مصارعة الموت!

استيقظ «أحمد» في الصباح أكثر نشاطًا وكان هناك دعوة لتناول الإفطار في نفس القاعة السابقة.

وبعدها كانت هناك دعوة لمشاهدة بعض الرقصات الوطنية، وبعض الألعاب الخاصة بالأفيال … وكانت ألعابًا مدهشة لم يشاهد «أحمد» مثلَها من قبل، وكانت تُدار بين الفيلة في تنافس عجيب على رفع الأثقال وتحطيم الحواجز، بل والمصارعة أيضًا. وكان للفيل الفائز كمية كبيرة من الأعشاب.

أما الفيل المهزوم فكان صاحبه يُجلَد بالسياط … لم يكن هناك شكٌّ في دموية «تاك سين» وأنَّه رجل إرهابي استطاع عن طريق الخوف أن يحكم إمبراطورية بالغة الاتساع.

ولهذا استطاع «أحمد» أن يلحظ في عيون الخدم، والذين اشتراهم «تاك سين»، وصاروا بمثابة العبيد بالنسبة له، استطاع أن يلمح في عيونهم بريقَ ألم وحزن وثورة مكبوتة، ولكن ما كان أحدهم يجرؤ على الاعتراض.

وفي المساء، اصطحبهم بعضُ الخدم في جولة بالسيارات لزيارة معالم «بانجوك»، واندهش «أحمد» لذلك، وقد لاحظ أنَّ ذلك الرجل الدموي يحاول تأخيرَ اجتماعه إلى أقصى وقت لسبب مجهول … وانطلق موكب السيارات يشقُّ قلب «بانجوك» التي كانت تنقسم لجزأين، وكأنَّهما عاصمتان وليست واحدة؛ فهناك «بانجوك» القديمة ذات المعابد التي ترتفع أبراجها وقبابها المذهَّبة المزخرفة، ويقصدها الفقراء والرهبان البوذيون، وكانت الشوارع في ذلك الجزء ضيقة وكثيرة التعاريج، ومنازلها صغيرة ضيقة مصنوعة من خشب، على حين كانت «بانجوك» الأخرى مدينة عالمية حديثة، شوارعها متسعة وطرقها أسفلتية وعمائرها ترتفع شاهقة عالية … وانتهت الجولة، وعاد موكب السيارات إلى القصر مرة أخرى … وكان «بانج» في استقبال العائدين، واقترب من «أحمد»، وقال له: إنَّ لدي أخبارًا سارة لك.

أحمد: ما هي؟

بانج: إنَّه السيد «جواد الغريب»، لقد تمكَّن رجالُنا من التخلص منه في السجن.

لم تنطق ملامح «أحمد» بشيء، وقال بعد لحظة: هل تعتقد أنَّ هذه الأخبار ستكون سارة بالنسبة لي؟

بانج: إنَّ هذا يُتيح لك أن تحلَّ محلَّه، وهذا هو ما يسعى إليه أيُّ مساعد في الدنيا أن يحلَّ محلَّ رئيسِه في الوقت المناسب.

تطلَّع «أحمد» إلى «بانج» وسأله: وأنت، هل تفكر في نفس الشيء؟

شحب وجهُ «بانج» بشدة، كأنَّه أطلع «أحمد» على سرِّه الخاص، الذي يحرص على كتمانه من أقرب الناس إليه، ثم تمالك نفسَه بسرعة، وقال في صوت متجهم: إنَّ أحدًا لا يمكن أن يحلَّ محلَّ السيد «تاك سين»، ولا أن يخدعَه كثيرًا؛ فالطموح في هذا المكان ليس له إلا ثمن واحد … وهو الموت.

أحمد: من الواضح أنَّ السيد «تاك سين» يتمتع بنفوذ هائل وسط رجاله.

بانج: والسيد «تاك» لا يُحب من يحلون محلَّ رؤسائهم، ولا مَن يأتون إليه دون دعوة.

أحمد: ماذا تقصد؟

بانج: لا شيء … ولكن عليك أن تكون حذرًا.

ضاقت عينَا «أحمد»، وسأله: أكون حذرًا من ماذا؟

هزَّ «بانج» كتفَيه قائلًا: مَن يدري … في هذا المكان على الإنسان أن يكون حذرًا من أشياء كثيرة، فإنَّ أقلَّ هفوة قد يكون ثمنها الموت؟!

ابتعد «بانج»، ووقف «أحمد» لحظة يفكر في مغزى كلماته: هل كان ذلك الرجل يقصد تحذيره، أم تهديده؟

ولماذا لم يجتمع بهم «تاك سين» حتى تلك اللحظة … وما مصير شحنة المخدرات الضخمة التي سيُرسلها «التنين الأحمر» إلى بلاد الشرق الأوسط.

كانت تلك كلها أسئلة بلا إجابة، ولم يكن هناك مَن يمكن أن يدلَّ «أحمد» على إجابتها، وكان عليه الانتظار فقط، وليس هناك حتى وسيلة للاتصال برقم «صفر» من أجل الحصول على معلومات جديدة أو أي إجابات … وفي المساء أقبل «بانج» مرة أخرى، وقال ﻟ «أحمد»: إنَّ السيد «تاك» يرغب في الحصول منك على تقرير بسير الأعمال في منطقتكم، إنَّه يريد تقريرًا مفصَّلًا …

أحمد: ألن يقابلَني السيد «تاك»؟

بانج: ربما يرغب في رؤيتك بعد قراءته للتقرير، وربما يقرر شيئًا آخر.

أحمد: مثل ماذا؟

ابتسم «بانج» ابتسامة خبيثة، وقال: مَن يدري!

وغادر الحجرة وعيناه تُرسلان ذلك البريق الخبيث الغامض.

وانشغل «أحمد» بإعداد التقرير، وكانت لديه كلُّ المعلومات عن نشاط «جواد الغريب» في تهريب المخدرات، بعد أن أمدَّه رقم «صفر» بتلك المعلومات قبل سفره، فحفظها «أحمد» عن ظهرِ قلبٍ، وكان سهلًا عليه تذكُّر كلِّ تفاصيلها … وأنهى «أحمد» كتابةَ التقرير، وعاد «بانج» ليأخذه في صمت، وبقيَ «أحمد» متوترًا طوال المساء يتساءل: ترى هل سيقابله «تاك سين»، وهل سيتمكن من مصافحته وتسير الخطة حسب ما هو موضوع لها؟

ومرَّت أكثر من ساعتين، وعندما كان «أحمد» يتأهب للنوم، طُرق الباب، ودخل «بانج» وهو يقول: إنَّ السيد يرغب في رؤيتك.

تنبَّهَت مشاعر «أحمد» على الفور، ونبضَت كلُّ خلية في جسده، وبسرعة قام بتغيير ملابسه، ورشَّ المسحوق على يده دون أن ينتبهَ «بانج» إلى ما فعله، ثم غادر الاثنان المكان، وكانت هناك سيارة في انتظارهما، ركبها «أحمد» في صمتٍ بجوار «بانج»، وتحرَّكَت السيارة إلى مكان قريب، وسمع «أحمد» صياحًا وجلبةً تأتي من داخل المبنى دون أن يعرف سببها، وما إن خطَا إلى الداخل حتى توقَّف مندهشًا.

كان المكان عبارة عن حلبة مصارعة واسعة، وقد راح يتصارع فيها اثنان من المصارعين الآسيويِّين، كلٌّ منهما لا يقلُّ وزنُه عن مائتَي كيلوجرام، وقد راح الاثنان يتقاتلان في توحُّش وعنف رهيب مثل وحشَين متصارعَين، كانت اللعبة هي مصارعة الموت؛ حيث لا بد من فائز ومهزوم، قاتل ومقتول، فهذه اللعبة الآسيوية لا تنتهي بهزيمةِ أحدِ الأطراف، بل يجب أن تكون نهايتها دائمًا هي الموت، حيث يقتل الفائزُ غريمَه دون شفقة، تمامًا كما كان يحدث في العصور الرومانية الوحشية.

تطلَّع «أحمد» في اشمئزاز إلى الجالسين للمشاهدة، والذين اعتراهم حماسٌ وحشي، وهم يهتفون أو يُهلِّلون للمصارعين، وقد تراهَنَ بعضُهم على حياةِ أحدِ المصارعين بمبالغَ كبيرة واصطدمَت عينَا «أحمد» بعينَي «تاك سين» … «التنين الأحمر» … كانت عينَا «تاك» جامدتَين خاليتَين من أيِّ مشاعر. وتقدَّم «أحمد» نحوه، ولكن أشار له أن يجلس في مقعدٍ خالٍ قريب، ففعل «أحمد» ذلك في صمتٍ، وراح يُراقب المصارعة الوحشية أمامه. كان من الواضح أنَّ المصارعَين متكافئان من حيث القوة والعنف، ولكن أحدهما كان يبدو أكثرَ خبرة، فراح يكيل لخصمِه ضرباتٍ متتاليةً سريعة في كل مكان من جسده.

وبضربةٍ ساحقة، أطاح بخصمه الذي وقع بلا حَراك على الأرض؛ فقد كانت الضربة قاتلة. وغمغم «أحمد» لنفسه في ذهول: هذا توحُّش رهيب.

وفُوجئ بيدٍ تسقط على كتفه، والتفتَ فشاهد وجهَ صاحبها، كانت يدُ «تاك سين»، وقد ساد الصمتُ المكانَ، والعيونُ تُحدِّق في «أحمد» و«التنين الأحمر».

وقال «تاك» ﻟ «أحمد»: كان تقريرك ممتازًا … ولكن هل تقاتل بنفس المهارة؟

أحمد: لا أفهم ماذا تقصد يا سيدي؟

بانج: إنَّه سريعُ الحركة وقويٌّ جدًّا يا سيدي.

ابتسم «تاك» وقال: حسنًا، فلنرَ مدى مهارته. وأشار بإصبعه تجاه الحلبة التي كان رجال «تاك» يحملون منها المصارع المهزوم خارجًا، على حين راح المصارع الفائز يزأر في وحشية طالبًا بمزيد من المنافسين.

وقال «تاك» ﻟ «أحمد»: هيا … إنَّ منافسك ينتظرك.

أحمد: هل تقصد أنني سأصارع هذا المتوحش يا سيدي «تاك»؟

أومأ «التنين الأحمر» برأسه بنعم. ودقَّ قلب «أحمد» عنيفًا. كان من المستحيل عليه أن يشارك في تلك المصارعة الوحشية، حيث تكون النهاية هي الموت له أو لخصمه.

قال «أحمد»: إنني آسف يا سيدي … إنني لستُ ماهرًا إلى تلك الدرجة لأقاتل مثل هذا المصارع المحترف.

قال «تاك»: لا أحدَ يعصي أمرًا أو رغبة ﻟ «التنين الأحمر».

واكتسى وجهُ «أحمد» بغضب هائل … ونهض … وتحرَّك تجاه حلبة المصارعة وهو يفكِّر بسرعة، ترى هل كان أمر «تاك سين» له بالمصارعة وسيلة للتخلص منه بطريقته غير المكشوفة، أم هي اختبار لقوته ومهارته؟

تطلَّع «أحمد» حوله، وزاد إحساسُه أنه داخل مصيدة رهيبة لا مهرب له … حيث يحيط به الموت من كل اتجاه.

وزأر المصارع المتوحش في غضب عندما شاهد «أحمد» يهبط إلى الحلبة … واندفع نحوه هادرًا مثل قاطرة بشرية.

ثم بدأت المصارعة … مصارعة الموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤