الاستقبال الدموي!

لا يدري «أحمد» كم من الوقت مضى، عندما دلَّته غريزتُه على أنَّ هناك خطرًا يُحدق به … أو ربما التقطَت أُذُناه صوتًا خافتًا مريبًا من داخل الحجرة، فتح عينَيه في حذر، كان الظلام يغمر الحجرة وشاهد شبحًا يقف على مسافة قريبة منه وقد اختفَت ملامحُه في قلب الظلام الحالك على حين كان يتدلَّى سيفٌ رهيب من حزام يُحيط بخصر ذلك الشبح … وتحرَّك «أحمد» بسرعة هائلة، فقفز من فراشه، وأمسك بياقة الشبح، وبحركةٍ بارعة رفعَه فوق قدمِه بحركة «جودو» سريعة، ثم ألقى به إلى الناحية الأخرى … واصطدمَ رأس الشبح بالحائط فسقط بجواره وهو يئنُّ … وضغط «أحمد» على زرِّ الإضاءة في الحجرة وكانت المفاجأة.

كان الشبحُ الراقد على الأرض هو «بانج» مساعد «تاك سين».

تمالَك «أحمد» دهشتَه بسرعة، وقال للرجل: إنني آسف … ظننتُكَ شخصًا آخر … فقد أخبروني أنَّ هذا المكان يمتلئ بالأرواح الشريرة، فحسبتُك إحداها في الظلام.

نهض «بانج»، وهو يتحسَّس رأسه في شيء من الألم، وقال: إنَّك سريع الحركة جدًّا … وماهر.

أحمد: في عملنا، على الإنسان أن يكون الأكثر مهارة، وإلا فربما تكون حياتُه ثمنًا لشخص آخر أكثر مهارة.

وتأمل «أحمد» الرجل العملاق، وقال له: لا أظنك أتيتَ إلى حجرتي هذه الساعة المتأخرة لتطمئنَّ إلى أنني أحلم أحلامًا سعيدة.

رمق «بانج» «أحمد» في صمت، كأنَّه يحاول قراءةَ ما يدور في رأسه، ثم قال له: إنَّ السيد «تاك» ينتظرك.

أحمد: السيد «تاك» في هذا الوقت المتأخر؟ لماذا؟

بانج: إنَّ السيد «تاك» لا يحب من يُلقي بالأسئلة الفضولية، هيَّا فأمامك ثلاث دقائق فقط لتغيير ملابسك!

وغادر «بانج» الحجرة، وغيَّر «أحمد» ملابسه، وهو يفكر، ترى لماذا أراد «تاك» رؤيته في هذا الوقت المتأخر، كانت الساعة بجواره تُشير للثانية صباحًا. ولم ينَم «أحمد» غير ثلاث ساعات فقط، ولكنَّه كان يشعر بنشاط هائل، وقد زوَّدَته المعركة القصيرة مع «بانج» بتيقظ شديد.

وغادر حجرته فوجد أحد الخدم في انتظاره، وقاده الخادم إلى خارج القصر … وشاهد «أحمد» عددًا من ضيوف العشاء وآخرين لم يشاهدهم من قبل، كان من المؤكد أنَّهم من عملاء «تاك» ورجاله، وأنَّه قد تم إيقاظهم بنفس الطريقة لمقابلة «التنين الأحمر»، في ذلك الوقت المبكر من الصباح.

اقتربَت سيارة صغيرة مما تُستعمل في الملاعب والحدائق … وتوقَّفَت على مسافة قصيرة من الواقفين ثم غادرها «تاك سين».

حدَّق «أحمد» في السيد «تاك»، كان نحيفًا، متوسطَ الطول، يرتدي الملابس الواسعة ذات الألوان الصارخة، وكان أصلع، له شاربٌ كبير وفي عينَيه الضيقتَين الصغيرتين يظهر الدهاء والقوة الهائلة.

لم ينطق أحد أمام «تاك» لنظراته النافذة، واقترب «بانج» من رئيسه، وهزَّ رأسَه علامةً على حدوث أمر ما.

فارتسم تعبيرٌ قاسٍ على وجه «تاك» والتفتَ إلى الواقفين قائلًا: لقد أردتُ أن تشاهدوا عرضًا خاصًّا لا يتكرر كثيرًا، وأنا واثق أنَّه سينال رضاكم.

وأشار بيده فظهر ستةٌ من الخدم يحملون قفصًا حديديًّا ضيقًا فوق أكتافهم، وتوقَّفوا على مسافة من «تاك». تأمل «أحمد» القفصَ الحديديَّ بدهشة … كان بداخله رجلان لهما ملامحُ آسيوية، ولا يسترهما غيرُ إزارين، وقد ظهرَت على أبدانهما آثارُ السياط والتعذيب، وقد تورَّمَت أطرافهما ووجهاهما، وراحَا يرتعدان داخل القفص في هلع.

أشار السيد «تاك» إلى الرجلين داخل القفص الحديدي قائلًا: إنَّ العرض الذي ستشاهدونه الآن هو عرضٌ خاص، فإنَّه لا يحدث كثيرًا أن يخون «تاك سين» أحدًا من رجاله. وصرخ أحدُ الرجلين من داخل القفص: الرحمة يا سيد «تاك»!

أجاب «تاك»: سوف أكون رحيمًا بكما بالفعل، ولن أُطيلَ عذابكما؛ فإنني لن أنسى الخدمات السابقة التي أديتموها لي …

وبصوتٍ رهيب أضاف: ولن أنسى أيضًا أنكما كنتما تنقلان بعض أسراري للحكومة، ولمن تُدينان لهما بالولاء … وأشار بيده. وفي الحال غمر المكانَ ضوءٌ قوي من مصابيح كهربائية ضخمة كانت معلَّقة فوق رءوس الأشجار … وزأرَت النمور المقيدة بالسلاسل الحديدية، وتساءل «أحمد» في دهشة: ترى أي عقاب يُعدُّه ذلك المجرم «تاك سين» لمن خاناه؟

أشار «تاك» بيده مرة أخرى، فأسرع الخدم يفتحون باب القفص الحديدي، وفي صوت عميق أشار «تاك» إلى الجاسوسَين قائلًا: هيَّا اخرجَا.

لكن الرجلَين التصقَا بداخل القفص في هلع، فاندفع رجال «تاك» يُخرجونهما، وانهالوا عليهما ضربًا، حتى تمدَّد الجاسوسان على الأرض بلا حَراك.

قال «تاك» لهما: سوف أمنحكما الفرصة لتنجوَا بحياتكما، فإنني رحيم خاصة مع مَن خدمني. وأشار إلى السور البعيد قائلًا للرجلين: إذا استطعتما بلوغَ هذا السور قبل الآخرين فسوف تنجوان ولن يمسَّكما أحدٌ بأذًى … وأنتما تعرفان أنَّ السيد «تاك سين» لا يَعِد بشيء ويُخلف …

نظر الجاسوسان حولهما دون أن يُدركَا مَن هم الآخرون … الذين يتحدث عنهم «تاك سين».

وصاح السيد «تاك» فيهما: هيَّا … انطلقَا.

وفي الحال قفز الرجلان من مكانهما مثل المجانين، واندفعَا يجريان نحو السور البعيد، بكل ما يمكن، وما يملكان من سرعة، وبرغم إصابتهما وضعفهما فقد اندفعَا يجريان كما لو أنَّ أشباحَ الجحيم تُطاردهما … وراحَا يتعثران وينهضان ليواصلَا جريهما.

راقب «تاك سين» الرجلَين الهاربَين دون أن تُغمضَ عيناه، وعندما لم يَعُد يفصلهما عن السور البعيد أكثر من مائة متر، أعطى «تاك سين» إشارة خاصة إلى حرَّاسه وأدرك «أحمد» ما تعنيه تلك الإشارة؛ ففي الحال أطلق الحراس النمور المقيدة بالسلاسل الحديدية، فانطلقَت النمور وهي تزأر في توحُّش رهيب … انطلقَت النمور تجاه هدفها البشري بسرعة لا يدانيها فيها إنسان … ولا أي حيوان آخر على وجه الأرض … وفي لحظة خاطفة، وقبل أن يَصِل الرجلان إلى الأسوار البعيدة قفزت النمور فوقهما.

وتعالَى صراخُ الرجلَين الفزعَين مختلطًا بزئير النمور الجائعة الغاضبة، وكان الصراع قصيرًا غير متكافئ على الإطلاق … وأنهَت النمور مهمَّتَها سريعًا، وراحَت تلعق أفواهها المليئة بالدماء الساخنة.

ترامق الواقفون في صمتٍ وتوتر … لم يكن هناك شكٌّ في أنَّ ما سمعوه عن قسوة ذلك الرجل القوي «تاك سين» كان أقلَّ من الحقيقة، ورمق «أحمد» «التنين الأحمر» في غضب مكبوت، كان من المستحيل عليه أن يفعل شيئًا لإنقاذ الرجلَين المسكينَين، وإلا كان مصيرُه أيضًا مشابهًا.

التفت «تاك سين» إلى ضيوفه قائلًا: ما رأيكم … هل أعجبكم العرض؟

وجاءت بعضُ التعليقات تستحسن ما فعله «تاك سين»، الذي التمعَت عيناه بذلك البريق الوحشي.

وقال: مَن يدري ربما يساعدنا الحظُّ في أن نشهدَ عرضًا آخر في القريب، ولكنَّه سيكون أكثرَ إمتاعًا بكل تأكيد.

دقَّ قلب «أحمد» بعنف، عندما خُيِّل له أنَّ «تاك» قد صوَّب نظراته إليه بحدة، وأنَّه كان يقصده بما قاله … ورفع «تاك سين» يدَه قائلًا: أرجو أن يكون حفلُ الاستقبال قد أعجبكم؛ فإنني عادة لا أعرف حفلات الاستقبال التقليدية.

واتجه إلى سيارته الصغيرة، وهو يقول: والآن فلتعودوا إلى فراشكم ولتنعموا بأحلام سعيدة، وسأراكم قريبًا.

وتحرَّكَت سيارة «تاك» بعيدًا، ووقف الحاضرون لحظة في تجهُّم وصمت، ثم بدءوا يتفرقون عائدين إلى أماكن إقامتهم.

اقترب «بانج» من «أحمد» وسأله: هل أعجبك العرض؟

أحمد: يبدو أنَّكم معتادون على مثل هذه العروض.

بانج: إنَّها لا تُقام كثيرًا، غير أنني أشعر بأننا سنحضر عرضًا آخرَ في القريب، وسيكون أكثر إمتاعًا. وحدَّق في «أحمد» كأنَّه يعنيه بحديثه، ثم سار مبتعدًا ويدُه قابضة على سيفه بشدة، اتجه «أحمد» إلى حجرته صامتًا، وبقيَ فوق فراشه يفكر، هل كان ذلك الرجل «بانج» يعني شيئًا خاصًّا به؟!

وبمعنى آخر، هل يمكن أن تكون حقيقة «أحمد» قد اكتُشفت بمثل تلك السرعة.

ولكن … لو كان هذا صحيحًا ما كان «تاك» قد تركه حرًّا طليقًا، ولقام رجاله بالقبض عليه فورًا … وكان على «أحمد» ألَّا يحاول أن يسبق الأحداث.

وسرعان ما كان يغرق في نوم عميق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤