البنت

حينما تولد البنت، وبالرغم من أنها لا تستطيع النطق أو التعبير عن نفسها إلا أنها تستطيع أن تدرك من النظرات من حولها أنها ليسَت مثل أخيها الولد، ومنذ أن تبدأ الطفلة تحبو أو تمشي تتربَّى على الحذر والخوف على أعضائها التناسلية.

وتنشأ البنات في معظم الأحيان في جو مليء بالتَّحذير والتخويف من كشف أو لمس أعضائهن التناسلية، وتشعر الأم (أو الأب) بالذعر حين تمتدُّ يد الطفلة الصغيرة ابنة الخامسة من العمر لتَستكشِف أعضاءها فتنهرها بشدة وعنف وقد تعاقبها بالضرب أو التأنيب حتى لا تعود إلى ذلك مرة أخرى.

ولا يُمكن أن ننكر أن الأطفال من الذكور أيضًا يعاملون بالمثل إزاء هذه التصرُّفات، لكن نصيب البنت من هذا التخويف والتحذير هو أضعاف نصيب الولد بسبب القيود والمحظورات التي فرضها المجتمع على الإناث، وبالذات على أعضائهن التناسلية؛ وبالتالي يترسَّب في نفس البنت أكثر من الولد الخوف والكبت والعُقَد النفسية والجنسية التي تَمنع نموها الطبيعي ونضوجها في مراحل العمر المختلفة.

ولا تَدري الأمهات والآباء أنه من الطبيعي — بل ومن الصحي أيضًا — أن يَلمس الأطفال ذكورًا وإناثًا أعضاءهن التناسُلية رغبة منهم في استكشاف أنفسهم، ولأنهم يشعرون أيضًا بشيء من اللذة أثناء هذا اللمس.

وجميع الناس بغير استثناء يشعرون برغبة جنسية تحتاج إلى إشباع … إنها رغبة طبيعية وصحية كالرغبة في الطعام يشعر بها جميع البشر في جميع مراحل العمر.

وكما تختلف الشهية إلى الطعام من شخص إلى شخص، ومن ظرف إلى ظرف؛ فإنَّ الرغبة الجنسية أيضًا تَختلِف وتُعبِّر عن نفسها بوسائل تختلف باختلاف الأشخاص، لكن وظيفتها الأساسية من أجل إشباع الاحتياج الطبيعي في الإنسان وتأكيد وجوده وإثراء حياته الجسمية والنفسية والفكرية والمحافظة على النوع.

وتَتفاوَت شدة الرغبة الجنسية في مراحل العمر المُختلفة، ولكنَّها لا تظهر فجأة (كما كان يعتقِد الكثيرون) في مرحلة البلوغ؛ فهي جزء هام مِن طبيعتنا وتكويننا ينمو بنمونا منذ لحظة الولادة حتى نهاية العمر، ويرى بعض العلماء أن الرغبة الجنسية لا تضعف بالتقدم في السن، وأنها تستمر بنشاطها المألوف إلى آخر العمر، ويرى بعض علماء الجنس أنها أحيانًا ما تقوى وتشتد في الكهولة والشيخوخة بدرجة ملحوظة أطلقُوا عليها اسم «الشباب الثاني»، وأرجعوا ذلك إلى أن الجهاز التناسُلي أقدم الأجهزة وأقواها وظيفة، وأن زوال مشاغل الإنسان من ناحية وزيادة نُضجه الجنسي من ناحية أخرى كفيلان بزيادة قوته الجنسية ونشاطها رغم تقدم العمر.

ويُنكِر هؤلاء العلماء — وفي مقدمتهم العالم الإنجليزي «كوبر» — وجود شيء اسمه سنُّ اليأس سواء للرجل أو للمرأة.

ومن الطبيعي أن الرغبة الجنسية تعبر عن نفسها أثناء الطفولة والمراهقة بطريقة مختلفة عنها في مرحلة النضوج، حينما يمصُّ الوليد ثدي أمه فهو يُشبِع حاجته إلى الطعام ويملأ فراغًا يستشعر خلال ملئه باللذَّة، لكنه في نفس الوقت يبدأ يَستمتِع بأول تلامس مع شخص آخر غير نفسه، وهذا إحساس له لذة.

وحين يُفْطَم فإنه قد يمصُّ إصبعه ليُعيد إلى ذاكرته الإحساس السابق بالرضا، وقد يظلُّ الفم عند الطفل لفترة بمَثابة عضو الاستكشاف لكل ما يُحيط به من أشياء غريبة لم يعرفها من قبل.

ويَلمس الأطفال بنين وبنات أعضاءهم التناسُلية بطريقة طبيعية وصحية رغبة منهم في استكشاف أنفسهم، ولأنَّ هذا اللمس يمنحهم شيئًا من اللذة لا تُسبِّب لهم أي ضرر، بل إنها ضرورية للنمو والتطور الطبيعيَّين لجسم الطفل ونفسه وعقله.

ويلعب الأطفال من الجنسَين ما بين الخامسة والحادية عشرة ألعابًا بريئة لا ضرر منها، إحداها لعبة «الدكتور»؛ حيث يقوم أحد الأطفال بدور الطبيب ويَفحص جسم الطفل الآخر بكل وقار واهتمام واستطلاع كأيِّ طبيب، وفي بعض الأحيان يتبادَل الأطفال لمس أعضاء بعضهم البعض بطريقة مباشرة، وقد يُقلِّدون الاتصال الجنسي الذي يمارسه الكبار.

كل هذا لا يُحْدِث ضررًا للطفل وليس خطرًا على أيِّ طفل ذكرًا كان أو أنثى، لكن الضرر كله والخطر في ذلك التحذير والتخويف الذي ينالُه الطفل عن مثل هذه التصرُّفات الطبيعية.

أذكر أنني وأنا طفلة صغيرة كنت أشعر بالذُّعر وترتجف أصابعي رعبًا إذا ما لامست يدي بطريق الصدفة أعضائي الخارجية، وكنتُ أخاف أحيانًا من احتكاك ملابسي بهذه الأعضاء، وأظن أن مثل هذا الاحتكاك كفيلٌ بإحداث ضرر أو تلفٍ بالغ بها قد يُؤثِّر على حياتي كلها.

وكان هذا الخوف ينمو معي حتى بلغ قمَّته في اليوم الذي أدركت فيه أن هناك غشاءً ما رقيقًا، وأنه موجود في مكان ما قرب السطح بين ساقَيَّ، وأنني يجب ألا أقفز عاليًا من فوق السلم وإلا أتعرَّض للتمزُّق فتُصيبني أنا وجميع أفراد أسرتي كارثة بالغة.

وحينما تقدَّمتُ قليلًا من العمر تغير نوع الخوف الذي كان يجعلني أخشى القفز وأسير بخطوات بطيئة مريضة حَذِرة، وأصبحت أخاف من الغرباء وأخشى الخروج بمُفردي من البيت؛ فقد أدركت أن خطرًا ما يكمن لي في ذلك العالم الخارجي، وأنني يجب ألا أكلِّم الغرباء وبالذات الرجال منهم وإلا فسوف يحدث لي شرٌّ مُستطير.

واستطعت من حيث لا أدري أن أربط بين الرجال وبين ذلك الغشاء الرقيق القائم قرب السطح بين ساقي، وكنت كلما جلست بالصدفة بجوار رجل من غير أفراد أسرتي أضمُّ فخذيَّ بكل قوتي حتى لا يتسرب الهواء الذي يتنفسُّه الرجل ويتسلل بين ساقيَّ ويُصيبني بالضرر.

لا أدري كيف بلغ بي الخوف إلى ذلك الحدِّ لكني كنت سألت أمي ذات يوم بعد أن ولدت أختي الأصغر: كيف ولماذا تلدُ الأمهات؟ وردَّت عليَّ أمي يومها قائلة: إنَّ الأم تلد حين تتزوَّج، وسألتها بالطبع ككل الأطفال: ولماذا تلد الأم حين تتزوَّج؟ وردت عليَّ أمي قائلة: لأنها تعيش مع الأب وتأكل معه وتتنفَّس الهواء الذي يتنفَّسه، وتصورت بسرعة بعقل الأطفال أن الهواء هو الذي يتجمَّع في بطن الأم ويصنع ذلك الجنين الذي يجعل بطنها تكبر، لكنَّني تعجبتُ لهذه الفكرة ولم أصدقها فوجهتُ إلى أمي سؤالًا آخر قائلة: ولكن كيف يُمكن للهواء أن يصنع الطفل؟ وهنا لاحظت بوادر الغضب أو الضيق على وجه أمي وأبعدَتني عنها بيدها وهي تقول في ضجر: لا تكفِّين عن الأسئلة! اذهبي ورتبي السرائر!

•••

ولا أظنُّ أن أحدًا يُمكن أن يتصور (باستثناء النساء) ما تشعر به مثل هذه الطفلة حين تَفتح عينيها ذات صباح فترى دمًا أحمر يسيل من بين فخذَيها، لا زلت أذكر لون وجهي في المرآة ذلك الصباح القاتم، كان لونه أبيض وأصبحت شفتاي بيضاوَين تشوبُهما زرقة، وذراعاي ترتجفان وساقاي تَرتعِدان، وقد تصوَّرت أن الكارثة التي كنتُ أخشاها قد وقعت وأن رجلًا ما غريبًا اقتحم حجرة نومي بالليل وسبَّب لي هذا الضرر، وقد كنتُ أتصور ذلك من قبل كثيرًا وأتأكد قبل أن أنام من إحكام غلق النافذة التي تطلُّ على الشارع.

ومن الطريف أنني كنتُ قد تلقَّيت في المدرسة في اليوم السابق لهذا اليوم الكئيب درسًا في مرض البلهارسيا التي تُصيب الفلاحين حين ينزلُون بأرجلهم في القنوات المائية فتدخل البلهارسيا إلى أجسامهم وتُصيبهم بحرقان أثناء التبول ودم أحمر في البول.

ولهذا ظننتُ ضمنَ ما ظننت من أسباب لهذه الكارثة أنني أُصِبْتُ بمرض البلهارسيا اللعين، وكنت أعتقد في ذلك الوقت أن تلك الفتحة الصغيرة الكائنة بين فخذيَّ إنما هي فتحة البول فحسب.

وبسذاجة طفلة في العاشرة من عمرها تصوَّرتُ أن هذا المرض قد يُشْفَى وحده بعد لحظة وأخرى.

لكنه لم يتوقَّف، بل كان يزيد ساعة بعد ساعة، واضطررت في اليوم التالي أن أتغلب على الخوف والخزي اللذَين كنت أشعر بهما وذهبت إلى أمي وطلبت منها أن تأخذني إلى طبيب.

وعجبتُ في ذلك اليوم كيف بَدَتْ أمي باردة هادئة ولم يفزعها مرض بنتها الخطير، ثم بدأتُ أعرف منها الحقيقة حين قالت لي: إنَّ هذا المرض يُصيب كل البنات والنساء وأنه سيتكرَّر مرة كل شهر لبضعة أيام، وأنني في اليوم الأخير يجب أن أتطهَّر من هذا الدم الفاسد بالاستحمام الجيد.

ورنَّت تلك الكلمات في أذني: مرضٌ شهريٌّ! دم فاسد! لا بدَّ من التطهير بالاستحمام الجيد! وتصوَّرتُ بخيال الطفلة أن فساد هذا الدم معناه النجاسة، وأن النجاسة أمر مَعيب مُزرٍ، وأنني يجب أن أُخْفِي مظاهر ذلك المرض عن جميع الأعين، وبالذات عن أبي الذي كان يتصوَّرني فتاة مثالية ويُعْجَب بذكائي وتفوُّقي في المدرسة، ورجوت أمي أن تكتُم الأمر بيني وبينها.

ولزمتُ غرفتي أربعة أيام مُتتالية لا أملك الشجاعة على أنْ أُواجِه أبي وأخي أو حتى الخادم الصغير، وحينما أذهب إلى الحمَّام أتلفَّت حولي خشية أن يلمحني أحد، وقبل أن أخرج من الحمام أغسل بلاطه غسلًا جيدًا وكأنني أطمس أثر جريمة مشينة، ثم أغسل يدي وذراعي بالماء والصابون عشرات المرات لأزيل عني أي أثر لرائحة ذلك الدم الفاسد.

•••

وبالإضافة إلى كل تلك المشاكل النفسية والجِسمية التي تتعرَّض لها البنت الصغيرة في مرحلة البلوغ بسبب الجهل والتجهيل بأعضائها ورغباتها فإنها تبدأ بدخولها سنِّ المراهَقة في التعرض لمزيد من المحظورات والقيود التي تُقابلها بطبيعة الحال بمزيد من الخوف والانكماش والكبت.

ومن المعروف أنَّ الرغبة الجنسية في البنين والبنات تزداد حدة عند البلوغ، وأن البلوغ يُصاحبه تغيُّرات عميقة في الإنسان بسبب التغير في التوازن بين مختلف الغدد الصماء وزيادة كبيرة في إفراز الغدد التناسُلية، ويُصاحب هذا التغيير الجسمي والفسيولوجي تغير عميق في نفس الإنسان وتفكيره ومشاعره.

ويقول علماء النفس: إن الإنسان في هذه الفترة بالذات يحتاج إلى أن تزول التحذيرات والضغوط من حوله ليأخذ فرصته في النمو والنضج والاستقلال بشخصيته عن الآخرين.

لكن الذي يحدث هو العكس؛ فإنَّ التحذيرات والضغوط تزداد من حول الإنسان في فترة البلوغ عنها في أيِّ فترة أخرى، ويتعرَّض الولد أيضًا للضغوط، ولكن بنسبة أقل كثيرًا من البنت، كما أن الضغوط التي يتعرَّض لها الولد تختلف عن الضغوط التي تتعرَّض لها البنت، وكذلك تختلف نظرة المجتمع إلى بلوغ كلٍّ منهما وإلى مظاهر هذا البلوغ.

ففي الوقت الذي يَعترف فيه المجتمع بالرغبة الجنسية عند الولد فإنه يُنكرها على البنت، وبهذا يُمكن القول: إنَّ بلوغ الولد إيجابي يُؤكِّد به غريزته ورغبته في الجنس الآخر، أما بلوغ البنت فمعناه نكران الجنس ونفْيُه، ويُصبح من الطبيعي أن يُغازل الولد البنت ويُصبح من الانحراف أن تتقبَّل البنت غزل الولد، ولا أقول أن تُغازله كما يغازلها.

وتشعر البنت بالفُروق الضخمة التي يضعها المجتمع بينها وبين أخيها الولد؛ أخوها يخرج ويلعب ويقفز يتشقلب، أما هي إذا ما جلست وانحسر الرداء عن سنتيمتر من فخذها فإن أمها ترشقها بنظرة مخلبية حادَّة لتُخفيَ عورتها، وتشعر البنت — وهي لم تتجاوَز العاشرة أو الحادية عشرة من عمرها — أن كل شيء فيها عورة تَستوجِب التستُّر والإخفاء.

ومن الطبيعي أن تشعر البنت بعد كل ذلك بالعداء نحو جسمها وأعضائها التناسُلية والجنس، تربط بين كل هذه الأشياء والرجل فتَشعُر نحوه بالكراهية.

وقد تُقاوم البنت وتُصارع فترة أو فترات ضد المصير الذي يقودها إليه المجتمع بيد حديدية باردة.

ومِن مُذكِّرات طفلة في العاشرة من عمرها كتبتُ: «لم أكن أهرب إلى عالَمي الصغير وكتبي المصورة وأقلامي الملوَّنة حتى تُجرجرني مامي إلى المطبخ وهي تقول: مصيرك إلى الزواج. يجب أن تتعلَّمي الطبخ، مصيرك إلى الزواج! الزواج! تلك الكلمة البغيضة التي كانت تُردِّدها أمي كل يوم حتى كرهتها، ولم أكن أسمعها حتى أتمثَّل أمامي رجلًا له بطن كبير في داخله مائدة طعام، ارتبطت في ذهني رائحة المطبخ برائحة الزوج، وكرهت اسم الزوج، وكرهت رائحة الأكل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤