التربية والكبت

إنَّ الإنسان مهما ورث من صفات فإن الصفات التي يكتسبها من البيئة المُحيطة به وعن طريق التربية هي التي تُكوِّن صفات شخصيته وشكلها النهائي؛ فالإنسان يعيش داخل مجتمع يتأثر به ويؤثر فيه، والحياة هي التفاعُل المستمر بين الإنسان ومجتمعه.

وبهذا يكون التبادُل أساس حياة الإنسان داخل المجتمع، من ولادته حتى موته، ويتميز الإنسان عن سائر الحيوانات بقُدرته على السيطرة على شعوره والاختيار، هذه القدرة تنمو في مراحل العمر المختلفة؛ فالطفل في أول مراحل عمره لا يَستطيع الاعتماد على نفسه، ثمَّ يتعلَّم كيف يَعتمد على نفسه؛ أي إنَّ الطفل يَفقِد بالتدريج سلبيته واحتياجه للآخرين ويكتسب الإيجابية والقدرة على الاختيار وحرية الفعل، وهذا هو معنى النمو.

والنمو لا يعني نمو الجسم فحسب؛ فكما ينمو جسم الطفل ينمو عقله وتنمو نفسه. إن النمو النفسي والعقلي هو حركة نحو مزيد من استقلال الشخصية والقدرة على الاختيار والحرية الشخصية والمسئولية، هذا النمو ضرورة وأساسي ليُحرِّر الإنسان من إرادات الغير ومحاكاتهم.

لكن المجتمع — بنُظُمِه وقوانينه ومُؤثِّراته وضغوطِه — يكبت المرأة فيعوق هذا الكبت نموها الفكري والنفسي، ويحُول دون تحرُّرها من السلبية والاعتماد على الآخرين، وتظلُّ كالطفل في مراحله الأولى من النمو عاجزًا عن الاستقلال والإيجابية وحرية الفعل، لكنَّها تختلف عن الطفل في أن جسمها لا يكون طفلًا صغيرًا وإنما يكون قد أصبح جسدًا كبيرًا ناضجًا.

ولعلَّ هذا هو السبب في أننا نرى نساءً كبيرات ناضجات في أجسامهن، أما نفوسهن وعقولهن فلا تزال في مرحلة مُتخلِّفة من مراحل النمو، وهذا التخلُّف هو أهم سبب وراء معظم الانحرافات والمشاكل الاجتماعية أو النفسية أو الجنسية.

إنَّ عدم النضج هو السبب الرئيسي وراء معظم هذه المشاكل، عدم نضج المرأة وكذلك عدم نضج الرجل؛ فالرجل وإن كان أكثر حظًّا من المرأة في الحرية وفي فُرَص النضج إلا أنه يتعرَّض أيضًا لضغوط اجتماعية تُعرقل نضجه النفسي والعقلي، كما أنَّ التفرقة الكبيرة بين الرجل والمرأة في المجتمع والضغوط الشديدة على المرأة تزيد من إحساس الرجل بإيجابيته؛ فإذا بها تتحوَّل إلى مبالغة في السيطرة وميل إلى الأنانية والسادية (الغربة في الإيلام)، وتَزيد أيضًا من إحساس المرأة بسلبيتها لتصبح مبالغة في الخضوع والماسوشية (الرغبة في استشعار الألم).

إنَّ سلبية المرأة ليست صفة طبيعية في المرأة، ولكنها صفة غير طبيعية نتجت عن ضغوط المجتمع وكبته لنموِّها، وكذلك أيضًا جميع الصفات الأخرى التي ألصقها المجتمع بالمرأة والأنوثة وكلها صفات غير طبيعية دخيلة على طبيعة المرأة السوية.

فالبنت تُولَد طبيعية ثم تتعلَّم لحظة ولادتها كيف تُصبح أنثى، وكذلك الولد يتعلم كيف يصبح ذكرًا، وكما قالت «مرجريت ميد»: إن الفتاة تتعلَّم أن تجلس وتضم ساقيها وتحافظ على بكارتها وتَخجل من جسمها، ثم تنتظر دورها السلبي في الحياة كامرأة، أما الولد فيُحرِّك ساقيه بحرية ويفخر بجسده ويدخل إلى عالم الرجال بإيجابية، ولو أنَّ البنت تلقَّت التربية التي يتلقاها الولد لَمَا كانت هناك تلك الفروق بين الرجل وبين المرأة أو بين الرجولة والأنوثة.

وقالت سيمون دي بوفوار: إن صفات الأنوثة نتاج صناعي لوضع المرأة السُّفلي في المجتمع، وكتب كينيث ووكر في كتابه الجنس والمجتمع: إنَّ إحساس الذكر بذكورته والأنثى بأنوثتها، ومعنى هذا الإحساس، وفرص إشباع الرغبة الجنسية، والظروف التي يحدث فيها هذا الإشباع، كل هذا يَخضع للمجتمع من حولهما وما فيه من تقاليد وضغوط في البيت أو في المدرسة أكثر مما يَخضع لصفاتهما الموروثة من أبيهما وأمهما.

وقد أهمل علماء النفس التقليديُّون — وعلى رأسهم فرويد — المجتمع وأثره في تشكيل حياة الإنسان الجنسية، وكانوا يهتمُّون بداخل الإنسان أكثر من اهتمامهم بالبيئة الخارجية؛ ولهذا فقدوا الكثير، وثبت قصور نظرية فرويد التي تقول بأنَّ الذي يحكم سلوكنا الواعي إنما هي دوافع العقل الباطن؛ فقد اتَّضح أن كل تغيُّر في شكل أو مضمون وعينا إنما هو ردُّ فعل أو تفاعل لتغير في البيئة من حولنا، وأنَّ الصراعات التي يعاني منها الطفل والتي أرجعها فرويد إلى الإحباط الجنسي والغيرة ليسَت إلا نتاجًا لتفاعُل الإنسان مع القوى والضغوط الاجتماعية التي تُفْرَض عليه.

وقد أخطأ فرويد وأتباعه في فهمهم لنفس المرأة وأحاسيسها ورغباتها، ويرجع هذا الخطأ لأنهم لم يستطيعوا إدراك القوى الاجتماعية والضغوط وأثرها في نفس المرأة، ولأنهم أيضًا كانوا رجالًا ولم يكونوا نساءً.

•••

وتُواجِه البنت منذ طفولتها تناقض المجتمع؛ ففي الوقت الذي تُحَذَّر فيه من الرجال وتُخَوَّف من الجنس وتُفْرَض عليها العفة فهي تشجَّع على أن تكون أداة جنس، وتُعلَّم كيف تكون جسدًا فقط، وكيف تُجمِّل هذا الجسد وتُزينه لتجذب الرجل.

ويَنعكِس هذا التناقُض على شخصية المرأة بتناقُض آخر؛ فهي تُريد الرجل ولا تُريده، وهي تقول لا وتعني بها نعم، ويظنُّ المجتمع أن هذه هي طبيعة المرأة وينسى أنه هو الذي فرض عليها هذا التناقض.

وتسبِّب التربية التي تتلقاها البنت سواء في البيت أو المجتمع كثيرًا من المشاكل والعُقَد النفسية … فالبنت تتدرَّب منذ الصغر على أن تنشغل بجسمها وملابسها وزينتها طول الوقت، ولا تجد وقتًا أو اهتمامًا لتقرأ أو تُنمي قدراتها العقلية والنفسية، وتتحمَّل الفتاة متاعب التجميل وآلامه وتتدرَّب على أن تُخفي طبيعتها وحقيقتها.

وكم تُصاب البنات بالقلق والأمراض النفسية المُختلفة بسبب حرصهنَّ الشديد على استيفاء مقاييس الجمال الموضوعة، وتشعر البنت أن مُستقبلها في الحياة يَتحدَّد حسب طول أنفها واتساع عينيها وامتلاء شفتيها، وحينما تجد البنت أن أنفها أطول أو أقصر من اللازم فإنها قد تعيش في قلق دائم، وقد تشعُر بالخجل من أنفها وتُحاول أن تخفيه بيدها من حين لآخر بحركة لا إرادية، وقد تتصوَّر الفتاة خطأً أنها يجب أن تُخفي رائحة جسمها الطبيعية أو أن هذه الرائحة ليست عطرة كما يجب، فإذا بها تُبلِّل نفسها بالعطر عدة مرات كل يوم، وهناك من ترى أن أسنانها بارزة أو أكبر مما يجب فتمنَع نفسها من الابتسام أو الضحك، وإذا حدث وضحكت فهي تزمُّ شفتَيها أو تضع يدها على فمها.

ولا يُمكن لأحد أن يتصوَّر كم تشتغل البنات بتوافِه الأمور، وكم تُصبح بعض ملِّيمترات تنقصها الرموش عن طولها المعتاد مشكلةً حادَّة في حياة فتاة من الفتيات، كم من فتاة تُرعبها بضع قطرات مطر؛ لأنها تُفسد مشيتَها وقوامها الطبيعي بالتأرجُح على كعب عالٍ رفيع، وكم من امرأة لا تستطيع أن تواجه الناس بغير أن تضع على وجهها المساحيق والظلال والخطوط.

وهناك من الفتيات بطبيعة الحال مَنْ ينجو من مثل هذا القلق والمشاكل النفسية لمطابقة مقاييس الجمال عليهن، لكنهنَّ يَعِشن أسيرات لهذا المفهوم الضيق للجمال، أسيرات لفكرة أن مُستقبلهنَّ هو الرجل والزواج، هذا في الوقت الذي يُعَد فيه إخوانهن الذكور للعمل في الحياة العامة والمشاركة في بناء المجتمع.

وتُقلِّل هذه التربية من طموح البنت وتعتقد أن سنوات الدراسة أو العمل بعد التخرج ليست إلا فترة انتظار تنتهي بالعثور على الزوج.

وينتج عن هذه التربية أن يُصبِح الزوج هو كل حياة المرأة، أما الزوجة فليست إلا جزءًا من حياة الرجل، وحيث إن المرأة تربَّت منذ طفولتها على أن تُنكِر الجنس وتكبت رغباته فهي تعجز بطبيعة الحال عن أداء دورها الجنسي المفروض مع الزوج وتُتَّهم بالبرود، ويُصبح من حق زوجها أن يُطلِّقها، أو أن يبقيها خادمة بالبيت ويَنطلِق هو مبيحًا لنفسه كل مَنْ يستطيع من النساء.

•••

إنَّ الطبيعة لم تُفرِّق بين الرجل والمرأة؛ فلكلٍّ منهما رغبة جنسية وطاقة لا بدَّ أن تُصْرَف في اتجاهها الصحيح، ومن خصائص الطاقة أنها تُولد ثم تُصْرَف ثم تولد ثم تُصْرَف وهكذا تستمر الطاقة أو القوة التي تُحرِّك الإنسان طالما هو يعيش.

وإذا ما تَعرَّض الإنسان في حياته لقوى خارجية تكبت هذه الطاقة فإنها لا تُفْقَد أو تُكْبَت بمعنى الكبت، ولكنها تَنحرِف وتُصْرَف في اتجاه آخر غير اتجاهها السليم؛ ولهذا تنحرف طاقة المرأة الجنسية بسبب ضغوط المجتمع، وتُسبِّب للنساء الكثير من الأمراض النفسية والعصبية، وما هذه الآلام الشديدة التي تُصاب بها النساء أثناء الطمث أو الولادة إلا بسبب انحراف هذه الطاقة عن مسارها الطبيعي لتحطم نفس المرأة.

إنَّ نفسية المرأة تُصبح مشوَّهة ومريضة بسبب أثر الطاقة المحطم على نفسها، ومنذ الولادة حتى الشيخوخة تنحرف طاقة المرأة الجنسية، وتتعلَّم البنت منذ طفولتها أن تنكر الجنس وتقتل رغبة البحث والاستطلاع عندها سواء في علاقاتها الجنسية أو علاقاتها غير الجنسية، فإذا ما جاء الوقت الذي يجب أن تحسَّ فيه الجنس عجزت؛ لأن القالب الذي وُضِعَت فيه أصبح من القوة بحيث إنه تغلَّب على رغبتها الطبيعية واستطلاعها.

ويُريد المجتمع بضغوطه على المرأة أن تصبح بغير رغبات جنسية أو بغير جنس، ويأتي علماء النفس ليضعوا النظريات التي تفسر ما يقع في المجتمع وتُبرِّره، فإذا بفرويد يقول: إن الأنثى ذَكَر بغير عضو تناسل، أو إن الأنوثة هي ذكورة بغير رغبة جنسية أو بغير «الليبدو».

ويأتي علماء الأخلاق والقانون ليضعوا القيم والقوانين التي تفرض على المرأة سلوكًا يتفق مع نظرة المجتمع إليها والدور الذي وُضِعَ لها.

أما أطباء النفس فيقومون بدورهم الفعال في تنفيذ قيَم المجتمع وتحطيم البقية الباقية من شخصية المرأة باسم التكيُّف الاجتماعي.

•••

إنَّ التربية التي يتلقَّاها الطفل في مراحل عمره المختلفة تُعرقل نموه الطبيعي؛ فالطفل لا يُتْرَك لحظة ليُواجه نفسه بنفسه أو يتخذ قرارًا مستقلًّا عن إرادة الكبار الذين يُربونه، وكما قال «دافيد كوير»: إنَّ التربية الحديثة تمنح الطفل الأدب والطاعة وتُفقده نفسه وشخصيته. وعبَّر «كينيث ووكر» عن نفس هذا المعنى حين قال: «إننا نتعلَّم من المهد إلى اللحد أن نستبدل قيمة أنفسنا بالقبول الاجتماعي وتكامل شخصياتنا وأرواحنا بالتكيُّف الأخلاقي.» وهكذا فإن ثمن الحصول على الأمن هو فقدان النفس، وكم يكون هذا الثمن باهظًا؛ لأنه ثمن الحياة ذاتها.

والتربية التي يتلقَّاها الطفل في مجتمعنا الحديث هي سلسلة متَّصلة من الممنوعات والعيب والحرام والذي لا يصح، ويكبت الطفل رغباته ويُفرغ نفسه من نفسه ويملؤها برغبات الغير، ويتضح من ذلك أن هذه التربية عملية قتل بطيئة لروح الإنسان، ولا يبقى من الإنسان بعد ذلك إلا غلافه الجسدي الخارجي جامدًا فاقدًا للحياة كالزنبرك يُحرِّكه الآخرون.

ولا شكَّ أن نصيب البنت من هذه التربية أكبر بكثير من نصيب الولد، وأن نصيبها من الكبت أضعاف نصيبه، ولهذا فإنَّ انسحاق نفسها وروحها أشد وأفدح.

ففي الوقت الذي يُسْمَح فيه للولد بالخروج إلى الشارع ومخالطة أصدقائه تُعْزَل البنت في البيت بفكرة حمايتها من خطر العالم الخارجي، وتشعر البنت بالخوف من الغرباء وتُحسُّ أنها قد تكون فريسة في أي وقت، وتَنكمِش داخل البيت حيث الأمان، وهي لا تدري أن هذا الأمان إنما هو الخطر بعينه؛ لأنه يعزلها عن المجتمع ويجتثُّ جذورها يومًا بعد يوم من الحياة وخبراتها فتموت وهي على قيد الحياة.

وهناك بعض الفتيات أو الكثيرات منهنَّ يُصارعن ضد هذا القتل البطيء.

وقد كنتُ في طفولتي إحدى هؤلاء البنات اللائي يُصارعن ويقاومن، كنت أرفض الخدمة بالبيت والمساعدة في المطبخ وأُصرُّ على الذهاب إلى المدرسة، كنت أرفض أن يصبح شعري طويلًا مقيدًا في ضفائر وأشرطة، لم أكن أفهم لماذا تهتمُّ أمي بملابسي وفساتيني وتشتري لي منها الكثير في الوقت الذي ترفض أن تشتري لي كتابًا أقرؤه، كنتُ أتفوق دائمًا في الدراسة عن أخي فلا يُهنئني أحد ولا يغتبط أحد، وحينما أفشل مرةً واحدة في إتقان الطبخ يُؤنبني الجميع.

وتَختلِف البنات في صراعهن ضد الفروق المُفتعَلة بينهنَّ وبين البنين باختلاف ظروفهن وشخصياتهن، هناك بنت تُصارع حتى مرحلة البلوغ فإذا بحادثِ الطمث المفاجئ والذي لم تُعَدَّ له يُصيبها بالضربة القاضية فتستسلم لمصيرها، وتعتقد أن الطبيعة هي التي حكمت عليها بهذا العقاب كما تسمع من حولها، وبنتٌ أخرى أكثر طموحًا وثقةً بنفسها تصرُّ على مُواصَلة الصراع إلى الحد الذي تنكر فيه جسدها وتُلغي رغباته وتنشد التفوق في الحياة متحدية الرجال، ومن النادر أن نجد تلك البنت التي تستطيع أن تعيش حياتها الطبيعية كجسم وعقل ونفس، وأن تُمارس رغبات جسمها ونفسها وعقلها دون أن يَضطرَّها المُجتمَع إلى إلغاء أحدها على حساب الآخر.

إنَّ المجتمع لا يستطيع أن يَعترف أن المرأة يمكن أن تتفوَّق وتنبغ دون أن تتحول إلى رجل؛ فالتفوق والنبوغ في نظر المجتمع صفة الرجل فحسب، فإذا ما أثبتت امرأة ما نبوغها بما لا يدع مجالًا للشك اعترف المجتمع بنبوغها وسحب منها شخصيتها كامرأة وضمها إلى جنس الرجال.

وكم طاردتني كلمة «رجل» كلما تفوقت في دراستي أو عملي، إذا حافظتُ على كلمتي ووفيت وعدي قالوا: «رجل»؛ كأنَّما المرأة ليست لها كلمة وليس من المفروض أن تفيَ بوعدها، إذا سِرْتُ بخطوات سريعة وحذاء منخفض قالوا: «رجل»، وكأن المرأة لا بدَّ أن تمشي ببطء وكسل وتراخٍ وتتأرجح على كعب عال، إذا مارست الرياضة واكتسبتْ عضلات جسمي قوة قالوا: «رجل» وكأن المرأة لا بد أن تكون ضعيفة العضلات هزيلة الجسم، تسقطها على الأرض نفخة رجل وتَنكسِر عظامها تحت قبضته القوية.

وهذا المفهوم الأخير يكشف عن العلاقة السادية الماسوشية التي تُلوِّن معظم علاقات الرجال بالنساء؛ فالرجل هو السادي الذي يَقتحِم ويغتصب ويكسر، والمرأة هي الماسوشية التي يقع عليها الاقتحام والاغتصاب والتكسير، الرجل هو الفاعل دائمًا والمرأة هي المفعول به، الرجل هو الإيجابي والمرأة هي السَّلبية.

المجتمع يفرض على المرأة أن تكون السلبية وأن تكون ماسوشية، ثم يُسمي السلبية والماسوشية طبيعة المرأة، ويأتي فرويد ليؤكد هذا المفهوم علميًّا ويُعرِّف الرجولة بالسادية والأنوثة بالماسوشية.

•••

حينما بلغتُ السادسة عشرة من عمري وجدتُ نفسي في مدرسة داخلية، عرفت أن أهلي يخشون عليَّ من ركوب المواصلات العامة والاختلاط بالبنين أو التعرض لمعاكساتهم أو إغراءاتهم، وكنت قد فهمت بحكم التربية وقراءة كتب المطالعة والأخلاق وكل ما حولي من تعليقات ونظرات وتصرُّفات أن الاتصال بالشبان أكبر عيب وأكبر خطر يمكن أن يطيح بمستقبلي وسمعتي كفتاة على خلق.

لكني كنتُ أحسُّ أن داخلي طاقة ضخمة تجذبني نحو الجنس الآخر، وكنت أسمع الأغاني الملتهبة بالغرام كل يوم في الراديو ونداءات وتأوُّهات المطربة وهي تنادي على حبيبها فيزيد تأجُّجي.

وكنت أشعر بالذنب وتأنيب الضمير يُراودني وأنا نائمة أحلم وأجد نفسي بين ذراعَي رجل مجهول، وكان يزيد من شعوري بالذنب أنني كنت أجد في ذلك متعة شديدة.

ولم أكن أفهم نفسي تمامًا، كنتُ متناقضة جدًّا في تصرفاتي؛ ففي الوقت الذي ألتهب فيه من الأعماق يبدو مظهري باردًا جامدًا، لم أكن أتظاهر بالبرود، كنت في حقيقة الأمر لا أحب الشبان، بل كنت أكرههم، أما هذا الشاب المجهول الذي كان يأتيني في الأحلام فقد كان مختلفًا، لم أكن أعرف وجه الخلاف؛ فقد كان يُشبههم تمامًا، لكني كنت أعتقد أنه رجل آخر غير كل الرجال، وأنه الوحيد الذي خُلِقَ لي، وقد ضيعتُ من عمري سنين كثيرة أبحث عن هذا الرجل، ثم اكتشفت بعد فوات الأوان أنه شخص وهمي لا وجود له، وأنني أنا التي صنعتُه بخيالي الرومانتيكي، وأنَّ الرجل الحقيقي الطبيعي أفضل منه بكثير.

إنَّ الرومانتيكية مرض يُصيب البنات بسبب ذلك التناقُض الحاد الذي يعشن فيه، وبسبب ذلك الكبت الذي يُفْرَض على غرائزهن في الوقت الذي يطفح المجتمع بالأغاني الرومانتيكية المريضة والفن والأدب الرومانتيكي السقيم الذي ساد ولا يَزال يسود في قرننا العشرين.

إنَّ أكبر مظهر من مظاهر مرض الرومانتيكية هي أن الفتاة تفصل بين جسد الرجل والرجل ذاته، إنه نوع من الشيزوفرينيا أو الانفصام تُلحقه الفتاة بالرجل لتَهرُب من الشعور بالإثم؛ فهي — بحكم التربية والتقاليد السائدة — تربط بين الإثم والاتصال بجسد الرجل، ويكون الرجل الوحيد الذي يُناسب كبتها هو أن تُطلق العنان لخيالها وتصنع رجلًا وهميًّا.

وحينما تكبر الفتاة تُصاب بخيبة أمل كبيرة؛ إذ تجد الحقيقة دائمًا أقل من الخيال، ويصدمها أن تجد للرجل جسدًا وعضو تناسُل ولحمًا ودمًا، وأنه يبصق ويدخل دورة المياه ويبول كسائر البشر العاديين، ولا تُصيبها قُبلة الرجل الحقيقية بتلك الرعشة التي كانت تحدث لها مع فارس الأحلام، ويُمكننا أن نتصوَّر مدى التعاسة التي تعيشها الفتاة في أول حياتها الزوجية وقد تُصيبها خيبة الأمل هذه بالبرود الدائم، وقد تستطيع إذا حظيت برجل ناضِج واعٍ (وهذا نادر جدًّا) أن تُشْفَى من مرض الرومانتيكية، وأن تبدأ تَستمتِع بحياتها الطبيعية بعد سنوات طويلة.

وقد كتبت جيرمان جرير تصف هذه الحالة في كتابها «إخصاء الأنثى» قالت: «وكمُعظَم البنات كنت أحلُمُ بفارس الأحلام الذي سيَحملني على جواده الأبيض، ويُوقظني بتلك القُبلة السحرية التي قرأت عنها في روايات الأدب الشهيرة، ولكن حينما جربت أول قُبلة والثانية وغيرهما من بعد ولم أحصل على النتائج التي كنتُ أتوقَّعها شعرت بخيبة أمل كبيرة، وإنه لم يكن إلا بعد سنوات وبعد أن خبرت الوصول إلى قمة اللذة في الجنس (الأورجازم) حين عرفتُ فجأة معنى تلك القبلة السحرية التي قرأت عنها.»

•••

إنَّ الطاقة الجنسية في الإنسان — رجلًا كان أو امرأة — طاقة ضخمة جبارة، وليس هناك من تعبير عن نقص الإنسان ورغبته في الكمال أبلغ من الرغبة الجنسية، الجو الجنسي يَنشأ عن رغبة الجسم والعقل والنفس في البحث عن شيء يُلبي احتياجاتها جميعًا، هذه الغريزة القوية قادِرة على تحريك كل مَلَكَات الإنسان في الخيال والابتكار، وكما قال نيتشه: إنَّ الطاقة الجنسية في الإنسان تمتد بطبيعتها إلى أعلى قمة في نفس الإنسان وروحه وكيانه.

وحيث إنَّ الطاقة إذا كُبِتَت لا تضيع أو تُفْقَد، وإنما تنحرف عن مسارها الطبيعي إلى مسار آخر؛ لهذا تنحرف الطاقة الجنسية المكبوتة عند البنات إلى طريق آخر غير الرجل.

وقد بدأ كثير من العلماء أخيرًا الاعتراف بخطأ إحصاءات كينزي التي كانت تقول: إن ٩٣٪ من البنين يُمارسون العادة السرية، وإن ٦٢٪ فقط من البنات يُمارسنها مرة واحدة على الأقل، كذلك اتضح خطأ الكثير من المفاهيم العلمية التي كانت سائدة عن العادة السرية سواء في الذكور أو الإناث. إن كل إنسان ذكرًا كان أو أنثى يمرُّ بمرحلة من مراحل عمره حين يجد لذة طبيعية وصحية حين يُمسك أعضاءه التناسلية ويُداعبها حتى يَصل إلى قمَّة اللذة، وهكذا يُمكن القول بأن غالبية البنين والبنات يُمارسون العادة السرية في فترة من فترات حياتهم، ثم يَكفُّون عنها بانتقالهم إلى مرحلة أكثر نضجًا، ويبحثون عن هذه اللذة التي خبروها مع الجنس الآخر.

وبعض علماء النفس يَعتقدُون أن ممارسة البنت أو الولد للعادة السرية في هذه الفترة المحدودة عمل صحي للنُّضج واكتشاف لذة الجنس وخبرتها؛ فقد اتَّضح لهم أن المعلومات النظرية عن اللذة الجنسية تختلف عن التطبيق.

وفي مقابلة لي مع الدكتور ميسجيلب — وهو أستاذ بكلية طب برلين ورئيس تحرير مجلة «صحتك» في ألمانيا الشرقية ومسئول عن الرد على بريد القراء والقارئات بالمجلة — قال لي: حينما ترسل إليَّ فتاةٌ رسالة تقول فيها إنها تُمارس العادة السرية وإنها تشعر بالذنب والخوف، أرد عليها بأنه لا داعي على الإطلاق للشعور بالذنب أو الخوف، بل بالعكس إنَّ ممارسة العادة السرية لفترة محدودة يفيد الفتاة ويجعلها تنضج بسرعة وتُدرك معنى اللذة الجنسية، ولا تجد صعوبة في الوصول إلى قمَّة اللذة مع الرجل الذي تختاره، وقال أيضًا: إن من أسباب عجز أغلب النساء عن الوصول إلى قمَّة اللذة مع رجالهن هو أن هؤلاء النساء لم يمررن بجميع مراحل النضج الجنسي، وإحدى هذه المراحل هي مرحلة العادة السرية؛ وذلك بسبب ما أحيطت به هذه العادة من معلومات خاطئة ومفاهيم مُشوَّهة دفعت الكثيرين من البنات (والبنين أيضًا) إلى الإحجام عنها، ويَكفي أنها سُمِّيَت باسم العادة السرِّية لتُصبح ضمن الانحرافات والأمراض الجنسية. إنَّ هذه المرحلة تصبح صحية في فترة المراهقة حين لا يُصاحبها إحساس بالذنب أو الخوف؛ لأنها تساعد البنت أو الولد على اكتشاف لذة الجنس وإضعاف التوتر الجنسي.

على أن ذلك لا يعني — كما يقول الدكتور مسيجيلب — أن تُفْرِطَ البنت في ممارسة هذه العادة؛ لأنَّ هذا الإفراط له جوانب سلبية كثيرة؛ أحدها أن الفتاة لا تَنتقِل بسرعة إلى مرحلة النضج التالية لتُمارس الجنس مع الرجل، كما أنها حين تَنتقِل إلى هذه المرحلة (ويكون ذلك متأخِّرًا) تشعر بأن علاقتها بالرجل لا ترضيها بالقدر الذي تعوَّدته من خلال العادة السرية، ولا شكَّ أن المجتمعات التي تفرض الضغوط على الفتاة وتحُول بينها وبين الرجل تُشجِّع بناتها على الإفراط في العادة السرية؛ وبالتالي يُحْرَمْن من النضج الطبيعي وتُصاب معظمهن من بعد في حياتهن الزوجية بالبرود أو العجز الجنسي.

•••

اكتشفت حين عدت إلى قراءة بعض مُذكراتي القديمة التي كتبتها وأنا تلميذة بمدرسة حلوان الثانوية الداخلية أنني طوال الخمس سنوات من عمري في هذه المدرسة كنت أعيش حبًّا ضخمًا جارفًا مَلَكَ عليَّ كل مشاعري، ولم يكن الحبيب سوى «مس سنية» مدرِّسة اللغة الإنكليزية، كنت أبكي بكاءً مرًّا طول الليل إذا ما قابلتْني في الفناء ولم تَبتسِم لي أو تَقُل لي: صباح الخير، وكنت أقفز في الهواء فرحًا حتى يَصطدِم رأسي بالسقف أو يكاد إذا ما جاملتني مرة أثناء الحصة وجعلتني أول من يقرأ الدرس، وفي إحدى الليالي سهرت حتى الفجر أكتب لها رسالة عتاب طويلة؛ لأني تغيَّبتُ عن الحصة يومًا فلم تسأل عن سبب غيابي.

ولم أكن أنا البنت الوحيدة التي تحبُّ مُدرِّستَها، كانت بنات الفصل جميعًا قد وقعن في حب المدرسات كل حسب ذوقها واختيارها، وكم من مشاجرات حدثت بين البنات بسبب التنافس على حب مُدرِّسة واحدة.

ويقول علماء النفس: إن مثل هذا الانجذاب والتعلق الذي يحدث بين أفراد الجنس الواحد سواء بين البنين والبنات طبيعي في مرحلة من مراحل نمو الإنسان ونُضجِه الجنسي وأنه لا يعدُّ شذوذًا جنسيًّا.

ولكن الشذوذ هو أن يظلَّ الإنسان في هذه المرحلة ولا ينتقل إلى المرحلة التالية من النضج، حيث يَنجذِب إلى الجنس الآخر ويجد معه المُتعة التي ينشدها.

لكن ضغوط المجتمع وتحريمه اتِّصال الفتاة بالجنس الآخر يُشجعها على أن تتجمَّد مشاعرها عند هذه المرحلة، وتُصبِح علاقتها ببنات جنسها ليست تلك العلاقة العاطفية المؤقَّتة، وإنما علاقة عضوية جنسية تستبدل بها الرجل بالمرأة وتشعر بلذة الجنس مع النساء فحسب.

ولأن المرأة أكثر تعرضًا لضغوط المجتمع من الرجل؛ فهي أكثر تعرضًا للإصابة بالشذوذ الجنسي، ولكن الإحصاءات والبحوث العِلمية لم تُثبت ذلك؛ لأنَّ معظم هذه البحوث تكرَّس لخدمة الرجل ودراسة الانحرافات أو العجز الذي يُمكن أن يحدث له، أما المرأة فقلَّما يتحمَّس العلماء لدراسة أسباب الانحرافات أو العجز أو البرود الجنسي الذي تتعرَّض له كثيرًا.

والسبب في ذلك واضح؛ فإن أهمية المرأة في نظر المجتمع ترتكز على إنجابها للأطفال، وحيث إنَّ برود المرأة الجنسي لا يحُول دون إنجابها للأطفال فإنَّ المجتمع لا يهتمُّ ببرودها ويقابله ببرود أشد.

الإنجاب هو كل ما يهمُّ المجتمع؛ لأثرِه المباشر على مصلحة المجتمع الاقتصادية، وأوضح دليل على ذلك هو ما يحدث في حالتَي تحديد النسل أو إطلاقه بدون تحديد، فحينما يعاني المجتمع من نقص في السكان؛ وبالتالي في الأيدي العاملة اللازمة للإنتاج فإنه يُكرِّس مجهوده لاكتشاف وسائل زيادة الإخصاب وعلاج أسباب العُقم عند النساء، فإذا ما زادت الأيدي العاملة عن حاجة الإنتاج وهدَّد المجتمع اقتصاديًّا زيادة السكان فإنه يكرس جهوده لاكتشاف وسائل لمنع الحمل وتعقيم النساء.

أما أن معظم النساء لا يشعرن في حياتهن الزوجية الطويلة باللذة الجنسية الكاملة فهذا لا يهمُّ المجتمع في شيء.

وقد استردَّت المرأة بعض حقوقها في البلاد المتقدِّمة؛ ولهذا أصبحت البحوث في السنوات الأخيرة تتجه لدراسة أسباب البرود الجنسي عند المرأة أو الشذوذ الجنسي أو غيرهما من الانحرافات التي تَتعرَّض لهما المرأة، ولعل هذا يفسر لنا سبب ازدياد حالات الشذوذ الجنسي بين النساء؛ إذ الحقيقة أن هذه الزيادة ليست بسبب الحرية التي نالتها المرأة، ولكنَّها بسبب ازدياد البحوث التي تهتمُّ بالنساء؛ فالحرية التي تستردُّها المرأة شيئًا فشيئًا لا شكَّ تساهم في علاج الكبت الذي تعاني منه المرأة، وتعالج معه كل أنواع الأمراض والانحرافات ومنها الشذوذ الجنسي.

وقد كان العلماء في بحوثهم عن أسباب الشذوذ الجنسي عند الرجال يُهملون المجتمع وضغوطه وينشغلون بالأسباب البيولوجية للشذوذ، ولعلَّ آخر اكتشافاتهم في هذا المضمار هو أن انخفاض نسبة هرمون الذكورة في الدم (بسبب كسل ما في خلايا «لايدرك» الموجودة بالخصية) يؤثر على مركز في المخ مسئول عن العلاقات الجنسية، فيُصبح الرجل أكثر ميلًا للرجال.

وحيث إنه لا يوجد شيء في الإنسان يُمكِن تفسيره بيولوجيًّا فحسب؛ لذلك فإن الفصل في أي بحث بين الأمور الاجتماعية تَنتهي به إلى أن يكون بحثًا فرديًّا، والأفضل للعلماء اقتصادًا للجهد والوقت والمال أن يبحثوا داخل المجتمع عن أسباب الشذوذ أكثر من بحثهم داخل خلايا الإنسان، فالجنس ليس وظيفة لا إرادية مستقلَّة بذاتها عن البيئة من حولها، والشذوذ الجنسي كالضعف الجنسي ظاهرة من ظواهر توقُّف نمو الشخصية بسبب ضغوط المجتمع.

وقد أثبتت أبحاث وتقارير أزوالد شوارز أن حالات الشذوذ الجنسي بين الذكور غير موجودة تقريبًا في المدارس المُختلطة التي تجمع بين الجنسين، كما اتَّضح أيضًا زيادة حالات الشذوذ داخل السجون والمُعتقَلات وبين الجنود وفي المدارس الداخلية وغير ذلك من الظروف التي يُفْصَل فيها بين الرجال والنساء.

وهذا شيء طبيعي لا غرابة فيه؛ فالطاقة الجنسية عند الإنسان قوية، لا تُفْقَد ولا تضيع، ولا بدَّ لها من طريق تُصْرَف منه لتعود وتولد من جديد، فإذا وجدت الطريق الطبيعي مسدودًا انحرفت إلى طريق آخر، إذا لم يجد الإنسان الجنس الآخر اتجه إلى نفس الجنس، وإذا لم يجد نفس الجنس في حالة الانعزال عن الناس استعاض بنفسه عن الآخرين ومارس العادة السرية، وفي حالات الحرمان القُصوى قد يلجأ الإنسان إلى الحيوانات وبالذات في الريف حين يسكن الحيوان مع الإنسان بيتًا واحدًا، وفي حالة الأرامل العجائز حين لا تجد المرأة إلا كلبها العزيز الوفي.

•••

إنَّ الإنسان مهما ورث من صفات فإن الصفات التي يكتسبها من البيئة المحيطة به وعن طريق التربية هي التي تُكوِّن صفات شخصيته وشكلها النهائي؛ ولهذا لا بدَّ لنا أن نُدرك أهمية التربية الصحيحة منذ الصغر، وقد أثبت علم الوراثة الحديث أن الصفات المكتسبة عن طريق التربية تورث من جيل إلى جيل، وأن الإنسان — عن طريق التربية الصحيحة منذ الصغر — يُمكن أن يكتسب صفات جميلة نفسية وجسمية واجتماعية وأن يُورثها لأطفاله، وكما قال عالم الوراثة الروسي ميتشورين: إننا يُمكننا التدخل في تحسين نوع الإنسان وموروثاته ونصنع أجيالًا أفضل دائمًا، فلا ينبغي لنا أن نَنتظر الحسنات من الطبيعة، بل علينا أن ننتزعها انتزاعًا وندفع الإنسان إلى التغير إلى الأفضل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤