علاقات نفعية

يتَّضح مما سبق أن الضرورة الاقتصادية في المجتمعات الرأسمالية المتقدِّمة قد أباحت للمرأة بعض الحريات والحقوق التي سلبتْها منها من قبلُ ضروريات اقتصادية من نوع آخر.

وكما أدرك الزنجي أن اللون الأسود الذي صبغت به الطبيعة وجهه ليس مبررًا لأن يكون عبدًا للرجل الأبيض، كذلك أدركت المرأة أن الحمل الذي اختصَّتها به الطبيعة ليس مبررًا لأن تكون عبدًا للرجل أو تابعًا أو مملوكًا.

ولكن ليس هذه إلا بضع خطوات على طريق تحرير النساء واستقلالهن ومُساواتهن الحقيقية بالرجل، ولا يزال الطريق وعرًا، تحكمها القيود التي وضعها الرجال الإقطاعيُّون والرأسماليون، بل أقول أيضًا: إنَّ الأقلية من نساء العالم المتقدِّم التي استردَّت بعض حقوقها لا تزال محرومة من كثير من الحقوق التي يَستمتِع بها الرجال، ولا تزال تُواجه مشاكل كثيرة في العمل خارج البيت وداخله وفي تربية الأطفال، وفي الحصول على أجور مُتساوية مع أجور الرجال، وفي الحصول على الوظائف العالية ومناصب الحكم التي يحتكرُها الرجل لنفسه.

ولا تزال كثير من المجتمعات المتقدِّمة تستغلُّ النساء في العمل داخل البيت وخارجه، وقد أثبتت الإحصاءات والبحوث التي أُجْرِيَت في بلاد أوروبا الشرقية والغربية أن النساء العاملات المتزوِّجات أقل فئات المجتمع على الإطلاق حصولًا على وقت للراحة؛ فالمرأة تعمل خارج البيت عدد الساعات نفسها التي يشتغلها الرجل ثم تعود إلى البيت لتخدم زوجها وأطفالها، وقد بدأت الحركات التقدُّمية في العالم تكشف هذا الاستغلال الشديد للنساء، وبدأت بعض البلاد التي تحاول تطبيق الاشتراكية والعدالة أن توفر دور الحضانة وأن تحمل عن المرأة مهمة تربية الأطفال، وأن تخفِّف عنها بعض أعبائها المنزلية بالوسائل المُختلفة، لكن ما من دولة حتى الآن استطاعت أن تحقِّق هذا الأمل لجميع الأمهات، ولا يَستمتِع بدور الحضانة إلا نسبة قليلة من الأطفال، ولا تزال الأغلبية الساحقة من الأمهات العاملات مُرهَقات بالعمل خارج البيت وداخله، خاصة وأن الرجل في أكثر البلاد تقدمًا لا يزال يعتقد أن أعمال البيت وتربية الأطفال إنما هي مسئولية المرأة وحدها، ويتجاهل الرجل أن المرأة تشاركه أيضًا الإنفاق على الأسرة والأطفال.

حينما كنت في ألمانيا الشرقية في نوفمبر سنة ١٩٧١م عرفت أن الدولة لم تستطع أن توفر من دور الحضانة إلا ما يَكفي ٣٠٪ فقط من أطفال النساء العاملات، وأن هناك مُشكلة كبيرة تواجه أغلبية الأمهات العاملات؛ إذ إن الرجل الألماني لا زال يَعتقد أن أعمال البيت وتربية الأطفال إنما هي مهمَّة المرأة وحدها سواء كانت مُتفرِّغة بالبيت أو عاملة، وقد قال لي أحد أطباء النفس الألماني: إنَّ حل هذه المشكلة يحتاج إلى وقت حتى تتعمَّق المفاهيم الاشتراكية والمساواة في نفوس الرجال الألمان، خاصة وأن ألمانيا تأثرت بالطبع بالحكم النازي، وكان هتلر يقول: إنَّ حياة المرأة تتلخَّص في الأطفال والمطبخ والكنيسة، وإنه ما من صراع يمكن أن يُوجد بين الجنسين طالما أن كل جنس يقوم بالمهام التي فرضتها عليه الطبيعة.

وبهذا كانت أفكار هتلر عن المرأة تتَّفق مع أفكار فرويد وغيره من علماء النازية والاستعمار الرأسمالي.

وعلى هذا فإنَّنا نُدرك أن المرأة العاملة في أكثر البلاد تقدمًا لا تزال مستقلة لجمعها بين عملها داخل وخارج البيت، ولا تزال هذه المشكلة تحول بين المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة، ولا تزال تعوق المرأة عن إثبات قدراتها الحقيقية في العمل والإنتاج.

وقد استطاعت بعض البلاد المتقدمة الإحساس بضخامة هذه المشكلة، وبدأت بعض الآراء في السنوات الأخيرة تُنادي بتغيير المفهوم التقليدي لدور كل من المرأة والرجل في الحياة، ويرتكز هذا الرأي الجديد على أن المرأة تعمل خارج البيت كالرجل؛ ولهذا يجب على الرجل أن يشارك المرأة مسئولياتها داخل البيت وفي تربية الأطفال.

إن المفهوم التقليدي بأن المرأة هي المسئولة عن تربية الأطفال والخدمة بالبيت، وأن الرجل هو المسئول عن العمل خارج البيت؛ إنما هو مفهوم خاطئ نابع من الوضع الاجتماعي الذي وُضِعَت فيه المرأة، ونتَج عن هذا تخلُّف المرأة وعدم قدرتها على النبوغ في الحياة العامة والعلوم والفنون، ونتج عنه أيضًا أطفال لا تَكتمِل صحتهم النفسية؛ فقد أوضحت بعض البحوث والدراسات النفسية أن النزعات العدوانية تكمن في نفوس معظم الأطفال بسبب طغيان شخصية الأم على حياتهم في سنوات عمرهم الأولى في الوقت الذي لا يشعرون فيه بشخصية الأب.

ولا شكَّ أن ظاهرة تعلُّق الطفل الشديد بأمه وكراهيته لأبيه (عقدة أوديب) إنما هي نتيجة عدم التوازن في الارتباط العاطفي بين الطفل ووالديه، والتصاقه الشديد بأمه التي تتفرَّغ لتربيته، وابتعاده عن أبيه الذي يعتقد أن تربية الأطفال إنما هي مسئولية الأم، وقد بدأت بعض البلاد المتقدِّمة تستعين بالرجال والنساء معًا في العمل بدور حضانة الأطفال حتى ينشأ الطفل وأمامه الصورتان معًا: صورة الأب وصورة الأم، وليس من الضروري في هذه المجتمعات أن يكون الأب هو أبوه ذاته صاحب الحيوان المنوي الذي أخصب بيضة الأم، كما أنه ليس من الضروري أيضًا أن تكون أمه هي صاحبة الرحم الذي حمله؛ فقد يكون هذا الأب وهذه الأم أقلَّ كفاءة من غيرهما في تربية الطفل، وإنما من الضروري أن يقوم على تربية الطفل رجال ونساء فهموا معنى التربية الصحيحة.

إنَّ الطفل لا يختار أباه ولا أمه ولكنَّهما يُفْرَضان عليه، فما ذنب الطفل الذي يلده أبوان لا يُحسنان تربيتَه وتغذيته ولا يمنحانه فرص التعليم والنبوغ في الحياة؟

وما ذنب الطفل الذي يلدُه أبوان لم يوقِّعا عقد الزواج؟ إن الطفل — أي طفل — من حقه المطلق أن يعيش ويأكل ويتعلَّم ويعمل دون أي اعتبار لأبويه، هل هما متزوجان أم لا، هل هما منفصلان أم لا، هل هما قادران على العمل والكسب أم لا؛ فالطفل المولود يجب ألا يُحاسَب عن كيفية مجيئه إلى الحياة؛ لأنه لم يشترك في هذه العملية، ولم يكن له يدٌ في أن يأتي إلى هذه الدنيا أو لا يأتي، كل ما في الأمر أنه وُجِدَ في هذه الحياة بغير إرادته وبغير علمه، فليس من العدل ولا من المنطق أن يُحاسَبَ على شيء لم يُردْه ولم يعرفه ولم يشترك فيه. إن المجتمعات التي تفرق بين الأطفال وتُعاقبهم على ما حدث قبل ولادتهم إنما هي مجتمعات بلغت أشد أنواع القسوة والظلم؛ لأنها تصدر حكمًا على أبرياء صغار لم يَشتركوا في الخطيئة التي يُحاكمهم عليها المجتمع، وليس في مقدورهم الدفاع عن أنفسهم، ولكن هذه القسوة ليست إلا امتدادًا للقسوة والظلم الواقعين على المرأة التي يَتنكَّر لها الرجل ولا يمنحها شرف الزواج منه، وإلا فكيف يُمكن للمجتمع أن يعاقب الأم غير المتزوجة؟ كيف يمكن أن يعاقبها دون أن ينكر شرعية هذا الطفل الذي تلده ويحرمه من شرف اسم الرجل؟

•••

جاءتني إلى العيادة سيدة شابة في الثلاثين من عمرها، كانت تعاني من آلام والتهاب في الرحم، سألتها عن حياتها فعلمتُ أن أباها كان موظفًا بإحدى المصالح الحكومية، تقدَّم إليه أرمل في الخامسة والخمسين من عمره، تاجر أقمشة ثري، ويمتلك قطعة أرض، لم يتردد الأب في تزويجه لابنته، وكان عمرها في ذلك الوقت ثمانية عشر عامًا، وعاشت هذه الزوجة اثني عشر عامًا مع رجل عجوز غريب عنها، ولم تُنجب منه أي أطفال، كانت العلاقة الجنسية بينها وبينه تُسبِّب لها حالة نفسية غريبة من الاشمئزاز وتنتهي بحالة جسمية غريبة من ألم في الرحم ورغبة في القيء.

وقالت لي الزوجة في أسًى: كنتُ أحسُّ يا دكتورة في كل ليلة أنني أبيع جسدي كالمومس لهذا العجوز الغريب نظير بضع جنيهات أعطاها لأبي.

فهل يُمكن أن تُسمى هذه العلاقة بين هذا الزوج وزوجته علاقة شريفة؟

هل الشرف أن يُتاجر الأب في ابنته باسم الزواج؟

هل الشرف أن يَشتريَ العجوز بماله فتاة في عمر حفيدته؟

هل الشرف أن تعيش فتاة صغيرة كل هذه الأعوام ضد رغبتها وضد إنسانيتها وتُحْرَم من كل متعة وكل حق حتى متعة الأمومة؟

إذن ليس عقد الزواج هو الذي يجعل العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة شريفة، ولا يكفي للمرء أن يُوقِّع عقد الزواج ليُصبِح إنسانًا شريفًا.

إنَّ تحويل المرأة إلى سلعة تُباع وتُشْتَرى باسم الزواج نوع من البغاء المقنع بقناع من الشرعية المزيفة التي تتناقَض مع جوهر الشرف ومعناه السامي؛ فالشرف في جوهره ضد الزيف وضد ملكية إنسان لإنسان أو استغلال إنسان لإنسان، الشرف في جوهره ضد الرق والعبودية وينادي بكرامة الإنسان، ويبني العلاقة بين البشر على أساس من المودة والحب والإرادة المتبادلة والاختيار الحر، الشرف ضد المتاجَرة في الناس سواء كانوا عبيدًا أو نساء؛ وبالتالي فهو ضد الزواج الذي بُنِيَ على المتاجرة وبيع المرأة بالمال، الشرف في جوهره يُحرِّم مثل هذا الزواج ويعدُّه زواجًا غير شرعي؛ لأنه علاقة ضد شرف الإنسان وضد كرامته وضد إرادته الحرة وضد اختياره النابع من شعوره الصادق.

•••

ولكن كم ينسى الناس جوهر الشرف، وكم يتجاهَل المجتمع المعنى الأساسي لزواج رجل بامرأة! وبمرور الزمن يُضيع هذا المعنى ومضمونه الحقيقي ويتمسَّك الناس بالشكل ويُحافظون عليه، فيصبح الشكل بديلًا للمضمون، ويُصبح عقد الزواج أو قطعة ورق بديل الحب والإرادة والكرامة والشرف، وتُصبح إجراءات الزواج أشبه بإجراءات بيع العقارات أو تأجيرها، ويخلو الزواج من مضمونه ومُقوِّماته الإنسانية ويَرتكز على العلاقات التجارية.

ولعل هذا هو السبب في فشل كثير من الزيجات فشلًا علنيًّا بالطلاق أو فشلًا سريًّا بالخيانات الزوجية المتفشية في معظم المجتمعات، أو جدب العلاقة بين الزوجين وبرودها وخلوها من كل بهجة لتَطفح بالمُنغِّصات، ويُصبح نفور الزوج من زوجته أو الزوجة من زوجها شيئًا عاديًّا، وينتج عن ذلك أن يصبح للإنسان في مثل هذه المجتمعات حياتان مُتناقضتان: حياة زوجية اجتماعية ظاهرية ومزيفة، وحياة حقيقية سرية بعيدة عن المجتمع، ولا يُمكن أن نُنكر ما يُحْدِثه هذا الانقسام في شخصية الإنسان من انحرافات نفسية أو جسدية وفكرية، وما ينتج عنها من مشاكل اجتماعية، وخلق مناخ غير صحي يتربى فيه الأطفال فينشئون بنفوس وشخصيات ضعيفة أو مرضية، ويسيرون بطبيعة الحال في نفس الطريق الذي سار فيه آباؤهم وأمهاتهم.

•••

إنَّ العلاقة بين الرجل والمرأة تفقد شرفها وهدفها السامي إذا بُنِيَت على أسس تجارية أو نفعية، وهذا هو معنى الدعارة؛ فالمرأة المومس هي التي تتلقَّى أجرًا عن علاقتها بالرجل، والرجل المُومس هو الذي يدفع أجرًا عن علاقته بالمرأة.

ولا شك أن الرجل هو الذي يسعى إلى المرأة المومس وهو الذي يَدفع لها؛ أي إنه الطرف الإيجابي في ممارسة الدعارة؛ وبالتالي فإن نصيبه من المسئولية يجب أن يكون أكبر من نصيب المرأة، ومع ذلك فإنَّ المجتمع لا يَدين إلا المرأة وحدها، ولا يستخدم كلمة «مومس» إلا للنساء فقط.

وإذا كان تعريف المومس أنها المرأة التي تقبل العلاقة الجنسية بالرجل لأسباب تجارية ونفعية، فلا بد أن يسريَ هذا التعريف على أيِّ امرأة تقبل العلاقة الجنسية بالرجل لأسباب تجارية ونفعية، وبهذا لا تختلف العلاقة الزوجية القائمة لمصلحة تجارية أو نفعية في جوهرها عن الدعارة، ربما كان هناك اختلاف في الشكل من حيث توقيع عقد الزواج الشَّكلي، وأن الأجر الذي تتلقَّاه الزوجة يختلف في طريقة دفعه عن الأجر الذي تتلقاه المومس، لكن المضمون واحد من حيث افتقاد العلاقتَين للحب الحقيقي، والذي بدونه تُصبح العلاقتان غير شريفتَين.

وقد أثبتَت الإحصاءات والبحوث وجود تناسُب عكسي بين عدد المشتغلين والمشتغلات بالدعارة في مجتمع ما وبين تحرُّر النساء في هذا المجتمع ومُساواتهم بالرجال في الحقوق والواجبات؛ إذ كلما تحرَّرت النساء وحصلن على المساواة انخفض عدد الذين يمارسون الدعارة.

وقد أوشكت بعض البلاد الاشتراكية المتقدِّمة أن تخلو تمامًا من ذلك النوع من النساء الذي يُطْلَق عليه اسم المُومسات؛ فالمرأة في مثل هذه المجتمعات تعلمت وعملت وأصبحت تتقاضى أجرًا عن عملها كالرجل، ولم تَعُد هناك امرأة في حاجة إلى أن تعول نفسها أو أسرتها عن طريق الاتجار بالجسد.

وكم يُصاب السياح المحرومون جنسيًّا بخيبة أمل حين يُسافرون إلى بلد من هذه البلاد فلا يجدون تلك الملاهي والدور الليلية التي تعرض العلاقات الجنسية، ويجوبون الشوارع بحثًا عن مومس واحدة فلا يجدون.

وفي زيارتي لألمانيا الشرقية عام ١٩٧١م لاحظت أنه بمجرد أن تغرب الشمس يتهافَت بعض الرجال العرب على مغادرة برلين الشرقية إلى برلين الغربية، والسبب معروف؛ فالمرأة في برلين الشرقية تعمل كالرجل والمجتمع الاشتراكي لا يتَّخذ من الجنس تجارة أو سلعة، أما في برلين الغربية فهناك حوانيت الجنس التي تعرض الأفلام الجنسية التجارية، وهناك دور اللهو التي تنتشر في المجتمعات الرأسمالية لتستغلَّ النساء المومسات في الإتجار بالجنس وسحب الأموال من السياح الأجانب.

وكم يظهر واضحًا وجليًّا الفرق الكبير بين نظرة كلٍّ من المجتمع الاشتراكي والمجتمع الرأسمالي إلى المرأة. المرأة في المجتمَع الاشتراكي إنسان لها جسم وعقل ونفس كالرجل سواء بسواء، أما في المجتمع الرأسمالي فهي لا تزال مجرَّد ذلك الجسد الذي يُسْتَغَل في الخدمة بالبيت في الإتجار بالجنس.

وليس هذا بالغريب؛ فإن إنجلز وماركس — مؤسِّسَي الفلسفة الاشتراكية في العالم — هما أول مَنْ كشف النقاب عن مظاهر استغلال المرأة وعبوديتها وأسبابها الحقيقية الكامنة في المجتمع الرأسمالي، وقد كتبا في معظم ما صدر لهما من فلسفة وأفكار أن الرأسمالية جعلت المرأة مجرد أداة للإنجاب وسِلعة تباع وتُشْتَرى باسم الزواج.

وقد بدأت بعض البلاد الرأسمالية المتقدمة مثل الولايات المتَّحدة تدفع النساء إلى العودة إلى البيت بعد أن أصبحت حاجة الإنتاج في غِنًى عنهن، وفعلًا أثبتت الإحصاءات في السنوات الأخيرة أن الزوجة الأمريكية أصبحت تترك عملها وتمكُث بالبيت بمجرد إنجابها الطفل الأول.

وكما يقول كارل ديجلر: إن المرأة الأمريكية أصبحت تَنحدِر منذ سنة ١٩٢٠م، وأصبح طموحها يقلُّ في العمل خارج البيت، ويقتصر اهتمامها على الزواج والإنجاب وتربية الأطفال.

وقد تزايد عدد الزوجات والأمهات غير العاملات منذ سنة ١٩٢٠م حتى بلغ ٧٠٪ من النساء عامة. أما في ألمانيا الشرقية فإن ٨١٫٥٪ من النساء عاملات أي ١٨٫٥٪ من النساء غير عاملات، كما أن أغلب النساء الأمريكيات العاملات يشغلن وظائف صغيرة لا تحتاج إلى مهارات فنية عالية مثل أعمال الخدمة والسكرتارية والأعمال الصناعية التي لا تتطلَّب خبرة أو مهارة.

ويقول كارل ديجلر: إن المرأة الأمريكية لا تتواجد في الأعمال الفنية والوظائف العالية إلا بنسب قليلة جدًّا. إن جملة عدد النساء الأمريكيات العاملات في مجال الطب والقانون والهندسة والبحث العلمي مجتمعة لا يزيد عن ٧٪ من عدد النساء العاملات حسب إحصاء ١٩٥٠م، وأن ٦٪ فقط من الأطباء الأمريكيين نساء، ومن المحامين والقضاة ٤٪ فقط نساء، وعلى عكس ذلك في الاتحاد السوفييتي فإن ٧٥٪ من الأطباء السوفييت نساء.

لقد سافرت إلى الاتحاد السوفياتي في يوليو ١٩٦٩م، وزرت مُدنه وقراه شمالًا وجنوبًا من ليننجراد إلى إليانوس إلى موسكو إلى ألماتا إلى طشقند، وشهدت بعيني كثرة النساء العاملات في كافة المجالات العلمية والطبية، واحتلال النساء لكثير من المناصب القيادية سواء في العلم أو في الحياة العامة والسياسة، وقد رأيت الشيء نفسه في زيارتي لألمانيا الشرقية. إنَّ نسبة عدد القضاة النساء في ألمانيا الشرقية هي ٣٤٪، ومن أعضاء البرلمان البالغ عددهم ٥٠٠ عضو هناك ١٥٩ امرأة، على حين في ألمانيا الغربية ٣٤ امرأة من ٥١٨ عضوًا بالبرلمان.

ومن المعروف أن الحياة السياسية الأمريكية لا نصيبَ للمرأة فيها إلا فيما ندر.

وتقول أليس روزي: إنه إذا حدث وأصيبت أمٌّ أمريكية بالطموح الطبيعي لها كإنسانة، وأرادت أن تمارس عملًا خارج البيت فإن العلماء النفسانيين والاجتماعيين الأمريكيِّين يَنصحونها بالبقاء في البيت مع أطفالها وقايةً لهم من الضرر النفسي الذي يحدث بسبب غياب الأم، ويُسمونه الحرمان من الأمومة، أما الحرمان من الأبوة الذي هو ظاهرة شائعة وعامة — حيث يعمل الأب طول النهار بعيدًا عن أطفاله — فلا أحد من هؤلاء الاجتماعيين أو النفسانيين يَذكُره أو يُنبِّه إلى ضرره.

إن المجتمع الرأسمالي يدَّعي ويُهوِّل من الضرر النفسي الذي يمكن أن يحدث للطفل إذا خرجت أمه للعمل حتى يُقيِّد هذه الأم بالبيت وتظلَّ مُسْتَغَلَّة.

وقد كشف علماء المجتمع الجدد المتقدمون عن خطأ هذه الأفكار النفسية والعلمية التي لم تكن تظهر إلا للتمويه وإخفاق الحقائق الفعلية، ويقول هؤلاء العلماء الجدد: إنَّ التاريخ البشري في عهوده الأولى قبل التاريخ وفي القرون الوسطى وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر لم يعرف شيئًا اسمه الأمومة المتفرِّغة طول الوقت مثلما حدث في قرننا العشرين بالنسبة لأمهات الطبقة المتوسطة، كانت الأمهات منشغلات بأعمال أخرى غير الالتصاق بأطفالهن طول النهار، وكان الأطفال يشتركون في الأعمال خارج البيت وداخله، وكانت صحتهم النفسية أفضل من صحة الأطفال النفسية في مجتمعنا الحديث، ولم تكن الأم في تلك الأزمنة كالأم في العالم الحديث تعاني الملل والوحدة وتُواجه عشر ساعات في النهار تقضيها وحدها مع أطفالها.

ولعلَّ هذا يدلُّنا على أن سيطرة الرجل على المرأة منذ سلب منها حقها الطبيعي في الحياة كانت تَتزايَد وتنمو بنموِّ المجتمع الاستغلالي، وتتَّخذ أشكالًا ومظاهر مختلفة بعضها يختفي وراء ستار من التقدُّم المزيَّف والمدنية الحديثة، كأن يَسمح للمرأة أن تُدخِّن وأن تُعريَ ساقيها وفخذيها في الميني جيب، وبعضها يكون سافرًا واضحًا يكشف سيطرة الرجل على المرأة مثل ما يحدث حين يدفع الرجل المرأة إلى البيت سواء بالقوة والإجبار أو بالإقناع والتمويه.

ولعلَّ السبب الحقيقي الذي دفع معظم النساء في العالم إلى الاقتناع بالبقاء في البيت هو تلك النظريات العلمية الخاطئة التي ادعت أن المرأة حين تخرج إلى العمل وتترك أطفالها تُسبِّب لهم ضررًا نفسيًّا بالغًا، وكذلك أيضًا تلك النظريات التي كانت تقنع المرأة أن تحقيق ذاتها كأنثى ليس إلا عن طريق الإنجاب وتربية الأطفال.

وقد أثبتَت البحوث العِلمية خطأ هذه المفاهيم جميعًا، بل وكشف عن أن الرجل استغلَّ الأطفال ليربط المرأة بهم في البيت، وأثبتت بحوث بورشينال روزمان أن نمو الأطفال لا يتأثَّر بغياب الأم في العمل سواء حدث هذا الغياب في الثلاث سنين الأولى من عمر الطفل أو بعد ذلك.

وكان من نتيجة هذا التمويه أنَّ الأم اعتقدت أن تربية الأطفال إنما هي مسئوليتها وحدها، وحينما تفكِّر في العمل تشعر بالذنب؛ لأنها قد تتسبَّب في ضرر أطفالها، وحينما تمتلك شيئًا من الطموح لتعمل خارج البيت يُواجهها الرجل بالسؤال: والأطفال؟ فإذا بها تصمُت وتعجز عن الرد، ويُمكن للمرأة الناضجة الواعية أن ترد الآن على هذا السؤال قائلة: إن تفرُّغ الأم لأطفالها مضر لها وللأطفال، وإن مسئولية الأبوة كمسئولية الأمومة تمامًا لا تقلُّ عنها شيئًا، ولهذا فليس على الرجل أن يسأل الأم وحدها عن الأطفال وإنما لا بد أن يسأل نفسه بالمثل أيضًا.

وقد ثبَت علميًّا أن أفضل وسيلة لتربية الأطفال هي وسط أطفال آخرين في دار للأطفال تضمُّ عددًا من الرجال والنساء المتخصِّصين في التربية الصحيحة، وأن يليَ ذلك في الأفضلية هو اشتراك الأب والأم بالتساوي في رعاية الأطفال وتقسيم الوقت بينهما بالتساوي في رعايتهم والبقاء معهم في البيت.

إنَّ أسس التربية النفسية الحديثة هي أن يتوازن لدى الطفل رؤيته لأبيه وأمه، وأن يتساوى عنده الإحساس بالأم والأب سواء في الرعاية أو الواجب والحنان.

لكن المجتمع الرأسمالي يُحرِّف الحقائق العلمية ليضع أمام خروج المرأة للعمل العراقيل المادية والنفسية، ثم يَفرض عليها في النهاية إذا أصرَّت على العمل أن تختار بين عملها خارج البيت وعملها داخل البيت، ويُلوِّح لها بالخطر والإثم لو اختارت العمل خارج البيت.

وقد أصبحت المرأة الواعية الآن تُدرك أساليب المجتمع الاستغلالي، وأصبحت لا تشعر بالتردُّد أو الحيرة أو الشعور بالذَّنب حين تختار لنفسها أن تعمل خارج البيت؛ فقد أدركت أن هذا العمل هو حياتها وهو بقاؤها كإنسانة، وهو الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذاتها، كما أدركت معنى الأمومة الصحيحة ومسئولياتها، ومعنى الأبوَّة الصحيحة ومسئولياتها.

ولا شكَّ أن الرجل لا يواجه مثل هذه المشكلة أبدًا في حياته، ولا يُخيره المجتمَع بين عمله خارج البيت أو داخل البيت؛ ذلك أن المجتمع ينظر إلى أن الرجل غير مسئول عن كل ما هو داخل البيت من خدمات وأعمال، وإنما هي مسئولية المرأة وحدها.

وتُواجه المرأة — بالإضافة إلى ذلك — مشاكل عدة بعد أن تَنجح في اتخاذ قرار بالعمل خارج البيت، فتلقى مِن المُعوقات في المجتمع ما يحول بينها وبين ممارسة العمل الذي تختاره أو المجال الذي تحبُّ أن تنبغ فيه، ثمَّ إن المشاكل الزوجية ومشاكل البيت تحول بينها وبين إتقان عملها والنبوغ فيه، وبهذا يضع المجتمع العراقيل أمام المرأة في كل خطوة تتَّخذها نحو العمل، بالإضافة إلى هضم حقوقها في العمل وبَترِ أجرها بحيث يصلُ إلى نصف أجر الرجل عن نفس العمل في كثير من الأحيان.

لكن ذلك يجب ألا يُثبِّط همة المرأة وإصرارها على العمل خارج البيت؛ فالبيت هو مقبرة المرأة، وهو ذلُّها وهوانها وعبوديتها؛ لأنَّ البيت معناه أن تُحْرَمَ من خبرات الحياة التي تنضجها وتُحقِّق ذاتها كإنسانة، كما أن البيت معناه أيضًا أنها لا تعمل ولا تحصل على إيراد؛ وبالتالي فإنها تعيش عالةً على الرجل.

ولا يُمكن للمرأة التي تحتاج إلى الإعانة أن تتحرر من علاقتها النفعية بالرجل، ولا بد لزواجها منه أن يرتكز على المصلحة الاقتصادية والاجتماعية والحماية والإعالة وغير ذلك من الأسباب التي تدرج هذه العلاقة الزوجية ضمن العلاقات التجارية حيث تُدرج الدعارة أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤