تقديم

ثمة إحساس واتفاق بين المشتغلين بالفكر العربي المعاصر، والمهتمين بهموم النهضة والتقدم في الأمة، أن ما خُطط له منذ أربعة عقود — على الأقل — لم يحقق ما كان يُرجى ويُتوخى، وأن الجهود التي بُذلت مسَّها قصور كبير في جوانب مهمة من هذا المسار الفكري رغم الإمكانات التي توفرت لتيارات هذا الفكر، ورغم محاولات الترميم بين لحظة وأخرى، لكنها بقيت دون المبتغى، ولم ترقَ إلى مستوى التحول العميق في الأُطر المرجعية ومنطلقات التأسيس والبناء.

وقد قدمت هذه الاتجاهات مشاريعها الفكرية، وتبنَّت مقولات ومفاهيم تتقدم برامجها للإجابة عن الأسئلة المقلقة والحرجة التي تواجه الأمة، فدارت المعارك بين هذه المقولات ومنهجياتها تحت شعار «البقاء للأقوى» و«نفي النفي» ومنطق التجاوز والإلغاء، فأدخلت الأمة في معركة وهمية؛ معركة المقولات الإمبريالية بتعبير المسيري. فجَرَّ الفكر العربي المعاصر الأمة إلى معارك فكرية ومنهجية لم تكن لتختارها بإرادتها، ولا عن طواعية، لكن سِيقَت إليها سَوقًا، ودُعَّت إليها دَعًّا، فتوزعت إلى أحزاب، كل حزب بما لديهم فرحون: معركة المناهج، ومُحدِّدات الرؤى، والاختيارات الفكرية، فنشأت فيها مقاربات وأطروحات مضادة، فاحتدم الصراع بين تيارات الوعي العربي حول أمضى الأسلحة وأقواها في مواجهة مركبات التخلف والتأخر التاريخي، فاختلفت هذه المُحدِّدات المنهجية من مدرسة إلى أخرى، وقدمت وصفات منهجية جاهزة.
  • المقاربة الأولى: المقاربة التاريخية الجدلية التي تبنَّاها اليسار الماركسي العربي، الذي يرى في التحليل المادي التاريخي المُخلِّص الحقيقي للأمة من سكونها، وركودها التاريخي، وتجاوز المنهجيات التي ظلت رهْن النظرات، والمواقف المثالية «الميتافيزيقا» التي يحكمها خطٌّ عامٌّ مشترك، ورؤية أحادية الجانب، ومستقلة عن التاريخ وقاصرة عن كشف العَلاقة الواقعية الموضوعية غير المباشرة بين القوانين الداخلية لعملية الإنجاز الفكري، وبين القوانين العامة لحركة الواقع الاجتماعي،١ باعتبار هذه الرؤية تمثل طريق الوضوح المنهجي،٢ وتملك عناصر قادرة على تقويم التاريخ وتجاوزه، فنظرت إلى تاريخ الأمة وفق تراتبية منهجية أملتها عناصر المقاربة المعتمدة في أفق الانتقال من مجتمع إقطاعي رأسمالي متخلف إلى مجتمع اشتراكي.

    فقام التحليل عندها على قاعدتين أساسيتين: قاعدة المادية الدياليكتيكية والمادية التاريخية، واعتُبرت هذه الأخيرة هي القاعدة في تحديد المنهج لإنتاج المعرفة. وتمثل هذه المدرسة أحسن مدخل للعرب في الفكر التاريخي، وإن التجاوز الأفضل لمشكلات التأخر يتحقق داخل الأُطر المنهجية والمرجعية لهذه المدرسة، لكنها ظلت على هامش قضايا الأمة، فتحولت من البحث عن الوضوح المنهجي إلى الغموض المنهجي وضبابية الرؤية ومصادرة حق الاختلاف فيه. وتكاد تكون هذه المصادرة علامة فارقة عند هذا التيار، فلا هو أنتج فكرًا وأسَّس رؤيةً ولا استطاع تجاوز مشكلات التخلف.

  • المقاربة الثانية: هي المقاربة الإبستيمولوجية التي مثَّلها ثُلَّة من المفكرين العرب، على اختلاف مداخل التبني، الجابري، ووقيدي، وأركون … إلخ، التي انتهجت هي الأخرى منطق الاستبعاد والاستبقاء على مستوى الاختيارات المنهجية، أو على مستوى قضايا ونماذج التطبيق لهذه المقاربة، إلا أنها هي الأخرى مسَّها مَسُّ الاختزال والفشل في تحقيق الحلم، إذ مارست التفكيك لآليات العقل العربي الإسلامي، لكنها لم تقوَ على البناء والتركيب والتوليد.

    هكذا اتخذت الإجابة عن مشكلات الأمة طُرقًا ملتوية غير مستوية، ومنهجية معكوسة من خلال الاشتغال على آليات وأدوات، وجدت خارج مشكلاتها الحقيقية، وسياقها التاريخي الحضاري؛ قاصرة عن تقديم الحلول المناسبة، مما يطرح مشكلة الاستعانة بالمساقط الفكرية والمنهجية — بتعبير منى أبو الفضل رحمة الله عليها — المغايرة لهُويَّة الأمة الحضارية، ويفسر ضعف الإبداع في الفكر العربي المعاصر، فافتقد هذا الفكر لإطارٍ مرجعيٍّ جامع في تنظيراته وممارساته، وقد كان هذا مُسوِّغًا كافيًا لإرباك حسابات وتوقعات هذه التيارات المتأرجحة، ومن شأن كل فكر ينطلق من مُسلَّمات النموذج المتأرجح ومقولاته أن يفقد مُقوِّمات النهوض الراشد.

    يقتضي المنهج العلمي الإمساك بالمنطق الداخلي لكل مجتمع، ومراعاة خصوصياته في إطار المشترك الإنساني العام ما لم ينقُض أصلًا من أصوله، أمَّا التعميم المنهجي والمعرفي والواحدية في المقولة الإنسانية فمنطق متجاوز، وإن العقائد مُسلَّمات أساسية في البناء المعرفي والحضاري للأمم، خصوصًا إذا تعلَّق الأمر بأمة الإسلام صاحبة الوحي الخالد — الإطار المرجعي الأساس في بناء الرؤى وتوليد النماذج الفكرية والمعرفية.

    إن أي تخطيط لمشكلات الأمة خارج هذا الإطار سيئول لا محالةَ إلى الفشل؛ ولهذا لم يكن الاشتغال في الفكر العربي المعاصر على مناهج واضحة المعالم، وذات عَلاقة براهنية قضايا الأمة ومشكلاتها، وتؤسس لتحيُّزاتها وخصوصياتها، والانتقال من المطابقة والمماثلة — بتعبير عبد الله إبراهيم — مع آليات ورؤى الفكر الغربي إلى الاختلاف معها.

    لأن الاختلاف رِهان الاستقلال الحضاري، وإعادة قراءة الأحداث برؤية مستقلة وواعية ومُتبصِّرة، زدْ على ذلك أن هذه المناهج مناهج تفكيكية غير قادرة على التركيب وتفتقد إلى القصدية، والغاية التكوينية للخلق، في دراسة الظواهر وغير مستوعبة للشروط التاريخية والنفسية والاجتماعية للإنسان العربي.

    وتكاد تكون هذه القضية عامة في واقع الفكر العربي المعاصر. وما ذلك التأخر في السعي والإثمار الذي عاشته تجارب الأمة الإصلاحية إلى اليوم، إلا بسبب افتقادها للمنهج والتي هي أقوم في مشاريعها النهضوية.

  • استشعارات داخلية: ثمة إحساس ووعي واستشعارات داخلية قوية لم تعُدْ تُراهن على تقليد الغرب في تحقيق الإنجاز الحضاري، أو على منهجية تلفيقية تجمع بين الحداثة وبعض إنجازاتها، والتراث ومفاهيمه؛ بعد أن ضاع من الأمة زمن غير يسير من السير خلف هذا الذي يأتي أو لا يأتي، بقدر ما تراهن على مقومات الهُويَّة العربية الإسلامية في النهوض، والبحث عن مسافة حقيقية في عَلاقتها مع الغرب تُحدِّدها هذه الهُويَّة، وأن الرِّهان على النماذج المعرفية والمنهجية الإدراكية المتلقية مستحيل، خصوصًا في جوٍّ من الأزمات التي تعيشها هذه النماذج، والانتقادات الصارمة التي تتلقَّاها في الداخل.

إن النهضة الحقيقية تنطلق من النسق الفكري للأمة ومن أصالتها المنهجية وصدق وفعَّالية أفكارها وقدرة جهازها المفاهيمي على التوليد والإبداع، وإن حركة التاريخ لا تؤتي ثمارها إلا في إطار نسقها العقدي والفكري، أما الاعتماد على مجموعة من المرتكزات والمفاهيم المنبثقة من أنماط حضارية أخرى فيُحدث الخلل والتناقض، ويُعطِّل المسير حيث ينبغي له السَّيْر، ويسير حيث لا ينبغي أن يسير.

هذه قضايا حاولنا قدْر الوُسْع والطاقة أن نعالج بعضًا منها من خلال نماذج اخترنا الاشتغال عليها، وحَّد بينها همُّ التاريخ والتقدم والنهضة والخروج من التخلف، وفرَّق بينها المنهج والرؤية والتصوُّر.

وقد كان هاجسنا في هذا العمل البحث عما يجمع هذه التيارات لا ما يُفرِّقها، لهذا تجنبنا السقوط في التحليل الاختزالي الذي يرى المخالف شرًّا مستطيرًا، ومن يشترك معه في تحيُّزاته الصواب والحق، وإنما تحيُّزنا في هذا العمل كان إلى جانب الإطار المرجعي العام للأمة للمنهج والرؤية التي ينبغي أن تنطلق منها في نهضتها.

فنحن لا نؤسس لرؤانا وتصوُّراتنا على انتظار فشَل الآخرين أو لعيوب في فلسفاتهم، بقدر ما نؤسس على تراكم خبرات وتجارب الأمة على اختلافها وتنوُّعها.

يأتي الاهتمام بهذا الموضوع في سياقات متعددة، لعل أبرزها: ما ارتبط بالدعوة إلى ضرورة تحرير مناهج التفكير في الوطن العربي، وتجاوز حالة الاغتراب واللاوعي التي يعانيها، ثم سياق بناء المعرفة؛ إذ لا معرفة بدون منهج، إذ المنهج حالة وعي دائمة في الأمة لإعادة التركيب الطبيعي فيها، وإحداث التوازن والانسجام بين الفكرة والواقع الاجتماعي والوعي التاريخي الذي شكَّل هذه الذات، وإعادة الثقة بالمنظومة الفكرية والثقافية لها، وامتلاك القدرة على تشغيل آلياتها في النهوض والتقدُّم، وتجاوز ثغرات الفكر العربي المعاصر ومشروعه النهضوي وآليات اشتغاله، وتناقضاته وثنائياته المفاهيمية.

إن قضيةَ المنهج والمنهجية يَتوجَّب أن تأخذ مكانةً مُتقدِّمة في سُلَّم الأولويات، فالمعركة اليومَ في كثير من المجالات والمشاريع تكاد تنحصر في نظرنا حول قضية المنهج؛ لأنه هو التصوُّر والفلسفة والرؤية (للماضي والحاضر والمستقبل). والوعي بهذه القضية يجعل الأمة قادرة على الدخول في تنافسية حقيقية مع المركزية الغربية، وإن حركة التاريخ «لا تؤتي ثمارها وفاعليتها إلا في إطار نسقها العقدي والفكري الخاص بحضارتها ومسارها في خضم الكيانات الحضارية، أما اعتماد مجموعة من المرتكزات والمفاهيم المنبثقة عن أنماط حضارية مغايرة فيُحدِث الخلل والتناقض (…)»٣ بين الأنساق الحضارية وعالم أفكارها الذي يفصل بينها، فإذا كان التقدُّم الحضاري يبدأ من خلال الأفكار فإن التحليل يبدأ أيضًا من خلالها.

تحليل الآثار المُدمِّرة للأفكار الوافدة وخيانة لأصالة الفكرة الإسلامية التي غُيبت عن ساحة الفعل الحضاري المعاصر. كما تسعى الدراسة إلى تعرية الأسس والمنطلقات المرجعية، والمنهجية التي ظل ينطلق منها الفكر العربي المعاصر على اختلاف توجُّهاته، وكشف تهافُت أطروحاته، والتأكيد على خصوصيات المجتمعات العربية، وحقها في تحقيق الاستقلال المنهجي في دراسة قضاياها وتجاوز الأدوات المنقولة إلى أدوات مأصولة وموصولة بالذات الأصيلة تاريخيًّا وحاضرًا ومستقبلًا.

(١) موضوعات البحث

قسمت هذا البحث إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة.
  • الفصل الأول: خصَّصناه للمدرسة القومية العربية، ومُحدِّداتها المنهجية التي أسست عليها مشروعها النهضوي، من خلال الاشتغال على نموذج متميز داخل هذه المدرسة، الأمر يتعلق بالمفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري، وعلى الموجهات المنهجية التي اختار الاشتغال عليها وتجاوز ما عبَّرنا عنه بفوضى المنهج إلى الانتظام المنهجي داخل هذه المدرسة، وفي الفكر العربي المعاصر بشكل عام، والمرجعيات التي أسَّس عليها هذه الاختيارات، مع ملاحظات نقدية على أساس الالتزام بما ألزمنا به أنفسنا وهو تجنُّب التحليل الاختزالي، والسعي إلى تحصيل التراكم البنائي لا التراكم التبديدي الإبطالي.
  • الفصل الثاني: اعتمدنا فيه على تحليل الخطاب العلماني في الفكر العربي المعاصر، أسسه ومنطلقاته المنهجية التي اشتُغل عليها في التنظير لقضايا الأمة ومقاربة إشكالاتها وشروط الدخول في عصر الحداثة الفكرية والمعرفية، من خلال نموذجه محمد أركون نظرًا لما يُميِّز كتاباته على مستوى التنظير المنهجي، وأكثرها افتتانًا بفتنة الحداثة في نسختها الغربية، فقوَّمنا ما ينبغي تقويمه في هذا الخطاب.
  • الفصل الثالث: عرضنا فيه لنموذج بدأ يطرح نفسه على الساحة الفكرية العربية المعاصرة؛ نموذج المدرسة الحداثية البنائية في الفكر العربي المعاصر، عزَّزناها بنموذجين من النماذج الفكرية اشتغلت بعمق على المستوى المنهجي، وتأسيس آليات البحث المعرفي، والارتقاء بالأمة إلى رتبة الاستقلال في الإجابة عن إشكالاتها بدل التقليد.
    • النموذج الأول: ارتبط بالجهود الفكرية والفلسفية التي ما فتئ يبذلها المفكر المغربي طه عبد الرحمن من خلال دعوته إلى تأصيل المفاهيم، ووجوب الاستقلال عن المرجعيات الخارجية، في تدبير إشكالاتنا المعاصرة، وتجديد آليات الاشتغال المنهجي من خلال مقومات الأمة (الإسلام، واللغة، والتراث) مع الانفتاح الراشد على إبداعات الآخر، وفق منظوره القائم على الاختلاف، والتقريب التداولي الذي يسعى إلى جعل المعرفة المنقولة موصولة بباقي المعارف الأصلية، أي جعل المنقول موصولًا ومأصولًا.
    • النموذج الثاني: ارتبط بالعمق الفلسفي والمنهجي الذي بذله المفكر المصري «عبد الوهاب المسيري» من خلال رؤية نقدية عميقة للحضارة الغربية التي ظلت وسيطًا مرجعًا لدعاة التقليد في الفكر العربي المعاصر، وإعلان فساد كثير من المعتقدات المنهجية لهذه الحضارة ومنظوراتها في التحليل، والتفسير؛ لأنها منظورات كمية تراكمية اختزالية، أحدث تبنيها القسري في فكرنا المعاصر تحيُّزًا للمرجعية ذاتها، ومن خلال الدعوة إلى بديل معرفي منهجي اجتهادي توليدي، تركيبي تراحمي يستجيب للبعد الفطري في الإنسان.
١  انظر حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط١، ٢٠٠٢م، مجلد ١، ص٧-٨.
٢  طيب تزيني: مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دار دمشق للطباعة والنشر، ط٥، ص٧.
٣  سليمان الخطيب: أنماط انتقال الأفكار وآلياتها بين التفاعل والاستلاب، دراسة حالة العَلاقة بين عالم الغرب وعالم المسلمين ضمن كتاب «الحوار مع الغرب: آلياته – أهدافه – دوافعه»، تحرير منى أبو الفضل ونادية محمود مصطفى، دار الفكر دمشق، ط١، ٢٠٠٨م، ص١٣٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤