الفصل الثاني

المدرسة العلمانية في الفكر العربي المعاصر: الأصول المرجعية والمنهجية

ننطلق في هذا العمل من رؤية مؤسسة وبانية من خلال أصولنا المعرفية والمنهجية، ومن رؤية واقعية تستكشف حاجيَّات الأمة، وتتجاوز الاختلالات التي رافقت هذا الاتجاه في فكرنا العربي المعاصر: مرجعياته التأسيسية، ومُحدِّداته المنهجية، واختبار مدى فعالية المفهوم في واقع الأمة وإمكانيات استمراره أو تجاوزه أو البحث عن طريق ثالث يتيح فرص الحوار والنقد والبناء، ومن منطلق يستوعب التحديات الراهنة التي تواجهها خصوصًا بعد مرحلة ما سُمِّي بالربيع الديمقراطي، والإقرار بالتعددية الفكرية والثقافية ضمن الوحدة الجامعة، ما دام الوضع الحالي لا يقبل غير هذه القسمة، فتجديد المفاهيم وتعبئتها بمضامين جديدة أصبح عند كثير من النُّخَب العربية من الخيارات الممكنة في إعادة تدبير إشكالات المرحلة وتدويرها.

أعادت تحولات المنطقة العربية شبكة من المفاهيم إلى درجة الصفر، على مستوى الحوار الفكري والسياسي، مما فتح وسيفتح مساحات أوسع بين النخب للبحث في العَلاقة الطبيعية بين المفاهيم المتداولة في حقل الفكر العربي المعاصر، ومدى مصداقيتها الإجرائية، وعن عَلاقتها بمفاهيم الأمة.

من هذه المفاهيم الإشكالية: إشكالية الدين والدولة، الدين والسياسة، الدولة الدينية أم الدولة المدنية العَلمانية، الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، إشكالية المعرفة والقيم الدينية، الثابت والمتحول في هذه المعرفة، المرجعية الدينية والزمانية، المطلق والنسبي.

ثنائيات إشكالية بدأت تأخذ حظها في النقاش المعرفي من جديد، وهو ما يستدعي فتح ملفات علمية بعيدة عن التحيزات الأيديولوجية، والنظر إلى أفق أوسع يرتبط بشكل أدق بمصير المنطقة العربية الإسلامية، والعوامل المنتجة للنهضة الحقيقية بدل السير في دروب مظلمة.

أنا لست ضد التعدُّد المذهبي الأيديولوجي والفكري المنهجي، لكن ما يهمنا هو الحكم على خلاصات كل شكل من أشكال هذا التعدد ما قَدَّم وما أخَّرَ لهذا المجتمع، فالأفق والمآل هو المعيار الحاسم لكل اتجاه فكري فلسفي أريد أن يساهم في معالجة إشكالات المجتمع العربي، في الوقت ذاته إقصاء أي تيار يمكن أن يساهم في البناء من مرجعية مغايرة يساهم في تَكرار تجارب الماضي القريب، ويكرس مظاهر العنف الفكري ويعمق جراحات الأمة. إنما السبيل الأقرب إلى الصواب البحث عن مناطق توحد هذه الطاقات لتساهم في نحت مشروع عربي إسلامي حضاري يتجاوز فجوات الجيل الأول والثاني.

إن المقصد الذي انتدبنا أنفسنا إليه في هذا الفصل يتوخى فتح حوار معرفي مع أنموذج فكري عُرف عنه الالتزام الصارم بقيم العَلْمَنة في المجال المعرفي، ومن خلال الدعوة المتكررة إلى تبنِّي هذا النموذج بكل آلياته المنهجية والمعرفية؛ لأنه ثورة عقلية تنويرية، لا مستقبل للعرب والمسلمين إلا بالانخراط الطوعي فيه، ساعتها «سيتم الاعتراف بنا في هذا العالم كأمة وحضارة وشعوب حين نناضل من أجل عالم علماني يعترف فيه الجميع بالجميع بمعزل عن فرضيات الدين والمعتقد. وسنتمكن من تحرير الأرض والوعي والحضارة من الاحتلال والاستيطان، ومن تحصين مجتمعاتنا من الطائفية والفتنة يوم نناضل من أجل الحريات الفردية والكرامة الإنسانية والمساواة بين بني البشر، ونقاوم من أجل قيم التنوير والحداثة والعقلانية والعلمانية، والتي هي غنيمتنا المنسية منذ معاركنا الوطنية ضد الاستعمار»،١ ليعود من جديد من بوابة الفكر والثقافة العلمانية، مهما حاول دعاتها التحرُّر الكاذب من أسطورة النموذج الغربي، والارتباط بالوطن.
الإصرار على هذه السبيل إصرار على التقليد والتبعية وقلب للحقائق والمعطيات، إنه أنموذج المفكر الجزائري الأصل الفرنسي الجنسية محمد أركون الذي تحمَّل عناء النضال الفلسفي المُشبَّع بالقيم العلمانية الفَرنسية في نقد العقل الإسلامي، من خلال الدعوة إلى فك الارتباط بأصول هذا العقل، وتحريره من «أسطوراته التاريخية»، ومعانقة أسباب التحرر التي تتيحها العقلانية الحداثية الغربية، التي يرى فيها منجاة «العرب من الخسران والضياع والتخلُّف عن ركب الأمم والتقدم»،٢ ومن خلال أدوات تأويلية للتراث العربي الإسلامي (النسبي والمطلق). أو من خلال استيراد ما سُمِّي بعلم التأويل «الهرمينوطيقا» في قراءة النصوص، وهي ظاهرة فكرية منهجية بدأت تأخذ حيِّزًا مقدرًا في مناهج قراءة النصوص المقدسة أو النسبية على حدٍّ سواء.

ويهمنا في هذا الفصل أن نعالج موقف أركون وجهوده في بناء نموذجه المعرفي والمنهجي الذي يعتبره المدخل الطبيعي في تحقيق التنوير العقلاني الإسلامي بعيدًا عن المنهجية الإسلامية، المنبثقة من أصولها التأسيسية (الوحي) التي اعتبرها مسئولة إلى حد كبير عن تشظي العقل الإسلامي وتخلُّفه عن فتوحات الحداثة العقلية، من خلال ثلاثة مباحث أساسية نراها تجيب عن جزء مهم من الإشكالات المنهجية في الفكر العلماني العربي المعاصر.

(١) المبحث الأول: أصول ومرجعية البناء المنهجي في الفكر العلماني٣ العربي المعاصر

في الوقت الذي سعى فيه الجابري من خلال مشروعه إلى تبرير اختياراته المعرفية والمنهجية في تشريح مكونات العقلية العربية الإسلامية، من خلال المكونات القومية للذات العربية مع تلفيقية مبررة بينها وبين إنجازات الغير، والبحث في التراث عن مُسوِّغات لهذه التوجهات، إن كنا قد اعترفنا بفضلها في إثارة إشكالات حقيقية مرتبطة بعَلاقة العقل العربي بتراثه حين حاولت أن تنقُله من مجرد موضوع إلى إشكالية معرفية ومنهجية، في وقت حسمت اتجاهات أخرى الموضوع واتجهت نحو الاستلاب الثقافي والمنهجي رغم مرارة هذا القرار وتبعيته، نجد المدرسة العَلمانية في الفكر العربي المعاصر — خصوصًا مع محمد أركون — قد نحت المنحى ذاته، حين سعت إلى تثبيت منهجية العلوم الإنسانية في نسختها الغربية لتُعمِّق هي الأخرى من جراحات وآلام العقل العربي، وتوسع الهُوَّة بينه وبين مرجعياته، بدل تقريبها منطلقة من أرضية الحداثة وعقيدتها المنهجية.

فخاضت معركة المفاهيم مع ثقافة الأمة وأصولها المرجعية، معتبرة المعركة على مستوى العلوم الإنسانية المدخل الأساس لعلمنة المجتمع العربي الإسلامي، ومن خلال الوصل بين لحظات انطلاق الحداثة الغربية وثوراتها المنهجية الفكرية، حين قوَّضَت أُسس التفكير الكنسي الديني وفكَّكَت مؤسساته، وأعلنت ميلاد نمط جديد على مستوى آليات التحليل والنقد، وبين اللحظة التاريخية للعقل العربي الإسلامي لتحريره من كل القيود العقدية والتاريخية التي حالت — حسب تحليلها — دون تحقيق الإنجاز المطلوب.

لعل أبرز معالم الحضارة الغربية الحديثة توجُّهها العلماني الداعي إلى فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية، بل «يرتبط بروز الفكر العلماني الذي تبنَّاه مفكرو الأنوار الغربيين بإدراك المفكرِ الغربيِّ الحاجةَ إلى الفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية في المجتمع الغربي لتحقيق السلام الداخلي، وتطوير مجتمع سياسي متعدد الأديان يسمح بتقويم الأفراد بناءً على إنجازاتهم الفردية ومساهماتهم في تطوير المجتمع السياسي، بدلًا من التعويل على انتماءاتهم الدينية؛ لهذا الغرض اقتنع قادة المجتمع الغربي ومفكروه أن لا طريق لإحلال السلام بين الفرق الدينية المتصارعة ما لم يقبل الجميع بالاحتكام إلى عدد من المبادئ السياسية المشتركة التي تسمح بإحقاق الحقوق وتوفير العدل، وتحول بين سيطرة فرقة دينية محددة على السلطة، ومن ثم استخدامها لفرض رؤية ضيقة على الجميع. وهكذا لاقت فكرة الدولة العلمانية قَبولًا واسعًا في المجتمعات الغربية الناهضة بدءًا من القرن الخامس عشر الميلادي.»٤
لكنه فصل معكوس تمامًا للعَلاقة بين السلطتين، ففي الوقت الذي كانت المعادلة تنطلق من السلطة الدينية نحو السلطة السياسية مستغلة نفوذها، أصبحت المعادلة عكسية، من السلطة السياسية إلى السلطة الدينية، فظلت العَلاقة بين السلطتين عَلاقة مدٍّ وجزر حسب السياقات التاريخية والأهداف الموجهة لكل واحدة منها؛ لهذا ﻓ «إن تلازم الوعي الديني والنهوض الحضاري حقيقة تاريخية وشرط موضوعي. فالحضارات الإنسانية عبر التاريخ تعود في جذورها إلى وعي ديني ورؤية كونية متعالية، بدءًا من حضارات الهلال الخصيب ومصر الفِرعَونية، ومرورًا بالحضارات الصينية والهندية والفارسية والإغريقية والرومانية، وانتهاءً بالحضارتين الإسلامية والغربية. ولقد وثَّق المؤرخ الغربي الشهير أرنولد توينبي العَلاقة بين الدين والحضارة وأظهر في كتابه دراسة الحضارة أن العَلاقة بين الدين والحضارة عَلاقة المقدمة بنتيجتها».٥
السياقات التاريخية التي أفرزت الصراع بين الكنيسة والفكر الغربي الحر ليست قاعدة ثابتة في الحكم وتعميم النتائج، فما قام به بعض مفكري الغرب من «تسفيه للإله، فلا يمكن بحال أن يعزل ذلك عن جو التغميض الديني، وما ارتكبت بعض الأنسقة الكنسية من أخطاء، وما مارسته من قهر أو تبنته من شكليات، وبالتالي لا يمكن أخذ هؤلاء المفكرين المناهضين لإله الكنيسة، والمعبد كقاعدة في تقييم كل الأديان وعبر كل العصور وفي كل المجتمعات»؛٦ لأن التعميم تعمية وتعطيل لأركان المنهج السليم الذي يُقرُّ بالاختلاف والتعدد في السياقات.

(١-١) الفكر العلماني العربي المعاصر ومراحل إعادة بناء المفهوم

(أ) الاتجاه الإسقاطي الخارجي

ونعني به الاتجاه الذي سار إلى تبنِّي تاريخ الغرب والانخراط في مساره وتفاصيله وإسقاطه على تجربة الأمة، وانتهى إلى تبنِّي تلك الخلاصات التي انتهى إليها الفكر الغربي في صراعه مع الكنيسة والاجتهاد في تنزيلها على واقع اجتماعي وفكري، يختلف أشد الاختلاف عن موطن النشأة، وسلك في ذلك كل الوسائل الممكنة والمتاحة، فحاول افتعال الصراع داخل السياق العام لثقافة الأمة والبحث عن تناقضاتها بين الجوانب «العقلانية» و«اللاعقلانية».

ومحاولة فك ذلك الارتباط الوثيق وتلك الجدلية الطبيعية بين الوحي والعقل والواقع بأدوات منهجية أصبغ عليها صبغة «العلمية» مشبعة بعقائد أصحابها ومرتبطة بمعادلات اجتماعية نفسية يصعب في غالب الأحيان الفصل بينها إذا لم يؤتَ الإنسان سَعةً من العلم وبسطة في الفَهْم، فاستند إلى أطروحة مُفادها أن تحقيق حُلم النهضة والتحديث والتقدم إنما يتوقف بشكل كبير على استصحاب التجربة الغربية المسيحية ويتأسس على ما فعلته أوروبا مع الفكر الكنسي، إذ لم تتقدم وتتحرر إلا بعزلها لهذا الفكر وأدواته التفسيرية الخاطئة. والنهضة العربية الفعلية — إذا ما أُريدَ لها أن تحصل — تتطلب الاتصال بهذه المرحلة من الفكر الغربي وتطبيقاته المنهجية.٧

وهو الشرط الذي وضعه هذا الاتجاه للخروج مما أسماه بالمرحلة الأرثوذكسية الجامدة، فحاولوا معارضة الإسلام ومنهجه بنفس المركبات الذهنية التي واجه بها رواد الإصلاح في الغرب الفكر الكنسي.

وبهذا «يجعلون المعركة الدائرة هنا امتدادًا للمعركة التي دارت هناك، ومن ثم تقرر النتيجة في هذه المعركة كما تقررت في تلك.»٨ وهي إقصاء الإسلام من المجال الحياتي والمؤسسات المجتمعية واعتباره عائقًا معرفيًّا، وسلطة ضاغطة على العقل تُكبِّله بتوجيهاتها الإيمانية «الخرافية»، وتحول بينه وبين الإبداع الخلاق والإنتاج الحضاري، فيحاولون «فرض التطابق على غير التطابق وفرض التشابه على غير التشابه، ويحولون البلاد العربية الإسلامية إلى مسرح يكرر أداء تمثيلية جرت وقائعها في بلاد أخرى وضمن ظروف ومعطيات مختلفة (…) أما ما هو أنكى فكونها تمثيلية فاشلة في محتواها.»٩
فعلى غرار «تجربة المناهج الغربية في نضالها المرير ضد التفكير الديني قام الاتجاه الوضعي في بلادنا ليبنيَ أفكاره على أساسها متجاهلًا الفروق التاريخية والثقافية الموجودة بين البنية الفكرية المسيحية وبين البنية الإسلامية.»١٠

وظهرت دعوة هذا الاتجاه قوية في تبنِّي مقولات المناهج الغربية وامتدت لتشمل كل ميادين البحث: الإنسانية، والاجتماعية، والنفسية، والاقتصادية … فجعلوا التجربتين المسيحية والإسلامية تشتركان على مستوى المقدمات المعرفية، وتصوراتها لكثير من الحقائق المعرفية والكونية والإنسانية، واعتمادهما على المنحى نفسه في التحليل؛ لهذا نجد عند هذا الاتجاه إصرارًا غير مسبوق في الدعوة إلى قراءة مقدمات انتقال أوروبا من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، كما حاول افتعال الصراع بين التحليل العقلي العلمي والتفسير الديني في ثقافة الأمة، وبين مدارسها الفكرية.

فالذي وقع في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية إنما هو نوع من الثراء الفكري فالصراع ليس «صراعًا بين عقل ولا عقل، وإنما هو صراع فيما بين مقولات يحمل كل منها عقلًا محددًا، ومن ثم يمكن تحديد الخلافات الجوهرية بين المقولات (…) ولهذا فمن الخطأ أن تسحب التجربة التاريخية الأوروبية فيما يتعلق بالصراع بين الكنيسة وخصومها على ما يجري من صراع في ساحتنا، فالسمات هنا مختلفة في حالة المتصارعين حين تقارن بالسمات التي مثلت المتصارعين هناك.»١١ ﻓ «العقل الذي يعتمد على منهج القياس كأسلوب وحيد للمعرفة والمحاجَّة يتحوَّل بين الأشلاء الناتجة عن عملية التفكيك. لا ثقافة العرب ولا حضارة الغرب تدخل في وعيه كعملية متكاملة أو كسيرورة تاريخية، كماضٍ وكمستقبل. إنها تُلغي التاريخ والمستقبل، لا ترى من تراث الشرق أو الغرب إلا لحظات متقطعة من قبلها ومما يليها، فهي لحظات ثابتة راكدة راهنة. الحاضر وحده هو الزمن بالنسبة لهذا الوعي.»١٢

وقد مثَّل هذه المرحلة من التفكير أغلب اتجاهات الفكر العربي المعاصر من القوميين واليساريين والعلمانيين، قبل أن تحدث بعض الارتدادات الإيجابية النسبية من هذه الاتجاهات، فالقومية العربية كانت في بداية تشكُّلها تيَّارًا علمانيًّا قبل أن تعدل من مفردات خطابها وتنقحها من بعض المشوشات وترتبط بالماضي العربي، وتاريخه ورموزه مع إيمانها بضرورة الاستفادة من الآخر، وفق هذه المُحدِّدات (اللغة، التاريخ، المصير المشترك) مع ارتباط محتشم بالدين أثناء مراجعات هذا التيار لأطروحاته تعتبره ضمير الأمة الجمعي، لكن دون أن يكون عنصرًا فاعلًا في النهضة والتحديث.

أما تيار الاستقلال عن التصوُّرات الدينية (الإسلام) وتكريس قطيعة نهائية مع التفسيرات العقائدية ومفارقات العقل السلفي. فتيار اليسار الماركسي العربي الراديكالي الذي يرى في الانخراط الكلي في الآخر، وفي مشروعه ومدارسه من خلال تبنِّي المدرسة الماركسية بأدواتها ومفاهيمها مدخلًا أساسيًّا في معالجة مشكلات العجز، والتأخُّر التاريخي كمنهج مطبق لا كمنهج لتطبيق — بتعبير الجابري.

أما الوجه الآخر لهذا التيار الإسقاطي الذي جعلناه أنموذجًا للاشتغال، فالأمر يتعلق بالمفكر الجزائري محمد أركون من خلال مشروعه الفكري (نقد العقل الإسلامي) والدعوة إلى علمنة المجتمعات العربية الإسلامية.

مشروع تؤطره مجموعة من الهواجس والإشكالات منذ البداية هي منطلقه ومرتكزه في إنجاز ما أسماه ﺑ «إحياء الاجتهاد في الفكر الإسلامي المعاصر» وتأسيس تاريخي منفتح وتطبيقي لهذا الفكر متجاوزًا كل الحدود والحواجز التي فرضتها العقلية الوثوقية و«منفتح على علوم الإنسان والمجتمع ومناهجها وتساؤلاتها كما هي ممارسة عليه اليوم في الغرب، وتطبيق عملي في نفس حركة البحث؛ لأنه يهدف إلى تلبية حاجيَّات وآمال الفكر الإسلامي المعاصر وسد نواقصه منذ أن اضطُرَّ هذا الفكر لمواجهة الحداثة المادية والعقلية.»١٣
فقد أراد — كما يؤكد دائمًا — أن «ينقض أخطر مشكلة تواجه العرب والمسلمين عمومًا، ألا وهي مشكلة «الحداثة العقلية والفكرية». إنها مشكلة دخول العصر بكل ما للكلمة من معنًى، وبكل ما يتضمنه ذلك من إشكاليات وعقبات وآلام ومخاضات.»١٤ هذا هو الأفق المعرفي الذي خطط له أركون وسعى إلى تثبيت أركانه في الساحة العربية والإسلامية، وقد ظلَّ هاجس العلمنة واحدًا من الإشكالات والأسئلة الكبرى التي شغلت هذا الفكر واتخذ مستويات متعددة وتعبيرات مختلفة حسب تعدُّد السياقات.
فارتبط بإشكالات مفاهيمية كالديمقراطية والتقدم والحداثة، لكن قبل الشروع في رِهانات العلمنة مع أركون نقف عند لحظاتها في الفكر العربي المعاصر، حددها الأستاذ كمال عبد اللطيف في ثلاث لحظات أساسية.١٥

اللحظة الأولى: دولة الإسلام ودولة العلم والمدنية

ويمثلها الحوار الذي دار بين محمد عبده وفرح أنطون على صفحات «الجامعة» و«المنار» حول تاريخ الإسلام والمسيحية، حيث دافع عن ضرورة الفصل بين متطلبات الدين ومتطلبات الدنيا بالإضافة إلى تلويحه بشعارات التسامح والمواطنة. ويرى أن الخلاصة الأساسية لهذا الجدال تتجلى في المعالجة المباشرة والصريحة لمسألة العلمنة في الخطاب العربي المعاصر، وإعادة بناء المفهوم والتفكير فيه من جديد وفق معطيات جديدة.

اللحظة الثانية: نحو تأريخ وضعي للسلطة السياسية في الإسلام

ويمثل هذه المرحلة علي عبد الرازق (١٨٨٨–١٩٦٦م) بنصه الشهير «الإسلام وأصول الحكم» ١٩٢٥م الذي يعرض فيه موقفًا نقديًّا من مسألة إحياء الخلافة الإسلامية. وهذه اللحظة امتداد لجدل اللحظة الأولى: أصلها وتطورها. كما أقام تمييزًا فاصلًا بين النبوة والممارسة السياسية، ويدافع عن ضرورة الاحتكام في مجال السياسة إلى ما يسميه بأحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة.

ويدافع كمال عبد اللطيف عن هذه اللحظات التاريخية وعن الاختيارات التي دافع عنها فرح أنطون بحماسة كبيرة وعقلية أنوارية ورجحان كثير من جوانب البرهنة التاريخية لعلي عبد الرزاق، كما مثلت هذه المرحلة اتجاهين اثنين: الاتجاه الليبرالي مع فرح أنطون، الذي يرجع له الفضل — في رأيه — إلى إدخال مفهوم الخلاص الأنواري الوضعي لتجاوز الخلاص المسيحي الأخروي بل الخلاص الديني على وجه العموم، بهذه التسوية يتكلم كمال عبد اللطيف، ثم التجربة الكمالية التي قدمت — في نظره — كثيرًا من المعطيات الواقعية لفَهْم نص الإسلام وأصول الحكم.

اللحظة الثالثة: إعادة بناء المفهوم

وهنا المحاولات والمساهمات التي حاولت داخل الفكر العربي الإسلامي المعاصر أن تؤسس لهذا الموضوع من داخل البنية الفكرية للأمة، باعتباره موضوعًا داخليًّا وانشغالات نابعة من واقعية وراهنية الواقع العربي والإصرار على اعتبار العلمانية أساس الوحي الإسلامي وليست ظاهرة طارئة، وأن التجربة التاريخية تقدم براهين على أصالة هذا المفهوم، وتبرز في هذا الاتجاه بشكل قوي اختيارات محمد أركون أنموذجًا لإعادة بناء هذا المفهوم وتركيبه في إطار أفق فلسفي تاريخي جديد داخل دائرة أوسع يتجاوز الدائرة السياسية، أفق ساهمت فيه معه ثلة من المفكرين العرب على اختلاف أطرهم المرجعية واختياراتهم السياسية لكن يتسلحون بنفس الآليات المعرفية والتاريخية، أمثال العروي والجابري وحسن حنفي وحليم بركات وعبد الإله بلقزيز.١٦ فكيف ينظر أركون إلى هذا الموضوع؟ وما هي المقاربات التي يقدمها، ما هي رِهاناته وأفقه؟ أسئلة نحاول أن نعالجها في هذا المطلب.

(١-٢) أركون ورِهانات العلمنة في الفكر العربي المعاصر

في سياق إعادة بناء مفهوم العلمنة يقدم أركون مفاهيم جديدة وأوسع مما هو متداول عند أغلب الاتجاهات العلمانية في الفكر العربي المعاصر، من خلال تحطيم منطق الثنائيات وتوسيع مجال التفكير فيها، ومن هنا «الحاجة إلى ضرورة إعادة النظر في المفاهيم التي ترتبط بهذا المفهوم، والتي غالبًا ما ترتب في إطار تقابلات ثنائية حدية وحادة من قبيل حق ديني، وحق طبيعي، وعقلي، وروحي، وعقلاني، وخيالي. إن تفكيك المفاهيم المذكورة داخل بنيتها الروحية المتقاطعة يتيح إمكانية بناء وتأمل جديد، وبالتالي إمكانية بلورة نتائج جديدة خاصة وأن المسيحية لم تنقرض، وأن الإسلام يعرف انتفاضات متشنجة وحادة هنا وهناك.»١٧
هكذا فكر أركون في الموضوع وانتقد المداخل التي تم اعتمادها في مقاربة إشكالات العرب ومخاضاتهم المعاصرة. أما المدخل والمقاربة الأركونية المفضلة فتتجاوز «مجرد التفريق البسيط للمفهوم بين الشئون الروحية والشئون الزمنية»١٨ إلى تأسيس مفهوم جديد غير مفكر فيه، وهو المعنى الفلسفي والمعرفي والإيجابي، من خلال علمنة العقل العربي الإسلامي الذي يسيطر عليه البيان والوجدان، وإنتاج عقل قادر على المساءلة والنقد، فهي موقف منفتح للروح إزاء قضايا المعرفة وقضايا المجتمع، هذا الموقف يتعارض مع عقل أبدي خالد منسجم تمامًا بشكل مسبق مع تعاليم الوحي الجامع، «عقل يبدو متعاليًا وخاضعًا لتحديدات كلام الله المعنوية وإكراهاته في آنٍ معًا»،١٩ ويقدم مقاربات للمفهوم تتركز على الحاجة إلى الفهم ومواجهة كل المطلقات والقيود التي تُحجِّم العقل والإنسان عن الإبداع.
فالعلمنة كما يفهمها «تتركز في مجابهة السلطات الدينية التي تخنق حرية التفكير في الإنسان ووسائل تحقيق هذه الحرية (…) ولهذا فإن مهامها في إلحاحها الشديد على الفَهْم والنقد داخل توتُّر عام في الإنسان وبمواجهة «ضابط» ما موجود دائمًا، وضرورة أن يوجد سواء كنا نعيش في مجتمع الدولة-الكنسية أم في مجتمع الدولة القومية الحداثية.»٢٠ إنه التحلُّل الكامل من كل ضابط قيمي يضبط سلوك الإنسان، ويُرشد تصرُّفه والتمرد على الأخلاق والعقائد والدعوة إلى الاستقلال العقلي، وهذا ما يتطلب في رأيه افتتاحًا باستمرار في اتجاه الشك المستمر، يشبه الشك الذي افتتحه كل من ماركس ونيتشه في القرن التاسع عشر اتجاه المسيحية «وهذا النقد قابل تمامًا للتطبيق على الإسلام»،٢١ فدفع بكل مقولاته إلى نهايتها، كالوفاء بحقوق العقل كاملة غير منقوصة، إذ ليس هناك حقيقة خارج هذا العقل.
لهذا فالعلمنة عنده «قفزة نوعية في تاريخ المجتمعات البشرية، فهي التي نقلت البشرية من الفضاء العقلي للقرون الوسطى إلى الفضاء العقلي للتقدم والحداثة.»٢٢ هذا صحيح بالنسبة لأوروبا، أما التعميم كمقياس غير أخلاقي فلم تكن البشرية كلها تشترك في المقدمات المعرفية، وليست على خطة تاريخية واحدة، لكن آليات الاشتغال وأفقه المعرفي كانت عاملًا أساسيًّا في هذه التحديدات والاستنتاجات.
ورِهان أركون في أفق العلمنة هو الانخراط الكلي في الحداثة، ويطرح السؤال: من أين نبدأ في دراسة هذا الموضوع، من الإسلام أم من الحداثة؟ فيجيب: سوف نبدأ وبالضرورة من الحداثة، لأنها خياره الأول والأخير ولأننا — يقول: «غاطسون ومنغمسون في المُناخ الذي خلقته الحداثة.»٢٣
أما الإسلام فلا «يمكن لأي شخص عاقل أن يقول إنه يمثل حاليًّا الحداثة»؛٢٤ لأنه أصبح يمثل نوعًا من التقليد والتراث، ومن تراكم المعارف والمواقف الثقافية المكرورة، ولا يقوى على تحريك التاريخ الذي حركه لحظة انبثاقه الأول، فالإسلام في «زمن النبي ولحظة انبثاق الخطاب القرآني كان يمثل تغيرًا، بل وتغيرًا جذريًّا بالقياس إلى ما قبله، وكان يمثل حركة تاريخية مندفعة بكل قوة وانطلاق، وعلى الأصعدة كافة.»٢٥ وكان «يمثل لحظة حداثة حقيقية لا شك فيها، أي لحظة تحريك وتغيير لعجلة التاريخ.»٢٦
لكن لما «ترسَّخت الدولة الإسلامية (…) تم تشكيل — تدريجيًّا — فكْرٍ ثابت تحوَّل بالتدرج إلى أرثوذكسية؛ أي تحول من طاقة تغيرية انبثاقية إلى تصور ثابت وثبوتي للحقيقة، إلى تصور ملجوم ومسجون للحقيقة»،٢٧ يمنع الدخول في المساءلة والنقد، ويضع حواجز المرور إلى عالم ظلَّ في رأيه غير مفكر فيه داخل هذه الثقافة، إنه عالم الغيب.

فهو يصر على اختياراته الفكرية لإنجاز هذه المهام من خلال الاستعانة بمنجزات العلوم الإنسانية، والفتوحات التي دشَّنها المثقفون الفَرنسيون، أمثال: فوكو ورولان بارت وغريماس وبيير بورديو وجورج بالاندييه واعتناق الإبستيمولوجية الجديدة، التي لا تميز بين إنسان وآخر بسبب العرق أو الدين أو بين المجتمعات البشرية أمام مناهج العلوم الإنسانية ونظرتها المنفتحة إلى أبعد الحدود.

ولهذا السبب يرى أننا «مجبرون منهجيًّا على الانطلاق من ساحة الحداثة العقلية والفكرية؛ لأن الحداثة أضافت مشاكل جديدة لم تكن تُطرح سابقًا وافتتحت منهجيات جديدة تتيح لنا توسيع حقل المعرفة دون إدخال يقينيات دوغماية تعسفية، هذا هو الشيء الجديد فعلًا، وهنا يكمن جوهر الحداثة»،٢٨ حداثة الشك الشامل والقطيعة الكلية مع مقومات الذات، والانغماس في الآخر وتراثه.
ويميز أركون بين الحداثة والتحديث؛ لأنهما مصطلحان غير متطابقين، لا يدلان على الشيء نفسه. «فالحداثة هي موقف للروح أمام مشكلة المعرفة، إنها موقف للروح أمام كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل إلى معرفة ملموسة للواقع. أما التحديث فهو مجرد إدخال للتقنية والمخترعات الحديثة الأوروبية الاستهلاكية وإجراء تحديث شكلي أو خارجي لا يرافقه أي تغيُّر جذري في موقف المسلم للكون والعالم.»٢٩
وينتقد بشدة الاتجاهات النقدية في الفكر العربي المعاصر، التي عجزَت عن إدخال تغييرات جذرية في موقف المسلم حين فشلت في إنجاز مهمة الشك «المنهجي والعلمي» وزحزحة اليقينيات المنهجية، كما فشلَت كل التجارب العربية والإسلامية مثل نموذج الجزائر، وتجربة شاه إيران؛ لأنها مارست التحديث «دون حداثة عقلية أو فكرية أو ثقافية».٣٠
يطرح أركون مشكلة الحداثة من خلال التاريخ المقارن للثقافات والعقائد والتجارب، أي من خلال التجربة اللاتينية المسيحية فالغربية من جهة، ثم من خلال التجربة العربية الإسلامية،٣١ وارتبط عنده هذا الرِّهان الحداثي العلماني بضرورة الاطلاع ودراسة التاريخ التطوري والتصاعدي لتجربة الحداثة الراهنة في مهدها الأصلي، من خلال مسيرة القرون الأربعة الأخيرة (ق١٦م حتى نهاية ق٢٠م).
وينتقد — كعادته — التيار «التنويري» في العالم العربي الإسلامي بالقصور في فَهْم وهَضْم هذه المسيرة التنويرية الغربية. يقول: «فمعرفة مثقفي عصر (النهضة) العربية والأجيال التي تلتهم حتى الآن بأوروبا وحداثتها كانت على الرغم من فائدتها وإيجابياتها ناقصة ومبتورة، وأحيانًا أخرى مُشوَّهة وغير واقعية على الإطلاق.»٣٢ والسبب في رأيه هو طغيان الأيديولوجيا على مستوى التفسير، والمقاربة لكثير من القضايا العربية، مما حال دون فَهْم موضوعي للذات، ولتجربة الآخر.
ومشروع العلمنة عند أركون في المجتمعات العربية لا يمكن «الحديث عنه [القول للكاتب] إذا كنا لا نمتلك نظرة معقولة ومقبولة عن ظاهرة التقديس والعامل الروحي، والمتعالي والأنطولوجيا»،٣٣ ويعول على الحداثة العقلية والفكرية لتأمين مستقبل العلمنة، ورِهانه في ذلك علمنة التعليم وتعميم المنهج المقارن للأديان والمذاهب، يقول: «الحل يكمن في تعليم تاريخ الأديان والأنثربولوجيا الدينية على الطريقة الحديثة، والتوقف كليًّا عن إعطاء حق الكلام في الفضاء المدني العام للمجتمع لذلك الخطاب التقليدي الطائفي الذي يفرض نفسه وكأنه الدين الوحيد.»٣٤
هكذا يصادر الحق في الاختلاف ويناقض مبادئ الحداثة الغربية في نسختها الفَرنسية والاعتراف بالآخر، فتكون العلمنة عنده تشريع اللامعنى واللامنطق واللاواقع، وإقصاء للفكر المخالف، فمعالجة المشاكل الحارقة والصعبة يكون عن طريق المنع من اختيار مذهب ضد آخر أو دين ضد دين آخر.٣٥

فهذه الدعوة غير مقبولة حتى عند أشد المتشددين في الغرب وأكثرهم تطرُّفًا؛ لأن لكل مجتمع تحيزاته كما لكل فرد تحيزاته أيضًا، فلو قيل هذا الكلام في المجتمع اليهودي لكانت الضريبة غالية والمصير مجهولًا، فهذا التصور يُسلم الأمة للرياح العاتية، وللغموض والتطبيع الثقافي والمسخ الحضاري، وإنكارٌ لخصوصياتها الحضارية.

لاستكمال مشروع العلمنة اتجهت جهود أركون إلى نقد المفاهيم وفتح المعركة مع القاموس اللغوي للعقل الإسلامي الذي شكَّله نص الوحي؛ لأن الإبقاء على لغة تاريخية مغلقة لا يقودنا إلى الانخراط الفعلي في الحداثة بقدر ما يخلق حالة من التشويش والإرباك على مستوى الفهم والاستيعاب.

ومن ثم وجب استبدال بمعجم هذه اللغة الإيماني «اللاهوتي الدوغمائي» التقليدي معجمًا قادرًا على استيعاب مفردات الحداثة ومعطيات العصر وإشكالاته، فهذا المعجم يقول: «أصبحت كواهلنا تنوء تحت ثقل أكياسه (…) فهو أثقل من أن تتحمله أو تستطيع حمله بعد الآن.»٣٦ ويميز في هذا بين أنواع الخطابات المتداولة على أساس معايير تبدو غير دقيقة وغير علمية بين الخطاب العلمي الفلسفي والخطاب الديني الذي يستند في أطروحاته إلى مادة لغوية خاصة (العربية) وعلى أسلوب تعبيري بياني ويعتمد الإثارة الخاطفة والضربة البيانية الصاعقة والمجاز الباهر المدهش.»٣٧
مما يجعل التعبير بهذه اللغة عن موضوعات يحاول أركون مقاربتها، مثل موضوع الظاهرة الدينية، يبدو في نظره شديد الصعوبة بالقياس إلى اللغات الأوروبية الحديثة التي سبقتها إلى العلمنة وافتتاح الحداثة، وتخلصت من التأثيرات الدينية والشحنات الدينية التي تضغط على الفكر وتسجنه في سياج ضيق ومحدود؛٣٨ لهذا لا تقوى العربية على إنجاز مهام كبرى في تاريخ العرب والمسلمين كالتي أنجزتها اللغات الأوروبية.
والسبب في رأيه أن هذه اللغات لم ترتبط بنص الإنجيل، ولم تتقيد بمصطلحاته ومفاهيمه، عكس العربية التي ظل جهازها المفاهيمي يتمتع بعدم الاستقلالية عن الوحي يصعب معها بلورة المصطلح العربي بطريقة علمية كما يحصل في اللغات الأخرى وإعادة تشغيله. كما أن إنجاز الحداثة لا يمكن التفكير فيها داخل هذه اللغة وبرموزها إلا إذا حررناها من ثقل المعجم اللغوي ومن شحنته الدينية، ولإنجاز هذه المهمة فنحن — يقول: «بحاجة إلى اشتقاق المصطلحات الجديدة، والاختراعات اللغوية الجديدة في العربية من أجل أن نستوعب الحداثة الفكرية في العلوم (…) وإلى حركة ترجمة واسعة لا تقل أهمية عن حركة الترجمات الكبرى التي سادت في العصور الكلاسيكية زمن المأمون وأدَّت إلى ازدهار الفكر العربي»،٣٩ مع بطلان التسوية بين التجربة التاريخية التي يدعو إليها أركون لتدشين الحداثة العقلية العربية المعاصرة.
فالتجربة الأولى فعل اختياري صدر عن إرادة وإثبات الذات وتحقيق إمكاناتها الواسعة مارسها أهلها وهم في موقع قوة، إذ شرعوا في تأسيس هوية ثقافية وشخصية حضارية خاصتين بهم، وتتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية بينما التجربة التي يدعو إليها لا يتوفر فيها الحد الأدنى من هذه الشروط.٤٠

ولتسهيل هذه المهمة نخضع نص الوحي للنقد التاريخي، ونقله من إطاره اللاهوتي — كما يقول — إلى المجال اللساني التداولي يخضع لما يخضع له أي نص أدبي بشري دون اعتبار لأصله السماوي.

ويميز أركون بين مستويين من الوحي: الوحي المكتوب «المصحف» وهو في نظره لا يمثل الحقيقة المطلقة؛ نظرًا لارتباطه بالأيديولوجيات التأسيسية، ووحي «شفهي» وهو الأهم في نظره، لم يفكر فيه داخل بنية الفكر الإسلامي المعاصر، ويشكك في الروايات الرسمية التي اعتمدت النسخة الأخيرة للمصحف، فهو لا يفهم معنى الوحي، إنها «كلمة شديدة الخطورة والأهمية لا يمكننا استخدامها بسهولة، بمعنى أننا لا نفهمها جيدًا وهي بحاجة لأن تخضع لدراسة جديدة لا تقدم أي تنازل للتصورات التي فرضتها العقائد الدوغمائية الراسخة (…) ولا توجد أي مكتبة في العالم ولا أي كتاب في أي لغة من لغات العالم يطرح مشكلة الوحي على طريقة العقلانية الحديثة ومنهجيتها.»٤١
فإن وجدت فإنها صممت وأنجزت ضمن منظور التيولوجيات التقليدية، ويقدم تعريفًا له يمتاز بخصيصة فريدة — كما يقول — أنه «يستوعب بوذا وكونفوشيوس والحكماء الأفارقة وكل الأصوات الكبرى التي جسدت التجربة الجماعية لفئة بشرية ما من أجل إدخالها في قدر تاريخي جديد، وإغناء التجربة البشرية عن الإلهي. إنه يستوعب كل ذلك ولا يقتصر فقط على أديان الوحي التوحيدية»،٤٢ وهكذا يمكننا — يتابع الكلام — أن نسير في اتجاه فكرٍ ديني آخر غير السائد، يتجاوز كل التجارب المعروفة للتقديس، فلا شيء ثابت.
مما يجعل الوحي ظاهرة لغوية ثقافية تسري عليها كل التعديلات والتأويلات، لأن الحداثة التي انطلق منها أدخلت منهجيات جديدة وطرحت إشكالات وتساؤلات لا قِبل للعرب بها، وتتيح إمكانية توسيع حقل المعرفة عنده وكذا توسيع دائرة التشكيك في المفاهيم الثابتة التي بناها الوحي، واعتبرت من قواعد البناء المعرفي والمنهجي، فدون إجراء هذه العملية يبقى التحليل ناقصًا يقول: «بدءًا من الاستخدام الذي كان القرآن قد أجراه، فإن مصطلح الإسلام كان قد امتد تدريجيًّا، واتسع لكي يشمل مجالات شديدة الاختلاف. إنه لم يعُدْ يكفي لتعريفه القول بأن الأمر يتعلق بدين مميز من قبل شعائره، أو هو «دين الإسلام» أو أن الإسلام هو الدين الذي أتى به محمد. نحن نرى فيما يخص تحليلنا أن مفهوم الدين نفسه ينبغي أن يعاد التفكير فيه على ضوء المنجزات العديدة للعلم المعاصر.»٤٣
فالعلم بالمفهوم الذي يقدمه أركون وبالأفق الذي اشتغل عليه، ليس هو الحل الوحيد لمشكلات الإنسانية، وغير قادر على ذلك، بل هو «أحد الطرق للاقتراب من الحقيقة، وليس مهيمنًا على الدين والفلسفة والفن»،٤٤ وبالتالي فالتغيير الذي يطالب به أركون خارج حدود العلم ذاته ومنطقه الحجاجي البرهاني، فإذا جاز هذا المنطق في نموذج ثقافي معين، فإنه لا تقبله النماذج الأخرى، وهذا جارٍ في كل النماذج والأنساق الفكرية العالمية.
يعبر منهج أركون عن «خلط لا يطاق بين الثوابت اللغوية واللغة القابلة للتطور والتطوير، ذلك أن الوحي المسطور (لغة ومفاهيم ومعاني الكلمات) يشكل دائرة من الثبات، حيث تعد المفاهيم النابعة منه مقصودة لذاتها؛ لأنها تعبير عن مفاهيم شرعية لا يجوز التنازل عنها بأي حال ولا التفريط فيها وعدم تبديدها؛ لأن ذلك يشكل جزءًا من مهمة أساسية في بناء المفاهيم الإسلامية وإلا فقدت هذه المفاهيم وظيفتها (…) إنه تبديد مع سبق الإصرار والترصد لتلك المفاهيم، وهو موقف يعبر عن استخفاف وتصرف بالحقائق الشرعية والمفاهيم الدينية بصورة ليست هي بالتجديد، وإنما هي في حقيقتها تقع من حيث هدفها ومحتواها في دائرة التبديد الخطير وطمس حقيقة الثابت اللغوي الشرعي والنابع من حقيقة أساسية وهي حفظ الذِّكْر.»٤٥

(١-٣) الأساس الأنطولوجي (الوجودي) للعلمنة «التأصيل الداخلي»

عندما لا تسعف الإسقاطات الخارجية، وتضعف حجج الإقناع في التمكين للمشاريع والتصورات والقناعات، يتم اللجوء إلى المنطق الداخلي وتغليف تلك القناعات بمُسوِّغات ومبررات داخلية، وإن الأمر ليس فيه استيراد من الخارج ولا إسقاط تعسُّفي.

لهذا ينطلق محمد أركون في التأسيس للعلمنة والبحث عن الشرعية من نقطة الخلافة الإسلامية باعتبارها المسوغ التاريخي لعملية بناء العلمنة في المجتمعات العربية، مستعرضًا جملة من التطورات والوقائع التي وقعت بعد وفاة النبي وما جرى في تاريخ الصحابة، وأن «السلطة على مدار التاريخ الإسلامي كلها كانت سلطة زمنية مضبوطة و«موجهة» من قبل السيادة الدينية»،٤٦ وأن تاريخ العرب والمسلمين لم يخلُ من محاولات للعلمنة. يكفي أن نلجأ إلى تفكيك كتابة التاريخ حتى نستطيع الوصول إلى مراحل التدشين الأولى لها، هكذا اختار وبعناية ثلاثة مفاهيم مركزية تعينه في بلوغ المقصد «الخليفة، والإمام، والسلطان»، فالخليفة يقابل بالفرنسية كلمة vicaire، فالخليفة هو نائب النبي الذي يضمن استمرارية وظائفه، أما الإمام فهو الذي يقود المؤمنين أثناء الصلاة ويحدد اتجاه مكة ويتقدم عليهم، إنه قائد روحي، أما السلطان فيعني الشخص الذي يمارس السلطة بالمعنى السياسي الدنيوي.»٤٧
ليستقر اختياره على المفهوم الأخير لارتباطه بالسلطة الزمنية ويجد مبررًا للفصل بينه وبين الروحي، ومسوغًا تاريخيًّا لدعوته، حين يؤكد ذلك بقوله: «لقد وجدت سابقًا في المجتمعات المدعوة إسلامية تجارب معمقة يمكن أن نصفها بالعلمانية لم تصل إلى درجة الوعي الواضح بذاتيتها، ولم تلقَ في يوم من الأيام لها تنظيرًا.»٤٨
وهو العمل الذي شرع أركون في خطواته الأولى مستعملًا منهج الباحث الأركيولوجي (الحفر التاريخي)، وهو يفترض أن العلمنة ملازمة لتاريخ البشرية وليست خارجة عنها، ولو في صورة ضعيفة وغير مؤكدة، والاعتراضات التي نشأت في الأمة إلى فترة الفتنة وعملية الاغتيالات وبروز التشيع والخوارج التي يفسرها بصراعات وخلافات سوسيولوجيا وثقافية وبتنافس على اقتناص السلطة وممارستها.»٤٩ وبالمنهج التفكيكي الذي يخلصنا من الأوهام التي ارتبطت بهذا التاريخ، ونستطيع أن نصل إلى ما حدث بالفعل منذ بدء التجربة التأسيسية للخلافة وإعادة كتابة التاريخ وفق المنهجيات الجديدة للحداثة، لهذا «ينبغي أن نفكك الأرثوذكسية المغلقة من الداخل، ولن يتم ذلك إلا ببحث تاريخي محرر يمكن له وحده أن يوصلنا إلى أبواب العلمنة في الإسلام.»٥٠

وإعادة كتابة التاريخ ينبغي أن تبدأ عنده بإعادة كتابة قصة تشكل النص القرآني من خلال دراسة نقدية؛ أي نقد القصة الرسمية للتشكيل التي رسخها التراث (الوحي) المنقول نقدًا جذريًّا كما حدث في قراءة الروايات المتعلقة بالإنجيل والتوراة.

وما لم يجر تفكيك هذه الأنظمة اللاهوتية التيولوجيا «المسلمة، والمسيحية، واليهودية» المغلقة فلا أعتقد — يقول الكاتب — أن هناك حلًّا حاسمًا، بل ستبقى هذه الأنظمة وتظل تمارس أنواعًا من الاستبعاد والنفي المتبادل، ما لم نتمكن ونتدرب على المنهجيات التاريخية الحديثة لتفكيك بنياتها «التي صممت وعاشت طيلة قرون وقرون بصفتها التعبير الأعلى والنهائي عن الحقيقة الواحدة المطلقة.»٥١ فهو يراهن على الانفتاح المنهجي، وعلى كل السلالات المفاهيمية التي أنتجها الغرب، وعلى القلق الإبستيمولوجي (المعرفي) ويعتبره السلاح الأقوى في المضي نحو هذا التدشين المعرفي في العقل الإسلامي، أما الارتهان إلى الماضي ومصطلحاته فهو ضرب من الحمق الفكري والغباء المنهجي.
ويعاتب زملاءه من المفكرين العرب على سوء تشغيلهم لهذه المنهجيات، يقول: «انظروا كيف يطبق المنهج الماركسي والمنهجي البنيوي ومنهج علم النفس على الثقافة العربية والآداب العربية، النتائج خطيرة ومخيبة للآمال في معظم الأحيان»؛٥٢ لأنها لم تمارس النقد الجذري لأصول هذه الثقافة. هكذا يدعو أركون إلى تزييف الوعي، وتفكيك أنظمة التفكير العربي الإسلامي، دون أن يعيد التفكير في البناء وفق معطياتها الذاتية، وهذه واحدة من العيوب الأساسية في هذا المشروع لأنه يفكك دون أن يركب، بل أكاد أجزم أن التركيب لم يكن في الاعتبار وغير مفكر فيه عنده.

لتعزيز التوجه إلى العلمنة، يتابع أركون الحفر في ذاكرة الأمة التاريخية وتجاربها الحديثة، مستشهدًا بتجربتين تاريخيتين: لبنان وتركيا، ويشيد بالتجربة التركية وبجرأتها في افتتاح وتدشين مسار جديد داخل العالم الإسلامي، وطرح مسألة العلمنة بشكل قوي، وفي الوقت نفسه ينتقدها لأنها لم تصل إلى عمق المجتمع؛ أي العلمنة الفكرية المعرفية والوجدانية. وبالفعل كانت المقدمات الحضارية والعقائدية للمجتمع التركي رغم مظاهر الانحلال عائقًا معرفيًّا وتاريخيًّا في امتداد مشروع العلمنة، وما تعيشه تركيا اليوم يعبر عن هذا العمق الحضاري لشعبها.

أما النموذج الثاني فهو نموذج لبنان باعتباره المُناخ المناسب للعلمنة، وحلًّا للطائفية والتوترات الدائمة التي تحياها. لهذا يكتسب لبنان أهمية قصوى في مشروعه نظرًا لمشاهد التطرف التي يحتضنها، وما يحدث في هذا البلد — يقول — يمكن ملاحظته في مصر وسوريا والعراق، حيث توجد أقليات مسيحية. إنها مسألة التعايش بين الطوائف المختلفة.٥٣ هذه النماذج يراها صالحة لطرح مشكلة «الإسلام والعلمنة» فالتعايش يكمن في نظره في إلغاء الخصوصيات الدينية — على الأقل في المجتمعات التي تعرف الطائفية — وعلمنة الحياة، ويرتبط عنده وجود الإسلام واستمراره في الحياة بإنجاز هذه المهمة.

إن التجارب التي قدَّمها أركون لا تنهض دليلًا ولا مسوغًا على دعواه، كما أن مسوغ الطائفية والأقليات المسيحية معيار غير علمي وغير ديمقراطي — بالمفهوم الثقافي والسياسي — وغير مقنع حتى للمسيحيين أنفسهم وللطوائف الدينية الأخرى. وأعتقد أن التعايش لا يكمن في الإلغاء، وإنما في الاحتفاظ بالخصوصيات والبحث عن المشتركات، وهي نقطة خلاف بينه وبين الجابري الذي رفض تعميم المشكلات الخاصة بكل قطر عربي.

ويؤكد على ضرورة علمنة التعليم في المجتمعات العربية والإسلامية ويطالب بإلغاء البرامج التربوية السائدة والطرق اللاتاريخية والعقائد التبشيرية لتعليم الدين في المدارس العامة وإحلال تاريخ الأديان والأنثروبولوجيا الدينية محله، وتدريس تاريخ الأنظمة التيولوجية بصفتها أنظمة ثقافية، وليس بصفتها أنظمة من العقائد المطلقة التي يستبعد بعضها بعضًا٥٤ في أفق الأنسنة وتخريب الأديان وتشريع للامعنى واللعب الحر والرقص على الأجناب والقول باللانص، كما ترى التفكيكية. هذا هو العائد المعرفي لأركون ومن سار على دربه من الاتجاهات في الفكر العربي المعاصر.
وفي سياق تعزيز اختياراته «العلمنة» ينبغي التأكيد على نقطتين أساسيتين في رأيه:
  • الأولى: تتعلق بالدولة الإسلامية، وأنها كانت في الأساس عَلْمانية معتمدًا على رسالة ابن المقفع «رسالة الصحابة» التي يجد فيها مسوغًا تاريخيًّا في تثبيت توجهاته.
  • أما الثانية: فمتعلقة بالشريعة، ويحاول أن يجيب عن سؤال طرحه: كيف حصل أن اقتنع ملايين البشر أن الشريعة ذات أصل إلهي؟ للإجابة عن السؤال احتمى أركون كعادته بالمنهج التفكيكي — التحليلي «العلمي» — المحرر في كتابة التاريخ، فيرى أن الشريعة حسب الرواية الرسمية قد «تشكلت تدريجيًّا بفعل ممارسة القضاة الذين كان عليهم مواجهة حل مسائل المسلمين المتفرقة والعديدة (…) تنتسب هذه النصوص الفقهية القضائية إلى أربعة رؤساء: مذهب مالك بن أنس، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهذه هي المدارس الأرثوذكسية التي تقاسمت العالم الإسلامي.»٥٥
لكن الأمور في نظره جرت على غير العادة، وإن «عمل القضاة كان يستوحي أساسًا الأعراف المحلية السابقة على الإسلام، والتي كانت تختلف حسب الأماكن، وكان الرأي الشخصي للقضاة هو الذي يفصل في المسائل المطروحة في نهاية الأمر، أما الرجوع إلى القانون القرآني فلم يحدث إلا بشكل متقطع، وليس بشكل منتظم كما حاولت الرواية الرسمية أن تُشيعه.»٥٦
فجاءت استنتاجاته على شاكلة الاستنتاجات الاستشراقية للرواية الرسمية التي وضعوها تحت ما يسمى محك النقد التاريخي، أمثال غولدزيهر وشاخت، وأن الأشياء في نظرهم قد جرت بشكل مختلف وأن الرواية التي اخترعها التراث ليست إلا وهمًا، وذلك من أجل إسباغ الصفة الإلهية على قانون أنجز داخل المجتمعات الإسلامية وبشكل وضعي كامل.٥٧ فالمبادئ الأربعة التي اعتمدها الإمام الشافعي في أصوله التشريعية (القرآن، الحديث، الإجماع، القياس) غير قابلة للتطبيق، فقراءة القرآن قد أثارت اختلافًا تفسيريًّا كبيرًا. وأما الأمر مع الحديث فإن القضية أشد عسرًا.٥٨
فأركون لم يستوعب — كما يقول المسيري — الدرس المعرفي الإسلامي والمسافة الفاصلة بين المطلق والنسبي وأن ما حدث في التاريخ لا يمكن أن يُفسَّر وفق نمطية معرفية ومنهجية أحادية التصور والرؤية، ووفق نماذج معرفية مناقضة للنموذج المعرفي الإسلامي القائم على معايير تعترف بالكلي مقابل الجزئي، ويظل هذا التفسير الذي قدَّمه أركون للمعطيات السابقة بنماذجه المعرفية — الفرنسية بالضبط — وبثوابت كلية ونهائية مستمدة من النموذج المعرفي العلماني الشامل٥٩ للحضارة الغربية ونهاياتها الفكرية والمنهجية والفلسفية التي لا تقوى على أن تكون معيارًا عامًّا ووسيطًا مرجعيًّا تفسر كل الأحداث.

(١-٤) أدوات وآليات الاشتغال المنهجي في مشروع محمد أركون

نرصد في هذه النقطة أهم الآليات والأدوات المنهجية التي اشتغل عليها أركون في مشروعه، والمرجعيات التي اعتمدها في بناء منظومته المفاهيمية؛ لأن معرفة الخريطة المرجعية، وأدوات الاشتغال من شأنها أن تعين الباحث على معرفة كثير من خبايا الموضوع، والتحكم في مفاتيح النقد والتحليل والتجاوز، وتحقيق الاستقلال الفكري والمنهجي الذي نتوخاه، دون الارتهان لأدوات عبَّرت عن نفسها في مراحل تاريخية، وعن قضايا وإشكالات مجتمع ناهض وفق نسقية حضارية معينة هو المجتمع الغربي.

إذا كان الجابري قد حدَّد مداخل ومُحدِّدات لرؤيته المنهجية، وشواغله الفكرية، وقضايا الفكر العربي المعاصر، وخريطة عمله «العقل العربي»، وآليات اشتغاله مستعينًا بالمرجعيات التي تحدثنا عنها في الفصل الأول، فإن الأستاذ محمد أركون — رحمة الله عليهم جميعًا — قد اختار هو الآخر مجال اشتغاله «العقل الإسلامي» — على اختلاف في المسافات بين المشروعَين — وأدواته المنهجية تقترب من أدوات الجابري أحيانًا، وتبتعد عنها في الأفق المعرفي الباحث عنه. أدوات يرى ضرورة استيعابها وهضمها لولوج عالم الحضارة المعاصرة، وتجاوز حالات التيه والتخلف العلمي والمعرفي للعرب والمسلمين.

فإن كانت هذه الأدوات أكثر وضوحًا عند الجابري من خلال المقدمات التي دبَّج بها مشروعه، فإن الأمر يختلف في مشروع أركون، فهي لا تبدو واضحة إلا من خلال تتبُّع مسار أفكاره، وترقب خطوات بحثه، مع ما يطبع عمله من تكرار في الأفكار والمعطيات حتى لا تكاد تميز بين هذا الكتاب أو ذاك، إلا من خلال العنوان وبعض الجزئيات، لكن نستطيع أن نحدد المرجعية الكبرى لمنهجياته وأدواته ومُحدِّدات الرؤية عنده، إنها مرجعية الحداثة، وهي الأرضية التي فضل الانطلاق منها؛ فهي الخيار الأفضل عنده والقاسي لأننا — يقول: «مجبرون منهجيًّا على الانطلاق من ساحتها العقلية والفكرية؛ لأنها أضافت مشاكل جديدة لم تكن تُطرح سابقًا، وافتتحت منهجيات جديدة تتيح لنا توسيع حقل المعرفة دون إدخال تقنيات دوغمائية تعسُّفية. هذا هو الشيء الجديد فعلًا، وهنا يكمن جوهر الحداثة.»٦٠
ويحدد موقفه المبدئي والمنهجي من خلال تأثيث مشروعه بكل السلالات المفاهيمية والمنهجية، التي أنجبتها تجربة الحداثة الغربية، ويدعو إلى إنزالها وتطبيقها إلى أبعد الحدود، وكسر الحواجز بين الحقول المعرفية، ودون اعتبار للخصوصيات، بل ويراهن عليها في تحقيق وإنجاز مهام استعجالية داخل الفكر العربي الإسلامي، من خلال تأسيس تاريخ منفتح وتطبيقي له، فكل ما أنجزه وينجزه يسير في هذا الاتجاه الطويل والصعب ومنفتح على علوم الإنسان، ومناهجها وتساؤلاتها كما هي ممارسة عليه اليوم في الغرب.٦١
لهذا نجد أن أحد مرتكزات الفعل المنهجي والنقدي التي استند إليها تتمحور حول «زعزعة المشروعية الدينية والسلطة العقدية، من أجل العمل على إحلال المشروعية البشرية مكانها، وفرض قطيعة حاسمة بين ما يسميه بالذروة الإلهية للسيادة من جهة وبين الذروة البشرية، التي تقوم على السيادة الشعبية من جهة ثانية.»٦٢

لا يعتمد أركون على منهج واحد بعينه، بل يختار المنهجية المتعددة الاختصاصات يجمع فيها بين خليط من العقائد والأيديولوجيات الفكرية؛ لأنها تستجيب لطموحاته، حيث يتداخل التحليل الاجتماعي والتاريخي والمنهجية الألسنية والأنثروبولوجية والتفكيكية والمنهجية الحفرية … لكنه تداخل أضرَّ لا شكَّ بمشروعه وجرَّ عليه كثيرًا من الانتقادات المنهجية والعلمية.

لنتحدث قليلًا، وبشيء من التفصيل عن هذه المنهجية المتعددة الاختصاصات.

(أ) المنهجية التاريخية

تتيح هذه المنهجية للباحث التوصل ﻟ «فهم أفضل للماضي وإرساء قواعد صُلبة لفكر وممارسة تاريخية، تكون أكثر احترامًا ومراعاة للواقع الحقيقي»،٦٣ وتعين على دراسة ما حدث بالضبط في تاريخ العرب والمسلمين، فهي وحدها — يقول — القادرة على رصد هذه التحولات بموضوعية نادرة ﻓ «أنا [الكلام لأركون] أنظر إلى مجموعة الأحداث كما حصلت في التاريخ بالضبط، وأراقبها كما يراقب العالم الجيولوجي الهزة الأرضية»،٦٤ دون تدخُّل الميولات والعواطف، وترك الأحداث والأشياء تتكلم بحرية.
وهو ما يقصده بالروح المستقلة نحو الأحداث، ولافتتاح هذه الروح يتطلب نضالًا طويلًا ومريرًا للذات ضد الذات، والتمرين على المنهجيات، وكيفية استخدام المفاهيم والأدوات السائدة في مختلف العلوم، وتحرير العقل الإسلامي من كل التفسيرات الأيديولوجية التي رافقته منذ أن دخلت الظاهرة القرآنية مسرح التاريخ، التي لم تقدم حلولًا واضحة وقاطعة لكل المشاكل. فهو يُصرُّ ويُلحُّ على اتباع المنهجية التاريخية، قبل شيء آخر؛ لأن لها القدرة حسب رأيه في كشف ما حصل، وهكذا نجدها تحتل مكانة محورية في مشروعه العام «نقد العقل الإسلامي».٦٥
ويفضل هذه المنهجية على النقد المنهجي الفلولوجي الذي لا يزال يُصرُّ عليه التحليل الاستشراقي في دراسة التراث العربي الإسلامي؛ لأنها تهمل في نظره الاهتمام بالخيالات والأساطير والأحلام التي رافقت الأحداث داخل النص (الوحي). إنها تهمل ما يسمى بالسيكولوجيا التاريخية.٦٦
تتيح أولوية هذا النقد التاريخي لأركون الوصول إلى مرحلة ما قبل الإسلام، و«تحرير الفكر من كل أشكال التصوُّر والإدراك التي فرضتها الأدبيات الإسلامية، التي رمت في ظلمات الجهل والجاهلية كل جوانب المجتمع العربي السابق على الإسلام»،٦٧ وإلى جانب هذا التحليل وهذه المنهجية يجيء «التحليل الأنثروبولوجي لكي يقوي ويوسع ويعمق من نتائج التحري التاريخي والدراسة التاريخية».٦٨
الغرض هو تحليل التجربة الدينية واستكشاف مجال التقديس في التاريخ، فكل الدراسات التي أنجزت لم تستطع أن تصل إلى هذا العمق التاريخي، وظلت سمتها الأساسية البعثرة والتفتيت؛ ولهذا يحتاج هذا الواقع «دراسة آنية بنيوية تمفصلية تاريخية تُبيِّن لنا منشأ هذا التقديس».٦٩
فالنص المقدس (الوحي الإسلامي) في نظره يشترك مع النصوص كافة في انتمائها وخضوعها جميعًا لمنطق التاريخ، فهي من «التاريخ ولدت وفيه تقدست وبه انفعلت وفيه أثرت. فالتاريخ مجالها، وفي التاريخ أسرارها ومكامنها، ومن التاريخ أساطيرها وأسطورتها. كما أن في العلوم التاريخية والإنسانية الحديثة مفاتيحها.»٧٠ فكانت مهمته تتركز في الشروع بكتابة تاريخ التقديس عند العرب، ثم بشكل أوسع لدى كل المجتمعات التي اعتنقت الإسلام، وذلك ضمن تشكيل أنثروبولوجيا دينية وثقافية٧١ فينتهي بنا التحليل إلى أسئلة غير مألوفة في تاريخ التقديس العربي وغير مفكر فيها.

(ب) المنهجية التفكيكية

يفسر هاشم صالح هذه الآلية المنهجية بأنها «تعرية آليات الفكر الذي ولد النظريات المختلفة والتشكيلات الأيديولوجية المتنوعة والتركيبة الخيالية والأنظمة الإيمانية والمعرفية، وكل ذلك من أجل نزع البداهة عنها وتبيان منشئها وتاريخيتها وبالتالي نسبيتها.»٧٢ فالانفتاح على الحداثة ونتائجها وعقلانيتها لن يتم بشكل جيد وفعلي ودائم وناجح إلا بتفكيك مفهوم الدوغمائية والأرثوذكسية الملازمتين للتراث العربي الإسلامي، فالتزام هذه المنهجية من شأنه أن يفتح سراديب في هذا الفكر كانت مغلقة منذ القرن الرابع الهجري ويؤهله للانفتاح على منجزات الحداثة، فمرحلة التفكيك عنده «مرحلة استكشافية داخلية للتراث لم يسبق لها مثيل».٧٣

ومن خلال هذه المنهجية — يقول هاشم صالح — استطاع أركون أن يُحدِث زحزحات عديدة لا زحزحة واحدة، داخل ساحة الفكر الإسلامي العربي، خلخلة وزحزحة الأسس والمنطلقات والتصوُّرات الراسخة في الذهنية الإسلامية من أن الإسلام لا يفصل بين الروحي والزمني. وأثبت بجهده الخاص، ومن خلال هذه المنهجية، ضعف هذه الاعتقادات، وزحزحة للذهنية الاستشراقية التي اعتمدت المقولات نفسها في دراسة التراث العربي الإسلامي، مُتأثِّرًا بأعمال هايدغر ودريدا رائدَي المدرسة التفكيكية، لكن دون أن يقدم براهين على ضعف هذه الاعتقادات.

(ﺟ) المنهجية الأركيولوجية

لا تؤدي التفكيكية أدوارها إلا من خلال تعزيزها بالمنهجية الحفرية الأثرية للوصول إلى الحدث التأسيسي الأول للعقل الإسلامي ﻓ «النص القرآني قد ولَّد عشرات التفاسير والأدبيات التأويلية منذ ظهوره وحتى اليوم (…) وتراكم التأويلات يشبه تراكم الطبقات الجيولوجية للأرض فوق بعضها البعض، فنحن لا نستطيع أن نتوصل إلى الحدث التدشيني الأول لهذا العقل في طراوته وطزاجته الأولية، إلا إذا اخترقنا كل الطبقات الجيولوجية المتراصة، وكل الأدبيات التفسيرية التي تحجبه عن أنظارنا.»٧٤
وهي المنهجية ذاتها التي شغلها ميشيل فوكو من خلال كتابه: «في الكلمات والأشياء» (١٩٦٦م) وأركيولوجيا المعرفة (١٩٦٩م)، والضجة التي أحدثها في أوروبا ضد المنهجية التقليدية الديكارتية، فسار أركون في المسار ذاته، مع تعديلات واختلاف في الموضوع، لكن دون إجراءات نقدية صارمة فتركها مائعة، كما تأثر بمؤسس مدرسة الحوليات الفرنسي لوسيان فيفر، الذي يعتبره إحدى الحلقات الكبرى التي فتحت الطريق أمامه على صعيد المنهج، واعتبر مدرسته ومنهجه بمثابة الصاعقة أو الوحي الذي نزل عليه، يقول: «ولولا مجيء لوسيان فيفر من باريس وإلقائه لتلك المحاضرة العصماء وحضوري إياها بطريقة تشبه الصدفة لربما بقيت نائمًا كغيري دون أن أُحسَّ بشيء.»٧٥
لكن هذه المدرسة لم تستمرَّ في إشباع طموحه المنهجي، بالرغم من إنجازاتها الضخمة فتطرفت في اتجاه معاكس، فراح يبحث عن أرضية منهجية جديدة تُلبِّي هذا الطموح، ولهذا تحظى منهجية علم النفس التاريخي باهتمام خاص عنده، لأنها «تُركِّز على الخيال والمخيال والأسطورة والوعي الجماعي؛ كعامل أساسي ومحرك في التاريخ الإسلامي بالإضافة إلى الاقتصاد والماديات.»٧٦

(د) المنهجية الألسنية السيميائية

يفضل أركون الاشتغال بالنقد الألسني في تحليل النص الديني «الوحي»، هذه المنهجية التي كانت صاعدة بقوة في الستينيَّات مع أسماء وازنة في هذا المجال، أمثال فرناند دو سوسير وجاكبسون وبنفنست، وتكتسي عنده أهمية كبرى، وخاصة بحكم اشتغاله المستمر على النصوص القديمة خصوصًا النص القرآني، لهذا تعينه على كيفية القراءة من خلال تفكيك لغته ألسنيًّا يقول: «[و]لكي أعرف كيف تشكل، ولكي أسائله على صعيده الأول المباشر: صعيد اللغة العربية والإسلامية الكلاسيكية، ولهذا السبب أقول: إن لعلم الألسنيات أهمية عظمى فيما يخص مجالنا المعرفي، مجال تاريخ الفكر الإسلامي، ومن يقوم بكتابة تاريخ التفسير في الإسلام، يجد فائدة كبيرة في المنهجية الألسنية.»٧٧

فالهدف من هذا الاختيار المنهجي هو تحرير القارئ من هيبة النص الديني، ومن سلطته المتعالية فوق الزمان والمكان؛ لكي يتساوى مع أي نص آخر بشري يخضع لكل التعديلات وتجريده من قدسيته، وإدخاله في ظروفه التاريخية، ليصل إلى ما كان يخطط له، أنسنة الدين، وإرجاعه إلى الإنسان وإحلال الأساطير محله.

يشكل «التحليل السيميائي عند أركون رياضة عقلية ومران منهجي يحمل صاحبه على التحلي بالنزاهة والموضوعية والانسلاخ عن رواسب الذات، حتى تكون المسافة بين المُؤوَّل والنص على مستوى من البعد والتناهي لا يسمح بإسقاط الأحكام التيولوجية»٧٨ على النص المُؤوَّل، فهو يمثل عنده «فضيلة ثمينة جدًّا خصوصًا أن الأمر يتعلق هنا بقراءة نصوص محددة كانت قد ولَّدت وشكَّلت طيلةَ أجيال عديدة الحساسيةَ والمخيالَ الجماعي والفردي، وعندئذ نتعلم كيف نقيم مسافة منهجية اتجاه النصوص، أو بيننا وبين النصوص المقدسة دون إطلاق أيِّ حكم من الأحكام التيولوجية التي تغلق باب التواصل مع المؤمنين فورًا».٧٩
و«تنزع القراءة الألسنية عند أركون بإفراط إلى إسقاط خصائص النص الأدبي البشري على النص الموحى، وإلغاء كل مميزات النص الموحى، حتى باتت خصائص المرسل مصدر النص متطابقة عنده في الحالتين، وحيث إن النص الأدبي الذي أُنتجَ في سياقات معينة يصعب إيجاد الانسجام في متنه، إذا استمر تأليفه ردَحًا من الزمن، نظرًا إلى فعل الزمان والمكان في الإنسان المبدع، فكذلك الشأن في القرآن.»٨٠
فإذا كان الواقع الغربي قد قبل هذا المغامرة الفكرية في لحظة من لحظاته التاريخية فإن «الواقع العربي يرفض هذا الترف الفكري، [وتلك المغامرة] يرفض أن تسحب مظلة الحداثة، بمفاهيمها الغربية والمدارس والمشاريع النقدية التي أفرزتها، على النصوص الدينية بصفة محددة لأنسنة الدين (…) ويمثل خطأ منهجيًّا في استخدام أدوات نقدية مثيرة للجدل في تحليل نصوص غير أدبية (…) ويحدث فوضى دلالية داخل واقعنا الثقافي الحضاري.»٨١

(ﻫ) الزحزحة المنهجية

لمزيد من التشكيك والهدم، يلجأ أركون إلى هذه الآلية، ويفسر فائدتها في تعرية الآليات السوسيولوجية الحقيقية التي حافظت في كل مكان على التعارض الأولى الذي ذكره القرآن؛ أي التناقض والتضاد الذي أنجزه بين المجتمعات «المتوحشة» والفكر «المتوحش» من جهة وبين المجتمعات المدجنة والإسلامية التي أرادها الله وحماها وقادها [جاهلية/إسلام].٨٢
في محاولة توسيع دائرة النقاش حول الإشكالات القديمة، وإخراجها من إطارها الضيق، وإما تغييرها كليًّا وطرح إشكالية أخرى عن طريق النظر للمشكلة من زاوية جديدة واستخدام منهجية جديدة، ورفع الستار عن الأصول الخادعة التي تختبئ وراء الشعارات «الدينية» المستبطنة على هيئة حقائق مُنزَّلة.٨٣

فزحزحة هذه اليقينيات يؤسس في نظره لمساحة أوسع للحوار بين الأديان والأصوات الحرة الأخرى، ويبقي دائرة التواصل الكوني واسعة منفتحة. وهذه مهمة الأنثروبولوجيا السياسية لكن أركون — وكعادته دائمًا — ينتظر من يُشغِّل هذه الآليات، وإعادة تنشيطها من أجل دراسة الفكر الإسلامي وتجديده، ولا يعادل هذه الزحزحة إلا الشك الشامل والهدم الكلي للثوابت والأصول حتى نتواصل.

وأعتقد أن الأمر لا يسير وفق هذه المنهجية المعكوسة، وليس بالسهولة التي يعتقدها، فالحوار والتواصل لا يتم إلا على أساس ثوابت واضحة وأصول واعتقادات راسخة، قد لا نختلف مع أركون على مستوى مفهوم الآلية المنهجية وأهميتها، لكن موطن الاختلاف في وظيفتها التي أراد أن تؤديها، والمهام المنوطة بها لإنجازها، وهي معضلة المفاهيم المستعارة وعسر انسيابها في مجال تداولي مخصوص ومغاير.

(و) المنهجية السلبية

يوظف أركون هذه المنهجية في «دراسة كل ما حذفه العقل المؤسِّس والمؤسَّس على هيئة إطلاقية نهائية من ساحة اهتمامه راميًا إياه في مهاوي البِدَع والضلال. إن الكشف عن هذه القارة المجهولة من تاريخ الفكر العربي الإسلامي يمثل اليومَ ضرورة فكرية ومنهجية قُصوى من أجل «انطلاقة» الفكر العربي المعاصر»،٨٤ أي دراسة اللامفكر فيه في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، وإثارة بعض الإشارات المجهرية التي وقعت في تاريخ الأمة، وإحياء بعض الاتجاهات المحذوفة والمطموسة، والمضطهدة والمنسية — حسب اعتقاده — في إطار التحقيق التاريخي متأثرًا بجوزيف فان هيس في الدراسة التي خصَّصها لابن الرواندي المنبوذ، ويدعو إلى تعميم هذه المنهجية على كل تاريخ العقل الأرثوذكسي منذ القرن الرابع الهجري إلى اليوم.٨٥
يريد أن يجعل تاريخ الأمة تاريخَ مروقٍ وخروج عن الثوابت والأصول، وإعلان العصيان على المقومات الذاتية الحضارية للأمة، يوظف هذه المنهجيات كمنطلقات في إطار تأسيس ما سمَّاه ﺑ «الإسلاميات التطبيقية» التي استوحاها من كتاب «الأنثروبولوجيا التطبيقية» لروجيه باستيد، متجاوزًا الإسلاميات الكلاسيكية [المنهج الاستشراقي]، التي تناولت الفكر الإسلامي في القرن ١٩م، والثغرات المنهجية والمعرفية لهذا المنحى التحليلي، فهي في غالبها دراسات اصطبغت بصيغة تبشيرية كولونيالية تعكس جهد نظرة خارجية ورؤيتها وتسبح في المحيط العام لهذه العرقية المركزية.٨٦

ويعتبرها نقطة الانطلاق الإجبارية لكل تحليل، ويبقى باب هذه المنهجية مفتوحًا في وجه الجميع، ليس بالضرورة أن يكون الباحث فيها مسلمًا، والمهم أنه يكون منتميًا إلى قدر ومصير تاريخي محدد، بغض النظر عن المعتقدات والانتماءات، أي إنجاز دراسة مجردة عن التحيُّزات الأيديولوجية والحرص على التحقيق «العلمي الموضوعي».

ويحدد أركون مهام هذه المنهجية دون ماهيتها — فهو لم يؤسس لهذا العلم، وإنما اكتفى بتركيبه من مصطلحَين متناقضَين مرجعيًّا ومعرفيًّا كما يقول المختار الفجاري — في إعادة المفاهيم وتعريفاتها ونقدها نقدًا فلسفيًّا يحررها من الحمولات الدينية والتفسيرات الإيمانية العتيقة٨٧ وخلق الظروف الملائمة لممارسة فكر إسلامي محرر من المحرمات العتيقة والميتولوجيات البالية، ومحررًا من الأيديولوجيات الناشئة حديثًا، كما تتجه هذه المنهجية إلى دراسة الإسلام ضمن منظورَين متكاملَين:٨٨
  • (١)

    كفعالية علمية داخلية للفكر الإسلامي، تستبدل التراث الافتخاري والهجومي الطويل الذي ميز موقف الإسلام من الأديان الأخرى بالموقف المقارن. يتطلب الأمر هنا جهدًا كبيرًا من أجل تحرير هذا الفكر، طبقًا للفكرة الباشلارية التي تقول بأنه لا يمكن أن يتقدم الفكر العلمي إلا بتهديم المعارف الخاطئة الراسخة.

  • (٢)

    كفعالية علمية متضامنة مع الفكر المعاصر كله، إن الإسلاميات التطبيقية تدرس الإسلام ضمن منظور المساهمة العامة لإنجاز الأنثروبولوجيا الدينية.

يُخضِع أركون بهذا العمل القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن والتحليل الألسني التفكيكي وللتأمُّل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى وتوسُّعاته وتحولاته وانهدامه، لمواجهة ما يسميه بفرضيات الموقف الإيماني أو اليقينيات العدوانية للخطاب الأيديولوجي بالمسار «المضمون للفكر العلمي».٨٩
كما تسعى أيضًا إلى الكشف عن العَلاقة المتبادلة ما بين المصير التاريخي للمجتمعات العربية الإسلامية، وتقدم الحداثة في الغرب كانت قد تجاهلتها الإسلاميات الكلاسيكية، واكتفت بالدراسة الإيجابية لتاريخ الإسلام٩٠ فيلجأ إلى المنهجية السلبية ضمن منظور الإسلاميات التطبيقية على إنجاز اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه، وتبقى هذه المسلكية المنهجية هي القادرة في نظره على الإمساك بمعضلات المجتمعات العربية، وإنتاج خطاب يلائم المرحلة، وعلى طرح مشكلات حقيقية مرتبطة بمسار العرب الإبستيمولوجي، مسار مرتبط أيضًا بالاكتشاف المتدرج للحداثة وبتساؤلاتها حول المنسي، والمتنكر واللامفكر فيه ضمن ماضي العرب، ويعتبر موضوع «الإسلام والعلمنة» إحدى الإشكالات الكبرى التي تعالجها الإسلاميات التطبيقية وإعادة تنظيم وترتيب العَلاقة بين المفهومَين، وتأسيس إطار نظري فكري يُتيح مواجهات كل الصعوبات والمشاكل المعيشة في الواقع العربي المعاصر.

لقد راهن محمد أركون في التمكين لهذه الآليات في مجال الثقافة العربية الإسلامية للخروج من الانغماس في الحداثة الاستهلاكية، إلى الانغماس في الحداثة الفكرية والعقلية، لكنه رِهان لم يلج إليه من بابه الطبيعي، وهو تأكيد أسبقية الذات العربية الإسلامية بمفاهيمها الحضارية ومقولاتها وثقافتها المنهجية على الغيرية التي جعلها المقياس والأولوية في إنشاء هذه الحداثة.

كما أن هذا التعدُّد المنهجي الذي نصادفه في متنه الفكري فبدل أن يتحول إلى عامل قوة، تحول إلى عامل ضعف في مشروعه، فالخلط العقائدي لهذه المناهج حول النص الإسلامي — الوحي والتراث — لا شكَّ أنه أضرَّ بمساره التجديدي، فلم يستطع معه تحقيق وإنجاز عملية الإبداع التي راهن عليها، فإذا «كان الاعتداد بالزاد العلمي والمنهجي محمودًا عند البعض ومُنبئًا عن استقلال الكِيان، وتفرُّد الشخصية، فإنه في قراءة أركون جرحة مُوجِبة للقدْح، لا مَزيَّة جالبة للمدح».٩١
فالقارئ لخطابه النقدي «لا يكاد يتبين خطابه المستقل الذي يتميز به بين الخطابات الأخرى، لكثرة اللغات التي يتحدث بها، والمناهج التي يستخدمها، والأعلام الذين يتقمصهم، ومن فرط ما يحشده من المفاهيم والأدوات»٩٢ لهذا كان الشغل الشاغل لأركون وهمه الدائم هو «جلب برامج الحداثة الفكرية والإعلان عنها والترويج لها والتوصية بالاستفادة منها. ومن هنا كان الرجل مستوردًا ماهرًا وعارضًا جيدًا، ولم يكن صاحبَ حدْسٍ أصلي ورؤية ثاقبة»٩٣ دون أن يعني ذلك غمط حق الرجل في بعض الإشارات الإيجابية، والجِدَّة التي جاء بها مشروعه، كما أومأ إلى ذلك طه عبد الرحمن.

لكن لم يكن ذلك كافيًا في رأي نقاده من الشاكلة الثقافية نفسها، الذين يرون في المشروع خروجًا عن بعض القواعد المنهجية.

فإذا كان «هاجسه: الجِدَّة والتنوع إلى حد أن تآليفه تكاد تكون معرضًا للحداثة الفكرية على تعدُّد مجالاتها واختلاف مذاهبها ومناهجها، بيد أنه إذا كانت مواكبة كل تطور يحصل في مجال العلم والفكر أمرًا مطلوبًا ومحمودًا فإنه لا ينبغي للجِدَّة أن تطغى على الأصالة، ولا التعدُّد أن يطمس الوحدة. وبكلام آخر: لا ينبغي للانفتاح على الجديد والمتعدد والطارئ والمتحول أن يتم على حساب الصرامة الفكرية. فلا بُدَّ لكل عمل فكري أن ينطويَ على قدْرٍ من الوَحْدة والترابط، ولا بُدَّ لكل مبحث من أن يراعيَ شرائط الوثوق والإحكام. نقول ذلك [الكلام لعلي حرب] لأننا نلحظ أن قراءة أركون العلمية تفتقر إلى الوحدة المنهجية.»٩٤
بل أكثر من ذلك يعتبر علي حرب استنجاد أركون بالحداثة وإفرازاتها لا يكفي لكي تكون القراءة التي يقدمها منتجة أو علمية. صحيح أنه لا يمكن تجاوز الإمكانات المنهجية والمعرفية التي تقدمها الحداثة، لكن الاعتداد بها كليًّا واستخدامها ليس دليلًا على أنها القراءة الأصح.٩٥
لهذا فإن قراءة أركون، من خلال الاختيارات التي استقرَّ عليها، لا تبدو فيها أصالة الإبداع والاستقلال المسئول المطلوب من المثقف العضوي داخل مجتمع يعاني من مركبات الأزمة؛ ويسعى إلى تجاوزها، رغم تأكيداته المتكررة حول الإبداع، لكنه سقط في فخِّ التكرار، دون أن تكون له لغته التحليلية المستقلة المعبرة عن الإشكالات الحقيقية التي يسعى إلى معالجتها؛ لذلك نلمس عنده «تضخُّمًا في الأجهزة والأدوات التي يستخدمها هناك فعلًا آلية مفهومية جبارة — ولكن يتم ذلك على حساب لغة أركون وخطابه — ذلك أن لغته تكاد تضيع بين اللغات الأخرى».٩٦

هذه بعض الانتقادات القاسية التي طالت متن أركون ومنهجيته المتعددة المداخل، مما يعبر عن خلطة هجينة من المناهج ضاعت فيها ومعها لمسات الإبداع التي كنا في أمسِّ الحاجة إليها لتجاوز أعطاب التخلُّف ومركبات التأخر.

(٢) المبحث الثاني: اختبار المفهوم في التداول الثقافي المعرفي والاجتماعي العربي المعاصر

اختبار تداولية المفاهيم وتَرحالها من مجال إلى آخر أصبح علمًا قائمًا بذاته في كل العلوم والحقول المعرفية. وفي سبيل تحقيق هذا الغرض أُنشئت المختبرات العلمية في كل التخصصات لوضع عينات من المفاهيم المرتبطة بتخصصاتها تحت مجهر الاختبار والنقد والتمحيص والتشريح — ليس بالمعنى العضوي للمفهوم، إنما بالمعنى التحليلي النقدي التفكيكي — والوقوف عند مسيرتها ومشاقها ومتاعبها وأوزارها وذنوبها المعرفية والمنهجية، ليس في عالمنا العربي الإسلامي، بل في عالم الأمم والحضارات قديمًا وحديثًا ومعاصرًا. بل تكاد هذه القضية تطبع أغلب الأعمال الفكرية لكبار المفكرين بعناوين واضحة تُبرز مركزية المفاهيم في كبريات المشاريع الفكرية، والتحكم في مساراتها المنهجية ومآلاتها في الإنسان والطبيعة.

ويعتبر مفهوم العلمانية واحدًا من المفاهيم المركزية التي شغلت مساحة واسعة في الفكر الغربي منذ وقت مبكر، وبلغ ذروته خلال القرنِ الثامنَ عشرَ الميلادي، وما يزال إلى اليوم والشيء ذاته في الفكر العربي المعاصر، وفي وعي النخب العربية، بل دارت حوله كثير من المعارك الثقافية، والمعرفية، والاجتماعية والسياسية، وتشابكت النخب العربية فيما بينها حول تداولية المفهوم، وقدرته على تثبيت وجوده المعرفي والثقافي، من خلال جدل التراث والحداثة، ومفاهيم التجاوز والقطيعة، والاستمرارية، حين دفع بمنظومته الفكرية والنفسية في اتجاه التدمير الممنهج لمقومات العقل العربي الإسلامي، وتخريب دفاعاته ضد التبديل والتغيير.

فتحولات المفهوم في الفكر العربي المعاصر مؤشر على صعوبة التداول، وعدم الرضا الذي قوبل به في الذاكرة العربية الإسلامية، بل في أوساط ثقافية لها اعتبارها المُقدَّر حين رأت في تداولية المفهوم قلبًا للحقائق وتشويهًا للمشكلات الحقيقية للعرب، لكن قبل الحديث عن تداولية المفهوم وإجرائيته في الفكر العربي المعاصر، نقف عند المفهوم في موطنه الأصلي، ليس من باب التأريخ، لكن من باب تحولاته وموقف التيارات الفكرية منه، قبل أن نناقش موقعه في فكرنا المعاصر، وموقف تياراته منه.

(٢-١) اختبار تداولية المفهوم في الفكر الغربي

ما ميز تاريخ الأفكار في الغرب كما تؤكد أكثر من دراسة،٩٧ أو أغلبها هو هذا التنوع والتعدد في المدراس الفكرية التي نبتت على تربته الجغرافية، تنوُّع صاحبَته قدرة هذه المدارس على مراجعة ما تُنتجه من مفاهيمَ وأفكار ومناهج، لهذا «يلاحظ أن مراجعات العلمانية والحداثة في العالم الغربي بلغت أبعادًا لربما لم تصلها بين العلمانيين العرب»٩٨ لأسباب ذات ارتباط بطبيعة تلك المدارس واختلاف انتماءاتها المرجعية العقدية، وأخرى ذات ارتباط بخلاصات ما أنتجه الغرب ذاته، من مواقف واتجاهات معادية للإنسان واختياراته الكبرى.

وقد نال مفهوم العلمانية، ومشتقاته في الغرب حظه من المراجعة، والنقد الإبستيمولوجي، بعد أن ظهرت نتائجه السلبية على مستويات متعددة من حياة المجتمعات الغربية، لهذا فإن الكشف عن هذه المراجعات لا شك أنه يرينا حجم ما تحدثه المفاهيم في كينونة الإنسان أفرادًا وجماعات.

تأتي في مقدمة هذه المراجعات أعمال المفكر الأمريكي اليهودي إرفنج كريستول الذي يصف الرؤية العلمانية بالرؤية الدينية لأنها «تحتوي مقولات عن وضع الإنسان في الكون وعن مستقبله لا يمكن تسميتها علمية، ذلك لأنها مقولات ميتافيزيقا لاهوتية. وفي هذا الدين [العلماني] يصنع الإنسان نفسه أو يخلقها [تأليه الإنسان]، كما أن العالم ليس له معنى يتجاوز حدوده، وبوسع الإنسان أن يفهم الظواهر الطبيعية وأن يتحكم فيها وأن يُوظِّفها بشكل رشيد لتحسين الوضع الإنساني. ذلك أن المقدرة على الخلق، التي كانت من صفات الإله، أصبحت في المنظومة الدينية العلمانية من صفات الإنسان، ومن هنا ظهرت فكرة التقدم.»٩٩
وقد وصلت هذه العلمنة إلى مستويات تجريد العقائد الدينية من مقوماتها، وحولتها إلى نوع من المهدئات النفسية لمواجهة تحديات العقيدة الجديدة [العلمانية]، لكن رغم هذه الهيمنة التي مارستها على جميع المؤسسات، فإن إرفنج كريستول يقدم مقدمات فلسفية مُفادها أن هذه العقيدة بدأت تفقد مصداقيتها بالتدريج، ويعود ذلك في رأيه إلى سببين اثنين:١٠٠
  • (أ)

    بإمكان الفلسفة العقلانية العلمانية أن تزودنا بوصف دقيق للمُسلَّمات الضرورية لتأسيس نسق أخلاقي، ولكنها لا يمكن أن تزودنا بهذا النسق نفسه. فالعقل قادر على تفكيك الأنساق الأخلاقية، ولكنه ليس قادرًا على توليدها، إذ إن الإنسان يقبل الأنساق الأخلاقية من منطلق إيماني غير عقلي، والعقل المحض لا يمكن أن يتوصل إلى أن جماع المحارم خطأ (…) فظهرت أجيال قلقة لا تجد لنفسها مخرجًا من الوضع غير الطبيعي الذي صنعته العقيدة الجديدة، لهذا يتحدث كريستول عن البربرية العلمانية.

  • (ب)

    لا يمكن أن يُكتب البقاء لمجتمع إنساني إن كان أعضاؤه يعتقدون أنهم يعيشون في عالم لا معنى له. والواقع أننا منذ القرن التاسع عشر — يقول كريستول — نجد أن تاريخ الفكر الغربي رد فعل الإحساس بأن العلمانية أدَّت إلى ظهور عالمٍ لا معنى له، وهي تحاول أن تحُلَّ هذه المشكلة، بأن تؤكد للإنسان أنه يسيطر على نفسه وعلى الطبيعة من خلال الاستقلال والإبداع، وهو أمر يراه مجرد خداع للنفس.

فالتيارات التي ظهرت في الغرب لم تعد تؤمن بالعقيدة الإنسانية [الهيومانية] من التفكيكية إلى ما بعد الحداثة التي أعلنت موت الإنسان. وهو اعتقاد بدأ يأخذ موقعه في المجتمع الغربي، فالانتماء الديني بدأ يتزايد في هذا المجتمع، وتتسع مساحته، بعد أن شعر بالحرمان وفقدان المعنى، وظهور علامات مفارقة لهذا المعنى.

ويشبه هذا المنحى النقدي الذي انتهى إليه كريستول، ما انتهى إليه أيضًا مفكر من حجم ريتشارد ترناس١٠١ في تحليله لمراحل تطور الفكر الغربي، من الصيغة الإغريقية القديمة إلى ما بعد الحداثة١٠٢ وبروز لحظة «متميزة بحشد من الصراعات الدرامية المثيرة والحلول المذهلة من طاليس وفيثاغورث إلى أفلاطون وأرسطو (…) من بيكون وديكارت إلى كانط وهيغل، من جميع هؤلاء إلى دارون وأينشتاين، وفرويد ومَنْ بعدهم.»١٠٣ لحظة وصفها بالتراجيديا التي صنعت الفكرة الغربية وأسسها المرجعية.
أما المراجعة الثانية التي يقدمها المسيري فتتعلق بجهود الباحثة الهنغارية أجنيس هيلر Agne Sheller (١٩٢٩م) حين أكدت أن الحضارة الغربية تلاقى فيها مصدران: المصدر الإغريقي والمصدر المسيحي، وأن هذا التلاقي أدَّى إلى علمنة الحياة اليومية والمساحة الأخلاقية، والعلمنة في تصورها تفكيك للعَلاقة بين الإيمان والالتزام والكنيسة (أي الدين) بحيث لا يُعَدُّ أحدهما شرطًا للآخر.
و«قد أخذت العلمنة شكل تمحور الفلسفة حول مبحث الإنسان، وإدخال مبحث الإله في هذا العالم؛ أي تماهي مبحث الإنسان والطبيعة (الكون).»١٠٤ وهي الفكرة التي عبرت عنها هيلر بإحلال أسطورة الأصل الإغريقية، محل أسطورة الأصل الدينية، وعبر عنها المسيري بوحدة الوجود، لتصل إلى الأنسنة الشاملة [الطبيعة والأديان] وتأليه الإنسان.

تحولات أدَّت حسب المسيري إلى إسقاط سؤال نشأة الكون ومصدر العالم ليبرز سؤال: ماذا يفعل الإنسان في العالم؟ وما حدود قدراته؟ فتهاوى النسق المطلق لصالح السياق الاجتماعي الذي تم تكريس نسبيته ونسبية معاييره.

ففُقدَت بذلك المعايير والقيم الضابطة للسلوك الاجتماعي الإنساني. ودخل العالم (الإنسان والكون) مرحلة جديدة من خيبة الأمل والظن وظهور نزعة تشاؤمية بمستقبل هذا العالم، إنها «أزلية علمانية خالية من المعنى»١٠٥ كما يعبر ماكس فيبر.
أما المحاولة النقدية الثالثة التي قدَّمها المسيري، فترتبط بموقف عالم الاجتماع زيجمونت باومان١٠٦ الذي يرى أن مشكلة المشاكل التي تعانيها الحداثة هي مشكلة أخلاقية، فقد سقط ملف الأخلاق من الحداثة مع تزايد النسبية الكاملة، وغياب المطلق وهيمنة فكرة الجسد، فغابت فكرة الجماعة والمجتمع والهُويَّة الجمعية التي تشترط تجاوزًا للذات/الجسد.١٠٧
انتهت الدراسات النقدية لفكرة العلمانية في الفكر الغربي إلى استحالة اجتثاث الدين من حياة الناس، وهزيمة العلمانية أو على الأقل «لم تفِ بوعودها لا في العالم الأول (حيث تنتشر العنصرية والجريمة والنسبية الفلسفية) ولا في العالم الثالث (حيث تحالفت العلمانية مع الفاشية والقوى العسكرية)؛ لذا فقد نحت مصطلح ما «بعد العلمانية» (…) وكلمة «ما بعد» هنا تعني في واقع الأمر «نهاية» (…) كما تعني أن نموذج العلمانية قد دخل مرحلة الأزمة، لكن لم يحل محله نموذج آخر.»١٠٨
ويكشف واقع الغرب اليوم عن أزمة هذا المفهوم، تعبر عنه مؤشرات العَلاقات الإنسانية والاقتصادية والبيئية، واقع يكشف أيضًا عن اختلاط دلالات المفهوم،١٠٩ الذي أنتج مفاهيم ذات عَلاقة بهذا الواقع الذي وصفناه، مثل ««التسلع» و«التوثن» و«التشيؤ» التي تُستخدم لوصف بعض الظواهر التي أفرزتها المجتمعات العلمانية الحديثة»،١١٠ تتجه كلها إلى تجسيد نموذج كامن يوجه الفكر العلماني في كل مراحله، لهذا جاءت صَفَّارات إنذار من كبار الفلاسفة في الغرب تُحذِّر من هذا الدين الجديد، الذي جرَّد الإنسان من كل خصائصه الفطرية، ورمى به في ساحة العبث والتمرُّد على اليقينيات والثوابت، حيث ظهرت نماذج من الإنسان لا نموذج واحد، إذ لكل فلسفة نموذجها الإنساني، الأمر الذي حمل هؤلاء الفلاسفة إلى اعتبار المعرفة التي ينتجها الإنسان سبب هذه المشكلات والانقسامات التي تحياها الإنسانية المعاصرة.

فتاريخ الغرب — كما يذكر المسيري — هو تاريخ العلمنة للطبيعة والإنسان من خلال الحملات الإمبريالية التي شنَّها على شعوب العالم، بل ما تزال تجليات هذه العلمنة طاغية في عَلاقة هذا الغرب مع هذه الشعوب، على مستويات متعددة (الاقتصادية – السياسية – الفنية والإعلامية والرياضية …)

ويمكن الإشارة في هذا السياق أيضًا إلى دراسة حديثة تأريخية حول موضوع العلمانية والدين في ثلاث مناطق أساسية في العالم وهي: مصر، والهند، والولايات المتحدة الأمريكية، للمفكر الأمريكي سكوت هيبارد.

وتقف الدراسة عند منحنيات التدافع والصراع بين الدين والسياسة في هذه البلدان الثلاثة وعوامل الأفول والصعود، مستشهدًا بأمثلة من حضور الخطاب الديني والقيمي في السياسة الأمريكية المعاصرة وفي جل خطابات رؤسائها إلى اليوم — من فرانكلين روزفلت إلى عهد أوباما — حيث «ظل الدين خاصية محورية للسياسة الأمريكية. وعلى الرغم من وجود انفصال مؤسسي ما بين الكنيسة والدولة، ظل الدين — تحديدًا الدين المسيحي البروتستانتي — متأصلًا داخل القومية والثقافة الأمريكية»١١١ التي ترفض التقليد العلماني، وترى نفسها دولة مسيحية على نحو واضح.
ﻓ «على الرغم من غرس القيم والأفكار العلمانية في الدستور الأمريكي، أواخر القرن الثامن عشر، ظلت القومية الدينية الصريحة مؤثرة على نحو هائل.»١١٢ لتنتهي الدراسة من خلال عناوينها الكبرى إلى سقوط العلمانية في هذه البلدان — بمفهوم من المفاهيم التي استعرضها الكاتب — والتشديد على أن الدين بإمكانه أن يكون مصدرًا للوحدة والسلام، لا مصدرًا للخلاف والنزاع.
وهو الموقف ذاته الذي يتبنَّاه آلان تورين حين بدأ يراجع العَلاقة بين العلمانية والدين داخل المجتمع الفَرنسي، وبالخصوص داخل المدرسة الفَرنسية، رافضًا للحدود الوهمية الفاصلة بين الدين والسلوك الاجتماعي، معتبرًا عودة الدين إلى التأطير والتوجيه براديغما جديدة لفَهْم عالم اليوم، وتعقيداته، وبعد أن تعثَّرت الباراديغمات القديمة في تقديم الحلول، خصوصًا الباراديغم السياسي والاجتماعي والعسكري، وفي اعتقاده أن «معرفة الواقعة الدينية أمر ضروري للغاية؛ أولًا: لأن تاريخ الديانات يساعدنا على فهم تاريخنا وحاضرنا.»١١٣ فلا يرى حدودًا فاصلة وقاطعة بين الحياة العامة، والحياة الخاصة؛ لأن ذلك في رأيه يسيء إلى الفكر والعمل الدينيين، وأيضًا السياسيين، ولأن لكل الديانات نشاطات ورؤية عامة.١١٤
ويختم تورين بدمغة تاريخية، واقعية تعزز عنده فرضية هذا التحول الباراديغمي في التحليل، بأن ثمة «عددًا كبيرًا من طرائق التحديث الحالية يجمع في الغالب بين مكونات دينية وأشكال قديمة من التنظيم الاجتماعي والحياة الثقافية.»١١٥ فالتشابك بين الديني والتربوي والاجتماعي في المدرسة الفرنسية هو البراديغم الجديد القادر على شحذ القيم التربوية في المجتمع الفرنسي، ويكسبه القدرة على السير نحو جوهر الحداثة، وليس العكس، فهو يُلِحُّ أن «على المدرسة [الفرنسية] الرسمية ألا تتجاهل الواقع الديني عامة والمعتقدات المتنوعة والطقوس الدينية خاصة.»١١٦ أعتقد أن هذا جزء يسير من المراجعات التي يطالعنا بها هذا الفكر؛ التي تعبر عن العمق الأصيل للإنسان وعَلاقته الأزلية بالتديُّن، أيًّا كان شكل هذا التدين، وهو عبرة لمن لا يزال يُصِرُّ على طريق الخطأ،١١٧ في إقصاء الدين من المجال العام، وبالأخص في مجال تأطير السلوك المعرفي والاجتماعي.

(٢-٢) اختبار تداولية المفهوم في الفكر العربي الإسلامي المعاصر: دراسة في بعض المواقف

لم يكن الفكر العربي المعاصر في معزل عن المراجعات التي عرفتها المدارس الغربية، ليس تقليدًا لقانون المراجعة في الغرب، بل لأن ظروفًا عربية واقعية أرغمت الجميع على الاستجابة لقانون المراجعة الشاملة للمفاهيم التي غزتنا في عُقْر دارنا، قانون تَحكَّم فيه أيضًا نفاذ منسوب هذه المفاهيم على مستوى إجرائيتها وفاعليتها الواقعية.

ونرصد في هذه النقطة مجموعة من المواقف الفكرية العربية ذات العمق العربي الأصيل والمنهجي الرصين، التي تصدَّت لمفهوم العلمانية في الفكر العربي المعاصر، متجاوزين المواقف السجالية والتبجيلية للمفهوم لأنها لا تخدم الموضوع ولا تفي بالمقصود، كاشفين لثغراته المنهجية والمعرفية والثقافية.

ويأتي نقد محمد عابد الجابري — رحمة الله عليه — في قائمة الرافضين لتداولية المفهوم بالمعنى الذي نشأ وطرح في الغرب، حين أكد أن هذا الطرح لا عَلاقة له بعموم الوطن العربي لهذا لا يستسيغ الجابري طرح المسألة بهذا الاسم وتحت هذا العنوان ﻓ «ليس هناك في أي قطر عربي ما يبرر طرح العلمانية فيه، بالمعنى الذي تفهم به هذه المسألة في أوروبا، والذي يتمحور أساسًا في «فصل الدين عن الدولة»، هذا الفصل الذي لا معنى له، في أوروبا من دون الكنيسة التي كانت تتقاسم السلطة مع الدولة، السلطة على الأفراد. أما في الوطن العربي الحديث والمعاصر، وطن الدول العربية (…) فليس هناك ما يبرر طرح المشكل بهذا الاسم وتحت هذا العنوان»،١١٨ بل إن واقع العلوم الإنسانية والاجتماعية — باعتبارها الحاضن الأساس لقيم العلمنة — في الغرب والعالم العربي لم تعد تتحمل هذا الخرق القاتل بين الظواهر الاجتماعية والإنسانية والقيم المجتمعية، بعد أن اتضح حجم الكوارث في منظومة القيم والعَلاقات الموجهة لسلوك الإنسان مع ذاته ومع الطبيعة. وموقف الجابري من المفهوم لا يعني التخلي عنه بشكل نهائي، وإنما ليعيد تركيبه وَفق مطامح أيديولوجيا جديدة ومن خلال مرجعية مغايرة مستبدلًا إياه بمفهومَي العقلانية والديمقراطية؛ لأنهما أَقْدَر على التعبير عن طموحاتنا من مفهوم العلمانية.
لكن تبقى ملاحظاته في العمق المنهجي الذي نتوخاه، وتكشف عن صعوبة تداول المفهوم في الفكر العربي المعاصر، وتعري جانبًا من الصراعات الفكرية، والمرجعية التي عاشها عقل هذا الفكر، ويؤكد أن هذا الشعار ما يزال مدعاة لِلَّبسِ وسوء الفهم في الفكر العربي المعاصر، وحصل فيه نوع من الشطط في استعماله يقول: «إن مسألة «العلمانية» في الوطن العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات: إن الحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة هي حاجات موضوعية فعلًا، إنها مطالب معقولة وضرورية في وطننا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها بل مشروعيتها عندما يعبر عنها بشعار ملتبس كشعار «العلمانية».»١١٩
بل ذهب الجابري أبعد من ذلك حين اعتبر الأسئلة التي طرحها مفهوم العلمانية في الوطن العربي أسئلة مزيفة وضلالًا فكريًّا، إذ «لا شيء يعتم الرؤية ويوقع في التيه الوجداني والضلال الفكري كالأسئلة المزيفة. الأسئلة المزيفة هي كأسئلة الأطفال، أسئلة تطرح مشاكل مزيفة يعيشها الوعي على أنها مشاكل حقيقية. وخطورة السؤال المزيف تكمن في أنه يستدعي جوابًا مزيفًا يثير بدوره مشكلة أو مشكلات مزيفة؛ ذلك لأن كل سؤال لا يُطرح إلا ويحمل معه مشروع جواب (…) والأسئلة المزيفة هي في الغالب أسئلة لا تستمد إشكاليتها من الواقع، بل هي تعبر عن إشكالية فكر حالم، أو فكر مجرد، ميتافيزيقي (…) مشكلة تستقي مضمونها وتحديداتها من مجال آخر. وثنائية الدين والدولة في الفكر العربي الحديث هي من هذا النوع الأخير من المشاكل. ذلك أن السؤال «هل الإسلام دين ودولة؟» سؤال لم يسبق أن طُرح قط في الفكر الإسلامي منذ ظهور الإسلام حتى أواخر القرن الماضي، وإنما طُرح ابتداءً من منتصف القرن الماضي بمضمون لا ينتمي إلى التراث الإسلامي، مضمون نهضوي يجد أصوله وفصوله في النموذج الحضاري الأوروبي الذي كان العرب وما زالوا يطمحون إلى تحقيقه في أوطانهم، وبالخصوص ما يتعلق بالتقدم والنهضة.»١٢٠

فهو لا يمل في مطالبة الفكر العربي المعاصر بضرورة مراجعة مفاهيمه وتدقيقها وتطويعها حتى تستجيب لحاجاتنا الموضوعية وإشكالاتنا الحقيقية والواقعية، بدل الاستمرار في الأسئلة، والأجوبة المزيفة، والمُضاعِفة لزيف الوعي العربي المعاصر. فاختلاط المفاهيم في نظره أحد العوائق الإبستيمية في تطور العقل العربي المعاصر، وفشل مشروع النهضة.

ويزيد الجابري توضيحًا لهذا الإشكال — المفهوم، حين اعتبر مشكلة ترتيب العَلاقة بين الدين والدولة ليست مشكلًا عربيًّا يعُمُّ الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، بل هو مشكل قطري محلي يعني مناطق بعينها، قاطعًا الطريق على أنصار التعميم لأطروحة المفهوم، كاشفًا عن السياق التاريخي لهذا التخصيص، من خلال الصراع القائم بين عرب المشرق، والسلطة العثمانية التي حكمت باسم الإسلام بلدانًا عربية فيها أقليات دينية غير مسلمة، مما جعل المسألة تتخذ في رأيه «طابع الاضطهاد الديني: اضطهاد «دولة» الأغلبية المسلمة، أو التي تحكم باسمها، لأقليات دينية وطنية لها الحق نفسه، في الوطن الذي لغيرها من السكان. في هذه الأقطار كان من المقبول تمامًا أن تطرح المسألة على أنها مسألة «دين ودولة» ونوع العَلاقة الواجب إقامتها بينهما، ولكن لا على أنها مشكلة «العلمانية» بالمفهوم الأوروبي للكلمة، بل على أنها مشكلة الديمقراطية، أعني أنها مشكلة تنظيم السلطة داخل دولة وطنية حديثة.»١٢١
ونداء الكتلة التاريخية الذي أطلقه يعبر عن هذا المنحى التوافقي في فكر الجابري بين تيارات المجتمع، بعد تحريره من المفاهيم المشوشة.١٢٢

إن طرح المفهوم في الساحة الثقافية العربية بهذا الشكل السلبي يزيد من تعميق المشكل بدل حله، ويوسع دائرة الخلاف بين تيارات الأمة الفكرية، وبالتالي انعدام إمكانية أي حوار بنَّاء ومستقل بينها لتجاوز الوضع المقلوب للمفاهيم، في النسق الفكري والمنهجي للعقل العربي المعاصر.

في السياق ذاته تأتي محاولات طه عبد الرحمن، بعمق فلسفي جديد أخذت طابَعًا أخلاقيًّا منطقيًّا، من خلال مفهوم منهجي، هو مفهوم السياق التداولي للمفاهيم، وشرائط الحوارية النافعة بينها وبين هذا السياق التداولي.

مراجعة كشفت هي الأخرى عن ظاهرة التقليد المنهجي، والمعرفي التي ابتُلي بها الفكر العربي المعاصر في عَلاقته مع المفاهيم الغازية. هو تقليد الفصل بين الدين والقيم الأخلاقية الإسلامية وشئون الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والعلمية.

وهو ما رصده في متونه النقدية بآليات منهجية معرفية في غاية الدقة المنطقية والواقعية، فصل أضرَّ حسب طه بكثير من المقولات المرتبطة بحياة الإنسان، منها صعوبة تعريف الإنسان ذاته. يقول: «وقد تجلى نسيان العلمانيين لوجود الإنسان غير المرئي في إطلاقهم لمقولات عدة تضافرت على تضييق هذا الوجود، جاعلة الإنسان أشبه بالحيوان الزاحف منه بالحيوان الطائر»١٢٣ حين فصلت بين العالم المرئي وغير المرئي لهذا الإنسان، منتقدًا بشدة هذا الفصل حين ظهر له «أن الإنسان محاط بالغيب إحاطة الشهادة به، بل إن إحاطته به فوق إحاطتها؛ وما ذاك إلا أن الإنسان لا تنحصر ذاته في «النفس»، بل تتعدى إلى «الروح»، ولا تنحصر رؤيته في «البصر»؛ فإذا كان يحيا بنفسه في العالم المرئي، فإنه يحيا في العالم الغيبي، لا يَني يرتحل من أحدهما إلى الآخر موسعًا وجوده؛ وإذا كان يرى ببصره المباني المرئية، فإنه يرى معانيها الغيبية، فلا تنفك تترقى معرفته، وتأتيه بيقين من بعد يقين.»١٢٤

وجاءت جهود طه لإبطال مُسلَّمات دعاة العلمنة في الفكر العربي المعاصر، وبيان قصورها المنهجي، وصعوبة تداولها الثقافي والمعرفي، مهما اجتهد أصحابها في البرهنة، وإيراد الشواهد.

ونقدُ طه للعلمانية يستوي مع التصور الذي اعتمده المسيري «العلمانية الجزئية» ويسميها بالعلمانية الأدنى، و«العلمانية الشاملة» يسميها بالعلمانية المتصاعدة التي تبلغ حدَّ إنكار العالم غير المرئي «الغيبي»، فيكون المفهوم عند طه قد ضيَّق الوجود الإنساني، ومنَعه من الامتداد في العوالم الأخرى، وهو ما أطلق عليه اسم مسلمة «قصور الوجود الإنساني» في الفكر العلماني، ليس هذا فقط بل أمعن هذا التيار «العلماني» وأوغل في إنجاز فصل ثانٍ (بعد الفصل الأول، بين السياسة والدين) هذه المرة بين الدين والأخلاق واصفًا هذا الفصل ببؤس فكري شنيع ابتُلي به المقلِّدة من المفكرين العرب.

ﺑ «ذلك يجنون على عقولهم بما لا يجنيه عليهم عدوهم (…) إذ يضيقون مجال أفكارهم ومسرح خيالاتهم ويقطعون عن أنفسهم أسباب الإبداع والإثراء التي تنطوي عليها مناحي ثقافتهم عند مقابلتها بمناحٍ من ثقافة غيرهم، كما يضيعون فرص الاستقلال بفكرهم والتحرر مما يرد عليهم، بل يستبعدون كليًّا إمكانات تصرفهم في الوارد عليهم، لا تصحيحًا ولا توسيعًا ولا توجيهًا، قانعين بأن يظلوا عيالًا على غيرهم من مفكري الحداثة».١٢٥
فصاغ طه ردَّه على شكل دعاوى، منها دعوى انحصار الأخلاق في التعامل بين الأفراد، فهذه الدعاوى «تختزل الأخلاق في التعامل بين أفراد البشر بعضهم مع بعض. وفي هذا الاختزال إفقار للأخلاق بما لا يزيد عليه؛ لأن تعامل الإنسان يتعدَّى تعامله مع الآخرين إلى التعامل مع سائر المخلوقات (…) بحيث يتعيَّن عليه أن يأخذ بالقيم الأخلاقية في تصرُّفاته معها …»١٢٦
وثمة محاولة علمية ثالثة، لكن هذه المرة من خارج جغرافية الفكر العربي، محاولة جاءت من الفرس لا تقل أهمية عن المحاولات التي قدمنا، هي محاولة الفيلسوف والفيزيائي الإيراني مهدي كلشني الذي يؤكد على «محدودية الرؤية العلمانية ومعطياتها المرفوضة في الإطار العلمي، وأنه ينبغي للعلم أن يستعيد طابعه وخصوصيته الدينية، من أجل التمهيد لتبلور مختلف الأبعاد الوجودية للإنسان»١٢٧ ﻓ «يصبح العلم والإلهيات — الدين — في إطار هذه الرؤية — يقصد التكامل — محاولة كبيرة لفهم الكون ولإدراك ذواتنا، مع أن لكلٍّ من الاتجاهين فقهه الخاص، غير أن الجانب المشترك بينهما يتمثل في أهداف واسعة. يشكل العلم محاولة لاكتشاف النظام الكوني، بينما يسعى الدين لاستيعاب المعنى أو المضمون الكوني، ويشهد كلاهما تحديد طبيعة العَلاقة بين الأبعاد المتنوعة للكون، وفيما لو نجحنا في ذلك فإنه ينبغي أن يتوحَّدا في النهاية.»١٢٨
فالأسئلة التي يطرحها العلم، والصورة التي يكوِّنها عن الكون تكون خارج إطار الحركة التي يصنعها العلم، ويبقى الدين هو الوحيد المؤهل للإجابة عنها، لهذا فإننا في حاجة للحصول على فهم متكامل١٢٩ للأبعاد بين المرجعية الدينية والعلمية، خصوصًا بعد موجة النقد للأسس الفلسفية والنظرية للعلم التي دشنها العقل المعاصر، وبدأت التحذيرات حول خطورة تعميم نتائج العلم، وإقصاء منظومة القيم الدينية، من ساحة التوجيه، التأويل والتفسير للظواهر.
في حين يرى رشيد الغنوشي أن «العلمانية انتهت إلى عملية تصحُّر إنساني تَحوَّل المجتمع البشري في نهايتها إلى مجتمع ذئاب (…) [وأن] فكرة العلمانية في المحصِّلة النهائية ضد المجتمع المدني، بل هي موت الإنسان، لأنها ضد الغيرية، بينما المدنية هي الغيرية، هي الإيثار هي ثمرة لتصعيد الدوافع والاستعلاء الروحي والخلقي والجمالي.»١٣٠ يضيف: «لقد حررت العلمانية العقل الغربي إلى حد كبير من الأساطير والأوهام ومن تسلط الكنيسة ودكتاتورية الإقطاع، وأعادت للنشاط الدنيوي اعتباره، ونادت بالإنسان مركزًا للكون والسيادة الشعبية، وأسست للحداثة بما هي تطور للعلوم والتقنيات، وتسخير للطبيعة وإعادة تنظيم المجتمع على أسس عقلية، غير أنها اقترنت بسلبيات أخرى مثل المركزية الغربية ومركزية الدولة واختزال الإنسان في بُعد واحد، ولكننا كمسلمين لا نحتاج لهذه العلمانية من أجل تحرر العقول والمجتمعات من الأوهام والتسلط وتقدم العلوم والتقنيات، ففي الإسلام ما يغني عنها وفي شكل أعمق وأوسع.»١٣١
ونختم جملة هذه المواقف بموقف فلسفي في غاية الدقة المنهجية والعلمية، إنه موقف سيد نقيب محمد العطاس في دراسته الموسومة ﺑ «مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية» وهي دراسة ذات عمق منهجي مقارن بين مرجعيتين حضاريتين: المرجعية الغربية وخلاصاتها الفكرية، والمنهجية، وفلسفتها الوجودية، وبين المرجعية الإسلامية وما أنتجته من رؤى حول العالم، ومنظومات قيمية، ينفي فيها أن تكون المنهجية الغربية قادرة على حل المشكلات الإنسانية بالعمق الفلسفي العلماني نفسه الذي أنتجته، يقول: «ونحن لا نعتقد أبدًا أن هذه المزاعم الخاصة بالعلمنة وما يتعلق بتجربة الإنسان الغربي ووعيه ومعتقداته، يمكن أن تكون ممثلة لأوضاعنا أو أن تنطبق عليها؛ ذلك لأن العلمنة التي تتضح حقيقتها جلية عندنا تستخدم في وصف الإنسان الغربي وثقافته وحضارته لا يمكن القَبول بصحتها إذا أريد لها أن تكون وصفًا لما يحدث في العالم أجمع وللإنسانية كلها (…) إن الإسلام يرفض أن تطبق عليه مفاهيم عَلماني وعلمنة وعلمانية؛ لأن هذه المفاهيم غريبة عنه، ولا تنطبق عليه البتة. إن هذه المفاهيم تنتمي إلى التاريخ الفكري الأوروبي وهي نتاج طبيعي للتجربة الدينية والوعي الديني للإنسان الغربي.»١٣٢ وهكذا «تتأكد وجاهة اعتراضنا بأن المرجعيات التي أقام عليها الغربيون فهمهم وتفسيرهم لشئون الحياة والوجود الإنسانيين لا معوَّل عليها، ولا يمكن قَبولها وخاصة ما دام الأمر يتعلق بالدين.»١٣٣
ومن أجل ذلك يدعو العطاس إلى تحرير المنهجية المعرفة الإسلامية والإنسانية من تأثيرات المرجعية الغربية العلمانية، ومن مفاهيمها، وخلفياتها. يقول: «لقد واجهت الإنسانية في مسيرتها المضطربة عبر الأجيال تحديات عديدة، إلا أنه لم يكن منها ما هو أكثر خطورة على الإنسان وهدمًا لحياته من التحدي الذي تمثله الحضارة الغربية. إني لأجازف بالقول إن التحدي الأكبر الذي يخترق وجودنا في هذا العصر إنما هو تحدي المعرفة، ولكن ليست المعرفة في مقابل الجهل وإنما المعرفة كما تم فهمها وتصورها ونشرها في العالم بواسطة الحضارة الغربية. إنها المعرفة التي أصبحت هي نفسها مسألة مُشْكلة، إذ إنها قد فقدت غايتها الحقيقية بسبب تصورها غير القويم، بحيث إنها جلبت الفوضى والاضطراب في حياة الإنسان بدل أن تكون سبب أمن وسلام وعدل (…) إنها معرفة جلبت — لأول مرة في التاريخ — الفوضى والاضطراب في مملكات الطبيعة الثلاث، أعني مملكات الحيوان والنبات والجماد»١٣٤ بسبب اختياراتها الفلسفية والمنهجية الخاطئة، الكامنة في إبستيمولوجية الفصل بين الإنتاج المعرفي ومنظومة القيم.
الفصل الذي دشنته الفلسفة العلمانية بكل فروعها وتخصصاتها. فلسفة عملت على إسقاط ﻟ «سؤال نشأة الكون ومصدر العالم، ليبرز سؤال: ماذا يفعل الإنسان في العالم؟ وما حدود قدراته؟ وبذلك تهاوى النسق المطلق لصالح السياق الاجتماعي الذي تم تكريس نسبيته ونسبية معاييره. وهكذا تراجعت مفاهيم مثل العار والحياء والانحراف. بسبب غياب أية معيارية، وحل محلها تحقيق الذات».١٣٥

خلاصة هذه القراءة — المتعددة المنظورات — انتهت إلى أن مفهوم العلمانية مفهوم ملتبس متعدد الدلالات سواء تعلق الأمر بموطنه الأصلي — الغرب — أو في العالم العربي، بل داخل هذه القراءة قناعة راسخة بإفلاس النموذج العلماني على جميع الصعد. فإن كان هذا النموذج قد ساهم في تحرير العقل الغربي من خرافات الكنيسة، وأطلق خياله في الإبداع، فإنه في المقابل قتل فيه المعنى والقصدية من الحياة وألغى الأسئلة الكلية من حياته، بل ثمة تشديد على ضرورة عودة الدين والقيم إلى التفاعل بين الإنسان وساحة تحركه الفنية والاقتصادية والسياسية والمعرفية.

كما تكشَّف لنا أيضًا عنصر أساسي داخل الفكر العربي المعاصر، هو تناقض مرجعيات هذا الفكر، وهي إحدى العوائق التي عملت على تعميق الهُوَّة بين هذه النخب ومجتمعاتها مما يحفزنا على ضرورة إعادة التفكير العربي المعاصر إلى قواعد الحوار المثمر والنافع حول الإشكالات الحقيقية للأمة، وتسعيرها التسعيرة الحقيقية والواقعية، وفي مستوى التحديات الراهنة، بدل البقاء في أزمنة الغير وإشكالاته المزيفة، والتحلي بالجرأة الكافية في معانقة هموم الذات، ومراجعة السنوات العجاف التي أنشأها هذا التيار في فكرنا المعاصر.

ثمة ملاحظة جوهرية لا ينبغي أن تحجب عنا، ونحن نعالج إشكال العلمنة في الفكر العربي المعاصر، وهي ضرورة إدراك المسافة بين المفهوم كما هو في الواقع وتمظهراته وتعقيداته، وبين رفض النخب له أو تبنيه، فلا تخلو مجتمعاتنا من مظاهر للعلمنة، فلا الدولة العربية ومؤسساتها علمانية كما ينادي دعاة العلمنة، ولا هي إسلامية كما ينادي دعاة الإسلامية، وهي القضية التي دفعت الجابري إلى استشكال المفهوم على مستوى الواقع العربي بين دعاة العلمنة والأسلمة للدولة العربية على حد سواء، فلا «المطالب بالعلمانية محق في وصفه الدولة العربية القائمة اليوم بأنها غير علمانية، بالمفهوم الأوروبي للكلمة، ولا المطالب بالدولة الإسلامية محق هو الآخر في وصفه للدولة العربية القائمة اليوم بأنها «غير» مسلمة بالمعنى الذي يتصور به الدولة المسلمة، الطرفان محقان فيما ينفيان، ولكنهما غير محقين فيما يثبتان».١٣٦
مواقف تعبر كلها عن أزمة حقيقية تعيشها النخب العربية حول شكلِ ومفهوم الدولة العربية الإسلامية، ساهم فيها الوسيط المرجعي لتيارات الفكر العربي المعاصر ﻓ «التدخل الاستعماري واختراقه المفضوح والقوي للنخب العربية أوقعا مشروع هذه الدولة في أزمة أخلاقية منكرة لم تكن ضرورية جرَّتها عليها القطائع المتعددة التي أحدثها الاستعمار وآثاره الباقية»،١٣٧ بل مشروع النهضة والكيان الحضاري للأمة هو المتضرر الأكبر من عملية الاختراق هذه، وما تزال ضريبته قاسية على الأمة إلى اليوم.
يستبطن واقع الأمة كثيرًا من مظاهر العلمنة في وجدانه وطقوسه الدينية، وموقفه مما يجري من الأحداث والتحولات وما يتلقاه من وسائل الإعلام، وما يختزنه من كل ما يرد إليه من السلع والماركات المسجلة، فهو يستبطن ما سَمَّاه عبد الوهاب المسيري ﺑ «العلمنة البنيوية الكامنة» التي تتسرب إلينا وتتغلغل في وجداننا دون أي شعور منا من خلال منتجات حضارية يومية وأفكار شائعة وتحولات اجتماعية تبدو كلها بريئة، أو لا عَلاقة لها بالعلمانية أو الإيمانية، ولكنها في واقع الأمر تخلق جوًّا خصبًا مواتيًا لانتشار الرؤية العلمانية الشاملة للكون وتصوغ سلوك من يتبناها وتوجهه وجهة علمانية».١٣٨

هي إذن معركة ثقافية بامتياز ليس في اتجاه النخب، وإنما في اتجاه المجتمع ومؤسساته الحاضن الأقوى لقيم العلمنة رغم بعض مظاهر التدين التي تظهر في سلوكاته، وبعض مواقف الرفض التي يعلنها الشارع العربي ومؤسساته.

(٣) المبحث الثالث: ملاحظات نقدية حول الاشتغال المنهجي في الفكر العلماني العربي المعاصر

إن الإلغاءات القسرية التي مارسها تيار العلمنة في الفكر العربي المعاصر لا شك أنها أضرت بكثير من قناعات عقل هذا الفكر، وتركت آثارها السلبية على جزء كبير من منظومة التفكير للإنسان العربي المسلم، وشوَّهت معالمه الثقافية ودفعته في اتجاه التفكيك والتشتيت؛ تفكيك للعروة الوثقى بين الأبعاد المادية والقيمية في سلوكه، وتدمير مركبات الوعي حين حولت الدين إلى دوائر هامشية مستقلة وفي زاوية ضيقة لا عَلاقة له بصناعة أشكال الوعي المتعددة.

فصل أنتج أيضًا قلقًا معرفيًّا شديد الحساسية، انتهى إلى بدء رحلة جديدة في مسار طويل من تاريخ الفكر العربي المعاصر، هي رحلة الهُويَّة الحضارية المتكاملة الأبعاد، جعلته يعيد تقليب الملفات الكبرى التي أرغمته على تلك الرحلة الفاشلة والمتعبة، رحلة الوعي العكسي من الغيرية إلى الذات، إلى الوعي السوي من الذات وأفقها إلى الغيرية وعلاقتها بالذات. ليس هذا فحسب في عالمنا العربي الإسلامي؛ بل في عالم الغرب الذي لم يعُدْ يُطيق عوالم متعددة في عالم واحد؛ لهذا فإن مراجعة هذه المدرسة على مستوى مرجعياتها وآلياتها يرينا حجم الدمار الذي تعرَّض له عقل الفكر العربي الإسلامي، وكذا حجم المعاناة التي عاناها جراء هذا التبني غير الشرعي لفكر الغير واحتضانه.

إن «الخطاب العلماني خطاب حلولي، هو خطاب يؤله الإنسان، وحينما يؤله الإنسان نفسه فإنه يُلغيها»،١٣٩ وهو ما يفسر الاهتمام المتزايد لدعاة العلمانية بوحدة الوجود عند كل من الحلاج وابن عربي وأبي حيان التوحيدي، وهي مقدمة العلمانية، حيث تعتبر الإنسان مرجعية ذاته.
ﻓ «التفسيرات الحرفية التي تطابق بين النص القرآني والواقع التاريخي أو الحقائق العلمية تسقط فيما يسمى عصر الربوبية، وهي الدعوة التي ظهرت في القرن الثامن عشر في أوروبا فيما يسمى عصر العقل والاستنارة، والتي ترى أنه بوسع الإنسان أن يصل إلى حقيقة الكون وإلى منظومات أخلاقية ومعرفية وجمالية دون حاجة لوحي، وإنما من خلال عقله.»١٤٠ تسربت هذه الربوبية إلى فكرنا وإلى الدراسات القرآنية المعاصرة من خلال المطابقة بين الوحي والواقع، فيتداخل المطلق مع النسبي دون إدراك للمسافة الطبيعية بينهما، وقد انتشرت التفسيرات الحرفية ذات التوجه العلماني «ثمرة أزمة حضارية تتعلق بمحاولة اللحاق بالغرب وفقدان الثقة بالذات …»١٤١ فدخل الفكر العربي المعاصر في حالة من التعبد بالمفاهيم والمقولات الغربية؛ أي التماهي معها إلى حد القداسة والتقديس، تقديس الإنسان، هذه الرؤية التي نجد لها أصداءً في فلسفة نيتشه حين أعلن «موت الله» وإطلاق شعار «الإنسان الأعلى».

إن إصرار الاتجاه العَلماني على إبعاد التصورات الدينية-الإسلامية من حقل الدراسات المعرفية والمنهجية، على اعتبارها من العوائق المانعة للإبداع في الفكر العربي المعاصر وعلى طول التاريخ، استرجاعًا لصدى الصراع الذي شهدته الساحة الفكرية الغربية، لتبرير جزء من عجزه الفكري الإبداعي في الساحة العربية المعاصر، إلا أن هذا الإصرار تنقضه الأدلة الواقعية لتاريخ هذا الغرب (النموذج)، كما تنقضه الشواهد والنماذج الفكرية ذات التوجه الديني في التأسيس لإبستيمولوجيا عربية معاصرة بمواصفات منهجية تجمع بين تجربتها الحضارية وأصولها المعرفية والمنهجية، وبين التجربة الإنسانية الغنية دون استلاب من الماضي العربي الإسلامي أو الحاضر الغربي.

إن تفسير الفقر الإبداعي في الفكر العربي المعاصر بالمؤامرة بين أهل السياسية و«رجال الدين» من قبل الاتجاه العَلماني يخفي وراءه كثيرًا من التناقضات التي يعبر عنها ويحملها مشروعه الفكري، ويعترض أبو يعرب المرزوقي على هذا الادعاء المزيف من خلال تاريخ الغرب نفسه، كاشفًا قلق حجج هذا الاتجاه وضعف منطقه التبريري، يقول: «هل يمكن لمن يعلم تاريخ الغرب الحالي من بدايات نهضته إلى الآن أن يجهل الحروب الدينية التي عرفها الغرب؟ لم نعرف حتى واحدًا في المئة. هل لنا حرب المئة عام؟ وحرب الثلاثين سنة؟ والحرب بين الكاثوليك والبروتستانت؟ أوَليست الحرب الدينية سارية المفعول إلى الآن في موطن الفلسفة الإنجليزية ذاتها؟ كل ذلك لم يمنع من وجود الإبداع الفلسفي؟ لماذا لم يقل أحد إن هذه الحروب هي بين الظلامية والتنويرية لو كانت التنويرية العربية فعلًا تنويرية؟»١٤٢

فهذا الجو الذي عاشه الغرب لم يمنع من ظهور مبدعين من حجم ديكارت ونيوتن، ليفضح أوهام الفكر الفلسفي العربي المعاصر التي استند إليها في معركته المنهجية مع التيار البنائي العربي المعاصر، ولعل الثنائيات التي روَّج لها وبثَّها في عقل الأمة تُمثِّل قمة هذه الأوهام «الدين» و«الدولة»، «العلم» و«الغيب».

لهذا فإن «فهمنا الفكرين الفلسفي والديني هذا الفهم لم يعُدْ بوسعنا أن نعود إلى الخصومة الساذجة بين عقل بلا نقل ونقل بلا عقل، لكأن معتقدات الفلسفة القديمة والكلام الساذج ما تزال سارية المفعول، ولكأن الفكر العربي المعاصر لم يسمع بالثورة التي حدثت في إبستيمولوجيا العلوم الطبيعية من خلال ما وجَّهته إليها إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية منذ نهايات القرن التاسع عشر، بل وحتى (إبستيمولوجيا) الفنون الأدبية والجماليات منذ النصف الثاني من القرن العشرين …»١٤٣ كأن الغرب — يقول المسيري — لم يشهد تداخل الديني والزمني.

إن الاتجاهات النقدية التي ظهرت في الغرب واستطاعت أن تؤسس لإبستيمولوجيا معاصرة هي اتجاهات دينية، فالثورة التي شهِدَتها العلوم الإنسانية والتي دشَّنها كثير من الفلاسفة الرافضين للوحدة المنهجية بين العلوم الطبيعية والإنسانية، إنما منطلقها الاعتقاد الديني الذي يرى صعوبة المماثلة بين الظاهرة المادية الصرفة، والظاهرة الإنسانية المعقدة في تركيبها النفسي والاجتماعي. وتمس قضايا هذا المبحث قضية المفاهيم والمرجعية في مشروع أركون.

(٣-١) على مستوى المفاهيم

إن القارئ لمشروع أركون يقف عند شبكة من المفاهيم السائبة السيالة التي يستعملها في كثير من الأحيان، ليس لبناء نسق معرفي متكامل الأركان، إنما كل مسعاه التشكيك في الأصول، والمرجعيات المرتبطة بالذات، والاتجاه نحو المرجعيات المغايرة؛ لهذا يقع «المشروع الأركوني في فخ المشاريع اليتوبية التي تعتقد بأنها أقدر من غيرها على تحرير العقول من أسر الفكر المنغلق، وبأنها تملك الحقيقة التي بها يتم فعل التحرير والتجاوز. فمشروعه في المحصلة لا يعدو أن يكون وهمًا من أوهام الحداثة التي فضح المشروع التفكيكي زيفها وبطلان دعواها.»١٤٤
بل «أضحى جليًّا (…) أن الخطاب الأركوني مسكون بهاجس التحرير والتبشير؛ الأمر الذي جعله يتناقض مع ما يروم تحقيقه، وكأني به يعيد ما حاول «مارتن لوثر» فعله، في محاولة لتجديد العقل اللاهوتي الغربي، فهو إن نهَج العلمية في نقد العقل المعياري فإنه لم يبرح أرض هذا العقل، أي العقل الدوغمائي؛ لأن العقل النقدي يرفض النعوت والتسمية والنمذجة، وهو ما يفتقر إليه خطاب أركون».١٤٥
إن «المتأمل في آليات المنهج الأركوني يجد أنه يتبنى التفكيك استراتيجية لنقد هذا العقل، والتفكيك — كما هو معروف — مشروع نقدي جاء لتصحيح مسار الحداثة وإعادة الاعتبار لخطاب الاختلاف وثقافة المغايرة،١٤٦ وذلك بتقويض كل الخطابات المركزية التي تدعي امتلاك الحقيقة، والحفر فيما سكت عنه بفعل الحضور؛ أي إبراز اللامعقول واللامفكر فيه.»١٤٧ فالعُدَّة المنهجية التي راهن عليها أركون في قراءة العقل العربي الإسلامي والحفر في تراثه هي منهجية نسبية احتمالية في مفاهيمها وسياقاتها وبراهينها، إذ ليست كل منهجية مستحدثة علمية استدلالية برهانية.
ما استحدثه الغرب من مناهج ارتبط بفترات من تاريخه الحديث والمعاصر، سياقات تكشف عن أيديولوجياتها وفهمها الوهمي والمغلوط والمشوه لكثير من الأنساق المعرفية والحضارية — الأنثروبولوجيا — على سبيل المثال لا الحصر — فجدير ﺑ «القراءة العلمية أن تخلق فضاءها البرهاني الذي يكون عنوان مسيرتها في البحث عن حقائق الأشياء، هي القراءة التي تُولِّد أدواتها وتثبت قدرتها على مجابهة القراءات المعادية لها، أما تلك التي تركب العلمية متهمةً الخطابات المناهضة — تراثية كانت أم معاصرة — بالمعيارية والدوغمائية والأرثوذوكسية، ثم ترتد على عقبيها وتنحو المنحى نفسه، فتتحول إلى دوغمائية جديدة أشد ضراوة، وأبلغ مذهبية، لهي زائفة ومخاتِلة تزيد من غربة العقل العربي في التمرد على ثوابته، والوقوع فريسة العقل الغربي».١٤٨
فدعاوى التأويلية في الفكر العربي المعاصر هي «دعاوى في المحصلة، قتل للذات المؤولة في العقل العربي، وحبس لأنظمة الثقافة العربية الإسلامية في سجن الثقافة الغربية التي ترى نفسها المركز الذي يملك المعرفة الخالصة والتفكير العلمي الموضوعي، أما غيره فهامش وأطراف، بل المتخلف الوحشي، هو الشرق السحر، الأسطورة والخرافة، التي يجد فيها فضاءً للتجريب وإثبات «نظرية المخيال» كرؤية نقدية تنظر إلى الآخر — الشرق من الخارج ضمن ما عرف بالدراسات الاستشراقية»،١٤٩ رغم إعلانه الرفض لهذا النوع من الدراسات التي هيمنت على حقل الثقافة العربية الإسلامية في كل مراحلها، إلا أن هذا الإعلان سرعان ما ينهار أمام ضغط الأيديولوجية، ليتجه نحو تجديد آليات التحليل الاستشراقي في سياق علمنة الفكر النقدي العربي.

إن الخروج من الأوهام المنهجية لعقل الفكر العربي المعاصر لا يتأتَّى بالانخراط غير الواعي في فكر الغير، ونقل معاركه إلى ساحتنا المعاصرة والانشغال بها، إنما الخروج يتأتَّى من خلال وعي الذات وما تملك من قدرات وطاقات فاعلة، وتجاوز القراءات الأيديولوجية الاستهلاكية الباحثة عن الدليل لاعتقاداتها، وهي القراءات التأويلية المدرسية التي أفسدت المعنى، وأصَّلت للفوضى واللامعنى في التأويل، قديمًا وحديثًا، فتأويلية أركون تأويلية اللامعنى وتشتيت الذات والموضوع معًا.

لهذا جاء جهده مشتتًا بين «غايات لا يمكن حصرها أو تحقيقها، فهو خطاب يعمل على إقحام العلمية الموضوعية في فضاء الدين الإسلامي، الذي يعتقد أنه يسيطر بدوغمائيته لإنشاء تيولوجيا جديدة تحت ستار مشروع «سيميائية اللغة الدينية» كهاجس معرفي يرمي من خلاله المشروع الأركوني إلى المحافظة على السلطة الرمزية لهذا الدين، وهو ما يجعله يناهض طروحاته العلمية التي ترفض المتعالي والمقدس والمطلق مثلما يتأبَّى الخطاب القرآني في جوانبَ كثيرة منه على الصرامة الموضوعية.»١٥٠
يُعبِّر المنحى الذي سار عليه أركون في مشروع نقد العقل الإسلامي عن أزمة العقل العربي المعاصر في عَلاقته مع خلاصات العقل الغربي، ويُعبِّر عن سوء تدبير لطبيعة العَلاقة التي ينبغي أن تسود بين خلاصات التجربتين: تجربة العقل الغربي وتجربة العقل الإسلامي بين ثوابتهما ومتغيراتهما، فطريقة القياس على العقلانية الغربية ومنهجياتها، والإصرار على تبنِّي شاكلتها الثقافية «لا تبني نظامًا معرفيًّا، ولا تقود إلى تشكيل وعي شمولي حول ثقافة المجتمع العربي ولا حول ثقافة الغرب؛ وبالتالي فهي لا يمكن أن تقود إلى نقد أي من النظامين أو دراستهما دراسة مقارنة. إنها تفكك النظامين وتتركهما دون إعادة تركيب»؛١٥١ لهذا فإن القياس الحضاري وعي منهزم.
يمثل محمد أركون في الفكر العربي المعاصر أحد الاتجاهات التمجيدية والتبجيلية لفكر الحداثة ومنجزاتها، ويدعو إلى الانخراط غير المشروط في أدواتها وتجاوز الماضي العربي وتراثه ومنطلقاته،١٥٢ ومصطلحاته ولغته؛ لأنها غير قادرة على المواكبة، ومرتبطة بنص (الوحي) مما يعوق عملية الإبداع عكس اللغات الأوروبية.
فعمل على إنزال — كما قلنا — كل السلالات المفاهيمية للحداثة لافتضاض العقل الإسلامي، وتخريب ثوابته والتشكيك فيها، وزحزحتها؛ لهذا كانت واحدة من الثغرات المنهجية في هذا المشروع؛ عجزه عن صياغة مفهوم نقدي عربي قادر على قراءة مشكلات الفكر العربي المعاصر، مما يجعل أركون عبارة عن «تقني يطبق وينفذ المناهج الغربية على التراث العربي الإسلامي»،١٥٣ دون إخضاعها للمساءلة والنقد، وهو قادر على ذلك — لو أراد — في صرامة متناهية، لكن الانبهار بالحداثة والتقليد المرذول حالَ دون هذه العملية، وكان موقفه — كما جميع الحداثيين العرب — أكثر ضعفًا من المواقف التي وصفها بالأرثوذكسية والسلفية؛ لأنه فشِل في تقديم بديل أو بدائل مقنعة.
وقد كان هذا الموقف يلازمه في كل خطوات بحثه، من أن المناخ الثقافي العربي غير مستعد لقَبول هذه الأطروحات، وإن كان كمال عبد اللطيف ذهب عكس ما قلناه، حين أكد أن أركون على المستوى المنهجي كان أشدَّ حرصًا على «التجديد المنهجي في المقاربة والمعالجة، وعلى كتابة مقالات ذات طابع منهجي صرف، أكثر مما نلاحظ وقوفه على نتائج وخلاصات نهائية»،١٥٤ لكن هذا الحرص المنهجي بقي محدودًا في عطائه، وملتزمًا بمجال غير مجال الفكر العربي الإسلامي بعيدًا عن اهتماماته وانشغالاته؛ ولهذا يعاب على أركون — كما يقول الجابري — هروبه إلى الأمام وغموضه على مستوى الرؤية والمآلات من خلال تأسيسه لعَلاقة تنافر وعداء مع أصول الثقافة العربية الإسلامية.
فإذا كان كمال عبد اللطيف يرى في جهوده تأصيلًا منهجيًّا ومساهمةً في تأسيس مقالة قوية في المنهج١٥٥ من خلال محاولاته تفكيك أصول التراث بالنقد والتحليل والهدم، فإننا نرى أن التأصيل المنهجي لا يكون باستعارة أدوات خارجية ومخاصمة للأدوات التي أنتجتها هذه الثقافة؛ ولهذا لا اعتبار للخلاصات التي انتهى إليها كمال عبد اللطيف إلا من باب التسويق لهذا النموذج، ومحاولة تبديد الجهود واستغفال العقول، فالتأمل في الأدوات التي اشتغل عليها أركون لا يعدو أن يكون تَكرارًا لما ألِفَه تاريخ الفكر الإسلامي في الدراسات الاستشراقية من نَصْب العداء لهذه الثقافة وتحنيط لمقوماتها وتحييدها عن جهود البناء والمعركة الحضارية التي تخوضها الأمة، إذ لا مجال للتحديث والتجديد إلا من داخل أصولنا ومرجعيتنا الفكرية، مع الانفتاح الواعي والناضج على الآخر الإنساني — لا الغرب وحده.
صحيح أن أركون اجتهد على مستوى المُنجَزات النظرية، وتعامل مع المدارس المنهجية الفكرية الغربية تعاملًا يوحي بهضمه لهذه الآليات، وهو الذي اشتغل أزيد من ثلاثين سنة في السوربون باحثًا ومُنظِّرًا حتى لُقِّب برائد ومجدد الفكر الإسلامي، لكن جهوده النقدية اتجهت — للأسف — ليس إلى البناء كما روَّج له بعض المعجبين به،١٥٦ وإنما كان غرضه التفكيك؛ تفكيك آليات العقل الإسلامي على غرار التجربة الغربية التي انخرط في مشروعها منذ هايدغر مرورًا بدريدا الذي طوَّر آليات العبث والتبديد للمدرسة التفكيكية في جو غير جو المجتمع الفَرنسي الرافض لهذا النوع من المغامرة في تبديد معطيات الثقافة الفَرنسية وأسس ثورتها، فإذا «فشِل البنيويون في تحقيق المعنى، فإن التفكيكيين نجحوا في تحقيق اللامعنى، ورفضوا كل شيء ولم يقدموا بديلًا أو بدائل مقنعة»،١٥٧ فسار الخطاب النقدي العربي الحداثي مسير نظيره الغربي شكلًا ومضمونًا، ويستخدمون المصطلح النقدي الغربي بكل دلالته، وهو مُشبَّع بتصوُّرات الفلسفة الغربية، ومتحيز لمركزيته ﻓ «يصلون إلى نفس النتائج التي توصلت إليها الحداثة الغربية في تعاملها مع النصوص: فلا نص ولا دلالة ثابتة، لا تفسير نهائي للنص، لا تفسير مفضل أو موثوق به، كل القراءات إساءة قراءات …»١٥٨
هكذا «فشِل النقاد الحداثيون في بحث مصطلح نقدي خاص بهم، تمتد جذوره في واقعنا الثقافي العربي، وفي تنقية المصطلح الوافد من عوالقه الثقافية الغربية، وعن مُناخه الفكري والاجتماعي والسياسي، الذي أنتجه (…) وهنا تكمن الأزمة الحقيقية للنقاد الحداثيين العرب»،١٥٩ كما يؤدي نقل هذا المصطلح إلى إحداث فوضى واضطراب في حقله الثقافي التداولي الثاني و«يتعارض أحيانًا مع القيم المعرفية التي طوَّرها الفكر العربي المختلف».١٦٠
وقد دخل الاتجاه الحداثي عندنا في متاهات مفاهيمية وفي كثير من الأحيان مفاهيم سِمتُها الأساسية الغموض وإشارات شديدة التعقيد، في الوقت الذي يمكن فيه التعبير عن كل هذه الالتواءات بأبسط العبارات وأبلغها١٦١ حين أغرقونا بمقولات منقولة ومحرفة لسنوات لا نكاد نرى فيها الحقائق كما هي إلا من خلال مَراياهم.

(٣-٢) على مستوى المرجعية

ثمة حقيقة مؤلمة في الفكر الحداثي العربي تعبر عن جوهر الأزمة المرجعية الحداثية العربية هي «ازدواجية الولاء، التي تفسرها عملية الانشطار الدائمة والتناقضات القائمة والمستمرة عند الحداثيين العرب الذين يضعون قدمًا في المشرق العربي وقدمًا في الغرب الأوروبي والأمريكي»،١٦٢ فيعيشون «حالات التأرجح بين ادعاء الأصالة وإنشاء حداثة عربية، تختلف عن الحداثة الغربية في مقولاتها ومصطلحها النقدي، في الوقت الذي تكشف فيه كتاباتهم بصفة مستمرة عن تأثرهم الواضح — إن لم يكن نقلهم الصريح — عن الحداثة بمفهومها الغربي.»١٦٣ الهروب من الماضي العربي لا يفسره إلا السقوط المريب والمخزي في الماضي الغربي، فهم في كلتا الحالتين ماضويون.
وهذه أخطر حالات الاغتراب، فكان أمرهم عجيبًا؛ فهم يدعون إلى «الانقطاع عن تراثهم، ويمجدون تراث غيرهم، وتهربًا من مواجهة حاضرهم أو ماضيهم ينتقدونه جملةً وتفصيلًا لتبرير اتباع حاضر غيرهم، فالحداثة تعني عندهم انقطاعًا عن الماضي إذا كان هذا الماضي هو ماضي الذات العربية، أما إذا كان ماضي الغرب فهي اتصال واستمرار وثيقان، هما آفتان خطيرتان تلازمان هذا الفكر: آفة الانقطاع وآفة الاتصال»،١٦٤ مما يجعل الدعوة إلى الانخراط في التراث وحل مشكلات المجتمع العربي دعوى فارغة من محتواها، وغير ذات موضوع في الخطاب الحداثي.
وبفعل الغفلة والتغافل عن الشروط الذاتية لاستنبات الحداثة وتأصيلها ساد الاضطراب المنهجي والازدواجية في كل المشاريع الفكرية التي قاربت مشكلة التأخُّر والتخلف العربي الإسلامي. وهكذا لم يتمكن «الحداثيون العرب من بلورة مفاهيم وأُطر فكرية وثقافية لتطلعهم الفكري والسياسي بعيدًا عن النموذج الغربي، وانحصرت جل أطروحاتهم ومشاريعهم في تمثُّل التجربة الغربية، واعتبر بعضهم (…) أن التغريب شرط ضروري لا بُدَّ منه للتحديث»،١٦٥ وكتابات أركون وعبد الله العروي لا تخرج عن هذا السياق، بل أكثرها دعوة لتسليم الأمة إلى رياح التغريب وتخريب المناعات الذاتية لها.
إن عملية «التحديث كعملية مجتمعية ليست مرتبطة بمركز الغرب ومحوريته بشكل عفوي وكامل، فهو ليس وحده الذي وصل إلى مستوى متقدم من التحديث، فالكثير من الشعوب، قديمًا وحديثًا وصلت إلى مستوًى مُتطوِّر من الحداثة والتحديث بعيدًا عن مركزية الغرب ونمطه الحداثي»،١٦٦ لكن رغم ذلك بقي التعميم السمة الغالبة لهذه الكتابات لنموذج معرفي محكوم بظروف داخلية وتاريخية غير قابلة للتكرار، وبهذا فإن مفتاح الحداثة عندنا ليس على هذه الشاكلة، وإنما من خلال «استنفار الجهود العقلية والعلمية الذاتية في اتجاه التطوير والنهضة، وكل تحديث لا ينطلق من الذات بإمكاناتها وآفاقها سيتحول إلى مشروع يناقض الحداثة.»١٦٧
فنحن لسنا ضد الحداثة كما يتوهم البعض، بل نحن في أمسِّ الحاجة إلى حداثة، لكنها حداثة «تهزُّ الجهود وتدمر التخلف وتحقق الاستنارة، لكنها يجب أن تكون حداثتنا نحن، وليست نسخة شائهة من الحداثة الغربية»،١٦٨ وهو التوجه الذي نجده عند التيار البنائي في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، الذي يرى ضرورة التأسيس الداخلي والنقد للفكر الحداثي كما نشأ في الغرب، فنحن «لا نستطيع أن نصنع التاريخ بتقليد خُطى الآخرين في سائر الدروب التي طرقوها، بل بأن نفتح دروبًا جديدة (…) كما لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بأفكار أصيلة تستجيب لسائر المشكلات على الصعيد الأخلاقي، أو على صعيد الأفكار الفعالة؛ لتجابه مشكلات التطوُّر في مجتمع يعيد بناء نفسه.»١٦٩
فبدل أن يتصدى هذا التيار لمشكلات الأمة من خلال الإطار العقدي والحضاري، الذي تكوَّنت فيه عبر تاريخها، نجده يتجه كليًّا وفق نمطية استلابية لهذا الوافد الفكري، الذي لم يستطع معه أن يقدم لواقع الأمة خطابًا موضوعيًّا وإيجابيًّا عن الآخر وعن الذات. فظلت مشكلتهم — كما يقول ابن نبي — هي الخلط بين «أمرين: الانفتاح الكامل على كل رياح الفكر وبين تسليم القلعة للمهاجمين كما يفعل الجيش الخائن، فهؤلاء مَرَدوا بإدمان على تقليد الآخرين؛ ليس لديهم أي مفهوم عن ابتكار هذا الغير، ولا عن دوافع هذا الابتكار وعن تكاليفه في جميع المجالات التي يقلدونهم فيها، وكان الأجدر بهم أن يبتكروا هم أنفسهم وفق دوافعهم الخاصة بدل أن يقلدوا.»١٧٠
ﻓ «إذا صح أن الواقع الحداثي الغربي (…) يتميز بقطع الصلة بكل ماضٍ وقديم، صح معه أيضًا أنه يفتح آفاقًا مستقبلية، ويطرق أبوابًا جديدة لا يمكن أن يتطلع إليها من يبقى متمسكًا بما مضى وما قَدُم، ومن هنا يكون هذا الواقع الحداثي ممارسة إبداعية مستمرة وشاملة، ولو أنها ممارسة إبداعية تخص أهل الغرب، ولا تلزم غيرهم من الأمم، وإذا نحن تأمَّلنا هذه القراءات — يقصد القراءات الحداثية للوحي — في ضوء هذه الحقيقة تبيَّن لنا أن أصحابها لم يمارسوا فيها الفعل الحداثي في إبداعيته، ولا انطلقوا فيه من خصوصية تاريخهم، بقدر ما أعادوا إنتاج الفعل الحداثي كما حصل في تاريخ غيرهم مقلدين أطواره وأدواره، ويتجلَّى هذا التقليد في كون خططهم الثلاث١٧١ المستمدة من واقع الصراع، الذي خاضه «الأنواريون» في أوروبا مع رجال الكنيسة، والذي أفضى بهم إلى تقرير مبادئ ثلاثة أنزلت منزلة قوام الواقع الحداثي الغربي.»١٧٢ وهذه المبادئ الثلاثة هي:
  • (١)

    الاشتغال بالإنسان وترك الاشتغال بالإله.

  • (٢)

    التوسل بالعقل وترك الوحي.

  • (٣)

    التعلق بالدنيا وترك التعلق بالآخرة.

وإذا دققنا — يقول الكاتب — في الخطط التي اتبعها أهل القراءة الحداثية في الفكر العربي المعاصر، وجدناها مأخوذةً من هذه المبادئ الضابطة للواقع الغربي، مع ما في هذا الإنزال من «عيوب منهجية صريحة تُفقد التحليلات الحاصلة قيمتها، كما تُفقد النتائج المُتوصَّل إليها مصداقيتها»،١٧٣ فالمنهجيات والنظريات التي وظفت في دراسة الوحي وفق الخطط الثلاثة «فخطة التأنيس اختصت عندهم بنقل الوحي من وضعه الإلهي إلى الوضع البشري قاصدة إلغاء القدسية منه، فصارت على تقرير المماثلة اللغوية بين القرآن وغيره من النصوص البشرية، كما اختصت خطة التعقيل بالتعامل مع الآيات القرآنية بجميع المنهجيات والنظريات الحديثة، قاصدة إلغاء الغيبية منها، فانتهت إلى تقرير المماثلة الدينية بين القرآن وسواه من النصوص الدينية، واختصت خطة التأريخ بوصل الآيات القرآنية بظروفها وسياقاتها المختلفة، قاصدة إلغاء الحكمية فيها.»١٧٤

ولعل هذه الخطة تنطبق على الآليات المنهجية التي اشتغل عليها أركون من خلال المنهجيات التي ذكرناها من المنهجية الألسنية والتاريخية والأنثروبولوجية الدينية والزحزحة والمنهجية التفكيكية.

هكذا ظلت انشغالات أركون خارج انشغالات الذات وهمومها، مما جعل مفكرًا في مستوى الجابري يطرح مشكلة الإبداع وأزمته في الفكر العربي المعاصر، لكن مدخل تحليل الأزمة لم يكن مُوفَّقًا، إذ انتهى إلى أن أزمة هذا الفكر في ارتباطه بنموذج — هو نموذج السلف — وبآلياته الذهنية.١٧٥
ليست الأزمة في الارتباط بهذا النموذج، كما ليس منطلقها عدم الانفتاح على الآخر، بل العكس؛ هذا الانفتاح غير المعقلن وغير المنضبط والراشد هو الذي أضرَّ بعملية الإبداع وعمَّق الأزمة، بل إن «عمليات الإبداع والتطور في كل المجتمعات الإنسانية كانت وليدة ظروف التفاعل المنطلق مع منهج الذات الحضارية (…) فلا إبداع معرفي واجتماعي وثقافي في إطار التقليد والجمود، كما لا يتم — أي الإبداع — في إطار الانسلاخ والاستلاب والقطيعة التامة والشاملة مع الذاكرة الحضارية للأمة».١٧٦
لنخرج إذَن من عقدة التقليد والنقل الأعمى ومن الإصرار على مركزية الغرب، بل «يمكن القول إن الذين يعيشون في الهامش وحدهم هم الذين ما زالوا يعتقدون — لفرط إحباطهم وحرمانهم — أن الاتصال بالحضارة والوصول إلى سعادتها مرتبط بتقليد الغرب أو الذَّهاب إليه في الوقت الذي أصبح يسدُّ عليهم في الداخل وعلى الصعيد العالمي كلَّ الأبواب للنفوذ بالفعل إلى ثمار هذه الحضارة.»١٧٧
هكذا عبَّرت الاتجاهات التغريبية — العلمانية — عن شكل من أشكال احتضان القيم الثقافية الغربية، وعن وعي سياسي زائف وضعها خارج اهتمامات الشعوب، وركبت مركبة الأنظمة وسارت معها «ويكفي أن نقارن في ذلك خريف الفكر العلماني وهامشيته في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، بالرجوع إلى بداية تشكُّل وظهور مجموعة من النخب التي تبنَّت الأنماط الإصلاحية للمجتمع العربي، وكيف أن العزل والتهميش رافقها منذ البداية، وأن القوة والإشعاع اللذين كانت تتمتع بهما في بداية ظهورها قد تحللا على الهامش التاريخي لأحداث الأمة وتطوراتها تمامًا، كما كان موقعها، بل حتى التي تحملت فيها مسئوليات الحكم في فترات لاحقة، لم تستطع تثبيت نفسها أمام الرفض الشعبي إلا بواسطة القهر والغلبة والنفوذ السلطوي الاستبدادي.»١٧٨
فتحولت هذه الأيديولوجية — كما يقول برهان غليون — إلى عقائدية من نوع وطبيعة عقائديات القرون الوسطى، وإلى علموية جافة منحطة، احتلت الموقع الذي كان يحتله نظام المعرفة الوسطوي النص اللاهوتي،١٧٩ وبقاء النظام المعرفي لهذه النخبة متعاليًا، وطبيعة العَلاقة بينها وبين الأمة متباعدة، وهو الاتجاه الذي أكَّده منير شفيق حين فرَّق بين النخبة الغربية والنخبة العربية المتغربة، يقول: «إن النخبة في الغرب ابنة تجربته وحضارته، وهي وإن نزلت لفئاته الشعبية من خارجها إلا أنه نزول من فئات أعلى تنتسب إلى المجتمع نفسه وإلى الحضارة نفسها. أما النخبة المتغربة فسمتُها أنها هبطت من خارج المجتمع إلى فئاته الشعبية، وهذا ما أخرجها من الدائرة الحضارية كليًّا قبل أن تناقش نخبويتها بالنسبة إلى الفئات الكادحة، وإن هذا الفرق بين النخبة في الغرب والنخبة عندنا فرق جوهري وأساسي؛ ولهذا فقدت «نخبتنا» الهُويَّة التي احتفظت بها الجماهير، مما يشكل المصدر لأزمة عميقة، والمنبع الأول لأخطاء النخبة وعجزها؛ الأمر الذي فرض العودة إلى طرح موضوع الهُويَّة، وإعطائه الأولوية.»١٨٠ يبقى موضوع الهُويَّة الحضارية واحدًا من الشواغل الأساسية في العودة إلى الذات، والقدرة على القبض على المشكلات الحقيقية للأمة بمفاهيمها ومناهجها.

يبقى مشروع أركون واحدًا من المشاريع الفكرية العَلمانية في الفكر العربي المعاصر، التي لم تستطع أن تُحدِث خلخلةً في بنية الذات العربية بالشكل الإيجابي، وقوبل في كثير من الأحيان بالرفض المطلق ليس في العالم العربي فحسب؛ بل في الغرب أيضًا، حين حاول أن يتجرأ على الفكر الفَرنسي، ويمارس النقد «العلمي» فاتُّهم بالأصولي المتزمت، إذ لم تشفع له سنوات الانتماء لهذا الفكر من التهمة بالأصولية، وهي الفرضية التي تؤكد أن الولاء للغرب خدعة انطلت على نُخبنا الفكرية، فهُم كاسحاتُ ألغامٍ ليس إلا، وهي الاعترافات التي عبَّر عنها أركون نفسه عندما امتلك الجرأة في نقد الفكر الفَرنسي، اتهم بالأصولي المسلم المتزمت.

مشروع بنى ذاته على صيغ مفاهيمية غير قابلة للتواصل مع تيارات الفكر العربي والإسلامي، ولا تشجع على التفاهم، صيغ سالبة احتقارية للذات، والعقل العربي الإسلامي من خلال استعارة مفاهيم من الحقل المعرفي الغربي مثل الأوصاف التي وصف بها هذه الذات: «الوثوقية – اللاهوتية – العدوانية – الخرافية – الدوغمائية – الأرثوذكسية – الانغلاقية …» كما يفتقر مشروعه إلى نوع من الذكاء المنهجي والمعرفي؛ إذ اتجه مباشرة إلى إعلان الحرب على المقدسات وتخريبها، عكس الجابري، الذي احتاط لهذا الأمر وعقد مع الإسلام عَلاقةَ ودٍّ واحترام وتقدير، بل أعاد تنظيم مشروعه على أساس العَلاقة معه١٨١ وَفْق تصوراته، المهم عنده هو عدم إثارة الحساسيات، وتجنب الدخول في مربع الخداع الذي دخل فيه أركون والتيارات «الحداثية» التغريبية، وأنجزت قطيعة كليَّة مع هُويَّة الأمة.

وأعتقد أن هذا النوع من المشاريع لم يعُدْ قادرًا على التفاعل مع الذات مهما حاولت الانتساب إليها، خصوصًا بعد التحولات النسبية لبعض رموز هذا التيار نحو الهُويَّة الحضارية للأمة ومُحدِّداتها المنهجية والفكرية ومفاهيمها، وكذا التحولات التي تشهدها المنطقة، وعودة الدين إلى الحياة.

إن إبداع الأمة وعطاءها المأمول والمنشود لن يكون إلا من خلال إطارها العقدي والحضاري، وكل خروج عن هذا الإطار ضياع للجهد وضلال منهجي، ﻓ «نموذج المجتمع العربي الإسلامي يختلف اختلافًا بيِّنًا وجوهريًّا عن نماذج المجتمعات التي عرَفَتها أوروبا، فهذا يجعل منذ البداية عملية تطبيق مناهج الغرب على تحليل المجتمعات العربية الإسلامية نهجًا غير علمي وانحرافًا عن سواء السبيل.

لا ينفصل المنهج العلمي عما يحمل من مفاهيمَ ومعاييرَ ونماذج مجتمعية، كما أن الذي يقرر علمية نتائج أي بحث هو مدى رؤيتها للأشياء كما هي، ومدى دفعها إلى أخْذِ موقفٍ صحيح إلى جانب ما هو حق وضد ما هو باطل، لا انتسابها إلى هذا المنهج أو ذاك من المناهج الغربية التي تدَّعي احتكار العلمية»،١٨٢ كما «أخفق المشروع العلماني في تحقيق أهدافه المعلنة، رغم الجهود التي رفدته، ورغم تعدُّد أسباب الإخفاق، فإن العامل الحاسم يكمن في إصرار النخبة العلمانية على فرض مشروعها التحديثي وإقحام الثقافة وأساليب الحياة الغربية في الممارسات المحلية باستخدام الإرغام والقوة (…) وعجزها عن إدراك حقيقة أساسية وهامة، وهي أن محرك التغيير والتجديد يرتكز في التحليل الأخير على الجوانب النفسية والثقافية للمجتمع، وهي جوانب لا يمكن التأثير فيها إلا من خلال الحوار الحر الهادف إلى إقناع الجمهور بقيمة وصواب الأفكار والممارسات المقترحة، لا من خلال الإكراه والترويع.»١٨٣
ﻓ «في الواقع، مهما كانت الخلافات بين الأيديولوجيات المتعددة المستدخلة وتلاوينها، فإنها في العمق تبقى دائمًا مستنسخة عن مفاهيم ومعايير تاريخ وهُويَّة المركزية الغربية، ومن خلالها تفسر وتؤول وتحاكم مفاهيم ومعايير السكان المحليين.»١٨٤

هكذا أعدَّ هذا الاتجاه كفَنه بيده، ومنطق التاريخ يخبرنا أن الأمم لا تنطلق في نهوضها من أفكار الآخرين واعتقاداتهم، فإنْ حدثَ فبمقدار، ويأتي في المرتبة التالية. وإنما من رأسمالها الذاتي (نموذج ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، اليابان، المنطقة الآسيوية)، كما أن منطق الطب الشرعي يخبرنا أن استعارة الأرحام مخالف للفطرة وللموجهات المنهجية للأمة، فلا إنجاب خارج الرحم الأصلي، وإلا فقدَ الجنين معادلاته الاجتماعية والنفسية والعاطفية وانتماءه للوطن، فلكل أمة حواملها الفكرية والمنهجية والثقافية.

ﻓ «استرفاد الحداثة وجلب مناهجها التأويلية ليس كافيًا للارتقاء بالقراءة إلى أُفق الإبداع، ومرتبة البرهانية؛ بل لا بد من إعادة الصوغ والعجن، وإضفاء الوسم الذاتي على فتوحات العلم الحديث من خلال السبر والكشف والحدس المُتبصِّر، فيستقل الباحث بلغته، ويجدِّد في أداته، ويفتح لنفسه مجال حرث مبتكر»١٨٥ وجديد، وهو الاعتقاد السائد بين الباحثين.
الحاجة إلى الأدوات التحليلية والمناهج المعرفية لا تبرر التقديس الأعمى لها، بل قد نشأت عبر محاولات الفهم والتجربة والخصوصية والخطأ، وطرأ عليها طارئ التغيير والتبديل، الحذف والتعديل، وهو ما تؤكده كثير من التجارب البحثية، و«تظل كفاءة هذه المناهج مرهونة بعدة شروط، أهمها: تماثل الظاهرة والظروف المحيطة بها مع الظواهر التي نشأت تلك الأدوات لدراستها، فإذا تغيرت تلك العوامل أصبحت الوسائل قاصرةً عن الوفاء بغايتها ووجب التدخُّل فيها بالتعديل والتطوير أو الاستعانة بأدوات مكملة، بل إن تلك الوسائل قد تهجر لأسباب لا عَلاقة لها بكفاءتها، بل بشيوع فلسفة عامة أو رؤى ومفاهيم مغايرة للعالم من قِبَل نخب علمية ناشئة.»١٨٦

إن ما كتبه محمد أركون عن الفكر والمعرفة والمنهج في الثقافة العربية المعاصرة لم يحرر العقل العربي في الاتجاه الذي خطط له، بل انعكس ذلك سلبًا على هذا العقل حين أسَّس لردة فعل سلبية تجاه ما بذله من الجهد، في الوقت الذي كان ينبغي أن ينتج أكثر لو وعى بنية هذا العقل الثابتة والمتغيرة، ومقاصده وخصوصية مناهجه، إلا أن الاختيار الأيديولوجي-المعرفي لأركون حرمه من الامتداد في ثقافة الأمة، كما حرم اتجاهات أخرى ذات المنحى التفكيكي السلبي.

(أ) في الحاجة إلى تحرير المنهجية المعرفية المعاصرة من الرؤية الغربية العلمانية

لقد بات من الأولويات المعرفية في فكرنا المعاصر أن تحرير مجموع الأمة إنما ينطلق من قدرتها على تحرير ذاتها من الرؤية الغربية للمعرفة، انسجامًا مع ما أثبتناه في الصفحات السابقة أثناء الحديث عن إنجاز مرحلة جديدة في عَلاقتنا مع ما استحدثه الآخر من مناهج في قراءة واقعه ونصوص ثقافته.

التحرير الذي يحرر الأمة والإنسانية من شيطنة الحداثة، ومن غلوها المادي، ومن غطرسة العولمة ومكائدها.

التحرير الذي يجد مخرجه في معانقة المعرفة التوحيدية الكونية المؤمنة بالطبيعة الفطرية للإنسان، ومن ثم فإن اجتراح أفق معرفي جديد يمر عبر الآليات النقدية المنهجية لهذه المعرفة العلمانية التي أريدَ لها أن تكون هي الأساس في التوجيه، والوسيط المعرفي في قراءة مسارنا الحضاري العام، من خلال «زاويتين اثنتين: زاوية تلتزم مبدأ المسافة معها ومع منجزاتها الحضارية، وزاوية تفكر في شق طرائق أخرى لا تتعارض مع القداسة، ولا تركن إلى العلمنة، وتعيد بناء مفهوم جديد للعقل والعقلانية، يتنزل العقل بمقتضى هذا البناء في مكانه الحقيقي وتعطى تبعًا لهذا دلالات أخرى لمفهوم رؤية العالم، وقيمة المعرفة والحقيقة، وجميع المفاهيم المتشعبة عنها.»١٨٧
متجاوزين من خلال هذا المنظور المفهوم البسيط للعلمانية إلى معالجة المفهوم المركب، أو ما سمَّاه المسيري بالعلمانية الشاملة التي اعتبرها «أيديولوجية كاسحة، لا يوجد فيها مجال للإنسان أو القيم (…) وهي فصل القيم والغايات الدينية والأخلاقية والإنسانية عن الدولة، وعن مرجعيتها النهائية، وعن حياة الإنسان العامة والخاصة، وتطبيق القانون الطبيعي المادي على كل مناحي الحياة، وتصفية أي ثنائية، بحيث يتم تسوية كل الظواهر الإنسانية بالظواهر الطبيعية، فتنزع القداسة تمامًا عن العالم، ويتحول إلى مادة استعمالية، يمكن إدراكها بالحواس الخمس، كما يمكن لمن عنده القوة الكافية لهزيمة الآخرين أن يوظفها لصالحه. ونتيجة لهذا يظهر العلم والتكنولوجيا المنفصلان عن القيمة والغاية»،١٨٨ بذلك سقط ملف القيم من برنامج الحداثة العلمانية.
لا شك أن تحرير المعرفة من هذه الألغام الكاسحة الحالقة سبيل إلى إعادة المعنى للحياة وما ينتجه الإنسان من خلال الاستناد إلى قيم الوحي الثابتة؛ لأن «المعرفة التي يتم الآن نشرها في العالم بصورة منهجية منظمة ليست بالضرورة معرفة حقيقية وصحيحة، ولكنها مصطبغة بخصائص ثقافة الغرب وحضارته، ومشربة بروحها، ومكيفة وفق غاياتها، وإذَن فهذه العناصر هي التي يجب تشخيصها وفرزها، ثم فصلها وعزلها عن هيكل المعرفة ومادتها بحيث تميز المعرفة مما أشرب بتلك العناصر.»١٨٩
فالمعرفة الحقيقية والصحيحة — يقول العطاس — هي التي يدرك فيها الإنسان كينونته، ويجد فيها جوابًا لأسئلته النهائية، ويدرك سعادته فيها، معرفة تتضافر وتتكامل فيها كل المعطيات المادية والغيبية، السننية والكونية. تحرير يعيد قراءة الوسيط المرجعي — الغرب — ولهذا التيار مقولاته ومفاهيمه، ووضعها موضع النقد والتحليل والتفكيك من أجل فهمها وإعادة إنتاجها. إنها «اللحظة التي ينهض فيها العقل مُعلنًا استقلاله وقدرته على تمثيل نفسه، ومنبئًا عن انكسار المركزية الأوروبية والرأسمالية الغربية»،١٩٠ استقلال يعترف بحق كل ثقافة في الاختلاف والتأويل لقضاياها.

(ب) الحوار الإسلامي العلماني: من أجل رؤية مستقبلية

عطفًا على ما تحدثنا عنه في مبحث اختبار تداولية المفهوم — العلمانية — في الفكر العربي المعاصر، والأثر السلبي للصراع الذي حدث بين تيارات هذا الفكر، وعموم الأمة واستمرار نزيف الجهود وتبديد الطاقات وتضييع الفرص، فإن الحوار بين تيارات الفكر العربي المعاصر — على اختلاف مرجعياتها — حتمية تاريخية وواقعية؛ نظرًا للتحديات التي تواجه مجتمعاتها المعاصرة، فالهروب إلى الأمام أو الوراء بات سلاح الضعفاء؛ لأنه خيار يزيد من ضعف قدراتنا في تحقيق النهضة، إذ لم تعد الأمة تتحمل هذه الصراعات بين تياراتها الفكرية، في حين هي في أمسِّ الحاجة إلى البحث عما يقويها ويسندها في مواجهة هذه التحديات.

لا سبيل إلى هذا الأمر الجلل إلا فضيلة الحوار بين تياراتها، حيث تتاح فرص اكتشاف مناطق القوة ومواقف الاتفاق، ومناطق الضعف ومواقف الاختلاف عند كل تيار، حيث عادت كثير من القضايا بين تيارات الأمة إلى الواجهة وإلى درجة الصفر، من قبيل: الدولة الدينية أم الدولة المدنية؟ مشكلة القيم؟ مشكلة الحريات الفردية أم مشكلة العنف؟ مشكلة الأسلمة أم العلمنة على مستوى المعرفة؟ خصوصًا بعد صعود التيارات الإسلامية إلى الحكم أو المشاركة فيه مع التيارات ذاتها.

حوار يكتشف فيه التيار العلماني الوجه «الحقيقي للإسلام، ولطاقات مشروعه الحضاري وإمكاناته في تحقيق انتماء الأمة وتحريكها نحو أهداف التحرر والتقدم والقوة والانعتاق من أسر التخلف الموروث والاستلاب الحضاري (…) وللوجه المشرق للصحوة الإسلامية كتيار بعثٍ وإحياءٍ واجتهادٍ وتجديد، وتبديد الصورة الظالمة التي تصورها جميعًا كرجعية وجمود وغلو (…) وأيضًا اكتشاف الإسلاميين حقيقة موقف هذا الفصيل العلماني، وكيف أن علمانيته ليست (…) مرادفة للعمالة والكفر والإلحاد … والكشف عما لدى هؤلاء العلمانيين من علوم وخبرات ومهارات وإمكانات من الأهمية بمكان [يمكن] توظيفها في خدمة المشروع الحضاري الإسلامي»،١٩١ وبالمناسبة فإن اتجاهات الفكر العلماني ليست على درجة واحدة في موقفها من مشكلات الأمة، ويمكن رصد ثلاث اتجاهات كبرى:١٩٢
  • (١)

    اتجاه الدعوة إلى الانخراط الكلي والشامل في النموذج الغربي والقطيعة مع التراث.

  • (٢)

    اتجاه يدعو إلى التحديث حسب «قواعد» وخطوات التجربة الغربية، لكن من داخل قارة التراث والتاريخ الإسلامي.

  • (٣)

    اتجاه يدعو إلى التجديد والنهضة من داخل التراث وبأدوات التراث، أو بما يناسبها مما يمكن استعارته.

قد ترد اعتراضات حول طبيعة هذا الحوار، مع أي اتجاه نتحاور؟ المسألة عندي تتعلق بجميع الاتجاهات، وبمنطق الربح والخسارة؛ ماذا نربح إذا أقصينا اتجاهًا دون آخر؟ وماذا نخسر؟ ماذا لو كان الحوار يشمل الجميع؟ لكن مع ترتيب الأَوْلى فالأَوْلى؟ إذا احترمت إرادة الأمة فالدعوة إلى الحوار مع تيار العلمنة «لا تعني بأية حال قَبول مشروعه، ولكنها تعبِّر عن حرص على توفير حق التعبير لأصحاب الرأي المخالف؛ دفاعًا عن صحة المجتمع وسعيًا إلى إنجاح المشروع الوطني العام الذي هو مِلْك للأمة بمختلف قواها وتياراتها، وليس ملكًا لفصيل سياسي دون آخر.»١٩٣
حوار يستند إلى قاعدة الاعتراف برسالة الإسلام في النهوض والإصلاح، ليس على المستوى السياسي فقط؛ بل اعتراف يشمل رسالته الحضارية الإنسانية، ﻓ «لا يمكن تحقيق تقدم معتبر على طريق النهضة والحداثة في الوطن العربي من دون الإسلام وبعيدًا عنه.»١٩٤

من شأن التحول في الرؤى بين دعاة العلمانية والإسلامية تقريب وجهات النظر في عدد من القضايا التي تُعَدُّ من المختلف فيها — وهي غير ذلك — ومن خلال الاحتكام إلى مرجعية جامعة أن يُكسِب الأمة مناعة ضد التفسُّخ والانحلال المعرفي والقيمي والانسلاخ عن هُويَّتها مهما اشتدت عليها الأزمات. لكن يبقى رأي النخب العربية حول عدد من القضايا حالة لا تمثل الأمة إلا من خلال قدرة هذه النخب على التمسك بمرجعيتها النهائية؛ لأن المشكلة الحقيقية في رأيي نابعة من عدم التوافق حول الإطار المرجعي الذي يوحد الجهود، ويبدد الخلافات، معيار القياس لإشكالاتها.

إن الرِّهان الذي عوَّلت عليه تيارات الفكر العربي المعاصر في شقها «الحداثي» في تحديث الذهنية العربية الإسلامية لم ينتج إلا مزيدًا من التأخر والتخلف، رغم بعض مظاهر الحداثة وشكلياتها، فالأصل هو أن تتجه الجهود إلى منابع المشكلات ومنابع الحل لا أن تحوم حولها، فقد انعكس المنظور الغربي للمناهج على أهم الدراسات العربية النقدية، فلم تستطع أن تنفكَّ عن هذا المنظور إلا في أجزاء قليلة.

ونحن هنا نتفق مع الكاتب العراقي عبد الله إبراهيم فيما انتهى إليه على مستوى الآليات النقدية في الفكر العربي المعاصر، حين وصفها بأنها آليات سعت إلى انتزاع شرعيتها المعرفية من خلال تمثُّل «الآخر»،١٩٥ فالاستنطاق لمتون هذا الفكر التي انتخبناها كشف عن ذهنية حاولت أن تقرأ الذات بمنظور الآخر و«صار عندها «المعيار الغربي» بمعطياته المنهجية هو الذي يحدد «موقع الذات» و«درجة الأهمية»، وهي صفة تلازم «التأثير السلبي» ولا تليق ﺑ «المثاقفة الإيجابية»»١٩٦ التي ينبغي أن تبصم مسار ثقافتين عريقتين: العربية الإسلامية والغربية، وهو «أمر لا يمكن تفسيره إلا بالإخلاص ﻟ «الآخر»، والتعبير عن إشكالياته المعرفية، وليس توظيف كشوفاته توظيفًا خلَّاقًا في الممارسة النقدية الذاتية»١٩٧ رغم ما يعتري هذا التوظيف من صعوبات منهجية وفنية، سواء تعلَّق الأمر بالمفاهيم أو بمرجعيات هذه المناهج.

كما أن الكشف عن مرجعيات التكوين والانطلاق في الإصلاح عند تيارات الفكر العربي المعاصر لا يعني إنكار هذه المرجعيات أو التقليل من شأنها، أو بيان ضعف قدراتها التدبيرية وعوارها التصوري المنهجي، أو اختلال نسقيتها بالنسبة لموطنها الأصلي؛ لأنها كسب إنساني مقدر ينبغي التعامل معه في إطار دائرة المشترك والمنجز الإنساني، لكن دون الانسلاخ عن ذواتنا ونكران معطياتنا الحضارية والتصورية، إنما وجه الاعتراض على هذه المرجعيات اعتبارها مرجعيات نهائية حاسمة، وإلزام عقل الأمة بالتبني القسري لها دون امتلاك حق السؤال والاعتراض، ودون مبرر واقعي تاريخي أو نفسي يراعي الخريطة التكوينية والإدراكية للإنسان العربي وتحيُّزاته ونماذجه المعرفية، وهو القرار المعرفي والمنهجي الذي يؤطِّر خطوات الفصل الثالث من هذه الدراسة.

١  سعيد ناشيد: الاختيار العلماني وأسطورة النموذج، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط١، ٢٠١٠م، ص١٣.
٢  محمد أركون: الإسلام والحداثة، مجلة الإسلام والحداثة، ندوة مواقف، دار الساقي، ط١، ١٩٩٠م، ص٣٣٣.
٣  ثمة من يفرق بين العلمنة والعلمانية، فالأولى تعني مسارًا لا نهاية له ولا حدود، تخضع فيه القيم والرؤى الكلية للوجود للمراجعة الدائمة حسب ما يقتضيه التغيُّر في المسيرة التطورية للتاريخ. أما العلمانية تعكس رؤى مغلقة ومجموعة من القيم المطلقة المتوافقة مع غاية نهاية للتاريخ تنطوي على أهمية كبرى للإنسان. وهكذا فالعلمانية تُمثِّل بالنسبة للغربيين منظومة فكرانية (أيديولوجية) محمد نقيب العطاس: مداخلات فلسفية حول الإسلام والعلمانية، ترجمة محمد طاهر الميساوي، المعهد العالي العالمي للفكر والحضارة الإسلامية، دار الفجر ودار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن، ط١، ٢٠٠٠م، ص٤٥.
٤  صافي لؤي: الحرية والمواطنة والإسلام السياسي، التحولات السياسية الكبرى وقضايا النهوض الحضاري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط١، ٢٠١٣م، ص١٤٣.
٥  المرجع نفسه، ص٦٨.
٦  رشدي فكار: تأملات إسلامية في قضايا الإنسان والمجتمع، مكتبة وهبة، القاهرة ط٢، ١٩٨٧م، ص٦٧.
٧  انظر أركون: «الفكر الإسلامي: قراءة علمية»، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، لبنان: ١٩٨٧م ص ٩.
٨  منير شفيق: الإسلام في معركة الحضارة، دار البراق للنشر والتوزيع، ط١، ١٩٩١م، ص١٣٦.
٩  المرجع نفسه، ١٣٦-١٣٧.
١٠  محمد أمزيان: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، بيت الحكمة للترجمة والنشر، ط٣، ١٤١٦ﻫ/١٩٩٦م، ص٩٣.
١١  منير شفيق: الإسلام في معركة الحضارة، م. س، ص١٣٨-١٣٩.
١٢  الفضل شلق: الاجتهاد وأزمة الحضارة العربية، م. س، ص٢٩.
١٣  أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط٢، ١٩٩٦م، ص١١.
١٤  أركون: الإسلام والحداثة، ندوة مواقف، م. س، ص٣٢٢.
١٥  كمال عبد اللطيف: «التفكير في العلمانية: إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي»، أفريقيا الشرق، بيروت، لبنان، ٢٠٠٢م، ص٥٣–٧٨.
١٦  انظر المراجع الآتية: أسئلة الفكر العربي المعاصر، عبد الإله بلقزيز، ص ١٢٨–١٣٠، «التراث والتجديد» لحسن حنفي ص٦٣، «الدين والسلطة في المجتمع العربي المعاصر: تحليل اجتماعي» لحليم بركات، الإسلام والحداثة ندوة مواقف دار الساقي، م. س، ص٢٤٣.
١٧  كمال عبد اللطيف: التفكير في العلمانية، م. س، ص٧٥.
١٨  محمد أركون: «الفكر الإسلامي: قراءة علمية»، م. س، ص١٨٠.
١٩  أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، ص٦٥.
٢٠  المرجع نفسه، ص٢٩٤.
٢١  المرجع نفسه، ص٢٩٥.
٢٢  أركون: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، دار الساقي ط٣، ١٩٩٨م، ص٢٩٤.
٢٣  أركون: الإسلام والحداثة، ندوة مواقف، م. س، ص٣٥٧.
٢٤  المرجع نفسه، ص٣٥٦.
٢٥  المرجع نفسه، ص٣٥٦.
٢٦  المرجع نفسه، ص ٣٥٦، وهي اللحظة التي كنا نتمنى أن يستثمرها هذا الخطاب في التأسيس للحداثة العربية الإسلامية، وتجاوز أعطاب الحداثة الغربية، لكن التحليل الأيديولوجي حال دون هذا الفتح الذي بدأ الإسلام به مسيرته المعرفية والحضارية، وكان أركون سبَّاقًا في إعلانه.
٢٧  أركون: الإسلام والحداثة، ندوة مواقف، م. س، ص٣٥٦.
٢٨  أركون: الإسلام والحداثة، ندوة مواقف، م. س، ص٣٦١.
٢٩  المرجع نفسه، ص٣٥٥.
٣٠  المرجع نفسه، ص٣٢٦.
٣١  انظر الإسلام والحداثة، م. س، ص٣٢٢.
٣٢  المرجع نفسه، ص٣٢٣.
٣٣  أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، م. س، ص١٨٠.
٣٤  أركون: «الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، م. س، ص٢٩٣.
٣٥  انظر أركون: «الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، م. س، ص٢٩٧.
٣٦  أركون: الإسلام والحداثة، م. س، ص٣٢٨.
٣٧  المرجع نفسه، ص٣٤٧.
٣٨  انظر المرجع نفسه، ص٣٤٧.
٣٩  أركون: الإسلام والحداثة، م. س، ص٣٥١.
٤٠  انظر تفاصيل التجربتين في طه عبد الرحمن: روح الحداثة: «المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية»، المركز الثقافي العربي، ط٢، ٢٠٠٩م ص١٤٩–١٥٢.
٤١  أركون: الإسلام والحداثة، م. س، ص٣٢٩-٣٣٠.
٤٢  أركون: «الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، م. س، ص٨٤.
٤٣  أركون: «الفكر الإسلامي: قراءة علمية»، م. س، ص١١٤.
٤٤  بول فايربند (مفكر نمساوي توفي ١٩٩٤م) صاحب شعار ما بعد الحداثي «أي شيء يجوز» إلى الاتجاه نحو النسبية المطلقة في كتاب «ضد قيود المنهجية»، نقلًا عن مراد هوفمان: خواء الذات والأدمغة المستعمرة، ترجمة عادل المعلم ونشأت جعفر، مكتبة الشروق الدولية، ط٢، ٢٠١١م، ص٣٨.
٤٥  سيف عبد الفتاح إسماعيل: بناء المفاهيم الإسلامية ضرورة منهجية، ضمن كتاب المنهجية الإسلامية والعلوم السلوكية والتربوية، سلسلة ندوات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط١، ١٩٩٢م، ج٢، ٢٦٧-٢٨٦.
٤٦  أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، ص٢٨١.
٤٧  المرجع نفسه، ص٢٨٠.
٤٨  المرجع نفسه، ص٢٨٠.
٤٩  المرجع نفسه، ص٢٨٦.
٥٠  أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، ص٢٨٦.
٥١  أركون: الإسلام والحداثة، م. س، ص٣٦٥.
٥٢  المرجع نفسه، ص٣٦٥.
٥٣  انظر أركون: تاريخية الفكر العربي، م. س، ص٢٧٨.
٥٤  أركون: «الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، م. س، ص٢٩٥.
٥٥  أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، ص٢٩٦-٢٩٧.
٥٦  المرجع نفسه، ص٢٩٧.
٥٧  انظر المرجع نفسه، ص٢٩٧.
٥٨  أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، ص٢٩٧.
٥٩  انظر عبد الوهاب المسيري: في أهمية الدرس المعرفي، مجلة إسلامية المعرفة، العدد العشرون، السنة الخامسة، ص١١٥.
٦٠  انظر أركون: الإسلام والحداثة، م. س، ص٣٦١.
٦١  انظر أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، ص١١.
٦٢  نايلة أبي نادر: التراث والمنهج بين أركون والجابري، م. س، ص٤٢.
٦٣  أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، ص٢٥٧.
٦٤  أركون: «الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، م. س، ص٢٤٧.
٦٥  انظر المرجع نفسه، ص٢٤٨.
٦٦  انظر أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، هامش، ص٢٥٩.
٦٧  المرجع نفسه، ص٢٦٥.
٦٨  المرجع نفسه، ص٢٦٦.
٦٩  المرجع نفسه، ص٢٦٦.
٧٠  عزيز العظمة: النص والأسطورة والتاريخ، الإسلام والحداثة، ندوة مواقف، م. س، ص٢٥٩.
٧١  انظر أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، ص٢٦٦.
٧٢  أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، م. س، ص١٠.
٧٣  المرجع نفسه، ص١١.
٧٤  أركون: «الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، م. س، ص٢٣٢.
٧٥  المرجع نفسه، ص٢٥٢.
٧٦  المرجع نفسه، ص٢٥٣.
٧٧  أركون: «الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، م. س، ص٢٥٣.
٧٨  قطب الريسوني: النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر «مدخل إلى نقد القراءات وتأصيل علم التدبر القرآني» منشورات وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، المملكة المغربية، ط١، ٢٠١٠م، ص٢٤٨.
٧٩  أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، ص٢١٠.
٨٠  العباقي الحسن: القرآن الكريم والقراءة الحداثية، دراسة تحليلية نقدية لإشكالية النص عند محمد أركون، أنوار للنشر والتوزيع، ط١، ٢٠١٠م، ص:٢٥٤-٢٥٥.
٨١  عبد العزيز حمودة: «المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك»، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد ٢٣٢، أبريل ١٩٩٨م، ص٣٤–٣٦.
٨٢  انظر أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، ص١٩.
٨٣  المرجع نفسه، ص١٩-٢٠.
٨٤  انظر أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، هامش، ص٩١.
٨٥  المرجع نفسه، ص، ٩٢-٩٣.
٨٦  انظر المرجع نفسه، ص٢٧٧.
٨٧  انظر أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، م. س، ص٢٧٧.
٨٨  المرجع نفسه، ص٥٦-٥٧-٥٨.
٨٩  انظر المرجع نفسه، ص٥٥.
٩٠  المرجع نفسه، ص٥٩.
٩١  قطب الريسوني: النص القرآني، م. س، ص٢٥٢.
٩٢  علي حرب: نقد النص، المركز الثقافي العربي ط٤، ٢٠٠٥م، ص٨٣.
٩٣  قطب الريسوني: النص القرآني، م. س، ص٢٥٣-٢٥٤.
٩٤  علي حرب: نقد النص، م. س، ص ٨٥.
٩٥  انظر المرجع نفسه، ص٨٣.
٩٦  قطب الريسوني: النص القرآني، م. س، ص٨٣.
٩٧  يمكن الإشارة إلى دراسات عن الحداثة الغربية ومفاهيمها وما بعد الحداثة، نذكر على سبيل المثال: دراسات إريك فروم، إدغار موران، آلان تورين وجياني فاتيمو وإدموند هوسرل وغيرهم.
٩٨  عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والشاملة، دار الشروق، ط١، ٢٠٠٢م، ج١، ١٠١.
٩٩  المرجع نفسه، ص١٠١-١٠٢-١٠٣.
١٠٠  المرجع نفسه، ص ١٠٢.
١٠١  باحث أمريكي (١٩٥٠م) يعمل أستاذًا للفلسفة وعلم النفس في معهد الدراسات الكلية في سان فرانسيسكو كاليفورنيا، من أهم كتبه: «آلام العقل الغربي: فهم الأفكار التي قامت بصياغة نظرتنا إلى العالم»، ترجمه إلى العربية فاضل جتكر، دار الكلمة، المملكة العربية السعودية، ط١، ٢٠١٠م. والكتاب يعرض لتفاصيل نشأة الفكر الغربي وطموحاته، ونظرته للعالم والإنسان والكون.
١٠٢  انظر ريتشارد ترناس: آلام العقل الغربي، م. س، ص١٧.
١٠٣  المرجع نفسه، م. س، ص١٨.
١٠٤  عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والشاملة، م. س، ص١٠٣.
١٠٥  عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والشاملة، م. س، ص١٠٦.
١٠٦  الباحث من أصل بولندي (ولد سنة ١٩٢٥م، توفي يوم ٩ يناير ٢٠١٧م) عاش تجارب فكرية متعددة كما عُرف بموقفه المناهض للعولمة، من أهم كتبه «الحداثة السائلة»، و«الحداثة والهولوكوست» و«الحب السائل»، ثم كتاب «الحرية».
١٠٧  انظر المرجع نفسه، ص١٠٨.
١٠٨  المرجع نفسه، ص١١٠.
١٠٩  انظر المرجع نفسه، ص١٢٧.
١١٠  المرجع نفسه، ص١٣٩.
١١١  سكوت هيبارد: السياسة الدينية والدول العلمانية: مصر والهند والولايات المتحدة الأمريكية، ترجمة الأمير سامح كُريِّم، عالم المعرفة، ع٤١٣، ٢٠١٤م، ص٢٤١. وهو كتاب مهم رغم التحيزات التي أطَّرت هذا الموضوع، خصوصًا ما يتعلق بالحالة المصرية، ومؤشر جديد في العَلاقة بين الديني والسياسي والاجتماعي.
١١٢  سكوت هيبارد: السياسة الدينية والدول العلمانية، م. س، ص٢٤٣.
١١٣  آلان تورين: براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، المنظمة العربية للترجمة، ط١، ٢٠١١م، ص٣٠٣.
١١٤  انظر المرجع نفسه، ص٣٠٥.
١١٥  المرجع نفسه، ص٣٠٤.
١١٦  آلان تورين: براديغما جديدة، م. س، ص٣٠٣.
١١٧  انظر في هذا سياق عودة الدين والتدين في المجتمع الغربي «كتاب للأستاذ حسن السرات»، «الدين والتدين في العالم المعاصر: تشخيص واستشراف»، دار الكلمة للنشر والتوزيع، ط١، ٢٠١٥م. رصد فيه أهم التحولات التي عرفها هذا المجال في الغرب.
١١٨  الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، م. س، ص١٠٥.
١١٩  الجابري: وجهة نظر م. س، ص١٠٤.
١٢٠  الجابري: وجهة نظر، م. س، ص٧٩-٨٠.
١٢١  الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، م. س، ص١٠٦.
١٢٢  رغم ما قد يرد من ردود حول هذا الموقف فإن مواقف الرجل تبقى في رأي، دالة وذات عمق معرفي ومنهجي مُقدَّرَين.
١٢٣  طه عبد الرحمن: «روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية»، المركز الثقافي العربي، ط١، ٢٠١٢م، ص٢٤.
١٢٤  طه عبد الرحمن: روح الدين، م. س، ص٢٤-٢٥.
١٢٥  طه عبد الرحمن: «بؤس الدهرانية: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين، الشبكة العربية الأبحاث والنشر ط١، ٢٠١٤م، ص١٣٧-١٣٨.
١٢٦  طه عبد الرحمن: بؤس الدهرانية، م. س، ص١٣٩.
١٢٧  مهدي كلشني: «من العلم العلماني إلى العلم الديني: قضايا إسلامية معاصرة»، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ترجمة سرمد الطائي ط١، ٢٠٠٣م، ص٩.
١٢٨  المرجع نفسه، ص٦٧.
١٢٩  انظر المرجع نفسه، ص٦٧.
١٣٠  رشيد الغنوشي: مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني، المركز المغاربي للبحوث والترجمة، ١٩٩٩م، ص١٠٧-١٠٨.
١٣١  المرجع نفسه، ص١٠٤-١٠٥.
١٣٢  سيد محمد نقيب العطاس: مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، ترجمة: محمد طاهر الميساوي، المعهد العالي العالمي للفكر والحضارة الإسلامية، دار الفجر ودار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن، ط١، ٢٠٠٠م، ص٥١-٥٢.
١٣٣  المرجع نفسه، ص٥٢.
١٣٤  المرجع نفسه، ص١٥٥.
١٣٥  عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والشاملة، م. س، ص١٠٤.
١٣٦  الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، م. س، ص١٠٧.
١٣٧  محمد جبرون: مفهوم الدولة الإسلامية، أزمة الأسس وحتمية الحداثة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ط١، ٢٠١٤م، ص٣٤٦.
١٣٨  عبد الوهاب المسيري: العلمانية والحداثة والعولمة، تحرير سوزان حرفي ط١، ٢٠١٣م، ص١٠١.
١٣٩  عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج، م. س، ص٣٧٢.
١٤٠  عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج، م. س، ص٣٧٢.
١٤١  المرجع نفسه، ص٣٧٣.
١٤٢  أبو يعرب المرزوقي: آفاق فلسفة عربية معاصرة، بالاشتراك مع الطيب التيزيني، دار الفكر المعاصر، دمشق، ط١، ٢٠٠١م، ص٢٢٩-٢٣٠.
١٤٣  المرجع نفسه، ص ٢٣٦-٢٣٧.
١٤٤  عبد الغني بارة: الهرمينوطيقا والفلسفة، نحو مشروع عقل تأويلي، منشورات الاختلاف، ط١، ٢٠٠٨م، ص٥٥٥-٥٥٦.
١٤٥  المرجع نفسه، ص٥٥٦–٥٦٧.
١٤٦  انظر عبد الله إبراهيم: المطابقة والاختلاف — المركزية الغربية: إشكالية التكون والتمركز حول الذات، المركز الثقافي العربي، ط١، ١٩٩٧م، أثناء الحديث عن التيار النقدي في الفكر الغربي لعقل الأنوار خصوصًا عند دريدا وهابرماز، فقد سعى خطاب التفكيك إلى إعادة الاعتبار للتواصل وإقرار حق الاختلاف بدل التنميط الذي فرضه عقل الأنوار، لكنه فشل هو الآخر في إنجاز عملية التركيب والإنقاذ.
١٤٧  عبد الغني بارة: الهرمينوطيقا والفلسفة، م. س، ص٥٦٧.
١٤٨  المرجع نفسه، ص٥٥٨-٥٥٩.
١٤٩  المرجع نفسه، ص٥٦٠.
١٥٠  عبد الغني بارة: الهرمينوطيقا والفلسفة، م. س، ص٥٦٠.
١٥١  الفضل شلق: الاجتهاد وأزمة الحضارة العربية، م. س، ص٢٩.
١٥٢  انظر سعيد شبار: الحداثة في التداول الثقافي العربي الإسلامي نحو إعادة بناء المفهوم، منشورات الزمن ع٣٦، ٢٠٠٢م، ص٥٠-٥١.
١٥٣  محفوظ محمد: الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، المركز الثقافي العربي، ط٢، ٢٠٠٠م، ص١٩٨.
١٥٤  كمال عبد اللطيف: أسئلة الفكر الفلسفي بالمغرب، المركز الثقافي العربي، ط١، ٢٠٠٣م، ص١٤٣.
١٥٥  انظر كمال عبد اللطيف: أسئلة الفكر الفلسفي، م. س، ص١٤٣.
١٥٦  نذكر على وجه الخصوص الباحثة اللبنانية ليلى أبي نادر في كتابها: التراث والمنهج بين أركون والجابري، وكمال عبد اللطيف وتلامذته في المدرسة التونسية: محمد الشرفي والمختار الفجاري وإن اختلف معهما في بعض التفاصيل التي انتقد فيها أركون، في «نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون».
١٥٧  عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، عالم المعرفة، ع٢٣٢ / ١٠.
١٥٨  عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة، م. س، ص٣٥.
١٥٩  المرجع نفسه، ص٦٣.
١٦٠  المرجع نفسه، ص٦٣.
١٦١  انظر سعيد شبار: الحداثة في التداول العربي الإسلامي، م. س، ص٥٩.
١٦٢  عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة، م. س، ص٣٢.
١٦٣  المرجع نفسه، ص٣٢.
١٦٤  سعيد شبار: الحداثة في التداول الثقافي العربي الإسلامي، م. س، ص٥٨.
١٦٥  محمد محفوظ: الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، م. س، ص٤٥.
١٦٦  محمد محفوظ: الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، م. س، ص٤٥.
١٦٧  المرجع نفسه، ص٤٣.
١٦٨  عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة، م. س، ص١١.
١٦٩  مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط١، ١٩٨٨م، ص١٦٢.
١٧٠  مالك بن نبي: مشكلة الأفكار، م. س، ص١٠٩.
١٧١  خطة التأنيس: الألسنية، خطة التعقيل وخطة التأريخ، للمزيد انظر روح الحداثة، م. س، ص١٧٨–١٨٤.
١٧٢  المرجع نفسه، ١٨٨-١٨٩.
١٧٣  المرجع نفسه، ص١٩٠.
١٧٤  طه عبد الرحمن: روح الحداثة، م. س، ص٢٠٥.
١٧٥  انظر الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، م. س، ص٥٧.
١٧٦  محمد محفوظ: الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، م. س، ص٢٠٣.
١٧٧  برهان غليون: «العقلانية ونقد العقل: ملاحظات منهجية»، ندوة العقلانية العربية والمشروع الحضاري (٦)، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، سلسلة الندوات، ط١، ١٩٩٢م. ص٢٢٤.
١٧٨  سعيد شبار: في مفهوم «النخبة» ودور الوسيط أو المصادر الثقافي، مجلة الكلمة، ع٢٥، السنة السادسة، خريف ١٤٢٠ﻫ/١٩٩٩م، ص٧٩.
١٧٩  انظر برهان غليون: العقلانية ونقد العقل، م. س، ص٢١٥.
١٨٠  منير شفيق: الإسلام في معركة الحضارة، م. س، ص١٢٥.
١٨١  انظر الجابري: مسألة الهُويَّة … م. س، ص٥٠-٥١.
١٨٢  منير شفيق: قضايا التنمية والاستقلال في الصراع الحضاري، ط٢، ١٩٩٢م، ص٣٩.
١٨٣  لؤي صافي: جدلية التنمية حركة التجديد الحضاري بين الاتجاه الإسلامي والعلماني: مراجعة نقدية، مجلة منبر الحوار، السنة التاسعة، العدد ٣٤، ١٩٩٤م، ص١٠٥.
١٨٤  غريغوار منصور مرشو وخوان أنطونيو باتشيكو: العقلانية في الفكر العربي المعاصر، دار الفكر، دمشق، ط١، ٢٠١٢م، ص٣٠١.
١٨٥  قطب الريسوني: النص القرآني، م. س، ص٢٥٣.
١٨٦  أماني صالح: منهجية التجديد من خلال الاستفادة من بعض الاقترابات والمفاهيم والأدوات الغربية: نموذج لتوظيف الاقتراب البنائي الوظيفي، كتاب المنهجية الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، ط١، ٢٠١٠م، ص٧٧٢.
١٨٧  عبد الرزاق بلعقروز: من عقلانية الحداثة إلى عقلانية الإيمان التوحيدي، مجلة إسلامية المعرفة، السنة التاسعة عشرة، ع٧٦، ٢٠١٤م، ص٣١.
١٨٨  عبد الوهاب المسيري: «رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية غير موضوعية»، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة ط١، ٢٠٠٠م، ص٢٩٩-٣٠٠.
١٨٩  سيد محمد نقيب العطاس: مداخلات فلسفية، م. س، ص١٥٩.
١٩٠  أحمد الشهاب: نحو تناول علمي لمفهوم العولمة، مجلة الكلمة، السنة السادسة، ع٢٥، ١٩٩٩م، ص٦٠.
١٩١  محمد عمارة: الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين، مجلة منبر الحوار، ع١٥، السنة الرابعة، خريف ١٩٨٩م، ص١٣-١٤.
١٩٢  سعيد شبار: «الاجتهاد والتجديد في الفكر العربي الإسلامي المعاصر: دراسة في الأسس المرجعية والمنهجية»، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط١، ٢٠٠٧م، ص٤٤١. انظر التقسيم نفسه في مجلة منبر الحوار، في ملف العدد: الحوار حول الإسلامية والعلمانية، م. س، ص٩-١٠.
١٩٣  عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والشاملة، م. س، ١ / ١٢٣.
١٩٤  امحمد جبرون: مفهوم الدولة الإسلامية، أزمة الأسس وحتمية الحداثة، م. س، ص٣٥٥.
١٩٥  انظر الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، م. س، ص٩١.
١٩٦  المرجع نفسه، ص٩١.
١٩٧  عبد الله إبراهيم: الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، م. س، ص٩٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤