح لمعنى الجنس.

إنَّ إدانة حبوب منع الحمل أو إدانة الحرية سواء كانت جنسية أم غير جنسية، أو إدانة ثورات الشباب أو النساء ليست إلا تغطية على المجرم الحقيقي ألا وهو نظام المجتمع الرأسمالي الذي لا يسوي بين الناس، المجتمع الذي يحترم الآلة أكثر من الإنسان، المجتمع الذي يفرق بين الرجل والمرأة، بين صاحب العمل والأجير، بين زنجي وأبيض، المجتمع الذي يقتل الملايين في حرب الطمع والاستغلال، المجتمع الذي يقتص من الأطفال لأخطاء الكبار، المجتمع الذي يحترم عقدًا من ورق أكثر من احترامه لشعور الإنسان وإرادته، المجتمع الذي يقبل الزيف في حجرات النوم كما يقبله في حجرات الاجتماعات.

على المرأة ألا تنخدِع بمثل هذه الحركات، وعليها أن تُواصل كفاحها من أجل الحرية والمسئولية، وعليها أن تدرك أن واجبها الأساسي في الحياة ليس هو الإنجاب وليس هو الخدمة بالبيت، وأن واجبها الأساسي في الحياة هو المشاركة في تغيير المجتمع إلى الأفضل والسعي لرقي الإنسان.

فالرقيُّ الإنساني هو قدرة الإنسان المضطردة على أداء وظائف في الحياة تزيد على وظائفه البيولوجية والتي يشاركه في القدرة على أدائها جميع الكائنات الحية بما فيها وحيدات الخلية وأقل أشكال الحياة تطورًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤