الفصل الأول

المدرسة القومية في الفكر العربي المعاصر: الأسس المرجعية والمُحدِّدات المنهجية

«محمد عابد الجابري أنموذجًا»

(١) المبحث الأول: المدرسة القومية: مرجعيات التأسيس والمحددات المنهجية

شكَّلت القومية العربية حلقة من حلقات الفكر العربي المعاصر، إن لم نقُلْ إحدى حلقاته الكبرى في زمن كان يبحث فيه الإنسان العربي عن مخرجٍ لأزماته وحلولٍ لانتكاساته المتتالية، وبدأت هذه المدرسة تطرح نفسها بقوة كبديل للاتجاهات السائدة في الفكر العربي، فهزيمة ٦٧–٧٣ كانت المحطة التي زودت الآليات الفكرانية لهذا التيار، وإن الآليات المعرفية والمنهجية التي تم اعتمادها في تحليل قضايا الأمة بعيدة عن واقعها.

وقد ظهرت الدعوة قوية إلى المراجعة في مجال البحث الاجتماعي والدراسات الاجتماعية التي اعتبرت مفاتيح لحل المشكلات تحت مسميات متعددة «نحو علم اجتماع عربي وقومي»، فعُقدت لهذا الغرض عدة مؤتمرات وندوات ولقاءات تناقش سبل وإمكانيات التأسيس لمنهج جديد في حياة الأمة يربطها بجذورها التاريخية واستقلال شخصيتها والعودة إلى الذات. ونذكر في هذا الإطار: «ندوة النهوض بعلم الاجتماع في الوطن العربي، الجزائر ١٩٧٤م»، «ندوة أوضاع العلوم الاجتماعية في الشرق الأوسط، الإسكندرية ١٩٧٤م» و«مشكلة المنهج في بحوث العلوم الاجتماعية، القاهرة ١٩٨٣م»، ثم «علم الاجتماع وقضايا الإنسان العربي، الكويت ١٩٨٤م»، ثم «نحو علم اجتماع عربي، تونس ١٩٨٥م».١
والغرض — كما تدل عناوين هذه الندوات — هو وضع لبنة لأسس علم اجتماع عربي يكون فيه للعقل العربي دون غيره حضور متميز؛ لأنه الأقدر في نظر هذا الاتجاه على ملامسة مشاكله، فالعودة إلى الذات شكلت محور هذا التوجُّه الجديد في الفكر العربي المعاصر والاستقلال عن القوالب الفكرية الغربية التي وُظفَت في تحليل أزمة المجتمع، ولأن الباحث العربي يكاد يكون تابعًا تبعية كاملة للباحثين والمفكرين الأجانب، وكما يذكر الباحث الاجتماعي العربي عبد الباسط عبد المعطي، يقول: «إن هناك خريجين من عدد من الجامعات الغربية توقَّفت معارضهم مثلًا في الستينيات عند المدرسة الدُّركايمية أو المدرسة الأمريكية الإمبريقية٢ التي عُنيت بدراسة المشكلات الاجتماعية التقليدية (…) [ولهذا] فإن المُدقِّق في التأليف، وفي الأُطر النظرية للبحوث، وفي الرسائل الجامعية خاصة؛ يلاحظ انصياعًا للمعايير الغربية شكلًا ومضمونًا ولغةً وطريقةً في التفكير.»٣

إذَن يرى الأستاذ أن البحوث الاجتماعية والدراسات المنهجية في الوطن العربي أكثر البحوث تعبيرًا عن تبعيَّتنا الثقافية للمكتبة الغربية بجناحيها الأوروبي والأمريكي، وأنه آن الأوان لطرْح صيغ بديلة وجديدة للخروج من هذه التبعيَّة ومن عنق الأزمة، وتأسيس علمِ اجتماع عربي نابع من رحم المجتمع، يعالج قضايا مرتبطة باستراتيجيات التنمية والتقدُّم والوحدة وتحرير فلسطين وتوزيع الثروة وعَلاقات الإنتاج، ومرتبط بمصير الطبقات الاجتماعية.

وقد نشِطَت مجموعة من دُور النشر لترسيخ البعد القومي في الثقافة والفكر والأجناس الأدبية بكل أنواعها، نذكر منها على سبيل المثال: «المجلس القومي للثقافة العربية» الذي أسِّس مباشرة بعد اتفاقية كامب ديفيد لمقاومة الغزو الثقافي والتطبيع مع الكيان الصهيوني وتحصين الذات العربية من الاختراق.

ارتكز هذا الخطاب في انتمائه للأمة والجماعة العربية على مجموعة من المقولات والمفاهيم يراها الأساس في البناء والنهوض العربي: «اللغة والتاريخ». لهذا شدَّد الاتجاه القومي على «مرجعية اللغة والتاريخ الواحد ودوافع المصالح المشتركة، ووحدة آمال وأهداف المستقبل والتطلُّع لتحويل الأمة «كمعطى تاريخي» إلى واقع سياسي يتجلَّى في كِيان دولة واحدة ومتحدة.»٤ هذه المرجعية التي تحولت عند كثير من الأقلام القومية إلى «جوهر ثابت» — بتعبير وجيه كوثراني — وهو ما نجده عند عميد القومية العربية أبو خلدون ساطع الحصري الذي يقول: «إن العاملَين الأساسيَّين في تكوين القومية هما اللغة والتاريخ، ولا يتغلب عامل من العوامل الاجتماعية على تأثير اللغة والتاريخ في هذا المضمار سوى عامل الاتصال الجغرافي؛ لأن فُقدان الاتصال الجغرافي قد يؤدي إلى بقاء أجزاء الأمة الواحدة منفصلة بعضها عن بعض رغم اتحادها في اللغة والتاريخ.»٥ باعتبار اللغة وسيلة للتخاطب والتفاهم، ونقل الأفكار والمكتسبات، أما التاريخ فهو بمثابة شعور الأمة وذاكرتها، فإن كل أمة من الأمم إنما تشعر بذاتها وتكون شخصيتها بواسطة تاريخها الخاص.٦
ولا يرى هذا التيار للرابطة الدينية أو لعامل العقيدة أثرًا في تكوين الجماعات. يقول: «مهما كان الأمر فإن الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكوين القومية، كما أن تأثيرها في تسيير السياسة لا يبقى متغلبًا على تأثير اللغة والتاريخ. إن هذا التأثير يشتد أو يتراخى، يتقوى أو يتلاشى، حسب تطور عَلاقة الدين باللغة، ويبقى أمرًا ثانويًّا في تكوين القوميات بالنسبة لتأثير اللغة والتاريخ.»٧
بالإضافة إلى مكون اللغة والتاريخ، استند الاتجاه القومي إلى مبدأ العلمنة لأن اللغة والتاريخ غير كافيين في البناء والوحدة؛ ولهذا فإن «استكمال بنيان القومية العربية يحتاج في الواقع إلى عناصرَ أخرى لم يُلتفَت إلى أهميتها في السابق، وعلى رأسها النزعة الإنسانية التي تتضمن احترام وصيانة حقوق الإنسان وتبث فيه روح المواطنة؛ بحيث يجعل ولاءه لوطن وحده. (…) وتحقيق هذه المهمة الصعبة لن يكون مُمكنًا إلا على قاعدة إشاعة الديمقراطية من جهة وإنجاز العلمنة من جهة ثانية»،٨ حيث ظل مكون الدين ثانويًّا لا يقوى على صناعة المستقبل، ولعل كاتبًا في مستوى برهان غليون — والجابري كما سنرى — يكشف بعض أسباب انحصار القومية العربية وفشل أطروحاتها ومشاريعها، حين ركز على ضعف استيعابها للتطوُّر التاريخي وتحولات المجتمع العربي، وأن ظروف الطرح قد تغيرت، ولم يعُدْ ينفع فيها النفخ في وحدة اللغة والثقافة والأصول، ولا تقبل فيها المجتمعات بعمليات الضم والإلحاق عن طريق القوة العسكرية،٩ خصوصًا عندما تمكَّنت القومية من السلطة واستفردت بالحكم، وتسلطت على رقاب الناس.
لهذا انهارت واندثرت القومية العربية التقليدية تمامًا، ولم يعُدْ لها موقع في الخريطة الفكرية؛ أي الشكل الذي كانت الفكرة تتخذه سابقًا، فلم يعُدِ الحديث عنها كوحدة ثقافية ولغوية وتاريخية، فكان الرِّهان على هذه المحددات سببًا من أسباب الفشل والتراجع بدل التأكيد على الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة أو على الهُويَّة الموحدة، في مقابل هذا التوجُّه، نجد القوميين الجُدد يؤكدون على التعددية الثقافية وأهمية الاعتراف بالأقليات ورفض الفكر الواحد، بل رفض الفكر العقائدي ذاته باعتباره فكرًا مُشوَّهًا بالضرورة.١٠
وظلت الفكرة القومية تعاني فراغات بسبب إهمال الإسلام كمُكِّون أساسي في بناء الذات وهو الأمر الذي انتبه إليه برهان غليون، من خلال الانخراط في أيديولوجيات مستعارة وغريبة عن واقع الأمة؛ اشتراكية، ليبرالية، علمانية،١١ مما ضيَّق أفق التحرك لدى هذا التيار، وقدرته على استثمار الطاقات الفاعلة في الأمة.
ومما زاد من أزمته وعمقها عجزه عن «صياغة وعي الأمة في قالَب نظري مطابق لتاريخها، فاضطُرت إلى إيجاد عوامل موضوعية تكون أساسًا للوحدة»،١٢ من الوحدة الجغرافية، والتكامل الاقتصادي، بالإضافة إلى اللغة والتاريخ والجنس. فبعد إلغاء الأمة، وفصل التراث عن الحداثة، والإسلام عن العروبة، والأمة عن تاريخها، ولم «يعد التراث طريقهم إلى الحداثة، كما لم يعد المجتمع [الأمة] قاعدة للشعور القومي وانتهَوا إلى فصل القومية العربية عن الأمة ومجتمعها فصار الفكر القومي دون مرجعية ينطلق منها، وينتظم على أساسها ويتخبط عشوائيًّا ويتأرجح بين مواقف متناقضة.»١٣
فعندما تغيب الرؤية تسيطر الأيديولوجية وتتلاشى الأهداف السياسية والقضايا الكبرى، وهكذا رأينا «النخبة السياسية العربية تجر الأمة مرة بعد أخرى إلى حروب ومعارك لا تأخذ بعين الاعتبار الطاقات الحقيقة للأمة وظروفها الموضوعية، فتنتهي إلى هزائم أخرى.»١٤
وقد كان «الفشل الذي مُني به الاتجاه القومي العربي إزاء تحقيق أهدافه في توحيد الأمة وتحرير فلسطين، وتنمية الطاقات الاقتصادية، وإفساح المجال لحرية للمواطن؛ لا يعود إلى نوايا سيئة، كما أنه لا يقتصر على مسائل تتعلق بالممارسة؛ بل هو يعود بالدرجة الأولى إلى الفقر النظري. فشل هذا في بلورة شمولية تستند إلى تاريخ الأمة وسيرورتها وحاضرها، فجاءت ممارستها دون توقعاتها، وأحيانًا متناقضة مع شعاراتها. فشل هذا التيار في قيادة الأمة؛ لأنه لم يعرف الأمة معرفة حقة. إن أحد معالم هذا الفشل هو الانفصال في الوعي بين القومية والأمة فلم تعد القومية تعبيرًا عن الأمة، بل صارت تعبيرًا عن نزوات أصحاب الشعارات الذين لم يكن لديهم إطار نظري ينظم أفكارهم وأفعالهم، فجاءت عشوائية دون مرجعية تضبطها وتضع لها الإطار لحركتها.»١٥
وبرز صوت آخر، ولكن هذه المرة من المغرب (الأستاذ محمد عابد الجابري)، وذلك في إطار المراجعات النقدية للمشروع النهضوي العربي، الذي جعل الفكر القومي محور هذه المراجعات ومُحدِّداته المنهجية والمرجعية، يفتح له آفاقًا جديدة من خلال رؤية تتجاوز التصوُّرات والمكونات السابقة [اللغة والتاريخ] والمفهوم الضيق للفكرة؛ لأن «حصر مقومات «الأمة العربية» في اللغة والتاريخ بوصفهما قالبَين صوريَّين مُجرَّدَين إفقارٌ لمفهوم الأمة»،١٦ محاولة لإعادة التركيب، ووصل ما انفصل، وسد الخلل الذي تركته التوجهات السالفة، هكذا يستطيع «الباحث [القول للجابري] أن يلاحظ بسهولة فقر خطاب الحصري وغيره من القوميين العرب فقرًا «تراثيًّا»، فالتراث العربي والإسلامي — وهل يمكن الفصل بينهما — غائب تمامًا في خطابهم، ليس فقط كمرجعية بل أيضًا كاستلهام وتوظيف براغماتي. إن الباحث لا يكاد يعثر على آية أو حديث أو قول مأثور أو بيت من الشعر أو حدث تاريخي من التراث العربي الإسلامي في خطاب القوميين الرواد (…) لقد كان الحصري يفكر في القومية العربية خارج أية مرجعية عربية. فقد كانت مرجعيته الوحيدة هي المرجعية الأوروبية.»١٧ مما استدعى عند الجابري إعادة تأسيس الموقف من خلال كسر الثنائيات التقابلية بين الإسلام والعروبة، إذ «ليس هناك أيُّ مفهوم ﻟ «الإسلام» يمكن وضعه في عَلاقة ثنائية تعارضية أو تكاملية مع مفهوم «العروبة»، وليس هناك مفهوم ﻟ «العروبة» يمكن وضعه في نفس العَلاقة مع «الإسلام». وإنما هناك وراء هذه الثنائية قضية سياسية كان لها معنًى في وقت من الأوقات (…) والمتعلقة برد فعل العرب على سياسية التتريك العثمانية.»١٨
لينتفض ضد هذه الثنائيات المرتبطة ببعض الأقطار العربية، ذات الخصوصية التاريخية كلُبنان وسوريا بصورة خاصة، وإنه آن الأوان لكي «نتخلص من هذا التعميم للمشاكل؛ لأنه تعميم لا يخدم الفكر القومي ولا القضية القومية، بل على العكس يضع هذه القضية في أزمة دائمة مزمنة.»١٩
وللتخفيف من النزعة العَلمانية التي روَّج لها دعاة القومية التقليدية، يقول الجابري: «فأنا لا أستسيغ طرح المسألة بهذا الاسم وتحت هذا العنوان، فليس هناك في أي قُطر عربي ما يبرر طرح مسألة العلمانية فيه بالمعنى الذي تفهم به هذه المسألة في أوروبا.»٢٠

فاتجه إلى إعادة تأسيس الموقف وتصحيح الوعي ونقد المفاهيم والتصورات، وبناء مُحدِّدات للرؤية أكثر جرأة في النظر إلى المستقبل، من خلال الدعوة إلى الانخراط في التراث؛ لانتزاع ما يُسمَّى بأسلحة الخصوم.

فكان التراث أحد هذه الأسلحة التي ارتكز عليها الجابري عكس دعاة القومية الأوائل — في التأسيس للموقف الجديد — الذين كان خطابهم خطاب نقائض أيديولوجية (ليبرالية – اشتراكية – ماركسية)، ويدعو إلى مراجعة مفاهيم النهضة ونقدها نقدًا عقلانيًّا مستندًا إلى الواقع كمعطًى، وهو السبيل الذي يقودنا إلى تشييد حُلمٍ أيديولوجي مطابق، وتلك مهمة المثقف العربي في الظروف الراهنة: مهمة إعادة التفكير في مشروعنا النهضوي انطلاقًا من مراجعة المفاهيم والتصوُّرات في ضوء الواقع وتحت ضوء سلاح النقد.٢١
وإنجاز هذه المهمة «يلزم فيها شرطان اثنان؛ الأول: هو أن يكون التجديد من الداخل؛ من داخل الثقافة العربية بالحفر في معطياتها، ولكن أدوات الحفر وطريقته — وهذا هو الشرط الثاني — لا بد أن تكون جديدة حديثة، وبالتالي لا بد من اقتباسها من أرقى مراحل التقدُّم التي يصل إليها الفكر الإنساني.»٢٢ وهو الشرط الذي سيرفع عملية التجديد إلى مستوى العصر، أما الإبقاء على أدوات الحفر القديمة — المفاهيم والمناهج — لا يمكن أن ينتج غير القديم في نظره، وهكذا شرع الجابري في وضع التصاميم المفاهيمية، والأدوات المنهجية متجاوزًا المنظورات التحليلية التي أثثت الفكر القومي العربي المعاصر، ونقدها نقدًا عقلانيًّا؛ نقد المجتمع ونقد العقل العربي.
فكان النقد عنده السلاح الأقوى في الكشف عن ثوابت هذا العقل والقدرة على خلخلتها وكسرها، وما لم نقم بهذا النقد — يقول — فإن التطور إلى الأمام لن يشقَّ طريقه الصحيحة عندنا، وهذه مهمة الفكر الفلسفي والتحليل الأيديولوجي، ولأن التغيير عندنا «يبدأ ويجب أن يبدأ من تغيير طريقة النظر إلى الأمور، من تحليل الواقع تحليلًا يجمع بين النظرة الموضوعية والهدف الاستراتيجي؛ هدف التغيير وإعادة البناء.»٢٣ فما هي المُحدِّدات والموجهات المنهجية لرؤية الجابري النقدية وإعادة التأسيس والبناء داخل هذه المدرسة وتحقيق النهضة واستشراف المستقبل؟

إن اختيار الاشتغال على فكر الجابري، ومشروعه النقدي للعقل العربي؛ أملَتْه عدة اعتبارات:

أولها ما أثاره، وما يزال من ردود اختلفت، حسب توجُّهات أصحابها تحولت بدورها إلى مشاريعَ فكرية ومدارس نقدية، أخذت على عاتقها مهمة التجديد المنهجي في قراءتها للتراث ولمقدمات المشروع النهضوي العربي المعاصر، وما أحدثه من جدل واسع في الساحة العربية المعاصرة على مستوى الأدوات والمسلكيات المنهجية، ونتيجة دعوته إلى إنجازٍ نوع من القطيعة الإبستيمولوجية مع تراث الأمة.

أما ثاني الاعتبارات فهو ما صرَّح به من القدرة على تجاوز القراءات التي تعاملت مع التراث وطرح بدائل منهجية قادرة في رأيه على التفاعل وإنجاز النهضة، والقطيعة مع الفَهْم التراثي للتراث إلى الفهم الحداثي له بقدرٍ يُعيننا على تجاوز المِحَن والإشكالات المعاصرة، معتمدًا في ذلك على مدخَلين أساسيين:

المدخل الأول: فَهْم هذا التراث وأدوات اشتغاله. المدخل الثاني: الاستعانة بمفاهيم الفكر الغربي المعاصر على تعدُّد مدارسه وتنوعها، ومحاولة تبيئتها وَفْق معطيات هذا التراث، ووفق شواغل معرفية كما صرح، وأخرى أيديولوجية كما استبطن حينًا وصرَّح في كثير من الأحيان؛ لهذا فإن البحث في منهج الجابري يتطلب قراءة دقيقة لمساره الفكري، والنتائج التي توصَّل إليها أولًا بأول، ولكل ما كُتِب عنه نقدًا أو نقضًا، وهذا ما لا يتسع له الوقت. وحسبنا أن نركز في هذا الفصل على أهم ما كُتب عنه وأُنجز من دراسات نعتبرها استوفت بعضًا من الشروط العلمية في الحركة النقدية متجاوزين بعضًا من الدراسات التي سلكت مسلك التحامل والتجريح، وبالدرجة الأولى على أهم كتبه التي شكَّلت مشروعه الفكري انطلاقًا من باكورة أعماله:

«نحن والتراث» سنة ١٩٨٠م، «الخطاب العربي المعاصر» ١٩٨١م، «نقد العقل العربي» الذي أصدر أولى حلقاته سنة ١٩٨٤م من خلال كتابه «تكوين العقل العربي»، ثم الجزء الثاني «بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية» سنة ١٩٨٥م، «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» ١٩٨٩م، «العقل السياسي العربي: المحددات والتجليات»١٩٩٠م، «التراث والحداثة: دراسات ومناقشات» ١٩٩١م، ثم «المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية» ١٩٩٦م. هذه هي الخريطة الفكرية التي سنعتمد عليها في بحث إشكالية المنهج في المشروع الفكري للجابري.

(٢) المبحث الثاني: المحددات المنهجية والمرجعية لمشروع الجابري

يعالج هذا المبحث قضايا منهجية دقيقة وقوية على مستوى الرؤية والمنهج التي تبناها الجابري في فحص آليات قراءة التراث، والإشكالات التي أفرزتها في الواقع العربي المعاصر، حين اعتبرها مسئولة إلى حد كبير عن الوعي المزيف اتجاه مرجعية المتن التراثي، في مقابل ذلك سعيه الدءوب إلى تحرير العقل العربي من تلك القراءات السلفية، والدعوة إلى الانتظام المنهجي في تاريخ التراث، من خلال إنجاز قراءة معاصرة، وبأدوات منهجية تتيح فرص التوظيف العلمي، والعقلاني للتراث، والقدرة على التشابك مع منجزات الحداثة ومفاهيمها.

(٢-١) من فوضى المنهج إلى الانتظام المنهجي

أحدثَ مشروع الجابري نقلةً نوعية في الفكر العربي المعاصر، ليس على مستوى المتن، وإنما على مستوى الثورة المنهجية؛ حيث انتقل هذا الفكر من لحظة تاريخية غلب عليها التَّكرار إلى لحظة التفاعل الإيجابي والانخراط في عملية نقدية استفزت كثيرًا من الاتجاهات الفكرية في العالم العربي، نظرًا للطرح الجِدِّي الذي اتسم به المشروع، فالقضاء على هذه الفوضى المنهجية طريق التحديث والانخراط في الحداثة عبر جهاز مفاهيمي جديد قادر على تقريب الوضع الإشكالي القائم داخل قطاعات واسعة من الفكر العربي المعاصر، وبين ثنائياته القديمة-الجديدة، الأصالة والمعاصرة، القديم والحديث، بين صورة الأنا والآخر، «القديم» ينتمي إلى الأنا، و«الجديد» ينتمي إلى الآخر.٢٤
فكان طموحه هو إزالة الغموض والتوتر الذي ظلَّ يطبع مسيرة هذا الفكر، «ونزع الطابع الإشكالي عنه أو التخفيف منه على الأقل إلى أقصى درجة ممكنة.»٢٥
ومن هنا سارع الجابري إلى بَلْورة رؤية معاصرة في القراءة والتنوير؛ تعيد ترتيب العَلاقات وتساهم في قراءة التراث العربي؛ قراءة تستجيب لطموحات الحاضر، والدخول في الحداثة والاستفادة من مُنجَزاتها. يقول: «فالحداثة في نظرنا لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه «المعاصرة»؛ أعني: مواكبة التقدُّم الحاصل على المستوى العالمي.»٢٦ كما تعني عنده نوعًا من «الانتظام النقدي في الثقافة العربية؛ بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل (…) إنها بهذا الاعتبار تعني أولًا وقبل كل شيء حداثة في المنهج وحداثة في الرؤية».٢٧
ولعل من أهم منجزات الحداثة أو الفكر الحداثي، المكون النقدي الذي تبلورَ مع مدرسة فرانكفورت الألمانية، ومع جيل من المفكرين أمثال: أدرنو وهابرماز وماركوز، ولهذا «فالممارسة النقدية في فكر الجابري لا تنفصل عن هذا الطموح المعرفي النقدي»،٢٨ مع اختلاف في متن الاشتغال وأرضية الانطلاق؛ فعلى هذا الأساس شرع في وضع المعالم الكبرى لمنهجه، والمبادئ الأولية للقراءة المعاصرة للتراث وتحقيق الوعي المطلوب.

(أ) القراءة المعاصرة للتراث ونقد القراءات السابقة

ينطلق الجابري في مشروعه من تحديد نوع القراءة التي يتوخَّاها في التعامل مع التراث من خلال منظومة من العَلاقات القائمة على عناصرَ ثلاثة: قراءة، عصرية، تراث، ومن خلال صيغ تركيبية، الصيغة الأصل: «قراءة عصرية للتراث» وهي تنفي صيغة أخرى هي: «قراءة تراثية للتراث»، وهذه بدورها تنفي صيغة أخرى هي: «قراءة تراثية للعصر» لينتهي إلى أن الصيغة الأولى هي الأجدر في إنجاز هذه المهمة، يقول: «نريد قراءة عصرية للتراث تُجنبنا السقوط في قراءة تراثية للعصر (…) والوقوع تحت سلطته التي تجرُّنا ليس فقط إلى قراءة تراثية للتراث، بل — وهذا أخطر — تجرُّنا إلى «قراءة تراثية للعصر»، أي إلى تمديد الماضي لجعله ينوب عن الحاضر والمستقبل …»٢٩

ولعل هذا التوجه وهذا الاختيار هو الذي يحقق — في نظره — الانتظام المنهجي في قراءة تاريخ الفكر العربي وبنياته وأصوله، ويتجاوز الفوضى المنهجية التي ظلت مهيمنة على قطاع واسع من المثقفين العرب في مقاربة قضايا الفكر العربي المعاصر وإشكالاته.

قراءة تختلف عن القراءات التي تناولت موضوع اشتغاله «التراث» على مستوى المنهج والرؤية، وهي تحاول تسطير معالم ذلك المنهج ورسم أفق تلك الرؤية.٣٠ والذي يجعلها معاصرة كونها تسعى إلى جعل النص التراثي المقروء على صعيد الإشكالية والمحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي معاصرًا لنفسه، في أفق تجاوز القراءات التي ظلت تحتكر الخريطة الفكرية للتراث لافتقادها للموضوعية على مستوى المنهج والنظرة التاريخية على مستوى الرؤية.

القراءة السلفية الدينية للتراث

انشغلت هذه القراءة في الفكر العربي المعاصر أكثر من غيرها بالتراث وإحيائه واستثماره في إطار قراءة أيديولوجية سافرة، أساسها إسقاط صورة «المستقبل المنشود» المستقبل الأيديولوجي على الماضي، ثم «البرهنة» — انطلاقًا من عملية الإسقاط هذه — على أن «ما تم في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل»،٣١ ولبس هذا التيار في بداية الأمر لباس حركة دينية سياسية تنادي بالتجديد وترك التقليد بما يعنيه هذا الترك من إلغاء كل التراث المعرفي والمنهجي والمفهومي المنحدر إلينا من عصر «الانحطاط» وما يرمز إليه التجديد على مستوى الفهم والقدرة على الاستمداد من المصادر مباشرة.
فنحن إذن — كما يقول الجابري — أمام «قراءة أيديولوجية جدالية (…) تستعيد الصراع الأيديولوجي الذي كان في الماضي وتنخرط فيه، لا تكتفي بخصومها في الماضي، بل تبحث عن خصوم في الحاضر والمستقبل»،٣٢ مما يجعل هذه القراءة، قراءة لا تاريخية، وبالتالي لا يمكن أن تنتج سوى نوع واحد من الفهم للتراث هو الفهم التراثي للتراث، مما يجعل المراهنة عليها رِهانًا خاسرًا؛ نظرًا لقصور آلياتها التفسيرية ومداخلها. يقول: «السلفية الدينية تصدر في قراءتها من منظور ديني للتاريخ، يجعل التاريخ ممتدًّا في الحاضر منبسطًا في الوجدان، يشهد على الكفاح المستمر والمعاناة المتواصلة من أجل إثبات الذات وتأكيدها، ولما كانت الذات تتحدد بالإيمان والعقيدة فلقد جعلت من العامل الروحي العامل الوحيد المحرك للتاريخ، أما العوامل الأخرى فهي ثانوية أو تابعة أو مشوهة للمسيرة.»٣٣

السلفية العربية الليبرالية الاستشراقية

إذا كانت السلفية الدينية قد اتخذت من الماضي آلياتها التحليلية ومرجعيتها للحاضر فإن السلفية العربية الليبرالية اتخذت الغرب سلفها، فتقرأ تراثها قراءة أورباوية النزعة، ولا ترى فيه إلا ما ترى هذه النزعة، وتقدم نفسها كقراءة «علمية» تتوخى «الموضوعية»، وتلتزم «الحياد»، و«تنفي» أن تكون لها أية دوافع نفعية أو أهداف أيديولوجية.٣٤ وإنها تأخذ من المستشرقين المنهج العلمي دون أيديولوجياتهم، لكنها تنسى أو تتناسى أنها تأخذ الرؤية مع المنهج.
وتقوم هذه الرؤية «من الناحية المنهجية على معارضة الثقافات على قراءة تراث بتراث ومن هنا المنهج الفيلولوجي الذي يجتهد في رد «كل» شيء إلى «أصله»، وعندما يكون المقروء هو التراث العربي الإسلامي فإن مهمة القراءة تنحصر حينئذٍ في رده إلى «أصوله» اليهودية والمسيحية والفارسية، اليونانية والهندية …»٣٥ وتكشف هذه الرؤية عن استلاب خطير للذات تاريخًا وحضارةً، حينما تحاول أن تقرأ ذاتها بذات الآخر وماضيه، وهكذا تنكشف دعوى المعاصرة في الفكر الليبرالي العربي الحديث والمعاصر.

القراءة اليسارية الماركسية العربية

الحوار داخل هذه القراءة يجري بين ثنائية المستقبل والماضي، لكن بوصفهما مجرد مشروعين: مشروع الثورة التي لم تتحقق بعد، ومشروع التراث الذي سيعاد بناؤه بالشكل الذي يجعله يقوم بدوره في هَمْز الثورة وتأصيلها،٣٦ فالعَلاقة هنا جدلية بين الثورة والتراث، فالثورة ينبغي لها أن تعيد ترتيب التراث وفق مطالبها وشواغلها، والتراث مطلوب منه أن يساعد الثورة ويقدم لها المبررات.

هكذا فكَّر الفكر اليساري العربي باحثًا لنفسه عن مخرج من الحلقة المفرغة التي أوجد فيها نفسه؛ باحثًا عن منهج، فيتبنى المنهج الجدلي، لكن مع ذلك — تأكيد من الجابري — يجد نفسه في الحلقة نفسها التي حاول الخروج منها.

ويبرر الجابري هذا الضيق المنهجي عند هذا الاتجاه بأنه يسعى — في هذا التبني — إلى المنهج الجدلي كمنهج «مطبق» لا كمنهج «للتطبيق»، فأرادت أن تحول التاريخ العربي الإسلامي إلى صراع طبقي بين المادية والمثالية، ومن «ثمة تصبح مهمة القراءة اليسارية للتراث هي تعيين الأطراف وتحديد المواقع في هذا الصراع «المضاعف».»٣٧

ودفع هذا الاتجاه بكل مقولاته المنهجية وآلياته التفسيرية إلى تفصيل التاريخ الفكري والمعرفي للأمة، وفق هرمية تصورية منسجمة مع ذات المقولات والآليات، وحتى إذا عجزوا عن هذا التفسير وهذا التفصيل للتاريخ، ولم تسعفهم قوالبهم الفكرية تحدثوا عن «التواطؤ التاريخي» بين قوى رجعية ظلامية أيديولوجية، فانتهت هذه القراءة إلى «سلفية ماركسية».

فهذه الآليات المنهجية والمطالعات النقدية للتراث تعاني حسب الجابري من آفات على مستوى المنهج والرؤية؛ فمن حيث المنهج فإنها تفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية، أما من حيث الرؤية فتعاني كلها من غياب النظرة التاريخية، وبالتالي لا تختلف هذه القراءات عن بعضها من الناحية الإبستيمولوجية؛ لأنها مُؤسَّسة على طريقة واحدة في التفكير، الطريقة التي سمَّاها الباحثون العرب القُدامى ﺑ «قياس الغائب على الشاهد»، مما يجعلها عاجزة عن الإبداع والإنتاج، وتطوير لكل أنماط المعرفة.

فهذه الآليات غير ذات موضوع بالنسبة للفكر العربي المعاصر إن هو أراد أن يُبدع ويخلق حالة من الوعي داخل الساحة الفكرية العربية، مما يجعله خارج الزمان، ومن هنا لا تاريخية الفكر العربي؛ لأنه «يفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية، ولذلك كانت قراءة التراث قراءة سلفية تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه «الحلول» الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل، وإذا كان هذا ينطبق بوضوح كامل على التيار الديني فهو ينطبق أيضًا على التيارات الأخرى؛ باعتبار أن لكل منها سلفًا يتكئ عليه ويستنجد به. هكذا يقتبس العرب جميعًا مشروع نهضتهم من نوع الماضي، إما الماضي العربي الإسلامي، وإما «الماضي-الحاضر» الأوروبي.»٣٨
فمشكلة المنهج التي يعالجها الجابري هنا هي في نهاية التحليل تئول عنده إلى «قضية النهضة ومشكلة العقلانية»٣٩ في فضاء الفكر العربي المعاصر، ومن هنا لا علمية ولا تاريخية المسلكيات المنهجية التي تناولت إشكالات هذا الفكر وفُقدانها الزمان بهذا الشأن.

فهذه المسوغات كافية في نظر الجابري لمقترحات منهجية أكثر فاعلية، وقدرة على التحليل في إطار المشروع الكبير الذي اشتغل عليه «نقد العقل العربي» وتفكيك آلياته ونظمه المعرفية.

(ب) الانتظام المنهجي في فكر الجابري: الأسس والآليات

ظل إشكال المنهج في قراءة التراث العربي الإسلامي عند الجابري إحدى القضايا الكبرى التي شغلته، الأمر الذي دفعه إلى نقد الدراسات السابقة والتي وصفها بالسلفية، على اختلاف مرجعياتها؛ لأنها أخلَّت — في رأيه — بشروط القراءة العلمية المعاصرة التي تخلق إمكانات وكفايات في قراءة الإشكالات الواقعية المطروحة على العقل العربي المعاصر، وتعيد المتن التراثي إلى سياقات جديدة ليتفاعل معها، بدل أن يظل متنًا سكونيًّا عاجزًا عن الفعل، أي بعد الاتصال والانفصال عنه في اللحظة ذاتها.

ويقدم الجابري في هذه الخطوات المعالم الكبرى لمنهجياته المقترحة نستعرضها كما صاغها الرجل دون تغيير حرصًا على الأمانة العلمية وإبلاغًا للمادة كما هي على أساس أن نؤجل القول فيها فيما بعد.

تنتظم هذه الخطوات المنهجية عنده كلها في سؤال إشكالي وأزمة بنيوية، سؤال إشكالي مرتبط ﺑ «قضية إعادة بناء الذات العربية بالشكل الذي يجعلها قادرة على مجابهة تحديات العصر والاستجابة لمتطلباته»،٤٠ وهذا لا يتم في نظره إلا من خلال عملية إعادة بناء الماضي وتفكيك عناصره، وترتيب العَلاقة بين أجزائه؛ حتى يكون قادرًا على أن يؤسس لنهضةٍ تمتلك هذا التراث، وتعيد بناءه قصدَ تجاوزه وبقراءته قراءة تستوحي المفاهيم والمناهج الجديدة وتوظفها في خدمة الموضوع، وتعيد الاستقلال التاريخي للذات العربية.
وما لم ينتظم الفكر العربي المعاصر في هذا «التراث وتجديده من الداخل، وفي الفكر العالمي المعاصر ومواكبة أدواته المنهجية وتوظيفها ورؤاه العلمية في إعادة بناء الماضي وتغيير الحاضر وتشييد المستقبل (…) سيبقى الفكر العربي سجينَ المعارف القديمة يجترها، وسيظل يعاني ليس أزمة إبداع فقط، بل لربما من سكرات الموت وخطر الانقراض.»٤١
أما الأزمة البنيوية التي يشكو منها الفكر العربي المعاصر — في نظره — فهي «أزمة عقل قِوامه مفاهيم ومقولات وآليات ذهنية تنتمي إلى ثلاثة نظم معرفية [يقصد العرفان والبيان والبرهان] متنافرة تكلست وجمدت فيها الحياة باكتساح الطرقية الصوفية ورؤاها السحرية الخرافية للساحة الاجتماعية اكتساحًا شاملًا، وأزمة ثقافية ارتبطت منذ بداية تشكُّلها بالسياسة، فكانت السياسة فيها لا العلم»٤٢ تخضع باستمرار لتقلُّباتها ودورانها بين الإخفاق والنجاح؛ لهذا يرى أن أولى خطوات التجاوز المنهجي للقراءات السابقة — التي شكلَت عائقًا إبستيمولوجيًّا أمام التطور في العقل العربي، وبالتالي العجز عن تحقيق حلم النهضة — تكمن في تبني الأسس المنهجية الآتية:

ضرورة القطيعة مع الفهم التراثي للتراث

يعتبر الجابري هذه القطيعة شرطًا من شروط التجديد على مستوى المنهج من خلال «كسر بنية العقل المنحدر إلينا من «عصر الانحطاط» وأول ما يجب كسره (…) ثابتها البنيوي «القياس» في شكله الميكانيكي، وامتداداته إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر.»٤٣ فتكون مشكلة المنهج هنا هي مشكلة الموضوعية، فمهما بلغت مناهج التفسير والتحليل من الدقة حسب الجابري، فإنها لا تصلح إلا عندما يكون الموضوع منفصلًا عن الذات يتمتع بنوع من الاستقلالية عنها؛ فيؤسس لباراديغم جديد في بحث العَلاقة بين الموضوع [التراث] والذات.

وقد مكنته هذه الآلية المنهجية من حسن تدبير العَلاقة بين طموحات الواقع وإشكالاته، وبين الماضي وإكراهاته؛ ليرفع من جاهزية العقل العربي في مجابهة تحديات الحداثة وتدفقاته، والقدرة على إنجاز أحلامه؛ فيتحرر من تراكمات التاريخ السلبية، والمعيقة لحركته الإبداعية في واقع لا يسمح بتكرار أنظمة فكرية غير قادرة على الفعل والإنجاز.

تجديد باراديغم قراءة التراث: منهجية الفصل والوصل

يبدأ الجابري هذه المشكلة بطرح سؤال منهجي إشكالي: كيف نبني لأنفسنا فهمًا موضوعيًّا لتراثنا؟ ويرى أن هذه القضية هي جوهر المشكلة المنهجية، التي تواجه الفكر العربي المعاصر في محاولاته الرامية لإيجاد طريقة علمية ملائمة للتعامل مع التراث. وتتخذ هذه الموضوعية عنده مستويين من العَلاقة»؛٤٤ مستوى العَلاقة الذاهبة من الذات إلى الموضوع، والموضوعية في هذا المستوى تعني فصل الموضوع عن الذات، ثم مستوى العَلاقة الذاهبة من الموضوع إلى الذات، وهي في هذا المستوى تعني فصل الذات عن الموضوع.
ويُصرُّ الجابري على أن هذه الخطوة هي الأساس في تحقيق الموضوعية والعلمية بعيدًا عن المسبقات والرغبات، وأن المكتسبات المنهجية للعلوم الألسنية المعاصرة تقدم لنا طريقة في هذا التعامل الموضوعي مع النصوص التي يلخصها في القاعدة الذهبية التالية: «يجب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ، والتحرر من الفهم الذي تؤسسه المسبقات التراثية أو الرغبات الحاضرة.»٤٥ وهذه الخطوة تحتاج حسب تحليله، إلى ثلاثة أسس منهجية كبرى:
  • المعالجة البنيوية: التي تحرص على العلائق الداخلية للنصوص، والاقتصار في التعامل معها «كمدونة، ككل تتحكم فيها ثوابت، ويغتني بالتغييرات التي تجري عليه حول محور واحد»،٤٦ من خلال محورية فكر صاحب النص حول إشكالية واضحة قادرة على استيعاب جميع التحولات التي يتحرك فيها ومن خلالها فكره. مرحلة تُعِين على فَهْم العَلاقات الأفقية داخل النص، دون الاستناد إلى العَلاقات الخارجية.
  • التحليل التاريخي: من خلال الحرص على ربط فكر صاحب النص الذي أعيد ترتيبه بمجاله التاريخي، بكل أبعاده الثقافية والأيديولوجية والسياسية والاجتماعية، لاختبار مدى صحة المعالجة البنيوية،٤٧ فهذا التحليل يساعدنا على اكتشاف الإمكان التاريخي، والتعرف على ما كان في إمكان النص أن يقوله ولكن سكت عنه.
  • الطرح الأيديولوجي: ينطلق الجابري من أن هذا المدخل في التحليل يشكل إضافة نوعية في عملية الفهم، والبناء التكاملي في الوظيفة التي نتوخَّاها من التراث. يقول: «إن التحليل التاريخي سيظل ناقصًا، صوريًّا مجردًا ما لم يُسعِفه الطرح الأيديولوجي؛ أي الكشف عن الوظيفة الأيديولوجية [السياسية والاجتماعية] التي أدَّاها الفكر المعني الذي ينتمي إليه (…) والكشف عن هذا المضمون هو الوسيلة الوحيدة لجعله فعلًا معاصرًا لنفسه، مرتبطًا بعالمه»،٤٨ وإعادة التاريخية له.

تشكل هذه الخطوات كلها نسقًا متداخلًا ومتكاملًا قائمة على لحظة الموضوعية، وتحقيق الانفصال عن الموضوع، أما اللحظة الثانية فهي لحظة الاتصال به والتواصل معه، لمعالجة مشكل الاستمرارية، وهي اللحظة المنهجية التي يؤسس عليها الجابري عَلاقة القارئ بالمتن التراثي؛ وتُمكِّنه من الاتصال المباشر به، فيعيش إشكالاته، ويكتشف ذاته مع الاحتفاظ بوعيه واستقلاله … إنها حسب الجابري رؤية مباشرة ريادية استكشافية: تستكشف الطريق وتستبق النتائج، وسط حوار جدلي بين الذات القارئة، والذات المقروءة، عبر معطيات الموضوعية التي استخلصت خلال اللحظة الأولى من المنهج.

كما تُمكِّن هذه الخطوة من قراءة ما سكتَت عنه الذات المقروءة؛ فيندمج الموضوعي بالأيديولوجي، فيتحول «المستقبل-الماضي» إلى «المستقبل-الآتي» … فيصبح المقروء المعاصر لنفسه معاصرًا لقارئه، فتصبح هذه المعاصرة المتبادلة هي التي تحقق الاستمرارية باستمرارية تقدم الوعي من خلال البحث عن الحقيقة.٤٩ والذي يتيح إمكانية هذه الاستمرارية هو: «الممارسة العقلانية النقدية في تراثنا وبالمعطيات المنهجية لعصرنا، وبهذه الممارسة وحدها يمكن أن نزرع في ثقافتنا الراهنة روحًا نقدية جديدة وعقلانية مطابقة: الشرطين الضروريين لكل نهضة.»٥٠

هكذا يُفصح الجابري عن طموحاته النقدية وأُفقه المعرفي، من خلال منهجية الوصل والفصل لتحرير التراث والتاريخ من الرقابة المادية والمعنوية التي يفرضها المجتمع، وتمنع من استمرار العطاءات في الثقافة العربية.

(ﺟ) مُحدِّدات الرؤية والقراءة المعاصرة للتراث

الوعي بأبعاد الرؤية — فلسفة النظر ومنطلق التحليل وترتيب الخطوات — شرط ضروري لاستعمال المنهج استعمالًا سليمًا مثمرًا … فهي التي تؤطر المنهج وتحدد له أفقه وأبعاده،٥١ وترتكز هذه الرؤية على منطلقات أساسية في المنهجية التي يقترحها في قراءة المتن التراثي واستيعاب إرجاعات الواقع المعاصر:

وحدة الفكر … وحدة الإشكالية٥٢

ينطلق الجابري في هذه النقطة من اعتبار تاريخ الفكر تاريخ وحدة الإشكالية التي تؤسس لوحدة الفكر في لحظة أو لحظات تاريخية معينة لا تتقيد بإطار الزمان والمكان، بل تبقى مستمرة وتظل مفتوحة في كل لحظة تبرز فيها إشكالية النهضة للأمة كإشكالية التوفيق بين العقل والنقل، كما تعني عنده ضرورة الانصراف إلى ما كتبه مجموعة من المفكرين إلى فكر واحد منهم. وتشكل هذه اللحظة عند الجابري لحظة مهمة في توجيه اختياراته الفلسفية العقلانية أثناء تعامله مع التراث العربي في مجال جغرافي محدد [المغرب والأندلس] ولفكر بعينه — ابن طفيل وابن رشد وابن باجة — وبالعوامل التي أنتجت هذا الفكر في زمان محدد ومعروف «اقتصادية وسياسية واجتماعية»، ويرى أنها رؤية مفتوحة للذات القارئة ومتاحة للتأويل بعد تكييف أدوات التحليل معها.

المجال التاريخي أو تاريخية الفكر

الذي يعنيه ليس بالضرورة التحديد التقليدي الذي يؤرخ له بتعاقب الدول، وإنما القصد هو «عمر الإشكالية»،٥٣ والفترة التي تغطيها في تاريخ فكر معين،٥٤ ويتحدد عنده هذا المجال بأمرين اثنين:
  • «الحقل المعرفي» الذي تؤطره المادة المعرفية الموحدة المنسجمة «الفكر الفلسفي» التي يتحرك فيها الفكر بجهاز مفاهيمي وتصورات، ومنطلقات، ومنهج ورؤية موحدة.

  • أما المجال الثاني فهو «المضمون الأيديولوجي» لإعادة نوع من الترابط بين الفكر والواقع من خلال الوظيفة الأيديولوجية التي يحملها ذلك الفكر.

تمكننا هذه الخطوات المنهجية وعناصر الرؤية — يقول الجابري — من الوعي بإشكالات التراث، وتحديد مستويات التعامل معها؛ في أفق توظيفه في حياتنا الفكرية الراهنة على مستوى الفهم والاستيعاب الكلي، وعلى مستوى الاستثمار والاتجاه نحو أعلى مراحل التقدم فيه، منبهًا إلى أن ما يزيد المشكلات تعقيدًا في هذا التعامل داخل الفكر العربي المعاصر، هو الطرح الخاطئ لقضية التعامل مع التراث، التي تشكل إحدى المُحدِّدات الأساسية لإشكاليته، ولكونه يطرح المشكلات التي يواجهها في إطار هذه الإشكالية طرحًا خاطئًا.٥٥

والمنهج في كتابات الجابري — كما يؤكد — مسترسل، لكن لا ليكرر نفسه، بل ليُكيِّف خطواته وأدواته مع المعطيات التي يتعامل معها، ويتمم عملية اكتشاف نفسه، وهذا واضح من المداخل والمُقاربات التي افتتح بها كل جزء من أجزاء مشروعه في نقد العقل العربي.

بهذه الخطوات يحقق الجابري معنى الانتظام في المنهج بدل الفوضى التي سادت الدراسات السابقة، و«الانتقال من التناول «الأيديولوجي» للتراث إلى التراث باعتباره سؤالًا «معرفيًّا»؛ أي من سؤال: لماذا الحاجة إلى قراءة التراث؟ إلى سؤال: كيف نقرأ التراث؟ وسؤال الكيفية هنا هو سؤال الرؤية والمنهج؛ السؤال الذي يقتحم التراث ويبحث فيه، لا «السؤال» الذي يتخذ من التراث تُكَأة لينتج خطابًا أيديولوجيًّا.»٥٦
وينتقد الجابري القراءات السابقة للتراث في بُعدها الإبستيمولوجي لأنها «مؤسسة على طريقة واحدة في التفكير؛ الطريقة التي سمَّاها الباحثون العرب القُدامى ﺑ «قياس الغائب على الشاهد» [أي إن] هناك دومًا «شاهد» يقاس عليه «الغائب». الغائب هنا هو المستقبل. (…) أما الشاهد فهو بالنسبة لكل اتجاه الشق الأول من السؤال الذي يطرحه.»٥٧ فهي قراءات سلفية الرؤية والمنهج.

ويحق لنا أن نتساءل بعد الذي عشناه مع هذا المشروع من متعة وسياحة فكرية وقوة في المراجعات: هل فعلًا انتهينا من إشكالية المنهج من خلال الخطوات المقترحة وسوِّيت المسألة أم أن الأمر أعقد مما يتصور الجابري؟ ما حدود التوفيق لهذه المنهجية المقترحة؟ ألم يكن خطاب الجابري حول التراث خطاب نقائض أيديولوجيًّا عكس ما قرَّره من أن الهم الإبستيمي هو رِهانه الأول في كل هذا الجهد؟ نؤجل القول في هذه الأسئلة إلى المبحث الرابع من هذا الفصل حيث مجاله الطبيعي.

(٢-٢) تأسيس المفاهيم المعرفية المنهجية في مشروع الجابري: المرجعيات والأصول

اعتمد محمد عابد الجابري في تأسيس ونحت جهازه المفاهيمي ومنهجياته التحليلية على منظورات متعددة ومتخصصة، ومساقط معرفية، منها ما ينتمي إلى المتن التراثي العربي الفلسفي بالدرجة الأولى، ومنها ما ينتسب إلى الفكر العالمي المعاصر المتعدد التخصصات «الفكر السياسي، والبنيوية، والتفكيكية، والأنثروبولوجيا، والإبستيمولوجيا، وعلم النفس، وعلم اللغة، والماركسية المتجددة» ليس كما طُبقت هذه المفاهيم في حقلها التداولي الأول، وإنما وفق معطيات جديدة، يعيشها الفكر العربي المعاصر، وهو ما يمنحها — حسب الجابري — إمكانات التحرك في حقلها الجديد بحُرية، بعد تنقيتها من خلفياتها الأيديولوجية، وتطويعها والسياقات الجديدة لفكرنا المعاصر.

لم يواجه الجابري مشكلة في بحثه أكثر من مواجهته لمشكلة تَبْيِئة المفاهيم الغربية التي استمدها من حقوله المعرفية من أجل بلورةٍ أفضل لمشروعه النقدي،٥٨ فكان عليه أن يقطع مسافات، ذَهابًا وإيابًا، بين هذه الحقول المعرفية المتعددة والمتخصصة وشبكة مفاهيمها، حتى يظفر ببغيته المنهجية في إطار النقد الإبستيمولوجي للعقل العربي، وبالتالي الهدف الاستشرافي النهضوي العربي؛ من خلال تفكيك آليات تفكير هذا العقل، والتحرُّر مما أسماه «مما هو مُتخشِّب في كِياننا العقلي، وإرثنا الثقافي»،٥٩ وفك الارتباط بين «الصراع الأيديولوجي والصدام الإبستيمولوجي في الثقافة العربية. وهي عَلاقة ما كان يمكن لنا قط إهمالها أو التقليل من أهميتها ومفعولها، وإلا فقدَ التحليل بُعده التكويني؛ أعني ما يمنح موضوعه تاريخيته …»٦٠
وتحقيق هذه المهمة التاريخية يتطلب من الناحية المنهجية نظرة متكاملة منافية للتبعيض والبعثرة؛ ولذلك تجد غلبة مفاهيم تستجيب لهذا الطموح النقدي من قبيل «البحث عن الأصول والفصول»، و«التفكيك»، و«رد الجزء إلى الكل». يقول: «نحن لا نصدر عن مثل هذا المنهج التجزيئي الفيلولوجي الاستشراقي، ليس فقط لأنه مُعرَّض للنقد علميًّا، بل لأنه لا يستجيب لاهتماماتنا نحن العرب المعاصرين، ولا لنوع الوعي الذي نريد أن يكون لنا عن تراثنا.»٦١ حين حاول أن يجعل المصطلح الغربي أقرب إلى موضوعه، ويكسبه القدرة على الانسجام.

هكذا تكلَّم الرجل. فهل فعلًا استطاع الجابري أن يحقق هذا الانسجام بين أدواته التفسيرية وموضوعه «نقد العقل العربي» بمضلعاته الأربعة: «تكوين العقل»، «بنية العقل»، «العقل السياسي»، «العقل الأخلاقي»؟ ولإشكالات الفكر العربي المعاصر؟ وأن يحررها من أبعادها الأيديولوجية وإحالاتها الفلسفية؟ وأن يحقق بهذا العمل الضخم ما كان العرب يحلمون به؛ مشروع النهضة والتقدم والحداثة السياسية؟ فهذا الانتظام، والتجاوز المنهجي، والتبيئة المفاهيمية التي اشتغل عليها الجابري وأخذت منه وقتًا من شأنها — كما يقول — أن تجعل من دراسة التراث وقضايا الفكر العربي المعاصر؛ دراسة نقدية عقلانية متجاوزًا «الثقافة الشعبية، والخرافات، والأساطير» إلى الانخراط في نقد العقل بأدوات مأخوذة من الفكر العالمي الإنساني، ومحاولة غرسها في الحقل التداولي الفلسفي العربي.

وقد كان هذا الهاجس المنهجي مُهيمِنًا على نفَس الكتابة عنده، وما يؤكد هذا المنحى ما نجده في مقدمات مشروعه التي استغرقت صفحات؛ لهذا فقد «عانق إطار التحليل الإبستيمولوجي معانقة لصيقة ظلت تصادفنا بصماتها واصطلاحاتها على طول الأجزاء المكونة لمشروع «نقد العقل العربي»، فبالقدر الذي يثيرها في مقدمة «تكوين العقل العربي» يرسخها في خلاصته»،٦٢ أثناء مقارنة أجراها بين خطاب الكندي وخطاب الفارابي، وهو ما يثبته بقوله: «وإذا نحن نظرنا إلى خطاب الكندي وخطاب الفارابي من زاوية الأساس الإبستيمولوجي، أو النظام المعرفي الذي يؤسسهما وجدناهما خطابًا واحدًا؛ خطابًا جديدًا على الثقافة العربية الإسلامية يسجل لحظة جديدة في تاريخ تكون العقل العربي …»٦٣ فالتأكيد على هذا الاختيار في التحليل أدى به إلى ارتشاف حاجيَّاته المنهجية — كما ذكرنا آنفًا — من حقول معرفية إنسانية تناسب موضوعه، فحينما يحتفل باللغة العربية معتبرًا إياها مرجعًا لقراءة فكرية كان لزامًا عليه طرق باب علماء السيميائيات.٦٤
ويعبر عن هذا المنحى المنهجي فيقول: «وإذا أخذنا بالأطروحة العامة المقبولة (…) لدى علماء السيميائيات والإثنولوجية اللسانية، والقائلة: إن منظومة لغوية ما (الشيء الذي يعني ليس فقط مفرداتها بل أيضًا نحوها وتراكيبها) تؤثر في طريقة رؤية أهلها للعالم وفي كيفية مفصلتهم له، وبالتالي في طريقة تفكيرهم؛ أمكن القول إن الكلمة التي يرجع بها إلى معناها اللغوي إنما يطلب مدلولها كما كان يتحدد داخل المنظومة اللغوية التي تنتمي إليها (…) وهذا ميسور جدًّا وبدرجة كبيرة في اللغة العربية الفصحى.»٦٥
فهذا الشاهد يُظهر بدرجة كبيرة مدى ارتباط مقومات المنهج النقدي عند الجابري بأطروحات التفكير اللساني والإثنولوجية٦٦ اللسانية وأصولها النظرية، ومحاولة سحب بطاقة السفر معها، والدخول بها إلى حقل البيان العربي وفق مُحدِّدات الرؤية المنهجية التي حددها.
ويؤسس لهذه القوة الإبستيمولوجية من التراث، وينتزع أدواتها منه، حين اعتبر الإجماع في التشريع الإسلامي قوة منهجية ناهضة بالعمل الإبستيمولوجي. يقول: «الإجماع إذَن أصل من أصول «التشريع» في النحو واللغة، وفي الغالب يتم العمل بهذا الأصل بدون تأسيس ولا تبرير وكأنه من بديهيات العقل (…) ولم تكن هذه السلطة التي مارسها «الإجماع» على عقول النحاة واللغويين إلا مظهرًا من مظاهر السلطة الإبستيمولوجية التي كانت — وما تزال — لهذا «الأصل» في الحقل المعرفي البياني، والتي تجد مركزها في أصول الفقه (…) والواقع أن علماء أصول الفقه قد منحوا «الإجماع» من القوة الإبستيمولوجية؛ قوة التأسيس على الصعيد النظري، ما لم يمنحوه لأي «أصل» آخر، بل لقد أسسوا عليه جميع الأصول».٦٧

فظلت هذه المنهجية هي الموجِّه الأساس لعمليته النقدية التي انطلقت من الخطوات الثلاث في كتابه «نحن والتراث»: التحليل التاريخي، المعالجة البنيوية، ثم الطرح الأيديولوجي.

ومع كل التأكيدات الصارمة التي أعلنها الجابري في التسلح بالنقد الإبستيمولوجي باعتباره سلطة مرجعية في منهجية التحليل، فإنه لا يفوته أن يلمِّح إلى إحساسه بالإحراج من نتائج هذا التحليل، إزاء المذاهب والطوائف التي انتقد بنية التفكير عندها في التراث المعرفي وما زالت مستمرة؛ ولذلك عمد إلى ما أسماه بالتخفيف من النقد، حيث حرص على تجنب الحساسية الطائفية فخفَّف من النقد إلى أدنى درجة ممكنة بالنسبة للمذاهب الفكرية التي ما زالت موجودة في الساحة، وربما تنافسه على مستوى التحليل أو تخالفه.

وهذا التخفيف ذكاء منهجي من الجابري ليتجنَّب الدخول في الصراع المباشر، والمعارك الهامشية التي تنسيه الموضوع الأساس والحيوي «نقد العقل العربي والتأسيس لمشروع الحداثة»، ويضع بينه وبين «خصومه» مسافة من الاحترام والتقدير، المستند إلى فقه الاختلاف، لكن الاختيار يبقى هو هو: الصرامة النقدية، والوفاء لمنظومته التحليلية.

وهذا دأْبٌ دأَبَ عليه الجابري في كل مراحل مشروعه، فكان يلجأ إلى إجراء تعديلات منهجية واختيار منظورات في التحليل تستجيب لطبيعة كل موضوع ولاحتياجاته. هكذا نجده في تحليل العقل السياسي العربي يستعير آليات جديدة، ومفاهيم أخرى أكثر قدرة على التفكيك والتوليف والتوليد، فاعتمد خرائط معرفية تتوزعها كل الاتجاهات على اختلاف منطلقاتها وأيديولوجياتها؛ ويبرر الجابري هذا الاستمداد المنهجي من الفكر الغربي بمبرر بناء الذات وتطوير وعينا المعاصر. يقول: «عندما ندرس التراث أو الفكر الغربي (…) فإنما نفعل ذلك لكي نبني ذاتنا ونطور وعينا، لكي نُكوِّن لأنفسنا نظرة عن العالم، لكي نفهم.»٦٨
وهو مضطر — كما تقول الباحثة اللبنانية نايلة أبي نادر — إلى أن يستعير أدوات بحثه، حتى يتسنى له الحفر والتفكيك بالشروط التي حدَّدها. لكن المشكلة المطروحة لا تقف عند حد الاستعارة؛ وإنما المشكلة حول كيفية اختيار هذه الأدوات وفي توظيفها٦٩ حتى تستجيب لأغراض البحث العلمي، وهذا تحدٍّ يواجه الباحث في عمله؛ تحدي ترجمة المفاهيم والمصطلحات واختيار المنهج أو المناهج الملائمة للموضوع.

إن الترجمة لا تكفي، بل لا بُدَّ من عملٍ استثنائي للباحث هو الوعي بما قبل المنهج بالحمولات الفلسفية للمفاهيم؛ لتفادي الإسقاط العشوائي، وهذا واحد من العوائق الكبرى التي تواجه الفكر العربي المعاصر في كل لحظة من لحظاته التاريخية، بل تواجه البحث العلمي بشكل عام.

فهذا الخلل في قراءة المفاهيم أدَّى إلى خلق ثنائيات في تاريخ الفكر العربي منذ بداية الترجمة، الماضي والحاضر، التراث والحداثة.

ومن أجل تفادي العوائق الإبستيمولوجية شرع في تبيئة مفاهيم موضوعه، ففرَّق بين «الدرس الإبستيمولوجي» و«التوظيف الإبستيمولوجي»، ﻓ «الإبستيمولوجية بمعناها المعاصر تتعلق بالمعرفة العلمية، لكن ليس بالضرورة [في رأيه] أن ترتبط بالعلوم الطبيعية والرياضية، بل يمكن أن تكون ميدانًا لإنتاج مفاهيم ورؤى جديدة قد لا تتوافر في العلوم الحقة التي هي موضوع الدرس الإبستيمولوجي بالمعنى الضيق للكلمة»،٧٠ ليوسع من تحرك مفاهيمها في مجالات جديدة غير أصلية، ويحاول أن يدرسها كما فعل بياجي في استعارة مفهوم اللاشعور المعرفي أثناء دراسته لتكوين بنية العقل، عقل الواحد من البشر، مستلهمًا المعنى الذي أعطاه فرويد للاشعور «الانفعالي السلوكي»، يقول: «لنستعر إذن هذا المفهوم من بياجي ولننقُله من ميدان السيكولوجيا التكوينية، الذي تحرك فيه بياجي، إلى ميدان إبستيمولوجيا الثقافة الذي نتحرك فيه (…) ومعلوم أن اللاشعور لا تاريخ له؛ لأنه بطبيعته لا يعترف بالزمن «الطبيعي» ولا بزمن بنية العقل المنتمي إلى ثقافة ما، فهو لا يلحقه التغير بنفس الوتائر التي يتغير بها الزمن الاجتماعي والعاطفي …»٧١ وألتوسير حين وظف دراسات باشلار في تحليل فكر ماركس وفوكو في حفرياته.
فهو لا يرى مانعًا من أن تسافر هذه المفاهيم من حقل إلى آخر دون تأشيرة المرور وشروط السفر ومدة الإقامة، ودون الخضوع لمراقبة جمركية صارمة، مع ما يخلقه هذا المرور والسفر من قلق في الطريق ومتاعب في الوصول؛ ولهذا يحاول تركيبها في منظومته النقدية كما يتصورها وما تبقَّى منها في ذهنه ومن خلال معرفته بها، وأنه «إذا امتلكنا هذا الذي تبقَّى وأصبح مهضومًا، وصار ملكًا لنا، فإننا حينئذ نستعمله بصورة عفوية وفي الغالب بكيفية مبدعة».٧٢
ويعطي لهذه المفاهيم مشروعية الارتباط بموضوعه حين اعتبرها مفاهيم تُعَبِّرُ عن واقع إنساني عام، مع ما في هذا التعميم من تجاوز لخصوصيات الثقافات الأخرى التي ما فتئ يؤكد عليها وعلى نسبية هذه المناهج — اضطراب في التعبير والإفصاح في أكثر من موقع — بين العمومية والنسبية والشمولية والاستقلال التاريخي. يقول: «إن مفاهيم العلوم الإنسانية في الغرب ترتبط بالمرجعيات التي تؤسس الثقافة الغربية والفكر الغربي، ولكنها في ذات الوقت تعبر عن واقع إنساني عام»؛٧٣ الأمر الذي يطعن في مفهوم الاستقلال التاريخي الذي استوحاه من غرامشي، إذ لا استقلال إلا ارتباطًا بالذات وبمرجعيتها وتاريخها ونسقها الحضاري العام.
أما في كتابه «تكوين العقل العربي» فيؤسس فصوله على منهجين؛ الأول: يهيمن فيه التحليل التكويني، والثاني: يسود فيه التحليل البنيوي،٧٤ بالثقل نفسه تحضر المعاجم الفلسفية واللغوية الغربية في تحديد المفاهيم عنده، بل تحسم في كثير من اختياراته كما هو الشأن في تحديد «مفهوم العقل»، حيث استعان بالتمييز المشهور الذي أقامه لالاند بين العقل المكوِّن «بالكسر والتشديد لحرف الواو» [الفاعل] والعقل المكوَّن «بالفتح والتشديد للواو» [السائد]. فالأول يقصد به النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر ويصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ، والثاني هو مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا٧٥ ليتبنى المفهوم الثاني للعقل — العقل المكوَّن [السائد] — فيسقطه على العقل العربي إسقاطًا أضر بمخرجات تحليله الإبستيمي الذي تبنَّاه في مشروعه.
إلى جانب لالاند، دخل الجابري في خط التماس مع فلسفة ديكارت واسبينوزا وهيغل في تحديد طبيعة العقلانية التي يتوخاها في دراسته لبنية الثقافة العربية وطبيعة الأدوات المتوسل بها في هذا التحليل «التفكيك»، ويعزز نموذجه التفسيري هذا وهذه الاختيارات والمُحدِّدات المنهجية باستعراض التطورات التي عرفها العقل الغربي من العصر اليوناني إلى العقل الحداثي كما تبلور مع ديكارت، وحدد له ثابتَين ينتظمان خط سيره وميزتين تميَّز بهما عن غيره من العقول:
  • (أ)

    اعتبار العَلاقة بين العقل والطبيعة عَلاقة مباشرة.

  • (ب)

    الإيمان بقدرة العقل على تفسيرها والكشف عن أسرارها.

وهما خطان يشكلان — في نظره — ثابتًا بنيويًّا واحدًا، قِوامه تمحور العَلاقات في بنية العقل حول محور واحد، قطباه: العقل والطبيعة. فصالَ في هذه الثقافة ومعاجمها قبل الوصول إلى معاجم اللغة العربية التي تفحَّصها؛ وانتهى إلى خلاصات تؤكد مفارقات بين العقل العربي الذي ارتبط بالقيم والأخلاق غير متجه إلى الطبيعة وظواهرها، عكس التصور الذي تنقُله اللغات الأوروبية، فالعقل مرتبط دومًا بالموضوع، فهو إما نظام الوجود، وإما إدراك هذا النظام أو القوة المدركة.٧٦
أما في كتابه «العقل السياسي» فقد اتجه بالقوة نفسها إلى المرجعيات الغربية يستمد منها ويستعير مفاهيمه، يقول: «والجهاز المفاهيمي الذي سنوظفه في هذه الدراسة يتألف من صنفين من المفاهيم: صنف نستعيره من الفكر العلمي الاجتماعي والسياسي المعاصر، وصنف نستمده من تراثنا العربي الإسلامي [دون أن يصفه بالعلمي]. والمزاوجة بين توظيف هذين النوعين من المفاهيم ليست بالعملية السهلة. ونحن أول من يدرك [القول للجابري] «الأخطار» التي تنطوي عليها؛ ولذلك حرصًا منا على تبيئة الأولى مع موضوعنا فلم نتقيَّد حرفيًّا بالمضمون الذي تحمله في مجالات استعمالها في حقول الثقافة الغربية، بل عملنا على جعلها تتسع، دون تشويه للتعبير عن المضامين التي يعرضها علينا موضوعنا كمعطيات خاصة تشكل جانبًا أساسيًّا من خصوصيته، واجتهدنا من جهة أخرى في بعث حياة جديدة في المفاهيم القديمة التي اخترناها من تراثنا، وذلك بتحريرها من قيود الماضي وربطها باهتمامات الحاضر.»٧٧

يوظف هذه المفاهيم دون عرضها معجميًّا وتتبُّع سياقاتها في الحقل الدلالي الذي نشأت فيه، وصعوبات تطبيقها في المجال التداولي الثاني موضوع الدراسة [العقل السياسي العربي] لاعتبارات حدَّدها في إشراك القارئ في الرؤية التي يقترحها لموضوعه، وترك الرؤى والمرجعيات التي اختارها تحدد هذه المفاهيم كما وردت في سِجلَّاتها.

ومن المفاهيم المركزية التي استعارها الجابري مفهوم «اللاشعور السياسي» والأهمية التي اكتسبها في حقل الدراسات النفسية، انطلاقًا من الفيلسوف النفسي الشهير سيغموند فرويد (١٨٥٦–١٩٣٩م) الذي أَوْلى أهمية كبيرة في تحليل هذه المكبوتات، واعتبره مسئولًا عن قسم كبير من سلوك الفرد البشري يكشف عن نفسه من خلال الأحلام وفلتات اللسان، ومن خلال تصنيف سلوك الإنسان إلى سلوك صادر عن الشعور، عن وعي وإقرار وتصميم، وسلوك صادر عن اللاشعور لا تتحكم فيه إرادة المرء، يفلت من الرقابة الشعورية.٧٨
ويُبرز الجابري أهمية هذا المفهوم من خلال الأبعاد التي أضافها يونغ في تحليله للتشكيلات البشرية التي اشتغل عليها وانتهى إلى وجود ما أسماه ﺑ «اللاشعور الجمعي» الذي أسسته العشيرة والقبيلة والأمة، ليجد الجابري موطنًا لمفاهيمه ويفترض أن اللاشعور الجمعي أصل «اللاشعور السياسي». يقول: «إن مفهوم اللاشعور الجمعي هذا يبدو وكأنه أصل لمفهوم «اللاشعور السياسي» يؤسسه ويؤطره بوصفه أعم منه.»٧٩

ويعزز هذا التوجه بما انتهى إليه ريجيس دوبري الذي استعار منه هذا المفهوم في دراسته للعقل السياسي من التمييز بين المفهومين «اللاشعور الجمعي» و«اللاشعور السياسي»، حيث جعل من هذا الأخير مفهومًا مستقلًّا.

ويقدم الجابري في صفحات الكتاب توضيحات حول المفهوم وطريقة اشتغاله في موضوعه الأول، نقد التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي ومنهجيته في التوظيف داخل سياقه الجديد: العقل السياسي العربي. يقول: «هذا ونحن عندما نستعير مفهوم اللاشعور السياسي من دوبري لا نأخذه بكل حمولته ولا بنفس مضمونه، بل نتصرف فيه بالقدر الذي يفرضه موضوعنا الذي يختلف اختلافًا غير قليل عن موضوعه»،٨٠ مع فارق في الزمن التاريخي بين المجتمع الذي فكر فيه دوبري، والمجتمع الذي فكر فيه الجابري.
الأول احتلت فيه الصناعة والعَلاقات الاجتماعية مكانًا يقع خلف الموقع الذي تحتله العَلاقات الاقتصادية المتطورة: عَلاقات الإنتاج. أما المجتمع العربي فالأمر يكاد يكون بالعكس، كما يقول، فالعَلاقات العشائرية والطائفية ما تزال تحتل موقعًا أساسيًّا وصريحًا في حياتنا السياسية قديمًا وحديثًا، بينما العَلاقات الاقتصادية وعَلاقات الإنتاج لا تهيمن على المجتمع إلا بصورة جزئية،٨١ في محاولة لقلب الأوضاع بين المجتمعين، مع الإبقاء على خطوط التَّماس بينهما؛ الأوروبي قبل عَلاقات الإنتاج والصناعة، والعربي في وضعه الحالي الذي تهيمن عليه نفس العَلاقات، ويعبر عن هذا التوجه في قوله: «وهكذا فإذا كانت وظيفة مفهوم «اللاشعور السياسي» عند دوبري هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، فإن وظيفته بالنسبة إلينا ستكون بالعكس من ذلك إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والسلوك العشائري داخل المجتمع العربي القديم والمعاصر (…) فاللاشعور السياسي المؤسس للعقل العربي يجب ألا ينظر إليه فقط على أنه «الديني» و«العشائري» اللذان يوجهان من خلف الفعل السياسي، بل لا بد من النظر إليه أيضًا على أنه السياسي الذي يوجه من خلف التمذهب الديني والتعصب المذهبي.»٨٢
فهذه التراتبية التي يقيمها الجابري انطلاقًا من تحليل دوبري مع تغييرات طفيفة — دون أن يقدم المبررات الكافية — تجعل التحليل في نظرنا عسيرًا في كثير من تفاصيله؛ لأنه قياس على غير قياس، وبناء على غير بناء. ويعزز الجابري هذا البناء المفاهيمي بمفهوم آخر يعتبره المرجعية العامة للعقل السياسي: إنه مفهوم «المخيال الاجتماعي»٨٣ الذي استعاره من علم الاجتماع المعاصر، وبالضبط من ماكس فيبر.
وقد سلك المسلكَ نفسَه الذي سلكه مع المفهوم الأول؛ أي الشرح والتفسير للمخيال الاجتماعي في حقله التداولي الغربي؛ لينتهي إلى تبيئته — بطريقته — للاقتراب من فلسفته والتمكن من تشغيله، ولتوضيح ذلك يقول: «إن مخيالنا الاجتماعي العربي هو الصرح الخيالي المليء برأس مالنا من المآثر والبطولات وأنواع المعاناة، الصرح الذي يسكنه عدد كبير من رموز الماضي، مثل: الشنفرَى وامرئ القيس وعمرو بن كلثوم وآل ياسر وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعمر بن عبد العزيز — واللائحة طويلة — إضافة إلى رموز الحاضر ورموز متفرعة عند كل من السنَّة — السلف — والشيعة الذي يشكله الحسين بن علي …»٨٤ مع إجراء نوع من المفاصلة والانفصال بين النظام المعرفي الذي يحكم الفعل المعرفي والمخيال الاجتماعي الذي هو مجال لاكتساب القناعات، مجال تسود فيه حالة الإيمان والاعتقاد ليصل في النهاية إلى أن آليات العقل السياسي العربي هي «الاعتقاد»، وليست نظامًا معرفيًّا منهجيًّا قائمًا على تصوُّرات وملاحظات واستنتاجات ومتابعات عقلانية، بقدر ما هي اعتقادات عاطفية قلبية توظف البيان والعرفان.
أما المفهوم الثالث أو الآلية المنهجية الثالثة «المجال السياسي» في التحليل فقد استعارها من أحد أساتذة علم الاجتماع الفرنسيين؛ الأمر يتعلق ببرتراند بادي٨٥ من خلال كتابه «الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الإسلام» محاولًا تقريب الإشكالية التي يعالجها هذا الكتاب إلى الإشكالية التي يعالجها الجابري في الفكر السياسي العربي، باحثًا عن وحدة الإشكالية بينه وبين الكاتب، يقول: «وإذا نحن أردنا أن نقرب الإشكالية التي يعالجها المؤلف إلى دائرة الفكر الحديث والمعاصر أمكن القول إن السؤال الذي يريد المؤلف الإجابة عنه هو التالي: لماذا تطورت «الدولة» في أوروبا من دولة «الأمير» إلى الدولة الحديثة، دولة «الحداثة السياسية»، دولة القانون والمؤسسات، التي تستمد الشرعية من كونها تمثل إرادة الشعب (…) بالمقابل لم تتطور الدولة في بلاد الإسلام خلال القرون الوسطى إلى دولة حديثة من هذا الطراز؟ ثم لماذا فشلت المحاولات التي قامت بها النخب العصرية في بلاد الإسلام من أجل نقل «الحداثة السياسية» الغربية تلك إلى بلدانها؟»٨٦ معلقًا على بعض التفاصيل التي أوردها بادي، معتبرًا تحليله الخطي نوعًا من قياس العكس لا يفي بالمطلوب، أما السبب المباشر في عدم قيام هذه الحداثة السياسية فيعزوه الجابري إلى العامل الخارجي باعتباره من أبرز الأسباب التي كانت وراء تقهقُر الأوضاع فيه، كما لا يفسره ماضيه وحده، بل لا بد من أن ندخل في الحساب «حاضر» بل حضور الغرب الاستعماري كقوة فاعلة يتوقف استمرار نموها واطراد تقدُّمها على إعاقة نمو وتقدُّم العالم العربي والإسلامي وجميع بلدان العالم الثالث.٨٧
ويعزز الجابري شبكة مفاهيمه باجتهادات الماركسي المجري جورج لوكاتش٨٨ وقدرتها على التخلص من عدد من العوائق الإبستيمولوجية التي روَّجتها في الساحة العربية وبشكل رديء، الماركسية التقليدية في قراءة التاريخ العربي، موظفًا مفاهيم هذه المدرسة «البنية الفوقية والبنية التحتية».٨٩

وقد شجَّعه هذا النقد على تبني آراء نقدية أخرى لماركسيين مجتهدين معاصرين اهتموا بموضوعه. الأمر يتعلق بالباحث الأنثروبولوجي «موريس كودوليي» — وفي هذا التوجه لا يختلف الجابري عن زميله العروي على مستوى المنظورات التحليلية، وإعلانه حالة التنافي المنهجي والمرجعي — ومع موريس يتنسَّم الجابري عبَق المفاهيم ورائحتها من خلال توظيف المعلومات والمعطيات التي تراكمت من الأبحاث الأنثروبولوجية والأركيولوجية «المنهج الحفري» واللسانية والتاريخية.

وينوه الجابري بعمل كودوليي كباحث أنثروبولوجي طوَّر مجموعة من المفاهيم، خصوصًا مفهومي «القرابة» والدور الذي يقوم به في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، والمجتمعات القبلية خاصة، ثم فكرة «وحدة البِنْيتَين» — البنية الفوقية والتحتية — داخل ذات المجتمعات. مع العلم أن الأبحاث التي أجريت على عينات من المجتمعات المسماة بُدائية لم تستوفِ الشروط العلمية، وأثبتت محدوديتها في الدراسات الأنثروبولوجية، وتعرضت لانتقادات من داخل المدارس نفسها، وَضعيَّةً كانت أو ماركسية، بل إن هذه المجتمعات التي كانت موضوع الدراسة لم تُدرس فيها كل العوامل المشكِّلة لبنياتها.

ويبرر أهمية الاستمداد من هذه الدراسات كونها تخفف من مفعول العوائق المعرفية التي نشرتها الأيديولوجيا الغربية المعاصرة في صفوفنا — يقصد الماركسية التقليدية لا المجددة؛ عوائق هي أصلًا عبارة عن تصوُّرات ومفاهيم تُعبِّر بهذه الدرجة أو تلك عن واقع المجتمع الأوروبي الرأسمالي البورجوازي: مفاهيم البنية التحتية والبنية الفوقية والوعي الطبقي والانعكاس الأيديولوجي … إلخ، التي هي مفاتيح قد لا يستقيم التحليل العلمي للمجتمعات الأوروبية المعاصرة بدون توظيفها نوعًا من التوظيف — لكن ليس على الإطلاق هكذا — لكنها تنقلب إلى عوائقَ معرفية إذا هي فرضت فرضًا كمقولات ومفاتيح «يجب» أن تقرأ بها واقع مجتمعات أخرى لم تعرف نفس المراحل من التطوُّر التي عرفتها المجتمعات الأوروبية.٩٠
صحيح هذا الاستنتاج، وهذا التدقيق في المفاهيم، لكن كيف نجمع بين هذا الرفض والقَبول لأطروحات الأنثروبولوجيا حول المفاهيم ذاتها؟ فهو يرى أن مفاهيم الأنثروبولوجيا حول القرابة ووحدة البنية الاجتماعية، وتداخل الديني والسياسي والاقتصادي فيها تدفعنا إلى «المصالحة» مع واقعنا،٩١ ورفع الحصار في وعينا عن مفاهيم كان العلم الاجتماعي الأوروبي يقمعها فينا، كما تحررنا من «سلطة مقولات الأيديولوجيات والعلوم الاجتماعية الخاصة بالمجتمعات الغربية الرأسمالية المتطورة، ولنعتبرها مجرد مقولات نسبية تعبر عن حالة أو حالات، ضمن أحوال أخرى موجودة أو سبق أن وُجدت. إن هذه هي الخطوة الأولى الضرورية التي بدونها لن نتمكن من رؤية واقعنا كما هو، واقعنا في الماضي وواقعنا في الحاضر.»٩٢

الملاحظ أن هذا التوجه يحتاج إلى تحرير القول، صحيح أن الدراسات الأنثروبولوجية قدمت عُدَّة منهجية للفكر الإنساني، وأغنت الدراسات المنهجية، لكنها لا تصلح دائمًا أن تكون أنموذجًا لكل الدراسات، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بمجتمع — كما يؤكد الجابري — كالمجتمع العربي، فما تزال مفاهيم هذا العلم موضوع خلاف إلى اليوم بين أهل الاختصاص، وغير ذات اتفاق وغير مستقرة، فمن المستبعد أن تكون أداة مصالحة مع الواقع العربي، ولا تقوى على القراءة الواعية لماضيه وحاضره.

وهنا نوع من التناقض في تصريح الجابري بتفكيك المقولات المنهجية الغربية الواردة علينا، وبين ادعاء الانتماء إلى التراث ومقولاته وخصوصيات المجتمع الأم، وحقه في أدوات ومنهجيات تراعي هذه الخصوصيات، وبين التنويه بأدوات خارجية ليست إلا وجهًا للتحليل الأيديولوجي الاستعماري.

أما المفهوم الآخر الذي استعان به وأثَّث به مشروعه؛ فهو مفهوم «الحفر المعرفي» الذي استمده من ميشيل فوكو أثناء مقارنته وتحليله لمفهوم «الراعي والرعية» في الفكر الشرقي القديم، والمضمون الذي كان له في الفكر اليوناني.

لكن بغية الجابري الفكر الشرقي القديم من خلال الحفر في الحضارات الشرقية البابلية والمصرية، فهذا النوع من الاستمداد — كما يرى — يعيننا على تجاوز «النظرة الدوغمائية [الماركسية منها والقومية والاغترابية السلفية] التي سادت الفكر العربي في العقود الأخيرة، التي كانت تفرض على الناس لونًا واحدًا من الرؤية (…) أما اليوم فالأمر يختلف، فالتعدُّدية على الصعيد العالمي والعربي تجعلنا، على المستوى النظري، قادرين على أن نرى مفاتيح وليس مفتاحًا واحدًا (…) في قراءتنا للواقع السياسي العربي»،٩٣ ليعلن المُحدِّدات المنهجية التي ينبغي اعتمادها في إطار هذه التعدُّدية في قراءة التاريخ السياسي العربي، وهي:
  • (١)

    القبيلة: وهي ما تقصده الدراسات الأنثروبولوجية بالقرابة، أثناء دراسته للمجتمعات البُدائية، والسابقة على الرأسمالية، أو ما سبق أن عبَّر عنه ابن خلدون ﺑ «العصبية» أثناء دراسته لطبائع العمران.

  • (٢)

    الغنيمة: باعتبار العامل الاقتصادي نوعًا خاصًّا من الدخل، خراجًا أو رَيْعًا، وطريقة في صرف الدخل وعقلية ملازمة لهما، واعتباره أحد دوافع الفعل السياسي وأحد مُحدِّداتها الأساسية.

  • (٣)
    أما العقيدة فتكمن أهميتها في قدرتها على تشكيل المخيال الاجتماعي السياسي للعقل العربي. وقد قدَّم الجابري شرحًا مفصلًا لهذه المنهجية وفق المحددات والتصورات والمرجعيات التي اعتمدها، ووفق خطية تاريخية بين المرجعية الغربية والأبحاث الأنثروبولوجية والمرجعية التراثية العربية. فقد نظر إلى هذه المحددات من جهتين: جهة الإيجاب حين تتحرك في اتجاه البناء وتعزيز الراوبط، وجهة السلب حين تتحول إلى عوامل تقويض البنيان العربي.٩٤

فهذه العوامل تتداخل عنده فيما بينها لتشكل محددات جوهرية للعقل السياسي العربي، ففي العصر الجاهلي شكلت القبيلة والغنيمة أساسًا له، في حين شكَّلت العقيدة في عصر النبوة محددًا لتحرك العقل السياسي العربي، دون أن تسلم هذه المحددات من المساءلة والنقد وتتعرض لانتقادات.

فهذا التنظير الثلاثي في تفسير «تراث الإسلام، قد لا يكون مقنعًا، وهو يذكرنا [الكلام لعماد الدين خليل] بمقولة الكاتب المجري آرثر كوستلر من أن الفكرة التي تستطيع تفسير كل شيء، فإنها في نهاية الأمر لا تكاد تفسِّر شيئًا، كما يذكرنا بتعليق الفيلسوف الإيطالي بنيدتو كروتشه على «مثالية» هيغل من أن فكرة هيغل عن الحياة كانت فلسفية، بحيث إن النزعتين المحافظة والثورية تجد فيها ما يبررها. وفي هذه النقطة يتفق «إنجلز» الاشتراكي والمؤرخ المحافظ ترايتشه لأن كليهما يرى أن تماثل المعقول والحقيقي يمكن أن يُدعى إليه بصورة متساوية في كل الآراء السياسية والأحزاب التي تختلف عن بعضها، لا من ناحية هذه الصيغة المشتركة، بل في تعيين ما هو المعقول والحقيقي، وما هو غير المعقول وغير الحقيقي، ومن ثم اتهام خصمه بأنه مخالف للمعقول؛ أي إنه ليس له وجود ملموس وحقيقي، ويكون بهذا الادعاء قد وضع نفسه مع الفلسفة في خط واحد.»٩٥

وقد حاول الجابري أن يرغم التراث العربي على أن ينطق بلسان عقائدي الحاضر من خلال عُدَّة معرفية ومنهجية تربط بين الفهم الإبستيمولوجي المعاصر وأفقه — الحداثة — وتحرير العقل العربي من الفهم التراثي للتراث، وإن كنا نحتفظ له بفضل معرفي على هذا المستوى من الفهم، وتحرير العقل العربي من الفهم الخاطئ للتراث، أو على الأقل زعزعة بعض أفكاره المشوشة لمسيرته، فيخرجه من الجبر التاريخي إلى حركة تنويرية معاصرة. فاعل ذلك الجهاز المفاهيمي الذي اعتمده في تشريح ذلك العقل، في أفق التأسيس للكتلة التاريخية، وهو بذلك يدشن مرحلة القطيعة مع الميتولوجيا السياسية التي سادت في تاريخ الأمة إلى فقه السياسة بالمفهوم المعاصر.

(٣) المبحث الثالث: القطيعة المعرفية في فكر الجابري: المفهوم والمجالات والمآلات

وظَّف محمد عابد الجابري في مشروعه النقدي للعقل العربي جهازًا مفاهيميًّا حاول من خلاله تنشيط آليات التحليل، وتحديد منطلقات البحث ومآلاته، فكان هذا الجهاز المفاهيمي هو الضابط لحركته النقدية، والموجِّه نحو الأفق المعرفي عنده، فمن المفاهيم المركزية التي شغلت مساحة كبيرة في مشروعه: مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية، أو النقد الإبستيمولوجي.

فتأسيس الحاضر واستشراف المستقبل لا يحصل عنده إلا بتحقيق هذه القطيعة المعرفية مع مساحة كبيرة من تاريخ الفكر العربي الإسلامي، ومع أنواع الفهوم التي تشكلت حول هذا الفكر في الماضي، وأريدَ لها أن تستمر وتبني وتشيد.

ظهر مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية على يد الفيلسوف الفَرنسي غاستون باشلار (١٨٨٤–١٩٦٢م) ليدل على مفهومين:
  • الأول: تخلي العالِم في المختبر عن المعرفة التقليدية الشائعة، والأخذ بالمعرفة العلمية الموضوعية القائمة على التجربة والبرهان.
  • الثاني: القطيعة بين الأنظمة المعرفية في تاريخ العلم، والنظام المعرفي هو مجموعة من المفاهيم والمقولات وطرائق التفكير التي تُمكِّننا من حل المشكلات أو التوصل إلى معرفة جديدة ترقي حياتنا. فعندما يصل النظام المعرفي الذي نستخدمه إلى طريق مسدود ولا يستطيع معالجة الإشكاليات التي تواجهنا، لا بد لنا من تغيير الزاوية التي ننظر منها إلى الأشياء؛ أي التخلي بوعيٍ تامٍّ عن ذلك النظام المعرفي القديم، وتبنِّي نظام معرفي جديد يستطيع التعامل مع الإشكاليات التي عجز النظام المعرفي القديم عن التعامل معها، فالتطور العلمي لا يتوقف على التراكم الكمي فحسب، بل على آليات التفكير الجديد أيضًا، وفيما اشتغل باشلار على المفهوم الأول لمصطلح القطيعة المعرفية تبنى المفهومَ الثاني وطوَّره ثلاثة من المفكرين هم: الفيلسوف الناقد الفَرنسي ميشيل فوكو (١٩٢٦م– ١٩٨٤م) الذي اتبع طرائق بحث جديدة في كتابه «تاريخ الجنون»، ولويس التوسير (١٩١٦–١٩٩٠م) الذي أعاد قراءة ماركس قراءة بنيوية؛ فبيَّن أن ماركس في كهولته قد قطع صلته الأيديولوجية والمثالية بالفلسفة الألمانية، وتبنى مقاربة علمية، ونظرية قرأ فيها الأشياء قراءة نسقية توضح بنيتها الداخلية ونظامها الهيكلي. ومؤرخ العلم الأمريكي توماس كوهن (١٩٢٢–١٩٩٦م) صاحب كتاب «بنية الثورات العلمية» الذي برهن فيه على أن «التطور العلمي ليس بالضرورة تراكميًّا وتدريجيًّا، وإنما قد يتأتى من ثورات بنيوية يتم فيها تغيير نسق البحث وآلياته، وأصبح للقطيعة المعرفية مفهوم مختلف شيئًا ما لدى كل واحد من هؤلاء المفكرين الثلاثة.»٩٦
فاستعار الباحثون العرب هذه الآلية ضمن جملة الآليات المنهجية من الفكر الغربي المعاصر، وحاولوا إنزالها في قراءة الخريطة الفكرية والنظم المعرفية العربية الإسلامية. وهنا ينبغي استحضار سياقات الفكر الغربي الذي جرت فيه هذه القطيعة أو القطائع، والمطارحات التي واكبت هذا السجال الفكري الغربي منذ الصراع بين الكنيسة والعلماء، وما أسفر عنه من دعوات اتجهت نحو القطيعة مع هذا التفكير الكنسي في بداية الصراع إلى الدعوة للقطيعة مع الدين وكل أشكال التدين.٩٧
فكان لتطور العلوم الحقة دور بارز في تأكيد هذه القطيعة على مستوى أدوات التحليل والبرهنة ومناهج النظر التي ظلت مهيمنة على الحقل المعرفي الغربي؛ فسافرت المناهج في الغرب من حقل معرفي إلى آخر دون اعتبار للفوارق بين موضوع العلوم الحقة والعلوم الإنسانية؛ ولهذا يرى الجابري ضرورة استعارة هذا المفهوم وتوظيفه في قراءة تاريخ الفلسفة العربية وتشريح التراث العربي الإسلامي والعقل الذي أنتجه. يقول: «صحيح أن «القطيعة الإبستيمولوجية» مفهوم باشلاري، استعمله في تاريخ العلم، حيث أعطاه معنًى محدودًا بحدود هذا التاريخ، ولكنني أخذت هذا المفهوم واستعملته في مجال آخر هو تاريخ الفلسفة؛ الفلسفة العربية-الإسلامية، التي بينت طبيعتها كما أفهمها، باعتبارها قراءات مستقلة متوازنة لفلسفة معينة، وبذلك فلا تاريخ لها، هكذا وظفت المفهوم توظيفًا جديدًا في مجال آخر، وهو بالنسبة لي مفهوم إجرائي مكَّنني من أن ألاحظ أشياءَ لم أكن ألاحظها من قبلِ طرحه كأداة للعمل.»٩٨
ويرى أن الخاصية الإجرائية لهذا المفهوم تمكنه من استعماله دون أن يثير أية مشكلة في عَلاقته مع موضوعه؛ ولهذا يقدم تعريفًا لمفهوم القطيعة المعرفية يتجاوز به المفهوم الراديكالي الشمولي الذي اعتمده عبد الله العروي، يقول: «إن القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث، بل القطيعة مع نوع من العَلاقة مع التراث، القطيعة التي تُحوِّلنا من «كائنات تراثية» إلى «كائنات لها تراث»؛ أي إلى شخصيات يشكل التراث أحد مقوماتها، المقوم الجامع بينها في شخصية أعم هي شخصية الأمة صاحبة التراث»،٩٩ متجاوزًا الطروحات الفاسدة المنادية بإلقاء التراث في المتاحف أو تركه «هناك» في مكانه في التاريخ.
ولهذا فإن رفض التراث بهذا الشكل الميكانيكي موقف لا علمي ولا تاريخي، ويُعتَبر هذا النقد أقسى نقد تتلقاه النظرة التحليلية الماركسية العربية التي يتزعَّمها عبد الله العروي، من خلال تأكيده على القطيعة الكلية النهائية مع تراث الأمة، ولا يرى فيه عامل استنهاض للهمم والعزائم بقدر ما يشكل عائقًا نحو البناء، ويتهمه — أي الجابري — بالانحياز الكلي للتراث الأوروبي، يقول: «يطرح بعض المثقفين العرب الذين يبدو أن صلتهم ﺑ «التراث» الأوروبي أقوى من صلتهم بالتراث العربي الإسلامي مشكلة استيعاب الفكر العربي المعاصر لمكتسبات الليبرالية «قبل وبدون أن يعيش مرحلة الليبرالية»، ويقصدون بالليبرالية: «النظام الفكري المتكامل الذي تكوَّن في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والذي حاربت به الطبقة البورجوازية الأوروبية الفتيَّة الأفكارَ والأنظمةَ الإقطاعية … تلك هي إشكالية عبد الله العروي، وزكي نجيب محمود، وماجد فخري وآخرين كثيرين، منهم من يطرحها من منظور فَرنسي ديكارتي، ومنهم من يطرحها من منظور أنجلوسكسوني تجريبي وضعي، وذلك حسب نوع «التراث» الأوروبي الذي يشكل منظومته المرجعية الثقافية والفكرية»،١٠٠ وهنا لم تعد المشكلة — في رأي الجابري — مشكلة اختيار بين منهج «تاريخي» وآخر «وظيفي» وثالث «بنيوي» قد يصلح أحدها في ميدان وقد لا يصلح، وإنما لا تصلح إلا عندما يكون الموضوع منفصلًا عن الذات، يتمتع بنوع من الاستقلالية، فتكون مشكلة المنهج في هذه الحالة هي — أولًا وقبل كل شيء — مشكلة الموضوعية.١٠١ وتتجه القطيعة عند الجابري إلى دوائر تعبر عن طموحه ليس المعرفي فقط، بل الأيديولوجي، وعن الانتظارات المرجو إنجازُها من خلال هذا المفهوم.
اتجهت القطيعة عند الجابري إلى القطع مع نماذج تراثية تنتمي إلى عصر الانحطاط العربي، ومع بنيتها الفكرية والمنهجية، فقد نادى ﺑ «إحداث قطيعة إبستيمولوجية تامة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر»؛١٠٢ لأن هذا العقل ساهم في تشكيل بنيته عناصر متعددة على رأسها «الممارسة النظرية» (النحوية، والفقهية، والكلامية) التي سادت خلال هذه الفترة، وانحصر فيها هذا العقل في بنية فكرية أحادية وآلية منهجية وحيدة هي «القياس» الذي وقع الإفراط في استعماله دون التقيد بشروط صحة هذا النوع من الاستدلال.
وانتقلت هذه البنية الفكرية والشاكلة الثقافية من عصر الانحطاط إلى عصرنا الحاضر، فاستخدمها بعض المنادين بالإصلاح، فدعوا إلى «قياس الغائب على الشاهد»؛ الغائب هنا هو المستقبل، والشاهد هو الماضي المجيد؛ ليبرهنوا على أن «ما تم في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل»، وهذا — في نظر الجابري — غير ممكن، بل مستحيل اعتماده في تأسيس العرب مشروعهم النهضوي عليه، وإنما السبيل في استخدام وابتكار طرائق علمية موضوعية حديثة لتحقيق النهضة، من خلال تكسير هذه البنية الثابتة للعقل العربي وآليته المنهجية «القياس» في شكله الميكانيكي اللامتغير الذي يجمد الزمان ويُلغي التطور.١٠٣ ولهذا انصبَّ عمله في اتجاه تكسير هذه الثوابت من خلال أدوات ومفاهيم هذه المرحلة العقلية بأدوات ذهنية قادرة على حل المشكلات التي طرحتها هذه المرحلة — وما تزال — على العقل العربي. وقد اتجه الجابري منذ بداية مشروعه إلى البحث — من خلال القطيعة المعرفية — عن «الفرقة الناجية»، ومن خلال توصيفات هذه القطيعة ولائحتها المفاهيمية في المخزون الفكري العربي، وكشف عورات «الفرق الضالة» — غير العقلانية — فيه التي لوثت فكرها بفكر خارجي غنوصي، ولم تستجب للمعايير الإبستيمولوجية والعقلانية الباشلارية.
فحازت الفرقة المغربية الأندلسية الرشدية عنده شرف التمثيل، وإنها الوحيدة المؤهلة لقيادة العقلانية العربية، وإنجاز القطيعة المعرفية، بل أكثر من هذا يتأسف الجابري على ضياع دولة ابن رشد التي شيَّدها على طريقة أفلاطون وزاد فيها من طموحاته، وأن الانتقال الديمقراطي في العالم العربي لا يتيسر إلا من خلال المشروع الرشدي العقلاني لمواجهة الحتمية الخلدونية التي تقول بالهرم وحتميته.١٠٤

فالتقطيع الذي مارسه الجابري أفسد منهجه التحليلي الإبستيمولوجي في بُعده الإجرائي على الأقل، كما حدده في خطواته المنهجية وبنائه الفكري، وصبغه بصبغة التحليل الأيديولوجي الانتقائي البراغماتي لخريطة معرفية دون أخرى أشبه — في نظري — بالتقطيع الجغرافي للخريطة العربية، فالتركيز على الفلسفة المغربية الأندلسية واستبعاد نظيرتها المشرقية فيه كثير من التجنِّي.

ويعزز الجابري هذه القطيعة المعرفية وإعلان تحيُّزاته للفلسفة المغربية الأندلسية بنص، بعد أن انتقد الفلسفة المشرقية وخروجها أو إخراجها من دائرة الفلسفة العربية الإسلامية، لتدخل دائرة الفلسفة الإشراقية الفارسية، يقول: «لنُوَلِّ وجهنا شطر المغرب العربي إذَن حيث سنجد الفلسفة العربية الإسلامية قد «قطعت» مع إشكالية المشارقة لتتبنى إشكالية المغاربة (في المغرب الأقصى والأندلس خاصة). هنا أيضًا ستواصل الفلسفة نضالها من أجل نفس القضية؛ قضية العقل والعقلانية، لكن بعد أن طرحها من جديد بمنهج جديد وفي آفاق جديدة (…) كل ذلك كان بمثابة إعادة تأسيس للفلسفة في الفكر العربي والثقافة العربية، لقد فشلت الفلسفة في تحقيق حُلمها في المشرق، وعليها الآن أن تبدأ من «الصفر» في المغرب.»١٠٥ والبداية من الصفر حُكْم بالإعدام على ما سبق في التاريخ، وقطع لصلات الأجيال بعضها ببعض، حتى في علم الوراثة لا يجوز الفصل والقطع، فإذا كان يجوز في التراثات الأخرى — وهذا غير حاصل البتة، وإنما هناك استمرار — فإنه بالنسبة للتراث العربي مستحيل؛ لأن المفاهيم والمقولات تُورَّث بين الأمة وأبنائها، على فرض الاختلاف والتباين في كثير من الأحيان، وهذا يتنافى مع ما أعلنه من الانخراط في التراث، فالثورة الحقيقية هي في التواصل والتلاقح بين المشرق والمغرب.
صحيح أن المغاربة أبدعوا، لكن أيضًا استفادوا من تجربة المشرق، وأسسوا عليها حسب خصوصياتهم، وتجربة ابن تومرت التي تحدث عنها كانت واحدة من التجارب التي انطلقت ثورتها من الفكر العقلاني العربي المشرقي في علم الكلام والخلافيات والمناظرات.١٠٦ فالتأكيد على الخصوصية المغربية وتفردُّها مسألة في غاية الأهمية والحيوية، وكذلك البعد الجغرافي في الإبداع والأصالة لكن إلغاء الخصوصيات الأخرى والتأكيد على فشلها أفسدَ جانبًا مهمًّا في مشروع الجابري وشوَّش عليه؛ وهو التكامل في الجهود.
وقد ميَّز الجابري بين لحظتين تاريخيتين في الفلسفة العربية، بينهما من التمايز والاختلاف والقوة المنهجية والمعرفية، ما جعله يُلغي ما لم يَعنِه في مشروعه. يقول: «لقد ميزنا في هذه الصيرورة بين لحظتين ألغت الثانية منهما الأولى وقطعت معها، اللحظة الأولى هي لحظة حلم الفارابي كما عاشه ابن سينا، واللحظة الثانية هي لحظة حلم ابن باجة كما طوَّره ابن رشد، فما تبقَّى من تراثنا لا يمكن أن يكون منتميًا إلى اللحظة الأولى لأن اللحظة الثانية ألغتها تاريخيًّا. والتاريخ يؤكد ذلك، فكل مَن عاش أو يعيش لحظة ابن سينا بعد ابن رشد إنما قضى ويقضي حياته (الفكرية) خارج التاريخ، وبالفعل قضينا نحن العرب حياتنا بعد ابن رشد خارج التاريخ (جمود وانحطاط)؛ لأننا تمسَّكنا بلحظة ابن سينا بعد أن «أدخلها» الغزالي في الإسلام وعاش الأوربيون التاريخ الذي خرجنا منه؛ لأنهم أخذوا منا ابن رشد فعاشوا لحظته وما زالوا يفعلون.»١٠٧

فهذا الربط بين تقدُّم أوروبا وأخذِها للرشدية، وحضورها في التاريخ إلى اليوم وتخلفنا، هي دعوة إلى استعادة هذه الرشدية كما فهمها الغرب وشغلها رجال الفكر الغربيون في صراعهم مع اللاهوت الكنسي، ومواجهة سلطانه بمفاهيمها ومقولاته في الفصل بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية.

وترجع شهرة ابن رشد في نظر طه عبد الرحمن إلى «احتياج رجال الفكر الغربيين في القرون الوسطى إلى من يُقرِّب لهم فلسفة «أرسطوطاليس»، كما يعينهم على مواجهة سلطان اللاهوت الكنسي، فقد أقبلت أوروبا في هذه الفترة على ترجمة كتب «أرسطو» النفسية والطبيعية وما بعد الطبيعية بعد أن لم تكُنْ تعرف من كتبه إلا جزءًا ضئيلًا من منطقه. فوجدت في ابن رشد خير من يوضح ويفصل لها المضامين الجديدة لهذه الترجمات، لا سيما وأنه بدا أقدرَ من غيره على العودة إلى الأصول «الأرسطية»، كما أن دخول فلسفة «أرسطو» إلى «أوروبا» أدَّى إلى زعزعة السلطة اللاهوتية ذات التوجه «الأوغسطيني» في النفوس. وقد وجد أهل الفكر اللاتيني في ابن رشد خير من يستندون إليه ويحتمون به في تقرير وتمرير دعاويهم المناهضة لهذه السلطة، كما ترجع شهرته أيضًا إلى انقسام المفكرين اللاتين بشأن فلسفته وإصدار الكنيسة لفتاوى تُحرِّم الاشتغال بها، فقد انقسم هؤلاء المفكرون إلى فئتين متصارعتين: فئة الموالين، ويأتي على رأسهم «سيغردي برابنت» الذي دعا إلى تقديم أصول الفلسفة على أصول العقيدة، وفئة المعادين، وعلى رأسهم «ألبير الكبير» و«توماس الأكويني» وأصدرت الكنيسة قرارات تحرم الخوض في قضايا رشدية مخصوصة وتمنع تدريس مذهبه في الجامعات كجامعة «باريس»، فهذه العوامل المختلفة: «الحاجة إلى الشارح» و«الحاجة إلى الظهير» و«الدخول في الصراع» و«الإفتاء والتحريم» ساعدت كلها على ترسيخ اسم ابن رشد في الأوساط الفكرية والعلمية «الأوروبية»، ولما كان العرب المحدثون أصلًا مُقلِّدين لا مجتهدين، فلا تستغرب أن يجعلوا شهرة ابن رشد بين أظهرهم كشهرته بين الأوروبيين، سواء بسواء، ولو لم تواجههم العوامل التي واجهت هؤلاء …»١٠٨
فأي روح رشدية يمكن استعادتها كما يحلم الجابري وغيره من «العقلانيين» العرب؟ ويرى [الجابري] أن ما تبقَّى من تراثنا الفلسفي، أي ما يمكن أن يكون فيه قادرًا على أن يعيش معنا عصره، لا يمكن إلا أن يكون رشديًّا فلننظر — يتابع كلامه — على ما تبقى من الرشدية كعناصر صالحة للتوظيف في حياتنا الفكرية المعاصرة.١٠٩
  • (١)

    ما جعل الرشدية تدخل التاريخ هو قطيعتها مع السينيوية في صورتها التي اختارها لها ابن سينا (…) ولنقطع بدورنا قطيعة تامة ونهائية مع الروح السينيوية «المشرقية» ولنخضها معركة حاسمة ضدها.

  • (٢)
    القطع مع الطريقة والمنهجية التي عالج بها الفكر النظري — الكلام والفلسفة — العَلاقة بين الدين والفلسفة، لقد رفض طريقة المتكلمين في التوفيق بين العقل والنقل ورفض طريق الفلاسفة الهادف إلى دمج الدين في الفلسفة، والفلسفة في الدين، ويبرر هذه القطيعة التي أنجزها ابن رشد — حسب تفسيره — بأن المتكلمين ضيَّقوا على العقل وشوَّهوا الواقع من خلال تحكيم عقلهم التجريبي التجزيئي في الدين، وأن الفلاسفة حكَّموا «العلم» في الدين وقيَّدوا العلم بالفَهم الذي يكونونه لأنفسهم عن الدين. وابن رشد قطع مع هذا النوع من التفسيرات والتأويلات والعَلاقة بين الدين والفلسفة وبدأ عصرًا جديدًا للتدوين وَفْق معطيات جديدة تؤسس لهذه العقلانية التي يدافع عنها الجابري ويبشر بها في مشروعه، لكن ابن رشد — في رأيه — لم يقطع فحسب بل قدَّم البديل، الذي يُمكِّننا من توظيفه في بناء «العَلاقة بين تراثنا والفكر العالمي المعاصر بشكل يحقق لنا ما نَنشُده من أصالة ومعاصرة (…) فلنقتبس منه هذا المنهج في تعاملنا مع تراثنا من الداخل ومع الفكر العالمي المعاصر (…) فنبني لأنفسنا فهمًا علميًّا موضوعيًّا للجانبَين معًا يساعدنا على الربط بينهما في اتجاه تحديث أصالتنا وتأصيل حداثتنا.»١١٠
هكذا أسَّس الجابري لعَلاقة التنافر بين عقلين ومجالين، مجال البيان الذي يمثله ابن سينا ومجال البرهان الذي يمثله ابن رشد، فالقطيعة التي «صوَّرها بينهما تمَسُّ كلًّا من الإشكالية والمنهج والمفاهيم، معتبرًا أن الأول فكر داخل إشكالية هي غير إشكالية الآخر وبجهاز معرفي يختلف عما لدى نظيره، مؤكدًا أن ابن رشد حقَّق تقدُّمًا على ابن سينا في الحقل الذي ينتميان إليه،١١١ على مستوى المقدمات والمنطق الاستدلالي المعتمد، مع أن التاريخ والمسار بين الرجلين وبين تيارات التراث الفكري للأمة يبين أن هناك مشتركات تجمع بينهما، فمنهج القياس لم يكن منهج فئة دون أخرى، والعقلانية لم يختصَّ بها مجال دون آخر.
لكن المنهج الانتقائي الذي سلكه الجابري شوَّش بين مجالات التراث، وخلَق في وعي القارئ حالة من الانفصام بين حقول معرفية شكَّلت فيما بينها حلقات متناغمة وإن اختلفت في طرق الاستمداد، ولا يمكن أن نفسر هذا المنهج عند الجابري إلا بثقل البعد الأيديولوجي في قراءته للخريطة الفكرية العربية الإسلامية لإشباع حاجات حددت سلفًا، فيتجه إلى التراث متوسلًا به قصد إشباعها، فيختار لهذا البعد خريطة معرفية محددة تشبع في نظره هذه الحاجات المعاصرة، ويعتبر بلقزيز هذه الانتقائية «فضيحة» مسَّت العقل العربي الناقد في عَلاقته مع التراث العربي، ويمثل الجابري قمة هذه الانتقائية.١١٢
إن الانتساب إلى ابن رشد وفلسفته — كما يؤكد طه عبد الرحمن — سواء عندنا أو عند الغرب هو «بث روح العلمانية في نفوس المسلمين والعرب كما هي مبثوثة في الفكر الفلسفي الغربي، والدليل على ذلك دليلان:
  • أحدهما: أن الرشدية «اللاتينية» في القرن الثالث عشر اشتهرت بخروجها عن الفلسفة اللاهوتية للكنيسة، وقد استندت في هذا الخروج إلى فهم علماني لفلسفة ابن رشد؛ حيث جعلت فيها فلسفة قائمة على ضربَين من المبادئ، كلاهما يصادم الفلسفة اللاهوتية المقررة: مبادئ مادية تخالف ما تَقرَّر في المجتمع المسيحي من معتقدات دينية (…) إنكار العناية الإلهية، الحرية وخلود النفس، والمبادئ المنهجية القائلة بتكافؤ الحقيقة الدينية والعلمية الذي يترتب عليه العمل بإحدى الحقيقتين دون الأخرى، فصار الرشديون «اللاتين» إلى الاستغناء بالفلسفة «الأرسطية» عن اللاهوت المسيحي.
  • أما الدليل الثاني: فإن روح الرشدية «اللاتينية» التي تنبني على مبدأ الفصل بين الدين والفلسفة استمرت إلى غاية القرن السابع عشر، ممهدة على التدريج لظاهرة التحلل من الدين التي انتشرت بين أصحاب عصر التنوير، والتي تواصل تأثيرها وانتقل إلى المحدثين، فحينئذٍ لا عجب أن يُنصَّب ابن رشد إمامًا للعقلانيين والعلمانيين والحداثيين، وبهذا يتبين أن إرادة الانتساب إلى ابن رشد إنما هي إرادة الانتساب إلى العلمانية كما تجلَّت في أطوارها الثلاثة: «اللاتيني» و«الأنواري» و«الحداثي».»١١٣

صحيح أن للجابري — رحمه الله — مواقفَ من العلمانية ومن المركزية والحداثة الغربية ما يفوق بها غيره من المفكرين العرب، واحترامه للأسس العقدية الإسلامية، ولم يعلن مصادمته للثوابت، كما فعل غيره، وهو الذي أعلن غير ما مرة أن العلمانية غير ذات موضوع في تاريخنا الفكري والثقافي، لكن ابتكر لها بديلًا هو الديمقراطية والعقلانية للتخفيف من الحساسيات التي يُثيرها المفهوم ومآلاته في الوعي الشعبي العربي، وهو ما عبَّر عنه سابقًا بنوع من الذكاء المنهجي الذي سلكه الجابري في محاورة إشكالات الوعي العربي.

إن انبعاث الأمة وانبثاقها من جديد لن يكون عن طريق عقلانية ابن رشد وفلسفته مهما بلغت من النضج؛ لأنها عقلانية عبرت عن طموحاتها في سياقها التاريخي، وهي عقلانية نسبية محكومة بالزمان وبالأفق الفكري الذي فكرت فيه ومن خلاله. إن الأمة أكبر من عقلية ابن رشد وغيره وتاريخها لا يعبر عنه ابن رشد وحده، وإنما تتجدد بمقوماتها وأسسها الفكرية المطلقة — الوحي — وبعقلية مستوعبة لجميع مدارس الأمة الفكرية والقدرة على استثماره، وفق المعطيات الجديدة التي تحياها، ويعبر طه عبد الرحمن عن هذا النَّفس بقوله: «فإني أنصرف عن ابن رشد وعن الرشدية، وأنا مطمئن إلى صواب انصرافي عنهما لتمام إيقاني بأن انبعاث الأمة العربية الإسلامية لن يكون عن طريق فكر ابن رشد، ولو استنفر الرشديون عددهم وعُدَّتهم كلها لِبثِّه في النفوس بالترغيب أو الترهيب، إلا أن ينسلخوا عن جلدتهم ويلبسوا غيرها، فيذوبوا في أهلها ذوبان الثلجة في البحر، أما أن يطمعوا في أن يحققوا لهذه الأمة انبعاثها بواسطة هذا التقليد مع بقائهم هم أنفسهم عربًا مسلمين متميزين عمن يقلدون، فذاك أمر دونه ولوج الجمل في سم الخياط.»١١٤
ولم يكتفِ الجابري بالدعوة إلى القطيعة بين مفكر وآخر، بل القطيعة حتى داخل الشخصية الواحدة، كما هو الحال مع ابن خلدون بين عقلانيته ومنهجه في التفكير وبين أسسه المرجعية التي استند إليها في قانونه التاريخي، وأن عقلانيته لا عَلاقة لها بالمرجعية الإسلامية، وهو يعالج إشكالية الذاتي والموضوعي في فكر ابن خلدون، بعد أن فصل بينه وبين ابن رشد في النظر إلى أحداث التاريخ وتَشكُّلها، فهو يرى أن ما يميز ابن خلدون عن «غيره من المؤرخين السابقين له (…) هو صدوره في عمله التاريخي عن دوافع تختلف اختلافًا جذريًّا عن تلك التي وجهَت غيره إلى التأليف التاريخي، فبينما نجد كبار المؤرخين في الإسلام اتجهوا إلى التاريخ بدوافع وأغراض دينية أو سياسية أو مجرد التسلية أو من أجل إبراز دروس وعِبَر معينة، الشيء الذي يعني أن اهتمامهم بالتاريخ كان من أجل شيء آخر، لا من أجل التاريخ ذاته نجد ابن خلدون يصدر، بالعكس من ذلك، عن وعي تاريخي حادٍّ جعل اهتمامه بالتاريخ لذات التاريخ لا لشيء آخر»،١١٥ ويجرده — في أماكن أخرى — من القواعد المنهجية العلمية الإسلامية التي اعتمدها في مقدمته يقول: «هناك حقيقة لا بد من أخذها بعين الاعتبار الكامل، وهي أن فكر ابن خلدون كان مؤطرًا أشد ما يكون التأطير بالقوالب المنطقية القديمة الأرسطية الأصولية»،١١٦ وأن هذا المشروع الخلدوني اعترته عوائق إبستيمولوجية حالت دون امتداده؛ وظل سجينًا لقوالب فوق-واقعية؛ ولهذا لم يكن صاحب المقدمة «ذا منهج تجريبي بالمعنى الحديث للكلمة (…) صحيح أن ابن خلدون قد اعتمد الاستقراء، ولكن لا لاستخلاص النتائج بل لتأييد «النتائج» التي يضعها أولًا (…) هذا المنهج الاستقرائي التاريخي-الاستنباطي التجريبي قد أدخل كثيرًا من التشويش، وغير قليل من الغموض على الخطاب الخلدوني، وجعله لا يعطي ما فيه مباشرة بل يقدم نفسه للتأويل منذ الوهلة الأولى.»١١٧

يلاحظ على الجابري في تعامله مع فكر ابن خلدون وابن رشد نوعًا من التعامل الازدواجي على مستوى المفاهيم والأُطر المرجعية المؤطرة لكل توجه. ففي الوقت الذي يعزز مرجعية ابن رشد يتعامل مع علم ابن خلدون بنوع من التشويش والمأساوية كما يسميها.

وما يفسر هذا أنه عندما تستعصي شخصية معينة على أدواته وآلياته المنهجية يلجأ إلى هذا النوع من التفسير الذي يغلب عليه التناقض أحيانًا، كما سنرى أيضًا بعد قليل في التصنيف المعرفي الذي اعتمده على مستوى الخريطة الفكرية للأمة. ولهذا فإن الذين اشتغلوا بالعقلانية داخل الفكر العربي — ومنهم الجابري — هيمن عليهم المسح الغربي والجغرافية الغربية، محاولين تركيب العقول من عقل واحد، وهذا مستحيل ومن مفارقات «الذين دافعوا عن العقل والعقلانية دفاعًا حازمًا ذهبوا (…) إلى حد الإيغال في تحويل العقلانية إلى عقيدة فكرية لا سبيل إلى مساءلة بديهياتها، الأمر الذي قضى بتحويل «الدوغما» العقلانية نفسها إلى ممارسة فكرية لا عقلانية (…) دون أن يُخضعوا قواعد العقلانية نفسها لفحصٍ عقلاني. ويقع ضمن ذلك الفحص معرفة ما إذا كانت العقلانية نظرية مطلقة أم نسبية، قائمة على نظام أكسيومي (فرضي، استنباطي) أم على مسلمات غير قابلة للمراجعة، مثلما يقع ضمنه التفكير في ما إذا كانت العقلانية ثمرة نظام من المعرفة خاص بثقافة معينة وبحقبة من تاريخ الفكر معينة، أم أنها كونية: مفارقة للزمان وللجغرافية الثقافية؟»١١٨
يغيب هذا النوع من الأسئلة في الوعي العربي المعاصر — كما يذكر بلقزيز — تاركة مكانها لخطابٍ مغلقٍ استهلاكي لمنظومات، ومفاهيم العقلانية الوافدة من ثقافات وأزمنة مختلفة معبرة عن نفسها في نصوص عربية متباينة المراجع: أرسطية، ديكارتية، اسبينوزية، كانطية، وهيغلية، الجامع بينها رفض مساءلة قواعد العقلانية.١١٩
وهي الفسيفساء التي جمعها الجابري من مرجعياته المنهجية، وحاول من خلالها إعادة تصنيف المعرفة الإسلامية، وتجاوز التصنيف التقليدي القائم على معيارية معينة، فالحاجة إلى حلم النهضة فرضت عليه استئناف النظر في تصنيف المعرفة وفق حاجات الحاضر لا وفق حاجات الماضي، فانتهى به التحليل إلى رصد ثلاث أنظمة معرفية متمايزة ومتصادمة في الثقافة العربية — حسب تعبيره — وذلك منذ بداية تمثلها، كثقافة عالمية مع عصر التدوين والترجمة. نظم معرفية يقدم كل منها رؤية خاصة للعالم، ويوظف مفاهيم معينة وآليات في إنتاج المعرفة:
  • النظام المعرفي البياني الذي تحمله اللغة العربية، وعلى أسس ومفاهيم منهجية قائمة على النحو واللغة والفقه والكلام والبلاغة، كرَّس رؤيةً للعالم قائمةً على الانفصال واللاسببية، ومنهاجًا في إنتاج المعرفة قِوامه قياس الغائب على الشاهد أو الفرع على الأصل؛ فهذه القاعدة الإبستيمية في نظره هي أصل الخلل في بنية العقل العربي.

  • النظام المعرفي العرفاني (الغنوصي) الذي كرَّس رؤيةً خاصةً للعالم قِوامها المشاركة والاتصال الروحاني المباشر بالموضوع.١٢٠
  • النظام المعرفي البرهاني الذي ارتبط دخوله إلى الثقافة العربية بعهد الترجمة في عصر المأمون، وأسَّس لنفسه من خلال العلوم والفلسفة اليونانية الأرسطية، وكرَّس رؤية للعالم مبنية على الترابط السببي وعلى إنتاج معرفي قائم على ربط النتائج بمقدماتها.١٢١
وقد عاشت هذه الأنظمة في تاريخ الثقافة العربية على إيقاع التداخل والتصادم، ابتداءً من عصر التدوين والتأسيس؛ لأن كل نظام معرفي كان يسعى إلى تأسيس نسقه وترتيب مقولاته وبناء منهجياته والدفاع عن أطروحاته، وقد كان هذا التداخل يتخذ طابَعًا محدودًا، دون أن يفقد كل نظام خصوصياته، وحصل هذا الأمر في لحظات الدفاع عن الأيديولوجيات الدينية التي كانت ذات عَلاقة مباشرة بالعقيدة الإسلامية.١٢٢ فهذا التداخل بين البيان والبرهان في لحظات تاريخية أفقدَ العقل مُحدِّداته المنهجية والمعرفية من خلال ما أسماه بالتداخل التلفيقي١٢٣ بين النظامين. ويبقى النظام البرهاني المعرفي في نظر الجابري متميزًا، منهجًا ورؤيةً عن البيان والعرفان بكونه يعتمد منهج أرسطو، ويوظف جهازه المفاهيمي والهيكل العام للرؤية التي شيَّدها عن العالم، وعن الكون والإنسان والله، مما جعل منه عالمًا معرفيًّا خاصًّا يختلف عن عالم البيان والعرفان ويدخل معهما، وبكيفية خاصة مع البيان في عَلاقة احتكاك وصدام١٢٤ لاختلاف طرائق النظر وتحصيل المعرفة.
فالبيان يتخذ من النص والإجماع والاجتهاد سلطاتٍ مرجعيةً أساسية، ويهدف إلى تشييد تصوُّر للعالم يخدم عقيدة دينية معطاة هي العقيدة الإسلامية أو بالأحرى نوعًا من الفهم لها، بينما البرهان يعتمد قوى الإنسان المعرفية الطبيعية، من حِسٍّ وتجربة ومحاكمة عقلية، وحدها دون غيرها.١٢٥

هكذا يفصل الجابري بين مناهج وأنظمة معرفية ليؤسس لنظام أحادي التصور والرؤية، ويراهن عليه في تحقيق حُلم النهضة، ويجرد العقل العربي من كل القيم المعيارية، وافتعل صراعًا بينها، في الوقت الذي ينبغي أن ننظر إلى هذه الأنظمة على أنها بنيان متراصٌّ ومتكامل يعبر عن ثراء هذا الفكر، وحيوية عقله المنتج.

إن هذا المثلث المعرفي الذي أقامه الجابري يعكس التصور، والتحليل الأيديولوجي رغم التأكيدات التي قدمها والجدارات التي أقامها بين التحليل المعرفي والأيديولوجي، فإن هذا الأخير ظلَّ ملازمًا له في كل خطواته التحليلية، ولم يستطع أن ينفكَّ عنه؛ لأن الشواغل اليومية التي كان يحياها والانتماء الحزبي له أرغماه على استصحاب هذه الرؤية ومُحدِّداتها المنهجية والمعرفية، فوجود هذه الأنظمة المعرفية في الثقافة العربية القديمة وامتدادها في الحاضر شكَّل في رأي الجابري أزمة الفكر العربي المعاصر، أزمة الإبداع فيه؛ لأنه محكوم بسلطة السلف وآلياته الذهنية.

لهذا كانت القطيعة عنده «استراتيجية معرفية» في أفق بناء الذات بالشروط التي يراها مناسبة لتجاوز الأزمة؛ أزمة العقل العربي المعاصر. أزمة «عقل قِوامه مفاهيم ومقولات وآليات ذهنية تنتمي إلى ثلاث نُظم معرفية متنافرة تكلست وجمدت فيها الحياة باكتساح الطرقية الصوفية ورؤاها السحرية الخرافية للساحة الاجتماعية الثقافية اكتساحًا.»١٢٦
ورِهان الجابري في تجاوز هذه الأزمة هو نشر المعرفة «العلمية» على أوسع نطاق ومفاهيمها وطرائق التفكير المؤسسة لها، ولتأسيس هذه المعرفة يرى ضرورة قيام «إنتلجنسيا عربية جديدة: عربية بانتظامها في التراث العربي لتجديده من الداخل، وجديدة بانتظامها في الفكر العالمي المعاصر ومواكبتها له بقصد توظيف أدواته المنهجية ورؤاه العلمية في إعادة بناء الماضي وتغيير الحاضر وتشييد المستقبل. إنه دون هذه النخبة سيبقى الفكر العربي سجين المعارف القديمة يجترها على أنها جديدة، وسيظل يعاني ليس من أزمة الإبداع فقط بل ربما من سكرات الموت وخطر الانقراض.»١٢٧
فالأفق الذي يخطط له الجابري يرتكز على تأسيس عقلانية نقدية تتحرر من التبعية للآخر، التي لا تتم إلا عبر التحرر من هيمنة التراث١٢٨ فتتشابك عنده الحلقتان، وتتعانقان من أجل تدشين عصر تدوين جديد من خلال الدعوة إلى كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية نقدية.

إن المنطق التحليلي الذي استند عليه الجابري، والمهووس بالبعد الأيديولوجي، يحمل في طياته كثيرًا من الثغرات، حين عمد إلى شلِّ قدرات التراث العربي، وتمزيق أوصاله وتفكيك آلياته، وبانتقائية مفرطة وتعسفية لا تنسجم، ومنطق التكامل الذي أعلنه ولا تستجيب للضرورة المنهجية المعرفية التي بشَّر بها منذ البداية، فالنهضة التي ناضل من أجلها الجابري من خلال سلاح النقد للعقل العربي لا يمكن أن يحققها البرهان العقلي الذي دافع عنه، وحاول التشابك معه وتبيئته في الثقافة العربية، اعتبارًا لكونيته، والذي تنعدم فيه الصفات الوراثية لأمة تنهض من خلال نظام فكري معياري.

ولطه عبد الرحمن رأي مخالف للتقسيم الثلاثي الوارد في متن الجابري، حين اعتبره تقسيمًا فاسدًا، ودلل على فساده بازدواجية المعايير التي اعتمدها، في مقابل ذلك يقترح تقسيمات تعتمد معايير جديدة، إما بحسب اللفظ أو المضمون أو بحسب الصورة الاستدلالية. يقول: «هذا الازدواج الذي لا يؤدي إليه إلا عدم تحصيل الملَكة في العلوم الصورية والمنهجية؛ ولو أن الجابري اعتمد معيارًا موحدًا، لكان له الخيار في تقسيمات متعددة، كل تقسيم منها يقوم على معيار معين، كالتقسيم بحسب المضمون (العقل والعلم والعرفان مثلًا) أو التقسيم بحسب الصيغة اللفظية (القول والعبارة والإشارة مثلًا) أو التقسيم بحسب الصورة الاستدلالية (البرهان والحجاج والتحاج)، وهو أقرب التقسيمات إلى العمل بمعيار العقلانية المجردة التي ظل الجابري يناضل من أجلها، فيكون «البرهان» هو نظام الآلية الاستنباطية، و«الحجاج» هو نظام الآلية القياسية، و«التحاج» هو نظام الآلية التناقضية.»١٢٩

فهذا التقسيم حسب طه «البرهان والحجاج والتحاج» يفيد ترتيبًا استدلاليًّا صحيحًا، وهو التقسيم نفسه الذي باشره الجابري في أبحاثه، لكنه — حسب تقدير طه — أساء صَوْغه باتخاذه لتقسيم مغالط.

هو اختلاف مرجعي منهجي أساسًا بين عالمَين، لكلٍّ منهما شأن مُقدَّر في سياق البحث عما يعين على الخروج من ورطة التخلف، وليس في سياق التناحر، والتنابز بالألقاب، قد نتفق معهما في جانب، ونختلف معهما في جوانب، وتلك حيوية الفكر والمنهج، واختلاف زوايا النظر لا ينقص من قيمتهم، ولا يرجح كفة أحدهما على الآخر، خصوصًا وأن عقل الأمة في حاجة إلى كل الجهود المبذولة، على فرض الاختلاف والتناقض في بعض الأحيان، المهم تلك الحركة الفكرية التي تُحرِّك الرواكد، وتستشرف المستقبل، وتستوعب الحاضر والماضي.

تتحقق النهضة بكل مكونات الأمة الجغرافية والتاريخية والفكرية، أمَّا الاختزال فأعتقد أنه واحد من العوائق المعرفية والنفسية في تراجع الفكر العربي المعاصر، كما تعكس أزمة العقل الناقد بآليات وأدوات، ورؤى خارج الذات، وغير مستوعبة للتحولات الفكرية الداخلية والخارجية، إنها أزمة الأسس والمرجعيات.

(٤) المبحث الرابع: ملاحظات نقدية حول الأسس المنهجية والمرجعية في مشروع الجابري

أثبتنا في الصفحات السابقة من هذا الفصل أهمية المشروع الفكري والمنهجي الذي أنجزه الجابري؛ الأهمية التي تفسرها المشاريع الفكرية التي أُنجزت وكُتبت حول المشروع على اختلاف مرجعياتها وأُطرها الفكرية، منها ما اتجه إلى البحث عن مصادر مادة المشروع وأدواته المنهجية والمعرفية محاولةً سد الثغرات والنقائص التي اعترته والتصويب في إطار حوار «العقلانية النافعة والروح الجماعية الصالحة»١٣٠ لربح رِهان المستقبل، ومنها ما اتجه إلى التحامل والتشكيك١٣١ والاتهام في بعض الأحيان».

وسبيلنا في هذا المبحث أن نتتبع بعض هذه الملاحظات حول الآليات المنهجية التي شغَّلها الجابري في مشروعه، ملتزمين قدر الإمكان بما يخدم الموضوع وينمي الأفكار ويقرب المسافات، ويبحث عن نقاط القوة في المشروع؛ لتحصيل التراكم في مجال البناء المعرفي والمنهجي، وعن نقاط الضعف لتجاوزها والتنبيه عليها، وإن كانت المباحث السابقة قد تعرضت لجزء من نقائص المشروع وأشارت إليها، وبعض نقاطه المضيئة؛ فإن هذا المبحث يواصل هذا النقد على مستويين: مستوى المفاهيم والنقد الإبستيمولوجي الذي اختاره الجابري في مشروعه.

(٤-١) على مستوى المفاهيم

إن «الصراع» اليوم يكاد ينحصر بين الحضارات والثقافات حول الأفكار ومفاهيمها ومناهجها؛ لأن امتلاك المزيد من المفاهيم وإنتاجها والسيطرة عليها والقدرة على ترويجها والتمكين لها، تمكين للمشروع الحضاري لمجتمع هذه المفاهيم؛ ولهذا كانت وما تزال المشكلة المنهجية المعرفية في الفكر المعاصر هي مشكلة المفاهيم والمناهج وتحولاتها من حقل معرفي إلى آخر، وقد شهد الغرب هذا النقاش والصراع بين مفاهيم الكنيسة ومفاهيم الطبيعة — المادة، سالت فيها الدماء، وبعد ذلك انتقل الصراع بين العلوم الحقة (الفيزياء – الرياضيات – العلوم الطبيعية) التي شهدت نقلة نوعية على مستوى إنتاج المفاهيم والمناهج إلى درجة أغرت علماء الإنسانيات باستعارتها؛ لأنها في رأيهم أقدر على تحقيق «العلمية» و«الموضوعية» وتحقيق أفضل النتائج. لكن هذه الاستعارة لم تسلم من انتقادات الاتجاهات الرافضة لفكرة «الوحدة المنهجية بين العلوم الطبيعية والإنسانية أمثال «ريكرت» و«فندلباند» رافضين النظر إلى العلوم الطبيعية كمَثَلٍ أعلى للفَهم العقلي للواقع، فهم يؤكدون على وجود تعارض بين علوم؛ مثل الفيزياء أو الكيمياء أو الفسيولوجيا تهدف إلى تعميمات عن ظواهر متكررة ومطردة ويمكن التنبؤ بها وبين علوم التاريخ تريد إدراك الخصائص الفردية لموضوعاتها.»١٣٢
فالوحدة المنهجية والمفاهيمية مرفوضة لأنها قائمة على افتراض غير مؤكد فحواه أن المنهجيات الموظفة من قبل علماء الطبيعة هي وحدها المتصفة بالعلمية، فهذا التداخل بين المفاهيم والإنزال القسري لها في مجال العلوم الإنسانية ودراسة النظم الثقافية شكَّل حلقة من حلقات التخلف في الفكر الغربي، وكانت ضريبته قاسية عبَّر عنها ماركوز ﺑ «إنسان البعد الواحد» في هذا الفكر حيث تم اختزاله في البعد المادي، وعبَّر عنها عبد الوهاب المسيري بالواحدية المادية أو «النموذج التراكمي الذي يؤمن بأن كل المشتركين في العلوم (…) يفكرون بالطريقة نفسها ويسألون الأسئلة نفسها، مما يعني أن ثمة حقيقة موضوعية ثابتة واحدة نحاول الوصول إليها جميعًا وبالطريقة نفسها، وهذا ما يؤدي إلى تراكم الإجابات وتشابكها على مستوى الجنس البشري بأسره، وهذا التراكم والتشابك سيؤدي إلى التزايد التدريجي لدائرة المعلوم، وبالتالي تقلص دائرة المجهول.»١٣٣
ظل موضوع «المفاهيم وبناؤها واستثمارها موضوع بحث لا يَكلُّ في حقول نشاطه الفكري والمعرفي، لذلك تعدَّدت وسائط المعرفة وتنوَّعت أشكالها، وصار التفكير والتفسير بواسطة الملكات يُبنى على تشكيل المفاهيم، سواء كان التشكيل بواسطة التجريد أو بواسطة التعميم، ثم شمل التشكيل بواسطة الحكم ما يخص استعمالات المفاهيم واستثماراتها، فأصبحت صناعة المفاهيم الجديدة شغل الفلسفة والفن ومختلف العلوم.»١٣٤

فالمفاهيم التي ابتكرها الغرب لم تخضع لمسطرة، ولنمطية واحدة في التفسير والاستقرار المفهومي، بل أصبح لكل مرحلة تاريخية في الفكر الغربي مفاهيمها ومصطلحاتها، فمفاهيم العصر الوسيط ليست هي مفاهيم العصر الحديث، ومفاهيم الحداثة ليست بالضرورة هي مفاهيم ما بعد الحداثة.

يعكس هذا التحول وعدم الاستقرار المفهومي حاجات هذا المجتمع، وقدرته على التوليد وفق هذه الحاجات، ووفق نسقية معرفية كمية تراكمية، بل لم تكن هذه المفاهيم على درجة واحدة في قَبولها والاشتغال بها ابتداءً من القرن الثامن عشر على أقل تقدير، وهو ما يطرح صعوبة تداول هذه المفاهيم التي استقوى واستنجد بها الفكر العربي المعاصر في تحليله لأنظمة الثقافة العربية، وينشُد بها النهضة.

فكثير من هذه المفاهيم والمنهجيات التي كانت ثمرة طبيعية لتطور الآخر استقرت في بنية هذا الفكر، فلم نعد نتصور المناهج ومفاهيمها إلا لائحة محددة من المفاهيم والأدوات الجاهزة، وربطت مصير الأمة وشعوبها بقدرتها على تمثل هذه اللائحة، والانخراط في تفاصيلها، مما جعل الفكر العربي المعاصر يفقد الزمان والرؤية والمنهج في هذا الشأن — النهضة — بتقمص لسان الآخر وعقله وروحه.

وما تزال هذه واحدة من المعضلات والمعيقات الكبرى في الفكر النقدي العربي المعاصر، بكل ألوانه: النقد الأدبي، والرواية، والمسرح، والشعر، والقصة، والفن التشكيلي … حيث يتم توظيفها بشكل يُشوِّش على القارئ، ويفصل بينه وبين الموضوع، وبين الفكر والواقع، وبين الإمكان والممكن.

وأعتقد أنه لا يمكن مواجهة هذه المعضلة بمقدمات يكتبها الجابري١٣٥ أو العروي١٣٦ أو حسين مروة١٣٧ أو طيب تزيني١٣٨ وغيرهم ممن اهتم بمشكلة المنهج في الفكر العربي المعاصر ومحاولة تجاوز الكائن منها، مثنى وثلاث ورباع، بل القضية — في رأيي — أعمق وأخطر، تحتاج إلى جهود علمية مؤسساتية تنهض بأهمية الترجمة، والتبيئة من خلال دراسات مستوعبة لحركة المفاهيم الوافدة والمنقولة من فضاءاتها المتعددة ومآلاتها قبل نقلها.

فنقل مفهوم فقدَ صلاحيته في موطنه الأصلي — الأفكار والمفاهيم الميتة بتعبير مالك بن نبي — ومحاولة إعادة الحياة إليه في فكرنا المعاصر يعتبر إهانة «للعقلانية» العربية الناقلة والقارئة على حدٍّ سواء، وإهانة للجهد المبذول وتبديده، أما إذا كان المفهوم ما يزال يحافظ على فعَّاليته وقدرته على التوجيه فمسطرة المرور والانتقال والاستعمال تحتاج إلى خبراء لتجنب الفوضى في ميدان الفكر، والعلم الذي ينبغي أن يكون أول من ينتظم؛ لأنه الحلقة الأقوى في تاريخ الحضارات، وفي التشكيل والتشكل.

فالانتظام في نسقية هذه المفاهيم وتاريخيتها ووضعيتها الإبستيمولوجية، وفهمها هو الذي «سيؤدي بنا إلى إدراك عملية النقل والترجمة وفهم فهمنا لها حينما نقوم بنقلها، مما سيتولد عن ذلك تأويلات تبحث عن (…) الانسجام لهذه المفاهيم في أوضاعنا الإبستيمولوجية، وأيضًا قدرة ذلك الفهم على استنبات تلك المفاهيم المنقولة كُلًّا «أو بعضًا».»١٣٩ وما لم ننجز هذا العمل تبقَ مفاهيمنا مفاهيم مبهمة وملتبسة بعيدة عن الفعل، وتعرُّض الذات للانسلاخ عن هُويَّتها.
ومشروع محمد عابد الجابري واحد من المشاريع الفكرية التي انفتحت على المفاهيم المعرفية الغربية ومناهجها، واعتمدها في الدراسة كمداخل أساسية في صياغة الرؤية والمنهج، وتحديد المحددات المنهجية، لكن أول ما يُلاحظ أن سعي الجابري إلى تبيئة مفاهيم موضوعاته التي استعارها من الفكر العالمي المعاصر — الفرنسي بالدرجة الأولى — لم يأخذ منه كبير عناء ووقت، بل اكتفى بالتأكيد على أهميتها في مجالها الأول والبحث عن عَلاقتها بمجالها الثاني — العقل العربي — مع إجراء تعديلات طفيفة على المستوى النظري تبقى في نهاية التحليل قاصرة عن الوفاء بالغرض رغم تأكيداته يقول: «(…) ونحن عندما نستعير مفهوم «اللاشعور السياسي» من دوبري لا نأخذه بكل حمولته ولا بنفس مضمونه، بل نتصرف فيه بالقدر الذي يفرضه موضعنا الذي يختلف اختلافًا غير قليل عن موضوعه.»١٤٠

فالكم الهائل من المفاهيم المرجعية التي نجدها في مشروعه (البنيوية، الإبستيمولوجية، العقلانية، الجدلية، التفكيكية …) يطرح صعوبة توحيد هذه المفاهيم في موضوع واحد، مما سيكون له أثر سلبي على مستوى النتائج، فتناقض هذه المرجعيات وتعدُّد خلفياتها الفلسفية يخلق فوضى على مستوى التحليل، والقدرة على التحكم في مسار البحث.

وهي الملاحظة والمؤاخذة التي سجَّلها طه عبد الرحمن في مشروعه النقدي على الجابري حين قرَّر أن «الآليات المنقولة التي توسل بها الجابري لا تشكل نسقًا متماسكًا؛ وذلك بسبب تضارب اقتضاءاتها المنهجية والمعرفية فيما بينها، ولعدم إيراد المعايير التي بمقتضاها تم له تخيُّر هذه الآليات من مجالات متنافرة؛ مثل: البنيوية والتكوينية والعقلانية والجدلية (…) انعكست آثار اضطرابها وتفرقها التجزيئية على تحليله للثقافة العربية»،١٤١ من خلال آليات أربع: «آلية تخصيص العقل»، و«آلية المتابعة»، و«آلية التقسيم»، و«آلية المماثلة».١٤٢
فهذا «الفيض» الهائل من المناهج الذي وظَّفه الجابري في دراسة الفكر العربي، والتنظير للمجتمع أُنزِلت إنزالًا قَسريًّا، فلم تخضع للدراسة النقدية الكافية قبل تشغيلها؛ ولهذا فالمنهج العقلاني الذي اختاره قضيته الأساسية، وتوجَّه إلى تبيئته في الفلسفة العربية خضع إلى منطق الاختزال والتجزيء، فكان يختار وفق هذا المنهج من النصوص العربية ما يُلبِّي هذا الطموح العقلاني «لزم في نظره تحقيقه والانتفاع به وفق مقتضيات الحداثة وشروط التطلُّع إلى المستقبل، وما كان منها مجانبًا أو مخاصمًا لهذه العقلانية وجب عنده تركُه، وإن دعت الضرورة إلى تحقيقه قصد المقارنة والمقابلة فليُجتزأ منه بعينات تؤخذ منها العبرة ويحصل بها الاتعاظ.»١٤٣
ويعترض طه عبد الرحمن على هذه المنهجية الانتقائية التفاضلية من خلال ثلاثة اعتراضات:
  • أولًا: أنها لم تبرهن على تحصيل الدربة في استخدام الآليات العقلانية المنقولة؛ من مفاهيم مصطنعة، وقواعد مقررة، ومناهج متبعة، ونظريات مسطرة، فضلًا عن أن تبرهن على الإحاطة بتمام تقنياتها وبكمال وجوه إجرائيتها.
  • ثانيًا: أنها لم تمهد لإنزال هذه الآليات العقلانية (…) بنقدٍ كافٍ وشامل لها حتى تتبين مدى كفايتها الوصفية وقدرتها التحليلية وقوتها الاستنتاجية.
  • ثالثًا: أنها لم تُجرِ النقد على العقلانية المعاصرة من حيث هي اختيار منهجي مخصوص، لا سيما وأن المراجعة قد أخذت تتطرق إلى هذا الاختيار، وأن حدوده أخذت تفقد دقتها ووضوحها في موطنه الأصلي عند من وضعوا أصوله ورتَّبوا مسائله.١٤٤
كما اعترض على المفاهيم التي وظَّفها الجابري في مشروعه؛ نحو: «مفاهيم القطيعة» و«النظام المعرفي» و«البنية» و«اللامعقول» و«الأكسيومية» (…) فإن إقحامها في التراث لا بد أن ينعكس عليه بما لا يوافق بنيته في كليتها؛ فمعلوم أن هذه الآليات وُضعت في أصلها لموضوعات مغايرة لموضوع التراث، وعلى مقتضى شروط مخالفة لشروطه، فيكون إنزالها على التراث من غير ممارسة أشد أساليب النقد عليها سببًا في التصرف فيه بغير أحكامه اللازمة له، فيؤدي هذا التصرف إلى إخراج التراث على صورة لا تحافظ على بنيته في تداخل أجزائها وتساند عناصرها، إن لم تفصل بين هذه الأجزاء والعناصر فصلًا، ونقابل بينها مقابلة ضاربة بعضها ببعض.»١٤٥

وتبدو هذه الاعتراضات التي قدَّمها طه عبد الرحمن واحدةً من الثغرات المنهجية الكبرى «للعقلانية» العربية، فالغرب لم يعرف عقلانية واحدة بل عقلانيات فلسفية تصل في كثير من الأحيان إلى حد التنافي، عبرت عن طموحاتها في كل مرحلة وبأدوات مفاهيمية منهجية مختلفة، فكان منطق التجاوز هو المتحكم في هذه المراحل التاريخية-الفكرية، ونشاط الاتجاهات النقدية في الفكر الغربي المعاصر خير مُعبِّر عن هذا التحول والدينامية، وقد كانت اللحظة الأقوى في تاريخ الفكر الغربي العقلاني مع ديكارت في كتابه «مقال في المنهج» مرورًا بكانط ونقد العقل الخالص (النظري) إلى هيغل والفهم الغائي للعقل إلى مدرسة فرنكفورت مع هابرماس في نقده للعقل الأداتي الأنواري، وتأسيسه لمفهوم العقل التواصلي ودريدا ونقد تمركزات العقل.

لهذا فالنقد الذي خضع له مفهوم العقل وشتى تمظهراته وإرهاصاته «يجمل في اتجاهَين رئيسيَّين؛ الأول: يرمي إلى تخليص المفهوم مما ألحقت به الميتافيزيقا من حمولات ومركبات الخارجة عنه وعن طاقاته وقدراته، وامتد هذا إلى نقد الحداثة ومذهبيات القداسة والمطابقة. والثاني: هدفه الحفاظ على مكتسبات العقل وإبقاؤه الموجه للحداثة بوصفها مشروعًا لم يكتمل، لكن هذين الاتجاهين، وما بينهما كثير، أكسبَا مفهوم العقل دلالات ومعانيَ كثيرةً، متحولة ومتغيرة بتغيُّر الحقب التاريخية والظروف الاجتماعية والمعطيات العلمية، ولا يُخفي هذا التحول والتغير المصادرات التي لحِقَت مفهوم العقل كما لا يُخفي الحمولات الإضافية التي لحقت به (…) وهذا ناجم عن التوظيفات المتعارضة له بوصفه تجليًا للقوة والسلطة.»١٤٦

فتتكاثر دلالاته ومفهومات في أرضيات ثقافية حسب المنطلقات والمحددات الفلسفية والتوظيفات الراهنة له، وقد يحط رحاله في أرضٍ أخرى دون مكملات ومصححات وظروف نفسية واجتماعية وثقافية؛ مما يجعله يفقد صلابته وقدرته على التحرك والفعل.

وإن كنا نسجل — ونحن بصدد ملاحظات حول عقلانية الجابري — أن عقلانية الجابري تختلف عن العقلانيات العربية الأخرى السائدة في الفكر العربي المعاصر — كما عند العروي ومحمد أركون — عقلانية تحاول أن تؤسس لنفسها من داخل التراث من خلال استعادة الرشدية والخلدونية والشاطبية كي تبني عليها إضافات مطابقة لحاجات العصر والتاريخ١٤٧ مع الاستعانة بمُنجَزات العقلانية الغربية خصوصًا اللحظة الديكارتية وعقلانية عصر الأنوار بشكل عام.
رغم التأكيدات التي نجدها في كتابات الجابري واختياراته العقلانية وانتظامه في التراث، ظل التشبث والتوسل بالعقلانية المنقولة عنده مبدأً ومنهجًا ورؤيةً، رغم الاعتراضات التي بسط بعضًا منها أثناء تبيئة مفاهيمه، لكنها لا تقوى في نظر طه عبد الرحمن في النقد الموجه للعقلانية، وغير كافية في بيان الصفات السلبية لهذه العقلانية التي تبنَّاها؛ كفحش التجريد ونقص التوجيه،١٤٨ وقد أدى هذا الإنزال القسري لهذه الآليات العقلانية — في نظره — إلى أمرين اثنين:
  • (١)

    استبعاد أجزاء من التراث بحجة ضآلة درجتها من العقلانية أو انعدامها منها.

  • (٢)
    حمل أجزاء منه على وجوه من التأويل تفصلها عن بقية الأجزاء الأخرى،١٤٩ وكان هذا العمل واضحًا في التقسيم الثلاثي الذي اعتمده الجابري — البياني والعرفاني والبرهاني — وإقصاء البيان والعرفان لانعدام شرائط العقلانية فيها رغم استنادهما إلى سلطة النص «الوحي» واعتماد البرهان الذي استوفى في نظره هذه الشرائط، مما جعله يسقط في نسقية مغلقة منذ البداية ومحاولة تعميمها في المرحلة الموالية، بل يرغم العقل العربي على التبني الإلزامي للعقل البرهاني الأرسطي.
هذه «الإطلاقية البرهانية الأرسطية» كما يسميها طه، أُريد لها أن تكون هي المعيار في تقويم علوم الأمة، وأن كل إنتاج علمي خارج سياق تلك العقلانية قليل القيمة والأهمية، فيعاب على الجابري هذه الإطلاقية وإخضاع العقل المعرفي العربي للتقنين البرهاني الصارم.١٥٠
في الوقت الذي ينبغي — حسب طه — أن يمتد في الأنساق الأخرى، التي تعينه على الإبداع والخلق، بدل هذا الحصر المضر، لهذا فإن «تجاهل الجابري للوظيفة التوحيدية للعقل المكوَّن قد جعله يبني تحليله للعقل العربي جعَله يبني تحليله على أساس قسمة هذا العقل، لا على أساس وَحْدته. وبدلًا من أن يرد مختلف تجليات هذا العقل في مجالات الفقه وعلم الكلام والتصوف والفلسفة إلى البنية العضوية الواحدة التي تصدر عنها، فإنه سيعمد إلى تشطير هذا العقل تشطيرًا ثلاثيًّا وقطعيًّا إلى عقل بياني وعرفاني وبرهاني. وهو لن يكتفيَ بأن يُنزل كل «عقل» من هذه العقول منزلة الجوهر الفرد القائم بذاته والمنغلق على نفسه، بل سيدير بين هذه الكيانات الجوهرية حرب مواقع وخنادق.»١٥١

وهو مما قلل من القوة الإبستيمية في مشروع الجابري؛ لأن الأصل في معانقتها الانتقال من التجزيء إلى التكامل، وهو ما لم يحدث في أجزاء كبيرة من مشروعه الفكري، وإن أكَّد على ذلك في مقدمات كتبه المنهجية البنائية.

وقد اتخذت العقلانية عن الجابري مسارات دشنها انطلاقًا من الاتكاء على التمييز الذي اعتمده لالاند في تقسميه للعقل، بين العقل المكوِّن والعقل المكوَّن ثم مسار العقلانية اليونانية التي كان لها السبق في هذا النوع من التفكير، فالطبيعة موضوع هذه العقلانية، يقول: «فالطبيعة بأسرها — في نظر أرسطو؛ قمة الفلسفة اليونانية — قابلة لأن يتعقَّلها العقل على الرغم مما يكتنفها من فوضى ويرافق حوادثها من غموض، ذلك لأن العقل — بمعنى النظام — هو أساسها، ولأن من ينظر إليها بعين العقل لا يرى فيها إلا العقل، ومن هنا كان العقل في التصور اليوناني الأرسطي هو «إدراك الأسباب».١٥٢
وفي الاتجاه والمسار نفسه سارت الفلسفة الحديثة في أوروبا، مستعرضًا التطورات الحاصلة في هذه العقلانية وعن طبيعتها الثابتة الكونية، والمحاولات التي جرت في هذا التاريخ لتحقيق ما أسماه نوعًا من المطابقة بين الطبيعة والعقل، بل أيضًا إلى المصالحة بين الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية إنقاذًا لوحدة الحقيقة ووحدة العقل معًا.١٥٣
فالعقل عنده «لعب حسب القواعد» التي مصدرها الواقع لا غيره، وأن العلم لا يؤمن بمصدر آخر للعقل، ويستند في ذلك — كعادته — إلى التعريف الذي قدَّمه أولمو للعقل «ليس القواعد التي يعمل بها العقل هي التي تُحدِّده وتُعرِّفه بل قدرته على استخلاص عدد لا نهائي منها، والتي تشكل ماهيته، والعقلانية بهذا الاعتبار تغدو ليس الإيمان بمطابقة مبادئ العقل مع قوانين الطبيعة وحسب بل الاقتناع بكون النشاط العقلي يستطيع بناء منظومات تتسع لتشمل مختلف الظواهر.»١٥٤
فهذا الانبهار بالعقلانية — بل التعبير السليم النزعة العقلانية؛ لأن بينهما فارقًا في الفكر العربي المعاصر — تجد اعتراضات قوية من التيارات نفسها، من داخل هذا الفكر تعبر عن مفارقات الوعي العربي، حين اعتبرت التشبث بالعقلانية الغربية بكل أوصافها ومُحدِّداتها نكايةً في العقلانية العربية التي تتميز بخصوصياتها وأوصافها ومُحدِّداتها الذاتية، فالذين دافعوا عن العقلانية الغربية وحاولوا تبيئتها ذهبوا إلى حد الإيغال في تحويلها إلى عقيدة فكرية، إلى سبيل مساءلة بديهياتها، الأمر الذي حولها حسب هذا التحليل، إلى ممارسة فكرية لا عقلانية.١٥٥
والمفارقة الثانية التي نجدها عند الجابري أثناء تحديد تعريفاته للعقل العربي، يسجل مفارقة بينه وبين العقل اليوناني الأوروبي؛ حيث العَلاقة بين العقل العربي والطبيعة هي عَلاقة تأملية تبسيطية، وليست «اكتشافًا للعَلاقات التي تربط ظواهر الطبيعة بعضها ببعض، ليست عملية يكتشف العقل نفسه من خلالها في الطبيعة، بل هي التمييز في موضوعات المعرفة (…) بين الحسَن والقبيح، بين الخير والشر. ومهمة العقل ووظيفته، بل وعلامة وجوده، هي حمل صاحبه على السلوك الحسن ومنعه من إتيان القبيح.»١٥٦ وإن كان للجابري من فضل في اكتشاف العَلاقة الترابطية بين العقل والقيم الأخلاقية في المنظومة الإسلامية والحقيقة الواقعية كما ينص على ذلك في قوله «إن معنى «العقل» — ويضعه بين قوسين — في اللغة العربية وبالتالي في الفكر العربي يرتبط أساسًا بالسلوك والأخلاق.»١٥٧ إلا أن هذا الاكتشاف معيب عنده عندما جرد هذا العقل من القدرات الاستكشافية لقوانين الطبيعة، ومن بعده التجريبي، وإبقائه في دائرة التأمل.
فالمفهوم الذي تحدده النصوص القرآنية وتقدمه النصوص التراثية للعقل — الجاحظ والشهرستاني — يتعارض مع «النظرة الموضوعية التي هي نظرة تحليلية تركيبية تحلل الشيء إلى عناصره الأساسية لتعيد بناءه بشكل يبرز ما هو جوهري فيه.»١٥٨ وهي النظرة التي يجب أن نحتكم إليها في قراءتنا للتراث العربي — حسب الجابري — فالعقل الذي تحدث عنه القرآن وقدمته لغته ولغة الجاحظ والشهرستاني؛ إنما هي لغة عقل الجاهلية أساسًا.١٥٩
فجرى هذا المنهج الذي اقتبسه الجابري في الثقافة العربية بوسائل «فوقية متعددة من مجالات ثقافية غربية مختلفة: فقه العلم التكويني (بياجي) وفقه العلم العقلاني (لالاند وباشلار) والبنيوية وفلسفة التاريخ الهيجلية والماركسية، مع ما يرد من انتقادات على هذه الوسائل المنهجية. ومن الممكن ردُّ هذه الوسائل إلى صنفَين أساسيَّين؛ وسائل عقلانية: آلية القطيعة المعرفية، وآلية التقابل، وآلية التنسيق الاستنتاجي، وآلية التأسيس وإعادة التأسيس وآلية التأزيم (أي اصطناع أزمة الأسس)، وآلية التفكيك، وآلية ترتيب وإعادة الترتيب، أما الوسائل الفكرانية (الأيديولوجية) المقتبسة: آلية التوظيف، وآلية الدمج، وآلية التصارع، وآلية الانعكاس والتبرير (السياسي والتاريخي والمادي) وآلية الاستعارة التي زودت خطاب الجابري برصيدٍ هامٍّ من الألفاظ والتعابير ذات الأصل السياسي أو العسكري مثل «التحالف» و«المصالحة» و«المناصرة» و«الاصطدام» و«فك الارتباط» و«صد الهجمات» و«لحظة الانفجار».١٦٠
لا يعني هذا النقد وهذه الملاحظات التي قدمها طه عبد الرحمن الرفض المطلق لهذه الآليات الخارجية — كما يسميها — أو أنها مذمومة وغير صالحة، وإنما يشترط في نقلها وتشغليها أن يتقدمها النقد، ومدى ملاءمتها، ومناسبتها للموضوع المدروس — تراثًا كان أو فكرًا معاصرًا — وإنما الاعتراضات الواردة على هذه الآليات المنهجية «تنبني على قرارات تجعلها تنظر في الظاهرة المدروسة — لا من جهة موجبات بنائها الداخلي — وإنما من جهة متعلقاتها الخارجية فحسب، حتى لا يكاد يبقى من هذه الظاهرة عند بعض المتمسكين بهذه المنهجيات المادية إلا اعتبارات تاريخية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية (أسباب خارجية)، أما أسبابها الداخلية التي تجعل لها ذاتًا متميزة عن التاريخ أو الاجتماع أو السياسة والاقتصاد فلا علم لهم بها.»١٦١
وقد انصبَّ اهتمام الجابري أثناء اشتغاله في تحديد مُحدِّداته المنهجية على الفصل بين الموضوع، والذات ويراها الخطوة الأولى في تحقيق الموضوعية، واللحظة الأولى من المنهج الذي اقترحه ويحاول تطبيقه «لحظة الموضوعية أو تحقيق الانفصال عن الموضوع»١٦٢ فلا يكتمل النقد العقلاني عنده إلا بتبني هذا الطرف الملازم للموضوعية، والتحرر من المسبقات والرغبات الحاضرة لمواجهة الموضوع مباشرة؛ لأنه مادة مستقلة غير واعية.
إن مفهوم الموضوعية كما تبلور في الفكر الغربي، يعتقد أن للموضوعات وجودًا مستقلًّا عن ذواتنا وأن الحقائق يجب أن تظل مستقلة عن قائلها ومدركيها، وبهذه الطريقة يمكن أن نصل إلى تصوُّر موضوعي دقيق للواقع يكاد يكون «فوتوغرافيًّا»١٦٣ يرغم الباحث أن يتجرد من «ذاتيته وخصوصيته الحضارية بل والإنسانية، ومن عواطفه وحواسه وحسه الخلقي وكليته الإنسانية، بحيث يمكنه أن يسجل ويصف بحياد شديد لدرجة تموت معها الأشياء، ويتشيَّأ الإنسان، ويُرصد من الخارج كما تُرصد الأشياء»؛١٦٤ ولهذا تستبعد الموضوعية فكرة المعنى وتقرأ الألفاظ.
ويبرر الجابري هذا الالتزام بالموضوعية في التحليل بأن المكتسبات المنهجية للعلوم الألسنية المعاصرة — البنيوية — تقدم لنا طريقة في التعامل الموضوعي مع النصوص التي يلخصها في هذه القاعدة «يجب تجنب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ (…) والتحرر من الفهم الذي تؤسسه المسبقات التراثية أو الرغبات الحاضرة، يجب وضع كل ذلك (المسبقات والرغبات) بين قوسين، والانصراف إلى مهمة واحدة وهي استخلاص معنى النص من ذات النص نفسه، أي من خلال العَلاقات القائمة بين أجزائه.»١٦٥ واتخذت هذه الموضوعية عنده مستويين من العَلاقة:
  • المستوى الأول: مستوى العَلاقة الذاهبة من الذات إلى الموضوع، وتعني فصل الموضوع عن الذات.
  • المستوى الثاني: مستوى العَلاقة الذاهبة من الموضوع إلى الذات، وتعنى فصل الذات عن الموضوع.

ويعزز هذه الخطوة بثلاث عمليات كبرى من خلال «المعالجة البنيوية» و«التحليل التاريخي» و«الطرح الأيديولوجي». فهذا المستوى من التصور في رأيه هو القادر على حل معضلة اللاعلمية وتحقيق العلمية والعقلانية في الدراسة، والتفسير للتراث وَفْقَ نموذج العلوم الألسنية والإنسانية.

تعتبر مشكلة الموضوعية واحدة من المشكلات في هذا الفكر، فإذا رآها الجابري مدخلًا أساسيًّا لحل إشكال المنهجية التي لم تعد عنده مسألة «اختيار بين منهج تاريخي وآخر وظيفي وثالث بنيوي، قد يصلح أحدها في ميدان وقد لا يصلح، وإنما لا تصلح إلا عندما يكون الموضوع — منفصلًا عن الذات — يتمتع بنوع من الاستقلالية، فتكون مشكلة المنهج في هذه الحالة هي أولًا وقبل كل شيء مشكلة الموضوعية.»١٦٦
فإنها في نظري تزيد من تعميق المشكلة بدل حلها، فالموضوعية لم تتحقق حتى في أدقِّ العلوم الفيزيائية والطبيعية، ويؤكد هذا الكلام حركة الاحتجاج والرفض للوحدة المنهجية والدعوة إلى الفصل بين النسقين، على اعتبار أن بين مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية فروقات كبيرة، ولهذا استحالت الموضوعية في هذه العلوم ولم تجنِ ما كان منتظرًا منها وأن «المحتويات المعرفية لتلك العلوم، بما فيها من فروض ونظريات لا تنجو من تأثيرات الأنساق الثقافية، فما يراه عالم الطبيعيات في الظاهرة التي يعاينها يتحدد على نحوٍ وَفْق تصوراته واهتماماته السابقة، التي لا تستبعد أن يكون للسياقات الثقافية ضلع في تحديدها.»١٦٧
فوقع بين المناهج الكمية والنوعية نوع من الاستقطاب الحاد — حسب تعبير المسيري — بين الموضوعي (في تأليه الكون وإنكار الذات) والذاتي (في إنكار الكون وتأليه الذات)، وبين فريق من فلاسفة القرن العشرين حاول حل إشكالية ثنائية الذات والموضوع عن طريق إلغائها تمامًا،١٦٨ فالفصل بين الذات والموضوع هو اغتيال مزدوج للذات والموضوع معًا، كما هو واضح عند اتجاه البنيوية الذي عرف بموت الإنسان أو فلسفة موت الإنسان.١٦٩
فالمنهج الخارجي أو الأسباب المضمونية الخارجية — بتعبير طه عبد الرحمن — مطلوب في توصيف الظواهر لكن غير كافٍ في الحكم على الموضوع، بل لا بد من آليات داخلية ونظرة معيارية قيمية للموضوع خاصة بكل نسق معرفي، هكذا تتكامل الأبعاد بين التحليل الخارجي والمعيارية الداخلية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالثقافة العربية الإسلامية؛ ولهذا «فلا موضوعية لمن يجعل الصنفين صنفًا واحدًا والسببين سببًا واحدًا.»١٧٠
ولتجاوز النموذج الموضوعي المتلقي في التفسير يقدم المسيري نموذجًا تفسيريًّا اجتهاديًّا بديلًا عن هذا النموذج؛ لأنه يفقد للإنسان خصوصياته، ويميت المعرفة ويغتالها، ﻓ «الافتراضات التي يستند إليها الفكر الموضوعي تنبع من العقلانية المادية لعصر التنوير، وقد ثبت أنها افتراضات إما خاطئة تمامًا أو بسيطة إلى درجة كبيرة؛ ولذا فمقدرتها التفسيرية ضعيفة»،١٧١ ولهذا أخفق الجابري إلى درجة كبيرة في تحقيق الوفاء بمنظومته المنهجية التي حدَّدها فلم يكن الحياد الموضوعي سبيله في تحليل النظم الثقافة العربية ولا المنهج العلمي العقلاني غايته، ولا الانتظام المنهجي العقلاني عائده الحضاري، فانتقل من تجاوز أنساق منهجية كانت سائدة إلى نسق مغلق اختزالي تجزيئي.
للمنهجية انتماء حضاري وذاكرة تاريخية وشعور ذاتي وفلسفة خاصة وعمق ثقافي مرتبط بالعقيدة وطموحات كل حضارة؛ ولهذا فإن «انتساب الأدوات المنهجية المهيمنة إلى بيئات ومنطلقات معرفية معينة من شأنه أن يجعل منها ألحانًا ناشزة، إذا ما تم إقحامها دون ضبط أو توليف وربما إعادة تأليف على «النوتات» التي تعزفها الجوقات البحثية في بيئات حضارية مغايرة.»١٧٢
فالمفاهيم لكي تكتسب مصداقيتها ومشروعيتها، لا بد أن تتبلور داخل سياق ثقافي وتطوُّر اجتماعي يستمد فاعلتيه من منظومة ثقافية مهيمنة وموجهة لحركة المجتمع وإلا ظل مفارقًا لموضوعه أشبه بزرعِ عنصرٍ غريب في جسم إنسان وإعادة «قراءته على ضوء كل قضية منفردة حسب واقعها وظروفها الخاصة [وهذا هو الأهم] وهذه هي القضية الشائكة التي يتجنبها معظم الباحثين الذين يستسهلون تبني أيديولوجيا تعطي تصورات شاملة وتقدم حلولًا جاهزة وأحكامًا تفصيلية وقطعية مسبقة تريح الباحث وتعفيه من عبء التحليل الموضوعي والتحري الدقيق لكل قضية يتصدى لها على حدة.»١٧٣
أما مجرد «انتظام المفهوم بمقولاته النظرية و«عقلانية» أهدافه فغير كافٍ للتعبير عن حقيقة الواقع المادي، والإنساني المتسم بخصائص حركية غاية في التعقيد، بل إنه في هذه الحالة لا يخدم سوى تقديم صورة مشوهة للواقع عبر عملية اختزال وتبسيط؛ لذلك فإن استنساخ أو سلخ المفاهيم الغربية عن واقع نشأتها وعن بنيتها الثقافية، ومن ثم إسقاطها على واقع اجتماعي حضاري مغاير كالمجتمع العربي الإسلامي، في محاولة لتفسير أو لمعالجة إشكالاته وظواهره السياسية والاجتماعية يحول دون إنتاج فكر متفاعل مع واقعه ومعبر عنه.»١٧٤ وتتحول إلى نسق مغلق غير منفتح على المفاهيم الأخرى، وتدخل معها في تصادم؛ تصادم هوية المفاهيم المنقولة الخارجية مع هوية المفاهيم الأصلية الداخلية.
وهو ما تفسره تلك الثنائيات المتناقضة في الفكر العربي المعاصر، ثنائيات تعبر عن أزمة الهُويَّة والأسس والمرجعيات داخل هذا الفكر، لهذا فإن «عملية اقتباس المفاهيم الغربية ليست مجرد ترجمة لغوية بسيطة، وساذجة لكلمات ومفردات ذات دلالات واضحة، بل هي علمية معقدة يجب أن تخضع لتحليل نقدي تفكيكي يفصل بين المفهوم وأبعاده الفلسفية العميقة المرتبطة بمنظومات فكرية وعقدية وثقافية شاملة تعكس في جوهرها التصورات (السائدة في المجتمع الغربي حول الكون والإنسان والحياة) المغايرة لما هو سائد في المجتمعات العربية الإسلامية.»١٧٥
لقد ظلت هذه المنهجيات تعبر عن طموحات خارج طموحات الأمة، ومجسدة لأزمة الانتماء الحضاري، ومشوشة على المشاريع التي طرحت في الساحة الفكرية العربية، فكانت الخلاصة التي انتهى إليها مالك بن نبي أنه عندما «يسيطر التشويش وانعدام التماسك على عالم الأفكار تظهر علاماتهما في أبسط الأعمال»،١٧٦ فيسود الاضطراب المنهجي والفوضى المفهومية، وتتعطل الأعمال الكبرى.

ونختم هذه الملاحظات بما أثير حول النقد الإبستيمولوجي عند الجابري، لكن هذه المرة من داخل شاكلة ثقافية وفكرية تنتمي إلى تيارات مختلفة من المغاربة بالتحديد، زملاء للجابري، الأمر يتعلق بمحمد وقيدي وكمال عبد اللطيف ونور الدين أفاية وسعيد بن سعيد، خلال الندوة التي نظمتها مجلة الوحدة ونشرتها في العدد المزدوج ٢٦-٢٧ سنة ١٩٨٦م تحت عنوان «العقلانية والمشروع العربي: نقد العقل العربي في مشروع الجابري».

(٤-٢) على مستوى الاختيار الإبستيمولوجي

فمن الملاحظات المسجلة على مشروعه ما قدمه محمد وقيدي حول تعاطيه مع مفهوم الإبستيمولوجية داخل هذا المشروع، فيرى أن الجابري لم يوظفها بمفهومها المعاصر بقدر ما اكتفى بطابعها الحديث، يقول: «إن تطور الإبستيمولوجيا في مشروع الجابري لا تحضر كإبستيمولوجيا، وإنما تُختزل قبل أن تحضر، تُختزل في مجموعة من المفاهيم التي أخذها عن باشلار أو عن بياجي أو عن غيرهما وهي مجموعة محدودة من المفاهيم، وبعد هذه المرحلة أصبحنا نجد أن الاهتمامات بالإبستيمولوجيا بدأت تتضاءل في قوتها بالنسبة للجابري، وأصبحت الاهتمامات بالتراث هي الطاغية، بقدر ما اتسعت دائرة الاهتمامات التراثية ضاقت دائرة الاهتمامات الإبستيمولوجية، وأصبحت هذه الاهتمامات ملخصة في جملة من المفاهيم.»١٧٧

ويتساءل وقيدي بعد هذه الملاحظة عن درجة الانسجام بين مفاهيم الإبستيمولوجية، والمفاهيم الأخرى المختلفة الأصول، والقيمة المعرفية التي استند إليها الجابري في مشروعه، وإلى أي حد يمكن القول إن أصول هذه المناهج اختفت، وأخذت مكانها ضمن بنية منهج جديد داخل هذا المشروع.

وشعور وقيدي بنوع من الضبابية المفهومية المستعارة، وقضايا الفكر العربي المعاصر، وهمومه؛ جعله يتساءل عن السبب الذي من أجله لم تنشأ عندنا فلسفة عربية مستقلة، ليس بمعنى الاستقلال المطلق عن التراث الغربي، لكن بالمعنى الذي تكون فيه تعبيرًا عن الذات، والمنحى نفسه نجده عند طه عبد الرحمن في كتابه «فقه الفلسفة»، هذه الفلسفة التي ظلت رهينة القوالب والمقاسات المنهجية الغربية، فالترجمة لا تنتج فلسفة ولا فكرًا ولا منهجًا، فهي غير كافية في الإنتاج المعرفي، فهي في أحسن الأحوال تكرار لمفاهيم غربية بلغة عربية.

أما الأستاذ كمال عبد اللطيف فقد اتجه إلى كشف بعض تناقضات المشروع، أثناء نقده لنماذج فكرية وفلسفية واستعانته بنماذجَ في التفكير أو البرهنة أو في النتائج المتوصل إليها يقول: «لقد انتقد الجابري المنظومة المرجعية الغربية الليبرالية والماركسية الدوغمائية وقد أطلق عليها اسم «سلف الليبرالي والماركسي العربي» وانتقد المنظومة العربية الإسلامية وسمَّاها «سلف الشيخ» وأثناء نقده للمنظومات المرجعية المذكورة كان يستعين بالتراث الفلسفي الغربي في أبعاده النقدية، ويدعو إلى تتميم ما بدأَته الرشدية والخلدونية ومباحث الأصول التي أنتجها الشاطبي، فهل يتعلق الأمر بتوفيقية جديدة؟ وهل «الاستقلال» المقصود مزيج من قبيل ما ذكرنا؟ وفي سياق هذه الكتابة، يضيف الباحث: نجد أنفسنا أمام اختيارين؛ [أولًا:] التفتح الفكري الفلسفي الذي يتيح للباحث معاصرة بلا حدود، [ثانيًا:] التقوقع الأيديولوجي القومي الذي لا يتوقف عن التذكير بالحدود والفواصل والأزمنة داخل الزمان.»١٧٨

ويؤاخذ كمال عبد اللطيف الجابري على هذه التوفيقية وما يشوبها من التباس، والحسم — يقصد بالدرجة الأولى موقف العروي من التراث، الذي خالفه الجابري — في الاختيار لنموذج نقدي، دون نماذج أخرى باسم الاستقلال والخصوصية؛ فإنه لم يولد في نظره سوى العقم، وتدعيم التأخر، هكذا تكلم كمال عبد اللطيف، في سياق الدفاع عن أطروحة العروي النقدية التي حسمت مع التراث، من خلال طي صفحته.

أما الرؤية النقدية الثالثة فيمثلها سعيد بنسعيد الذي اتجه إلى العمق التحليلي نفسه الذي اعتمده الجابري، النقد الإبستيمولوجي وتحدث عن البلبلة التي أثارها ويثيرها انتقال المفاهيم المنهجية من العلوم الحقة (مجال الرياضيات والفيزياء) إلى العلوم الإنسانية في الفكر الغربي، وصعوبة تداولها في الفكر العربي، حين نقل المفاهيم كما ولدت وجربت عند المشتغلين بالعلوم الإنسانية في العالم الغربي وفي فرنسا بصفة خاصة إلى مجال اشتغاله،١٧٩ فالمفاهيم التي اشتغل عليها الجابري في مشروعه — حسب تقدير بنسعيد — مرت في انتقالها من مراحل شوشت على طراوتها المعرفية والمنهجية، من مجالها الأصلي (الفيزياء) إلى مجال العلوم الإنسانية في الغرب، ثم إلى مجال التراث العربي، وهو ما يقوي من إمكانية تقويض المفهوم المنقول لبعض وظائف المتن التراثي العربي.
أما ملاحظات نور الدين أفاية فقد مست غموض النقد الإبستيمولوجي عند الجابري، وأنه غير محدد بما فيه الكفاية، وأن النقد عنده يتداخل مع القراءة التشخيصية وأحيانًا يدل على استراتيجية تهدف إلى تأزيم الثقافة العربية من خلال ما أسماه ﺑ «أزمة الأسس وإعادة التأسيس»، ومن خلال الكشف عن مناطقها، ومكوناتها التأسيسية.١٨٠

هي محاولات نقدية جريئة تؤمن بضرورة إعادة التأسيس، والتدقيق في مخرجات المشروع النقدي للعقل العربي، هي نقد النقد في سياق تطوير وتثوير المشروع الجابري، حيث كشفت عما اعتبرته جنوحًا في فكره. وآلياته التفسيرية عبرت عنه المفاهيم الإبستيمولوجية التي تبنَّاها مثل مفهوم القطيعة الذي شوَّش على مشروعه، وإن سلك في استدراكاته على المفهوم مسلك التوسط بعيدًا عن القطيعة الكبرى كما نجدها عند التيارات اليسارية الماركسية «العروي وحسين مروة»، وتنشيط هذه الآليات وَفْق مطامحه الأيديولوجية.

وأنقل له نصًّا يعبر عن هذا النزوع الأيديولوجي وغلبته، وأنه المحدد الأساس في عملية الانتظام في قراءة مضامين التراث العربي الإسلامي، وهو الخوف من اكتساح الساحة الفكرية المعاصرة من قبل ما أسماه بقوى «رجعية» و«ظلامية» و«تغريبية» وإن كنا نقدر هذا النزوع، ونتفهَّم دوافعه، لكن أن يكون هو المحدد فهذا مما يختلف حوله. يقول: «فلماذا لا نملأ ساحتنا الثقافية بقضايا من تراثنا لها عَلاقة مباشرة باهتمامات شعوبنا؛ اهتمامات النخبة والشباب والجماهير: قضايا اللغة وتجديدها، وقضايا الشريعة، وشروط التجديد فيها، وإمكانيات تطبيقها وتطويرها، والعقيدة وأنواع الانحلال الملصقة بها الفكرية والسياسية، أضف إلى ذلك قضايا التاريخ والأدب والفلسفة التي يزخر بها تراثنا. قد يقول البعض: هذه قضايا ميتة، تنتمي إلى زمن ثقافي مضى وانقضى (…) ونحن لا نحتاج إلى أن نذكر هؤلاء باكتساح التيارات الرجعية والاغترابية لساحتنا الثقافية»،١٨١ هو خطاب نقدي لتيارات القطيعة مع هذا التراث.

لكن لا عيب عندي أن تستبطن هذه المناهج وهذه الآليات أبعادًا أيديولوجية — ليس بمفهوم الإقفال والإلغاء — بمقادير معينة، وأن تستبطن هذه الأخيرة أبعادًا معرفية منهجية، فثمة عَلاقة تفاعلية، وإنما الخلاف فيما ذهب إليه عبد الإله بلقزيز واشتغلت عليه تيارات الفكر العربي المعاصر هو أن يصبح البعد الأيديولوجي هو القابض على المصير المعرفي، يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، وهي نقطة شكَّلت ثغرة وعيبًا منهجيًّا ومعرفيًّا في تاريخ الفكر العربي المعاصر، يلزم ترتيب العَلاقات بينهما.

إن المشروع الفكري الذي قدَّمه الجابري بقي حُلمًا معلقًا، فلا هو حقق عقلانية ابن رشد ولا أسس دولته ولا استنبت حداثة الغرب؛ لأن المشروع لم يستند في كثير من تفاصيله إلى أسس مرجعية ذات صلة بالأمة، مرجعية الإسلام كقوة مؤطرة وموجهة لحركة الفكر والنهضة والحضارة وإلى عمقها التاريخي. لكن رغم ما قيل عن المشروع وما قدمنا من ملاحظات حول المسار النقدي في مشروع الجابري، يبقى فكره — في رأيي — واحدًا من المشاريع الفكرية القليلة في الفكر العربي المعاصر التي استطاعت أن تجد لنفسها مساحة محترمة مع جميع الاتجاهات الفكرية: يمينية – يسارية – إسلامية، بدرجات متفاوتة.

ويمكن الاستعانة به خصوصًا في الجانب المتعلق بموقفه من المركزية الغربية وحداثتها، وكشفه لانزلاقاتها وسوء التوظيف لهذه الحداثة، وما راكمه على المستوى المنهجي يمكن البناء عليه في بلورة مشاريع مستقبلية؛ كما يمكن أن يشكل نقطة ارتكاز في مواصلة مسيرة النقد وتصحيح الاختلالات التي طرحها برؤية تأصيلية وأكثر انسجامًا مع الذات، وأكثر جرأة في التعامل مع المناهج والمفاهيم الوافدة، كما يشكل مشروعه نقطة مضيئة في بيان عورات الخطاب العربي المعاصر وتفكيك آلياته وعوامل فشله من خلال إبراز تناقضاته.١٨٢
كما أحسن عندما وضع التراث في ميزان النقد وحرك العقول الراكدة بحرارة تجربته وبحسه المنهجي الراقي، ونقل الإنسان العربي من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث تملكه ولا يملكها، فردود الفعل اتجاه مشروعه مؤشر على هذا التحول، في المعرفة التراثية، لكن بإمكان المشروع أن يتحول إلى فاعل أساسي، لو ارتبط أكثر مما ذكرنا؛ أي الانتقال من «تشخيص العيوب ونقدها إلى وضع آلية نقدية بديلة؛ أي إن تتويج العمل كان ممكنًا بتأسيس معرفة بديلة يمكن بها قراءة التراث دون المساس به، فما كان ينقص الجابري — حسب نقاده — أن يتخذ موقفًا محددًا من التراث بدلًا من هذا النفس القلق بإزائه، وهذا الدمج بين التراث والحداثة.»١٨٣

صحيح أن الجابري قدم مقترحات في هذا الاتجاه، لكنها تبقى دون طموحات النهضة والواقع العربي، وهو الاعتراف الذي عثرنا عليه في كتاباته الأخيرة «لماذا فشلنا في تحقيق حلم النهضة؟» أما الجواب عن الفشل، فالسؤال يحمل جزءًا منه، أما الجزء الآخر فيكمن في الأدوات التي اشتغلت عليها تيارات الفكر العربي المعاصر، حين راهنت على خلطة هجينة من المناهج النقدية الغربية، وانتقائية من التراث، في تقويم إشكالات الواقع العربي واستشراف آفاقه، دون امتلاك رؤية ناظمة لأعطاب ذلك الواقع.

خلطة كشفت عن وعي مقلوب لعقل هذا الفكر، وعن استمرارية تبعيته لعقل الآخر إذ «يبدو أن النقاد العرب الذين تناصت نقودهم مع المنهجية الغربية وفاقًا لحالة الاندماج لم يستطيعوا أن يختاروا حالة منهجية تصلح للتبني والتحليل، إذ غالبًا ما تبرز الانتقائية والتلفيقية في خطاباتهم النقدية، مما يدل على أن الخطاب النقدي العربي المندمج مع الغرب لم يتمكن من استبانة الملامح النظرية النقدية الصالحة للدراسة، وأن المرجعية المسيطرة تظهر بشكل إرادي أو لا إرادي في بنية المعرفة النقدية.»١٨٤ وهو اتجاه بدأ يتقوى ويدرك حجم المعاناة التي يحياها الخطاب النقدي العربي المعاصر في فلسفته النقدية الذي مثل نُسخًا مُشوَّهة عن التجربة الغربية.١٨٥

لا تخرج الانتقادات الكثيرة — على اختلاف في درجتها ومرجعياتها وأدواتها — التي وجهت لمشروع الجابري في رأيي عن الرغبة في تجويد أطروحات الفكر العربي المعاصر، والرفع من منسوبها في مواجهة التحديات، وتنويع أدواتها التفسيرية. انتقادات لا تنقص من قيمة المشروع وصاحبه، بل تزيد من قوته وتأكيد على استمرار الروح النقدية العقلانية التي دشنها في تحليله لنظم الثقافة العربية، واستئنافها وفق معطيات الواقع المعاصر، لهذا فنحن لا نؤسس رؤانا واختياراتنا، على أساس انتكاسة الآخرين وفشلهم، أو لعيوب في فلسفاتهم؛ بقدر ما نؤسس على أساس نوع من تراكم خبرات عقول الأمة، وتجاربها الفاشلة والناجحة، كما نؤسس على معيارية ذاتية قائمة على منطق داخلي، أثبت جدارة عطائه على امتداد التاريخ الحضاري للأمة، والانفتاح الواعي على كل الممارسات الإنسانية الراقية وعطاءاتها المتواصلة، تراعي خصوصيتها وخصوصيات الآخرين، وتعترف بنسبيتها ضمن النسق الحضاري الإنساني العام.

١  منصور زويد المطيري: الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع، الدواعي والإمكان، كتاب الأمة ع٣٣، ١٤١٣ﻫ، ص٢٢.
٢  اتجاه فلسفي يؤمن بأن التجربة هي أساس المعرفة، ويُنكِر وجود أيِّ تأثيرٍ قبليٍّ فِطْري عند الإنسان يؤثر في بناء الأفكار والمفاهيم؛ فيُشكِّل الواقع والحواس مصادرَ أساسية في صدق المعطيات العلمية أو تكذيبها.
٣  خضر زكريا: الباحث الاجتماعي العربي والسياسي، مجلة الوحدة العربية، العدد ٥٨-٥٩، ١٩٨٩م، ص٢٦٥.
٤  وجيه كوثراني: «الديمقراطية ومشكلة الأقليات في الفكرين القومي والإسلامي: حوار من أجل نظرة جديدة»، منبر الحوار، السنة التاسعة، ع٣٤، ١٩٩٤م، ص٣٥.
٥  «أبحاث مختارة في القومية العربية: الأعمال الكاملة لساطع الحصري» (١٧) سلسلة التراث القومي، طبعة خاصة، ١٩٨٥م، ص٤٣.
٦  انظر المرجع نفسه، ص٣٦.
٧  المرجع نفسه، ص٤٣.
٨  ماهر الشريف: كي تتحقق النهضة لا بد من استكمال بناء القومية العربية، مجلة الطريق، مجلة فكرية سياسية تصدر مرة كل شهر أسَّسها أنطوان ثابت ١٩٤١م، السنة السادسة والخمسون، ع٦، ١٩٩٧م، ص٧٢.
٩  انظر برهان غليون: هل يُسهم تجديد الفكر القومي في بَلْورة مشروع نهضة عربية جديدة، مجلة الطريق، م. س، ص٣٧.
١٠  انظر المرجع نفسه، ص٤٢.
١١  انظر هامش مجلة الطريق، فيه تفاصيل لأنواع القوميات التي طبعت الفكر العربي المعاصر، م. س، ص٤٣.
١٢  الفضل شلق: الاجتهاد وأزمة الحضارة العربية، مجلة الاجتهاد، دار الاجتهاد بيروت، ع٨، السنة الثانية، ١٩٩٠م، ص٣٣.
١٣  المرجع نفسه، ص٤٠.
١٤  المرجع نفسه، ص٤٣.
١٥  المرجع نفسه، ص٤٥.
١٦  الجابري: «المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية»، مركز دراسات الوحدة العربية، ط٣، ٢٠٠٩م، ص٩٧.
١٧  المرجع نفسه، ص١٠٢.
١٨  الجابري: «مسألة الهُويَّة: العروبة والإسلام، والغرب»، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، ط١، ١٩٩٥م، ص٥٠.
١٩  الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، ط، ٦، ٢٠١٠م.
٢٠  المرجع نفسه، ص١٠٥.
٢١  المرجع نفسه، ص١١١-١١٢.
٢٢  المرجع نفسه، ص١٨٤.
٢٣  الجابري: المشروع النهضوي العربي، م. س، ص٩٦.
٢٤  انظر الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، م. س، ص٩.
٢٥  المرجع نفسه، ص١٠.
٢٦  الجابري: «التراث والحداثة: دراسات ومناقشات»، المركز الثقافي العربي، ط١، ١٩٩١م، ص١٥-١٦.
٢٧  المرجع نفسه، ص١٦.
٢٨  يوسف بن عدي: «قراءات في التجارب الفكرية العربية المعاصرة: رِهانات وآفاق»، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت ط١، ٢٠١١م، ص٦٢.
٢٩  الجابري: التراث والحداثة، م. س، ص٥٠.
٣٠  انظر الجابري: «نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي»، المركز العربي الثقافي ط٦، ١٩٩٣م، ص١١.
٣١  المرجع نفسه، ص١٢.
٣٢  المرجع نفسه، ص١٣.
٣٣  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص١٣.
٣٤  المرجع نفسه، ص١٤.
٣٥  المرجع نفسه، ص١٤.
٣٦  انظر الجابري: نحن والتراث، م. س، ص١٥.
٣٧  المرجع نفسه، ص١٥.
٣٨  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص١٩.
٣٩  الجابري: التراث والحداثة، م. س، ص٣٣.
٤٠  الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، م. س، ص٦٢.
٤١  المرجع نفسه، ص٦٣.
٤٢  المرجع نفسه، ص٦١.
٤٣  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٢٠.
٤٤  انظر المرجع نفسه، ص٢٢.
٤٥  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٢٣.
٤٦  الجابري: التراث والحداثة، م. س، ص٣٢.
٤٧  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٢٤.
٤٨  المرجع نفسه، ص٢٤.
٤٩  انظر المرجع نفسه، ص٢٥-٢٦.
٥٠  الجابري: التراث والحداثة، م. س، ص ٣٣.
٥١  انظر الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٢٦.
٥٢  انظر المرجع نفسه، ص٢٧.
٥٣  يقصد بها تاريخية الفكر والمجال الذي تحرك فيه.
٥٤  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٢٩.
٥٥  انظر المرجع نفسه، ص٤٧.
٥٦  عبد الإله بلقزيز: «سؤال التراث في تأليف محمد عابد الجابري، في العقل ونقد العقل: قراءات في أعمال محمد عابد الجابري»، جامعة الحسن الثاني المحمدية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، الدار البيضاء، ط١، ٢٠١٠م، ص٢١.
٥٧  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص١٧.
٥٨  انظر نايلة أبي نادر: التراث والمنهج بين أركون والجابري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط١، ٢٠٠٨م، ص٣١.
٥٩  الجابري: تكوين العقل العربي، المركز الثقافي العربي، ط٤، ١٩٩١م، ص٨.
٦٠  الجابري: تكوين العقل العربي، م. س، ص٧.
٦١  المرجع نفسه، ص١٨٧.
٦٢  حسين الإدريسي: محمد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربي، بيروت، ط١، ٢٠١٠م، ص١٤٥.
٦٣  الجابري: تكوين العقل العربي، م. س، ص٢٤٨.
٦٤  انظر حسين الإدريسي: محمد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربي، م. س، ص١٤٥.
٦٥  الجابري: «بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، المركز الثقافي العربي، ط٢، ١٩٩١م، ص١٥.
٦٦  الإثنولوجية فرع من فروع الأنثروبولوجيا، وتعرف بأنها دراسة الإنسان ككائن ثقافي، تعتمد تحليل المادة الثقافية وتفسيرها بطريقة منهجية. من الكتابات الصادرة في الموضوع «مدخل إلى الإثنولوجيا» لجاك لومبارد، ترجمة: حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، ط١، ١٩٩٧م.
٦٧  الجابري: بنية العقل العربي، م. س، ص١٢٦-١٢٧.
٦٨  الجابري: التراث والحداثة، م. س، ص٢٨٣.
٦٩  انظر نايلة أبي نادر: التراث والمنهج، م. س، ص٢٦٠.
٧٠  الجابري: التراث والحداثة، م. س، ص٢٨٤.
٧١  الجابري: تكوين العقل العربي، م. س، ص٤٠-٤١.
٧٢  الجابري: التراث والحداثة، م. س، ص٢٨٥.
٧٣  المرجع نفسه، ص٢٨٧.
٧٤  الجابري: تكوين العقل العربي، م. س، ص٦.
٧٥  انظر المرجع نفسه، ص١٥.
٧٦  انظر الجابري: تكوين العقل العربي، م. س، ص٢٧.
٧٧  الجابري: «العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته»، المركز الثقافي العربي، ط١، ١٩٩٠م، ص٦.
٧٨  انظر الجابري: العقل السياسي العربي، م. س، ص٨.
٧٩  المرجع نفسه، ص٩.
٨٠  المرجع نفسه، ص١١.
٨١  انظر المرجع نفسه، ص١١.
٨٢  الجابري: العقل السياسي العربي، م. س، ص١١.
٨٣  وهو عنده جملة من التصورات والرموز والدلالات والمعايير والقيم التي تعطي للأيديولوجيا السياسية في فترة تاريخية ما، ولدى جماعة اجتماعية منظمة، بنيتها للاشعورية. المرجع نفسه، ص١٣، مع احترازنا في استعمال هذا المفهوم في التحليل لأن الذي يحكم العَلاقات هو الوعي والشعور لا العكس، وهو ما ينبغي مراجعته في مجال الدراسات المعرفية والمنهجية في فكرنا المعاصر.
٨٤  الجابري: العقل السياسي، م. س، ص١٣.
٨٥  باحث فرنسي معاصر (١٤ مايو ١٩٥٠م) في العلوم السياسية متخصص في العَلاقات الدولية. من أهم مؤلفاته «الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام» و«الدولة المستوردة».
٨٦  الجابري: العقل السياسي، م. س، ص١٤.
٨٧  المرجع نفسه، ص ١٩-٢٠.
٨٨  جورج لوكاتش فيلسوف وناقد أدبي مجري (١٨٨٥–١٩٧١م) مؤسس علم الجمال الماركسي، من مؤلفاته «التاريخ والوعي الطبقي».
٨٩  انظر انتقادات عبد الوهاب المسيري لهذه المفاهيم، ودعوته لتخليصها من أصولها الفلسفية المعادية للإنسان، كما تشكل في رأيه نموذجًا غير قادر على تفسير الظواهر. الثقافة والمنهج، تحرير: سوزان حرفي، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط١، ٢٠٠٩م، ص٤٩-٥٠.
٩٠  انظر الجابري: العقل السياسي، م. س، ص٣٢.
٩١  انظر المرجع نفسه، ص٣٢.
٩٢  الجابري: العقل السياسي، م. س، ص٣٤.
٩٣  الجابري: العقل السياسي العربي، م. س، ص٤٨-٤٩-٥٠.
٩٤  انظر تفاصيل هذه الرؤية فيما أورده من أحداث تاريخية حول تلك المحددات، المرجع نفسه.
٩٥  عماد الدين خليل: في منهج التعامل مع التراث، مجلة إسلامية المعرفة، العدد ١٩، السنة الخامسة، ص١١٩-١٢٠.
٩٦  علي القاسمي: مفهوم القطيعة مع التراث في فكر الجابري، مجلة الثقافة المغربية، تصدرها وزارة الثقافة، العدد ٣٥، يناير ٢٠٠١، ص٥١. لمزيد من التفاصيل حول المفهوم انظر: جورج كانغيلهم: دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها، ترجمة: خليل أحمد خليل.
٩٧  لم تكن القطيعة في الفكر الغربي قطيعةً كليَّةً نهائية، فالعودة إلى الدين تنسف مفهوم القطيعة من أساسه، وتعيد مفهوم الاستمرارية إلى الواجهة.
٩٨  الجابري: التراث والحداثة، م. س، ص٢٦٢.
٩٩  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٢١.
١٠٠  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٥٢.
١٠١  انظر المرجع نفسه، ص٢١.
١٠٢  المرجع نفسه، ص٢٠.
١٠٣  انظر المرجع نفسه، ص٢٠.
١٠٤  انظر محمد عابد الجابري: في نقد الحاجة إلى الإصلاح، مركز دراسات الوحدة العربية، ط١، ٢٠٠٥م، ص٢٢٤–٢٢٩.
١٠٥  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٤٠.
١٠٦  انظر عبد المجيد النجار: عن تجربة ابن تومرت الإصلاحية فيه تفاصيل هذه التجربة.
١٠٧  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٤٩.
١٠٨  طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، منشورات جريدة الزمن، العدد ١٣، أبريل ٢٠٠٠م، ص٨٥-٨٦.
١٠٩  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٤٩-٥٠-٥١.
١١٠  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٥١.
١١١  انظر يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان: دراسة مطارحات «نقد العقل العربي» للمفكر المغربي محمد عابد الجابري، أفريقيا الشرق، ط٢، ٢٠٠٩م، ص١٥٤.
١١٢  انظر عبد الإله بلقزيز: أسئلة الفكر العربي المعاصر، السلسلة الشهرية المعرفة للجميع، العدد ٢١، أكتوبر ٢٠٠١م، ص١٠٣.
١١٣  طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، م. س، ص٨٦-٨٧-٨٨.
١١٤  طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، م. س، ص٩٢.
١١٥  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٣١٠.
١١٦  المرجع نفسه، ص٣١٩.
١١٧  المرجع نفسه، ص٣١٩-٣٢٠.
١١٨  عبد الإله بلقزيز: أسئلة الفكر العربي المعاصر، م. س، ص٧٧-٧٨.
١١٩  المرجع نفسه، ص٧٨.
١٢٠  الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، م. س، ص٥٩.
١٢١  المرجع نفسه، ص٥٩.
١٢٢  انظر الجابري: بنية العقل العربي، م. س، ص٣٨٤.
١٢٣  انظر المرجع نفسه، ص٤٩٨.
١٢٤  انظر المرجع نفسه، ص٣٨٤.
١٢٥  انظر المرجع نفسه، ص٣٨٣-٣٨٤.
١٢٦  الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، م. س، ص٦١.
١٢٧  انظر المرجع نفسه، ص٦٢-٦٣.
١٢٨  انظر المرجع نفسه، ص٤٣.
١٢٩  طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط١، ١٩٩٤م، ص٥٥.
١٣٠  يمثل هذا الاتجاه الدكتور طه عبد الرحمن، انظر حوارات من أجل المستقبل، منشورات الزمن، ع١٣، أبريل ٢٠٠٠م، ص٧، كما يمثله أيضًا زملاؤه: وقيدي وكمال عبد اللطيف وأفاية وغيرهم.
١٣١  نذكر على سبيل المثال كتاب «في مذبحة التراث»، لجورج طرابيشي.
١٣٢  علا مصطفى أنور: أزمة المنهج في العلوم الإنسانية، ضمن كتاب قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة المنهجية الإسلامية (١٢)، ط١، ١٩٩٦م، ص١٨٨.
١٣٣  عبد الوهاب المسيري: نحو نموذج تفسيري اجتهادي (بدلًا من النموذج الموضوعي المتلقي)، مجلة إسلامية المعرفة، ع١٦ السنة الرابعة، ١٩٩٩م، ص٩٩.
١٣٤  عمر كوش: «أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله»، المركز الثقافي العربي، ط١، ٢٠٠٢م، ص٧.
١٣٥  انظر الجابري: مقدمة نحن والتراث، والمدخل المنهجي في كتاب «العقل السياسي العربي».
١٣٦  عبد الله العروي: مقدمة مفهوم العقل، مقالة في المفارقات.
١٣٧  حسين مروة: مقدمة الجزء الأول من كتاب النزعات المادية.
١٣٨  طيب تزيني: مقدمة مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، وكتاب على طريق الوضوح المنهجي.
١٣٩  أحمد بوحسن: في المناهج النقدية المعاصرة، مكتبة دار الأمان للنشر والتوزيع، ط١، ٢٠٠٤م، ص٧٩.
١٤٠  الجابري: العقل السياسي، م. س، ص١٣.
١٤١  طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط١، ١٩٩٤م، ص٤٢.
١٤٢  المرجع نفسه، ص٤٢، انظر بتوسع شرح هذه الآليات في الصفحات الآتية من ص٤٢ إلى ٥٦.
١٤٣  طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، م. س، ص٢٥.
١٤٤  المرجع نفسه، ص٢٥.
١٤٥  طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، م. س، ص٢٧.
١٤٦  عمر كوش: أقلمة المفاهيم، م. س، ص٨٠.
١٤٧  انظر عبد الإله بلقزيز: أسئلة الفكر العربي المعاصر، م. س، ص٦٦-٦٧.
١٤٨  انظر طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، م. س، ص٢٦.
١٤٩  المرجع نفسه، ص٢٦.
١٥٠  انظر طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، م. س، ص٥٥.
١٥١  جورج طرابيشي: نظرية العقل، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط٣، ٢٠٠٨، ص١٩-٢٠.
١٥٢  الجابري: تكوين العقل العربي، م. س، ص٢٠.
١٥٣  انظر الجابري: تكوين العقل العربي، م. س، ص٢١.
١٥٤  المرجع نفسه، ص٢٥.
١٥٥  انظر عبد الإله بلقزيز: أسئلة الفكر العربي المعاصر، م. س، ص٧٧-٧٨.
١٥٦  الجابري: تكوين العقل العربي، م. س، ص٣٠.
١٥٧  المرجع نفسه، ص٢٩-٣٠.
١٥٨  المرجع نفسه، ص٣٢.
١٥٩  المرجع نفسه، ص٣٥.
١٦٠  طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، م. س، ص٣٤-٣٥.
١٦١  طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، م. س، ص٢١.
١٦٢  انظر الجابري: التراث والحداثة، م. س، ص٣٢.
١٦٣  انظر عبد الوهاب المسيري: نحو نموذج تفسيري اجتهادي، م. س، ص٩٤.
١٦٤  المرجع نفسه، ص٩٩.
١٦٥  الجابري: نحن والتراث، م. س، ص٢١.
١٦٦  المرجع نفسه، ص٢١.
١٦٧  خالد محمد سليمان: المناهج النوعية والكمية، قراءة أولية في المنطلقات المعرفية، مجلة إسلامية المعرفة، السنة التاسعة، العدد ٣٣-٣٤، صيف وخريف ٢٠٠٣م، ص١٨٩.
١٦٨  انظر عبد الوهاب المسيري: نحو نموذج تفسيري اجتهادي، م. س، ص١٠٠.
١٦٩  عنوان كتاب لرجاء غارودي، البنيوية فلسفة موت الإنسان.
١٧٠  طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، م. س، ص٢٢.
١٧١  عبد الوهاب المسيري: نحو نموذج تفسيري اجتهادي، م. س، ص١٠٢، وللمزيد من التفاصيل انظر ص١٠٢ إلى ص١٠٦، حول عوامل إخفاق هذا النموذج التفسيري الذي اتسم حسب المسيري بثلاث خواص: «التراكم» و«الانغلاق» و«الاختزال».
١٧٢  خالد محمد سليمان: المناهج النوعية والكمية، م. س، ص١٨٢.
١٧٣  لؤي عبد الباقي: «قراءة نقدية للمفاهيم الحديثة في الخطاب العربي المعاصر: أيديولوجيا الحداثة وثقافة فكر المستعار»، موقع الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب. www.wata.cc تاريخ الزيارة ١٥ / ١٢ / ٢٠١١م.
١٧٤  لؤي عبد الباقي: قراءة نقدية للمفاهيم الحديثة، م. س.
١٧٥  المرجع نفسه.
١٧٦  مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر دمشق، سوريا، ط١، ١٩٨٨م، ص٦٧.
١٧٧  العقلانية والمشروع العربي: نقد العقل العربي في مشروع الجابري، مجلة الوحدة العربية، السنة الثالثة، العدد ٢٦-٢٧، ١٩٨٦م، ص١٣٧-١٣٨.
١٧٨  العقلانية والمشروع العربي: م. س، ص١٣٩.
١٧٩  انظر نقد العقل العربي في مشروع الجابري، م. س، ص١٤٣.
١٨٠  المرجع نفسه، ص٣١٨.
١٨١  الجابري: بنية العقل العربي، م. س، ص٥٧٢-٥٧٣.
١٨٢  انظر كتبه «الخطاب العربي المعاصر» و«المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية» و«إشكاليات الفكر العربي المعاصر»، عبرت كلها عن تناقضات هذا الفكر، وإن كان الجابري يفسرها تفسيرات قد نتفق معه في بعضها، لكن المشكلة في هذا الخطاب تتجاوز ما أعلنه إلى غياب إطار مرجعي ينطلق منه هذا الخطاب، ويؤسس عليه مفاهيمه ورؤاه الآنية والاستشرافية.
١٨٣  هيام عبد زيد عطية عريعر: الخطاب النقدي العربي المعاصر وعَلاقته بمناهج النقد الغربي، دار تموز، دمشق، ط١، ٢٠١٢م، ص٤٣٩.
١٨٤  هيام عبد زيد عطية عريعر: الخطاب النقدي العربي المعاصر، م. س، ص٤٨١.
١٨٥  يمكن الرجوع في هذا السياق إلى كتابات سعد البازعي «الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف»، عبد الله إبراهيم «الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة»، عبد العزيز حمودة «المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك» و«المرايا المقعرة: نحو نظرية نقدية عربية»، مشروع عبد الوهاب المسيري ثم مشروع طه عبد الرحمن، سعت إلى إدراك تحيُّزات المناهج الغربية النقدية، في مقابل ضعف الخطاب النقدي العربي في نحت مصطلحه الخاص، والمنسجم مع المُناخ الثقافي العربي وخصوصياته وسيكولوجية الإنسان العربي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤